وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

الصحراء التي يسكنها قوم الطارقة (١٢٥)

تبدأ الصحراء الثالثة من تخوم آيير شرقا وتمتد حتى صحراء ايغيدي غربا والى الشمال تتاخم صحراء توت وتيغورارين والمزاب ، وتتاخم من الجنوب الصحاري القريبة من مملكة آغادس. وليست صحراء الطارقة بمثل وحشة وخطورة الصحراوين السابقتين ، إذ يعثر فيها في كل يومين على ماء طيب في آبار عميقة جدا ، ولا سيما بجوار آيير ، التي هي صحراء معتدلة وذات هواء معتدل وحيث يتبت الكثير من الكلأ (١٢٦) ،

__________________

ـ بمدينة آزوغي هي الرواية الطيبة. ويتكلم ابن خلدون عن صحراء ، ولكن ربما كان الاسم الذي يقصده هو اسم لمدينة قريبة. اذن المقصود بذلك صحراء محلية واقعة جنوب شرق آزوغي او الى الشمال منها ، على الطريق الذاهبة من سجلماسة الى تومبوكتو. ولا يظن ان الحسن الوزان قد اجتازها بنفسه ، والذي ربما يبدو اكثر صحة انه تلقى معلومات عنها ، وإلا لكان حدد مكانها بصورة اكثر صحة. وكان عليه حقا ان يوردها في صحراء زناقة. ويضع دولافوس الفرنسي منطقة «كاوكادام او غوغادم» بين الادرار والدرعة ، ولكنه لا يقدم أسباب هذا الاختيار. ومن الممكن قبول روايته ، ولكن مع التحفظ ، بأنها كانت اكثر قربا الى الدرعة منها الى مرتفعات الادرار الموريتانية ، في جمهورية موريتانيا الاسلامية الحالية. وهناك ثلاثة عشر يوما من السير بين سجلماسة وآزوغي ، لهذا يكون من المحتمل ان هذه هي المنطقة الصحراوية التي نالت اسم غوغدم وليس ذلك سوى مجرد فرض لأن الوزان وصف هذه الصحراء على أنها اقسى الصحاري الموجودة في منطقة فنزيغة. ويظهر إذن من المنطقي تشخيصها بمنطقة تنزر وفت التي تربط حقا بين صحاري زناقة وصحاري فنزيغة وفي رأينا لا يوجد في ذلك انعدام توافق مع ما رأيناه ، آنفا ، لأنه استنادا إلى طريقة الوزان في تعريف بعض المناطق الصحراوية باسم اقرب بلدة لها ، فقد يكون اسم غوغدم قد اتخذ للكناية عن تنزروفت ، ذلك الاسم الذي لا يذكره.

وهو اسم طوارقي والذي شملنا به منطقة واسعة ، دون حدود دقيقة ، في حين ان السكان المحليين من عرب وبربر يحددون فيه عدة مناطق طبيعية تحت اسماء متميزة. وامام هذا الاشتباه فقد احجمت عن تثبيت مكان صحراء غوغدم على الخارطة ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٢٥) ابتدأ ذكر الطارقة او الطوارق في النصوص العربية في القرن العاشر الميلادي. وطارقة اسم بربري يعني ساقية او قناة ، ويعني في لهجة تاماهاك ، وهم طوارق الشمال ساكن صحراء «فزان» (صحراء في غرب ليبيا) وقد طبق العرب هذا الاسم على قبائل الملثمين.

(١٢٦) مساحة هذه الصحراء عظيمة ، لانها تمتد بين الشمال والجنوب من مزاب حتى تخوم آيير ذاتها ، وتلامس ، من جهة اخرى ، كثبان ايغيدي ، وتوات وكثبان قورارة. ولا يمكن ان يكون المقصود بها سوى مجال نجعة طوارق الهقّار. ويبدو أن الحسن الوزان قد ارتكب هنا خطأ في وضع آيير في الغرب ، وايغيدي في الشرق ، ويجب قراءة العكس (وقد صححنا هذا في النص) «المترجم». وقد خطر ببالنا ان ايغيدي هي صحراء تينيرة ، ولكن كلمة ايغيدي لها مدلول عرق رملي ، مؤلف من كثبان عالية ولا يمكن تمثيله بتينيرة ، اذن لا يمكن ان يقع هنا خطأ محتمل. وهذه الصحراء تنطبق على صحراء لمتة عند ابن خلدون ، الذي يحدد مكان هذه القبيلة الى الجنوب من الزاب واقليم قسنطينة. ولكن الوزان ، وهذا حسب قوله ، قلب موضع القبيلتين ، ولم يحدث تبدل هام في موضع هاتين المجموعتين الكبيرتين من الطوارق ، لأن الادريسي (١١٥٤ م) أورد ذكر «الأزغار» في جبل طنطانو ، وهو مرتفعات تاسيلي اما ابن بطوطة (١٣٥٤ م) ، من جهته ، فقد اجتاز بنفسه بلاد «الهقّار» وبلاد «كاهر» التي يمكن ترجمتها بكل آيير. ويروى لنا ابن خلدون بأن هجرة ـ

٥٢١

والى أبعد من ذلك ، اي قرب آغادس (١٢٧). ويوجد هنا الكثير من المن. ويكون هنا شيئا عجيبا. ويذهب الناس لجمع هذا المن في الصباح الباكر ، ويملئون اواني من القرع ثم يبيعونه طازجا في شوارع آغادس. والجرة التي سعتها «بوكالة» (١٢٨) تساوي اثنين من «بيوكشي» (١٢٩) ، ويشرب هذا المن ممزوجا بالماء ، مما يعطي شرابا ممتازا ، ولهذا لا يمرض الناس في آغادس كما يحدث لهم في تومبوكتو ، ذات الهواء الوخيم (١٣٠). وتمتد هذه الصحراء من الشمال للجنوب على مسافة ثلاثمائة ميل (١٣١).

الصحراء التي يسكنها شعب لمته

تبدأ الصحراء الرابعة من ايغيدي التي تكلمنا عنها قبل قليل وتمتد حتى تخوم الصحراء التي يسكنها شعب بردواة. وتتاخم من الشمال صحاري طوقورت وورقلة

__________________

ـ قبيلة هوارة قد اعطت اسمها للهقار (أهقّار). ومن الصحيح ، من جهة أخرى ، ان قبيلة كل اهقار كانت تهيمن ، في الماضي ، على كل الأراضي الممتدة حتى ايغيدي ، وكذلك على كل هضبة تادماثيت. وانهم قسروا فيما بعد ، كل القبائل التابعة لهم ، ولا سيما قبيلة ايسكمارن ، على الانكفاء نحو كتلة جبل الهقار لدعم امن المنطقة. ونرى هنا ان الوزان لا يفصل هذه الصحراء عن مرتفعات آيير بشكل واضح ولا يضم آغادس في هذه الكتلة ، أي آيير. وهنا أيضا يتراءى جيدا أنه لم تك لديه اكثر من فكرة غامضة عن قلب الصحراء الكبرى وانه لم يعرف كيفية توضيح مخطط خارطته ـ ه. ل. H. Lhote.

(١٢٧) لقد كان الحسن الوزان اول من أورد ذكر مدينة آغادس. اما بالنسبة لتاريخ تأسيسها فلدينا نص مارمول الذي يذكر انها بنيت حوالي العام ١٤٣٠. وهناك تاريخ آخر يبدو انه يعكس الحقيقة بشكل أصدق ، فيقول بأن سلاطين آيير سكنوا ، وذلك قبل أن يستقروا في آغادس ، في تاديليزة ثم تينشامان. وفي حوالي العام ١٥٠٢ م أخذوا يقيمون في آغادس حيث اقيم قصر لهذه المناسبة. وفي الحقيقة لم يتم الانتقال اليها الا حوالي عام ١٥٠٤ ـ ١٥٠٥ م ، لان السلطان كان لا يزال في تاديليزة عندما زاره المغيلي عام ١٥٠٤ م ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٢٨) سعة ٨٢٨ ، ١ ليتر.

(١٢٩) ١٥ سنت ذهب.

(١٣٠) على الرغم من الابحاث التي قمنا بها في مجال علم التغذية في آغادس ولدى طوارق آيير ، لم يكن من المستطاع التعرف على المن. ولا بجلب للأسواق حاليا ضمن أوعية او في جرار كي يستهلك ممزوجا بالماء او يمكن ان يضاف اليه الماء. ويجلب الى سوق آغادس العسل الذي يشرب ممزوجا بالماء ويضاف أحيانا الى الآريجيرة ، وهو دقيق الدخن الممزوج بالماء والذي تضاف اليه الشطّة واللبن الزبادي ، وربما كان الحسن الوزان يعتبر هذا مشروبا. والمن المعروف عادة هو صمغ نوع من السنط ، سواء بحالته الطبيعية ، أو ممزوجا بالماء. وفيما عدا ذلك لم اره يباع في سوق آغادس. وعلى كل حال فإن العسل الذي يباع في آغادس لا يأتي من مرتفعات آيير ، بل من بلاد الهوسا في الجنوب. ويرجع السبب في صفاء هواء آغادس الى عدم وجود البعوض ، باستثناء فترة قصيرة خلال فصل الإمطار ـ ه. ح H.Lhate.

(١٣١) او ٤٨٠ كم. وهي على مسافة ٣٦٠ كم من اينزاوة ، وهو بئر واقع في الجزء الأبعد نحو الشمال من مرتفعات آيير ، حتى آغادس ، والخطأ هنا محسوس نوعا ما.

٥٢٢

وغدامس ، وجنوبا حتى الصحاري التي تمتد حتى كانو ، مملكة ارض الزنج. وهي يابسة وخطرة على التجار الذين يجتازونها ، كالصحاري التي تمتد من قسنطينة حتى هذه البلاد الزنجية (١٣٢).

ويدّعي سكان هذه الصحراء ان امارة ورقلة تعتدي على أراضيهم. ويعلنون عداءهم لأمير ورقلة ويسلبون كل التجار الذين يلاقونهم في الصحراء. ولكن أهل ورقلة يقتلونهم بدون رحمة ولا شفقة (١٣٣).

__________________

(١٣٢) بعد أن تحددت بلاد لمتة ، والحقيقة الطارقة ، نجدها تنطبق على المناطق التي تجوبها قبائل «كل آجر». مع التحفظ بأنها لا تمتد غربا حتى صحراء ايغيدي ، والتي ورد اسمها عرضيا هنا بسبب الالتباس الذي وقع فيه المؤلف مع الطوارق. وكانت قبائل لمته الحقيقة (كل آهقّار) تذهب حتى ايغيدي ، ولكن ليس الطوارقى. وفي حالات استثنائية كانت الآجرّ تصل حتى حافة تادمائيت ، ولكنها لم تتجاوز مطلقا خط طول اينغتاره ، وحتى هذا لم يكن مقبولا الا بالنسبة لبعض المخيمات من قبيلة ايفوراس في تيماسينين. اما بلاد برداوة فهي بلاد التبو : وهذا التخم الشرقي صحيح ، كالتخم الشمالي ، المحدد بصحراء ورقلة وغدامس. اما التخم الجنوبي فيفتقر الى الدقة ، ولكن عبارة «الصحاري التي تمتد حتى كانو» يمكن ان تنطبق على التينيره التي تفصل تاسيلي عن آيير والتي يجب اختراقها عمليا للذهاب الى كانو. ورغم بعض النقاط الغامضة الصغيرة فالمقصود بها قبيلة آجر ، بعد ان تمت التصحيحات بخصوص لمتة طارقة. فقد ورد ذكر لمته ، وبالبربرية ايلمتين ، في كتب المؤلفين العرب منذ القرن التاسع ميلادي ، كاليعقوبي الذي كتب عام ٨٨٩ م والذي حدد مكانهم حول زويلة فزان ، في اتجاه أوجلة واجدابية. وكانوا اول من هرب في وجه الزحف العربي. وجعلهم ابن خلدون اخوة صنهاجة ، والاوريبة ، والجزولة ، وازداجة ، وابناء عمومة هوارة من ناحية جدتهم المشتركة تيسكي العرجاء. ويقول لنا المؤلف ذاته ان قسما كان يسكن بجوار صنهاجة من حملة اللثام وقسم آخر في الصحاري الواقعة حنوب تلمسان وجنوب افريقية (ج ٢). ويظهر انهم اشتركوا في اول استيطان بجبال الهقّار قبل قدوم الهوارة. هذا ويحمل النبلاء العريقون لدى كل أهقار اسم لوميت ، الذي يبدو انه من نفس جذر ايلمتين (لام فميم فتاء) ، والذي يبدو وكأنه توكيد لوجود لمته منذ القديم في هذه المنطقة ، ومن الممكن ان عناصر من هذه القبيلة قد وصلت بعدئذ الى السودان حيث ان اسم لمته قد طبق عليهم.

كما ان مؤلف «تاريخ السودان» يقول انهم قدموا من المغرب في القرن الحادى عشر. ويعتقد ان منهم نشأت جماعة تاديمكّت وقبيلة لولّيميدّن. وعلى كل فإن الاسم الاخير لم يصدر عن لمته كما زعم دولافوس ، بل عن اوايلمد وهو الجد الذي منح اسمه للقبيلة. والى لمته ينسب عادة تاسيس امبراطورية سونغاي في السودان الغربي. اما بالنسبة الى لمته الغرب ، فقد سبق ان ذكرهم ابن حوقل في القرن العاشر الميلادي في منطقة وادنون ، على ساحل المغرب الاقصى وكانت عاصمتهم «نول لمتانه». «حيث توجد اليوم واحة نخيل أسرير ، قرب قوليمين جنوب السوس. وبعد ان جرفتهم الحركة المرابطية ، خلفوا ذكراهم في اسم كورة شمال فاس. اما الذين بقوا في هذه المنطقة فقد قتلوا او اندمجوا في عرب معقل وأصبح اسمهم تكنه بلادنون. وعن لمته صدر اسم لمت ، الذي يطلق على الصحراء القريبة على مها اوريكس ، والذي كانوا يستعملون جلده لصنع التروس. وعلى كل فهذا النسب ليس كاملا تماما من جهة اخرى ، ويمكن الرجوع في هذا الخصوص إلى ب. دو سينيفال وت. مونو : «وصف ساحل افريقيا من سبتة الى السنغال» تأليف فالنتيم فرناندس. مذكرة رقم ٩ ص ١٥٩ ـ ١٦١. وظلت ذكرى لمته في الصحراء الوسطى حيث يعرف سكان ـ

٥٢٣

الصحراء التي يسكنها شعب برداوة

تبدأ الصحراء الخامسة من الغرب حيث تنتهي الصحراء السابقة وتمتد شرقا حتى صحراء اوجله. وتتاخم من الشمال صحراء فزان وصحراء برقة. أما من الجنوب فتتاخم صحراء بورنو. والأرض شديدة الجفاف في هذه المنطقة. ولا يمكن اجتياز هذه المنطقة بسلام. وأهل غدامس وحدهم هم الذين يستطيعون القيام بذلك ، لأنهم أصدقاء البرداوة. ويحملون من فزان الأقوات والأقمشة ... الخ التي هي ضرورية للرحلة (١٣٤).

__________________

ـ توات دوما جماعة «كل اهقّار» تحت اسم ايلمتين ، في حين ان هذا الاسم لم يعد معروفا اللهم الا بالنسبة لفخذ صغير من المستقرين في واحة البرقة ، قرب غات ـ ه. ل H.Lhote.

(١٣٣) ان هذه الفقرة التي يقصد بها قبيلة كل آجر يمكن ان تشمل أيضا كل آهقّار ، لان علاقات هؤلاء وأولئك مع الشعانبه في ورقلة كانت احيانا من أسوأ ما يكون ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٣٤) يعني اسم برداوه سكان إقليم برداي في تيبستي في شمال جمهورية التشاد الحالية ، ثم أطلق على التدا ، وتتجاوز الحدود المذكورة هنا التيبستي كثيرا ، ولكن هذا الغموض هو أمر معروف لدى الحسن الوزان ، الذي يبدأ بدراسة صحراء حيث انتهى من أخرى ، دون أن تكون الحدود فيها محددة بشكل جبد ، وأحيانا تكون بينهما منطقة واسعة خالية. وعلى كل فان قوم برداوة ينطبق جيدا على التدا ؛ أو التبو ، وقد ورد هذا الإسم قبلا عند المقريزي ، الذي اعتبرهم بربر. وربما كان الحسن الوزان قد استمد هذا المفهوم منه ، لأن ابن خلدون لم يشر إليهم. هذا إن لم يكن قد انتشر في العالم العربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، فهو لم يفترض مطلقا قرابتهم مع القوران ، الذي يتكلم عنهم في مكان آخر ، ولكنه يقول إنهم ينتسبون لعرق خاص ، مماثل لعرق «زنغاري». و «الزنغاري» هم في الحقيقة أقوام من أصل درافيدي في جنوبي الهند ، والذين يعرفون في أوروبا باسم تزيغان ، او رومانيون او بوهيميون. والأقوام الافريقية التي شبهت أحيانا بالتزيغان ، «الذين يدعون النور او القرباط في بلاد المشرق العربي» ، هم البهل ، ومن المحتمل أن الوزان كان يريد أن ينسب هؤلاء الى القوارن. وقد ادّت قضية أصل التدا لفرضيات عديدة التي يمكن الرجوع اليها مختصرة عند دللوني «بعثة في تيبستي ، المجلد الثاني ، جمعية علم الاجتماع ، ج ٢ ، ١٩٣٥. اثنولوجي ص ٤٠٥ وما بعدها».

والتدا ليسوا من البربر ، وأكثر الدراسات جدّة تقبل الفرضية المقدمة من قبل ناشتيفال ، وهو أول اوروبي زارهم بانهم سكان المغاور عند هيرودوت. وتنسب لغتهم الى لغة الكانوري وتتبع مجموعة اللغات الزنجية في التشاد. كما أن النموذج الفيزيولوجي ليس منسجما ، ويدل على تهجينات عديدة حيث يمكن ملاحظة تأثيرات زنجية وحبشية ومن البحر المتوسط في آن واحد. ويعملون اليوم رعاة الشاة والجمال ، كما أن اخلاقهم وأثاثهم يعكس مؤثرات تجعلهم من الناحية الثقافية ينتسبون الى حضارة الرعاة الحامية ، ولكنهم خضعوا فيما بعد لمؤثرات زنجية قدمت من التشاد.

وتؤكد قائمة الرسومات المحفورة والرسوم الصخرية في تيبستي قدوم موجة من رعاة الأبقار الى كتلة تبيستي ، وربما يعود أصلهم لمصر العليا ، والذين عرفوا أيضا مناطق أكثر بعدا للغرب مثل فزان وتسيلي وهقار وادرار ودس ايفوراس .. الخ ، ولكن عناصرهم بقيت في تيبستي لمدة متأخرة أكثر من المناطق الأخرى. أما الأقوام الخيالة الذين نفذوا الى الصحراء الكبرى الوسطى ، والذين شهدت عليهم الرسوم المحفورة ورسوم الخيول المركوبة وغير المركوبة ، والتي هي شواهد ـ

٥٢٤

أما بقية صحارى ليبيا ، أي التي تمتد من أوجاه حتى النيل ، فهي مأهولة بالعرب وبقوم يدعون لواته ، وهم من أصل أفريقي كذلك (١٣٥).

وهنا ينتهي وصف صحارى ليبيا. وسيتبعه الوصف المتعلق بالأمكنة المسكونة في هذه الصحارى.

نون : منطقة مسكونة

نون منطقة مسكونة على حافة المحيط. وليس فيها سوى قرى مأهولة بفقراء الناس. وتقع بين نوميديا وليبيا ، ولكن القسم الأعظم منها ينتسب إلى ليبيا ، ولا يجود فيها سوى الشعير وكمية صغيرة من التمور ، ولكنها رديئة. ولسكان هذه المنطقة هندام سيء ، وهم فقراء لأن العرب يبتزونهم بكثرة. ويذهب بعضهم للمتاجرة في مملكة ولاته (١٣٦).

__________________

ـ على هجرات ليبية ، فلم تبلغ تيبستي ، حيث تكون الكتابات الليبية البربرية معدومة تماما ، وهذا ما يستبعد أية فكرة عن الأصل البربري للتدا.

وعلى خلاف ذلك ، تظهر على جروف تيبستي في نفس العصر تقريبا مؤثرات زنجية الأصل ، تتمثل ماديا أولا على شكل أناس مسلحين بالسكين المقذوفة ، ثم في وقت متأخر ، برسومات بشرية أخرى ، مسلحة برماح عريضة الشفرة ، من النموذج الوّدائي. إذن يكون من المحتمل قبول مجيء اقوام من رعاة تعود لأصل حامي ، جاءت فوق ارضية قديمة جدا من زنوج العصر الحجري الأعلى ، جاءت لتتمازج معها. ثم قدمت بعد ذلك عناصر تشادية. ومن المؤكد أيضا أن العناصر الفزانية والبربرية قدمت لتساهم أيضا في تكوين التدا ، ولكن بأعداد قليلة ، سواء عن طريق هجرة أفخاذ صغيرة منعزلة ، قبل مجيء العرب إلى فزان ، أو بعد فزان من قبل التدا ، والذي حدث في القرن الثاني عشر الميلادي. ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٣٥) اللواتة هم اللوبيم في التوراة واللبو ولا باتاي عند الاغريق ، ولواته عند الرومان ، ولا فات عند كوريبوس. وقد لعبوا دورا هاما في تاريخ مصر ، اولا بمهاجمتها ، ثم في خدمتها ، فقدمت لها المرتزقة ، وذلك حتى قدوم العرب. ويعودون أصلا لأقوام البحر ، وهم الذين منحوا اسمهم الى ليبيا. ويعطيهم ابن خلدون جدّا اسمه لوابن زدجيك بن مدغيس ، وهؤلاء هم البربر البتر. وكانوا يسكنون ، في الوقت الذي وصل فيه العرب ، في منطقة المدن الخمس وفي بلاد برقة. وقد هاجرت بعض أفخاذلواته نحو الغرب ، حتى المحيط ، وربما في فترة سبقت الإسلام ، وهجرة أخرى في أعقاب الفتح العربي. وقد ساهمت بعض من قبائلهم ، ومنها سدراته ، في إعمار منطقة آيير بالسكان ، في الصحراء الكبري ـ ه. ل.H.Lhote

(١٣٦) اذا كان المؤلف قد ذهب الى تاغاوست ، كما ذكر في كتابه الثاني ، فيكون إذن قد ذهب الى مركز بلاد نون ، وكانت تسمى قديما نول ، اي الإبرة في اللغة البربرية القديمة. ولا يبدو أنه ارتاب في ذلك. ويضع هذه المنطقة الى الجنوب أكثر من الحقيقة وإلى الغرب أكثر من الواقع. وكانت عاصمة المنطقة في الماضي نول لاماتاته ، التي ربما حلت محلها محليا بلدة تاغاوست ، وتدعى اليوم قوليمين. وقد احتفظ السهل الذي تشرف عليه باسم واد نون. ووادي اسّاكه ـ

٥٢٥

تغازة (١٣٧)

تغازة مكان مأهول حيث توجد مناجم الملح التي تشبه مقالع الرخام. ويؤخذ هذا الملح من حفر بنيت حولها أخصاص يسكنها أولئك الذين يمتهنون استخراج الملح ، والذين يمارسون هذه المهنة ليسوا من سكان هذه البقعة ، بل أناس من أصل غريب ، يأتون مع القوافل ويظلون يعملون عمال مناجم. وهم يستخرجون هذا الملح ويحتفظون به الى ان تأتي قافلة أخرى تشتريه منهم. ويحمل كل جمل أربعة ألواح من الملح. وليس لعمال مناجم تغازة من أقوات سوى التي تجلب لهم من تومبوكتو او من الدرعه ، الواقعتين كلتيهما على مسافة عشرين يوما من تغازة (١٣٨). وقد حدث أن وجد بعض هؤلاء العمال موتى من الجوع في أكواخهم ، لانعدام الأقوات التي افتقدوها بسبب عدم قدوم القافلة. وفضلا عن ذلك يهب في الصيف ريح السيروكو الذى يتلف عيونهم ويفقد عددا منهم بصره. وقد مكثت مرة مدة ثلاثة أيام في تغازة ، أى الوقت اللازم لتحميل الملح ، واضطررت طيلة هذا الوقت لشرب ماء مالح من بعض الآبار القريبة من المنجم (١٣٩).

أوجله (١٤٠)

أوجله هي منطقة مسكونة من صحراء ليبيا على مسافة أربعمائة وخمسين ميلا (١٤١) من النيل (١٤٢). وتظهر فيها ثلاثة قصور وبعض القرى الصغيرة المحاطة بحدائق

__________________

ـ هو الذى يصرّف مياه هذا الوادى ويجعلها تصب في المحيط. أما رأس واد نون الشهير عند الملاحين الاوروبيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر فلم يعد يحمل هذا الاسم ، الذى كان دائما مجهولا لدى سكان المنطقة. ولكن على مسافة ١٥ كم الى الشمال من مصب واد أسّاكة يوجد فى ايفني رأس يوجد فوقه ، وبجوار ضريح سيدي ورزيك ، مكان يدعي سوق النصارى ، وبالبربرية تاغا ديرتن روميين ، أو مخزن الاوروبيين الصغير. وهذا يكفي لتشخيص رأس نون.

(١٣٧) أو تاغازّة بتشديد الزاى.

(١٣٨) أو حوالى الف كيلومتر ، بمعدل عشر ساعات من المشي يوميا ، وفي المتوسط ٥ كم في الساعة.

(١٣٩) لقد هجرت تغازة فى أواسط القرن السابع عشر ميلادي ، الى تاودني الواقعة اكثر منها الى الشرق. وقد زارها فى السنوات الاخيرة عدة رحالة.

(١٤٠) أوجلة وأوجيلة عند هيرودوت والرومان.

(١٤١) ٧٢٠ كم.

(١٤٢) تقع واحة اوجلة ، التي وصفها لنا هيرودوت تحت هذا الاسم ، تقع على مسافة تزيد على ١٠٠٠ كم من النيل وكان ـ

٥٢٦

النخيل (١٤٣). ولا ينبت فيها قمح. والواقع أن العرب يجلبونه من مصر. وتقع أوجلة على الطريق الكبيرة بين موريتانيا ومصر عبر صحراء ليبيا (١٤٤).

سيرت (١٤٥)

سيرت (١٤٦) مدينة قديمة ، يقول البعض إنها من بناء المصريين ، ويقول آخرون إنها من بناء الرومان ، في حين يرى آخرون أن الأفارقة هم مؤسسوها. ومهما كان الأمر فهي الآن متهدمة. ويظن أن المسلمين هم الذين هدموها مع أن المؤرخ ابن رقيق (١٤٧) ينسب خرابها الى الرومان. ولا يرى فيها سوى بقايا صغيرة من الأسوار (١٤٨).

برداوه (١٤٩) : منطقة مسكونة

تتمثل في ثلاثة قصور وخمس أوست قرى ، في وسط صحراء ليبيا ، على مسافة خمسمائة ميل (١٥٠) من نهر النيل. وفيها العديد من أشجار النخيل التي تنتج كمية كبيرة من التمور الممتازة. وقد اكتشفت هذه القصور الثلاثة منذ ثمانية عشر عاما وذلك بواسطة دليل يدعي حمر. فقد ضلّ هذا الرجل الطريق بعد ان داهمه مرض في عيونه. ولما كان لا يوجد أى شخص في القافلة يعرف الطريق ، فقد سار في المقدمة على جمله ، وعند قطع كل ميل ، كان يقدم له شيء من الرمل ويشمه. وبفضل هذا الأسلوب

__________________

ـ يقصدها جماعة «النسامون» الذين كانوا يأتون لجنى التمور. وتزعم جماعة «السندال» و «كل غرس» و «كل وي» و «كل فروان» الذين يتجولون اليوم في مرتفعات آيير وفي غوبر ، يزعمون أن أصولهم ترجع الى أوجله ه. ل H.Lhote.

(١٤٣) وهي اوجلة وجالو وجيكرة ، وهي حدائق نخيل منفصلة تشكل مثلثا ، وتبعد الواحدة عن الأخرى مسافة ٣٠ كم أو ٤٠ كم مع العديد من المداشر.

(١٤٤) وهو الطريق الذي يمر من واحتي الجغبوب وسيوة ، وهي سنتريا القديمة ، أو واحة عمون الشهيرة.

(١٤٥) سرت أو سورت.

(١٤٦) وهي سيرت القديمة.

(١٤٧) أبو اسحق إبن القاسم بن رقيق.

(١٤٨) إن مدينة سرت القديمة ، التي منحت اسمها لخليجين : هما سرت الكبير في ليبيا وسرت الصغير بين ليبيا وتونس ، تحمل اسم سرت (بضم السين) في النصوص العربية ، ولا يمثلها سوى قرية سرت على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة ٤٥٠ كم ، الى الشرق من طرابلس.

(١٤٩) مجموعة واحات الكفرة

(١٥٠) ٨٠٠ كم.

٥٢٧

أخبرهم ، عند ما وصلت القافلة لمسافة اربعين ميلا (١٥١) من هذا المكان قائلا : «اعلموا اننا أصبحنا قريبين من المنطقة المسكونة». ولم يتمكن أحد من تصديقه ، لأنهم يعرفون أنهم على مسافة (١٥٢) أربعمائة وثمانين ميلا (١٥٣) من مصر ، وتساءلوا فيما إذا كانت القافلة ستعود الى أوجله. ولكن فى اليوم الثالث أصبحت في مرأى من القصور الثلاثة (١٥٤) ، وقد ذهل أهل البلاد من رؤية وصول الغرباء ، وانسحبوا الى قصورهم ، وغلّقوا الابواب ورفضوا تقديم ماء الشرب للقافلة ، التي عانت الكثير من ذلك ، لأن الآبار كانت في داخل القصور. وبعد معركة خفيفة ، احتل أهل القافلة القصور ، وحملوا مؤونتهم من الماء الكافي وتابعوا رحلتهم (١٥٥)(١٥٦).

الواحات

الواحات ، منطقة مسكونة على مسافة تقارب مائة وعشرين ميلا من مصر ، فى الصحراء الليبية. وفيها ثلاثة قصور والعديد من القرى وبضع واحات نخيل. وسكانها أناس ذو وبشرة سوداء ، منحطون وبخلاء ، ولكنهم أغنياء لأنهم يوجدون بين مصر وغاوغاو. ولهم رئيس هو نوع من ملك ، الا أنهم يدفعون إتاوة لجيرانهم العرب

__________________

(١٥١) ٦٤ كم.

(١٥٢) ٧٦٨ كم.

(١٥٣) تقطع القوافل من هذا النوع أكثر من خمسين كيلومترا في اليوم.

(١٥٤) وربما كانت تازربو أو كبابو.

(١٥٥) يعود هذا الاكتشاف إذن الى حوالي العام ١٥٠٧ م. كما ان التعرف على آثار انسانية أو حيوانية عن طريق الشم أمر لا يدعو للدهشة بالنسبة لمن يعرف حدة الحواس التي لا تصدّق لدى الادلّاء الصحراويين. وربما تمّ اكتشاف واحة تازربو صدفة ، كما يروي ذلك البكرى ، والذي يسميها صوبرو. وتبدو واحات الكفرة مأهولة في أيامنا بعناصر مختلفة ، ويعود معظمهم من حيث الأصل للتدا الذين انضم اليهم عناصر متباينة اجتذبهم اليها السنوسيون ـ أ. وـ ه. ل et H.Lhote Epaulard

(١٥٦) يحدد المؤلف مكان الواحات في كتابه الاول في نوميديا. ويبلغ طول الخط الحديدي الذي يربط وادي النيل بعاصمة واحة الخارجة ١٢٢ ميل انكليزي أي ١٩٥ كم. وتعنى الواحات ، من حيث المبدأ ، سبحة من الواحات المتباعدة في منخفض يتجه بصورة محسوسة من الشمال للجنوب في الصحراء الليبية ، وأبعد واحة في الشمال هي واحة سيوة ، التي كان يوجد فيها في الماضي معبد آمون الذي زاره الاسكندر المقدوني. ولكن يقصد بهذا الاسم على الخصوص واحتين ، الشمالية وتدعى الداخلة (بالنسبة لصحراء ليبيا) والخارجة في الجنوب الشرقي ، لأنها أقرب الى النيل. وكانت هذه الواحة بالنسبة لقدماء المصريين مكان إقامة الموتى كما افترضوا أو «وا». وهذه الكلمة موجودة في اللغة البربرية ـ

٥٢٨

__________________

ـ القديمة ، كما يدل على ذلك تصغيرها ، توات ، في الصحراء الكبرى الغربية : ومنها جاءت الكليمة اليونانية وازيس ، وربما الكلمة العربية واح. ويبدو أن المؤلف لا يتعرض هنا لغير واحة الخارجة ، وهي عبارة ممن باب مصر الحقيقي على السودان الغربي منذ غابر الزمن كما تشهد على ذلك الاطلال الباقية فيها ، وقد سبق أن أشار هيرودوت إلى اهميتها. وكان ابن حوقل أول مؤلف عربي معروف لدينا يتكلم عن تجارتها مع غانا والمغرب وذلك قبل القرن التاسع الميلادي. «ولكن ابن حوقل يسمى الواحة «جزيرة». فيقول «جزيرة أوجلة» عوضا عن واحة. وتشبيهه هنا موفق للغاية ، اذ يشبه الواحة بجزيرة خضرة وسط الفيافي وبحار الرمال والقفار الحصوية. ومن هذا سمى الجغرافيون العرب اقطار افريقيا الشمالية «جزيرة المغرب» ، لوقوعها بين البحر من الشمال والشرق وبحر الظلمات من الغرب ، والصحراء الكبرى من الجنوب. هذا او يطلق ابناء الصحراء الكبرى من العرب على الاقطار الهامشية جنوبي الصحراء الكبرى ، حيث يوجد الكلأ والماء ، بلاد الساحل والتي تمتد من نهر السنغال غربا حتى الخرطوم شرقا باعتبار الصحراء قفر تنعدم فيه الحياة كالبحر ، وهذه المنطقة التي تكثر فيها المراعي ساحله.

وكلمة اوازيس يونانية ومنها اخذت الكلمة العربية واحة ، ولا نجد هذه الكلمة في المؤلفات العربية القديمة بل هناك كلمات أخرى عربية صرفة مثل روضة ، رياض ، غوطة ، أغواط ، غاط ، غيط ، غيطان. (المترجم)

٥٢٩
٥٣٠

القسم السابع

٥٣١
٥٣٢

بلاد السّودان

لم يكتب الجغرافيون القدامى ، مثل البكري والمسعودي ، شيئا عن أرض السودان فيما عدا الواحات وعن غانا (١). ففي عصرهم ، لم يكن يعرف شيء سواهما عن بلاد الزنوج الأخرى. ولكنها اكتشفت بعد عام ثلاثمائة وثمانين هجرية (٢). إذ في ذلك الوقت اعتنقت لمتونة وكل سكان ليبيا الإسلام بفضل دعوة إمام قام ، بالإضافة إلى ذلك ، بدفع لمتونة لفتح كل بلاد البربر (٣) وعندئذ بدأ الناس يقصدون هذه البلاد ، وأخذوا في التعرف عليها.

وهذه الأقطار ، جميعها ، مسكونة بأناس يعيشون كالبهائم بدون ملوك ، ولا أمراء ، وبدون جمهوريات ولا حكومات ولا تقاليد (٤). ولا يعرفون غير الطرق البدائية

__________________

(١) وهذا ليس صحيحا تماما ، فقد قدم المسعودى فى أواسط القرن العاشر الميلادى ، والبكرى الذى كتب سنة ١٠٨٨ م ، قدّما بالفعل معلومات عن واحات مصر وعن غانا. ونلاحظ أن المؤلف قد وضع الواحات فى السابق فى نوميديا ثم فى ليبيا. ألا تذكرنا هذه الواحات هنا بأوداغست.؟

(٢) أى ٩٩٠ م.

(٣) لقد بدأت الدعوة للإسلام ، فى السودان الشمالى ، على يد تجار مسلمين كانوا يتاجرون مع الزنوج ، بدأت قبل القرن العاشر الميلادى بكثر. ولكن الفقيه عبد الله بن ياسبن ، من قبيلة جزولة ، جاء ليعظ القبيلة المذكورة بناء على طلب زعيم زناقة إيغدالن ، وبالعربية قدالة ، والتى كانت تحتل الأراضى الواقعة على الضفة الشمالية لنهر السنغال الأدنى.

وأسس فى إحدى الجزر رباطا كان عبارة عن مركز لمجاهدين حفظ التاريخ لنا ذكرهم باسم المرابطين ، ودعا إلى الجهاد ودفع بقبائل زناقة الصحراوية ، والتى كانت أهم قبيلة فيها هى لمتونة ، من مرتفعات إدرار فى موريتانيا الحالية لفتح بلاد الشمال واستشهد فى معركة على ضفاف وادى كرفله ، فى تامسنة ، وهى بلاد الشاوية الحالية فى المغرب الأقصى جنوب شرق الرباط ، فى يوم الأحد ١٩ تموز ١٠٥٨ م. ويبدو أن حملات المرابطين ضد الممالك السودانية بدأت فى زمنه. وكان أمير لمتونة ، وهو الزعيم الحربى للمرابطين ، أبو بكر بن عمر ، هو الذى تابع بنشاط كبير تلك المهمة بين ١٠٦٢ و ١٠٨٧ م. ويظهر أنه بلغ مملكة مالى ، على نهر النيجر الأعلى. وقد قتل برمية سهم فى شعبان ٤٨٠ ه‍ / تشرين الثانى (نوفمبر) ١٠٨٧ م ، بينما كان يجتاز ممر تاغنت. الواقع على مسافة ٥٥ كم جنوب بلدة تيجيكجة الحالية فى جمهورية موريتانيا الإسلامية ، فى أثناء عودته من إحدى حملاته ، وربما كان هذا التاريخ وهو ٤٨٠ ه‍ ، والذى لم يستطع المؤلف حفظه على الضبط. كان بالأصل ٣٨٠ ه‍ ، والذى قدمه لنا فى النص أعلاه.

(٤) وقد قال لنا المؤلف نفس الشىء عن عيوب الزنوج فى كتابه الأول ، وتدل بقية هذا الوصف بأن الوضع ليس كهذه ـ

٥٣٣

لبذر الحب ، ويكتسون بجلود الأغنام. وليس لأحدهم زوجة خاصة به أو منفردة به. ففي النهار يرعون الماشية أو يعزقون الأرض ، وفي المساء يجتمعون ما بين عشرة الى إثني عشر رجلا وامرأة في كوخ وينام كل منهم مع التي تعجبه أكثر من غيرها ، ويستريحون وينامون على جلود الغنم. ولا يشنّون حربا على إنسان ، ولا يضع واحد قدمه خارج موطنه. بعضهم يعبد الشمس ويسجدون لها بمجرد أن يروها تنبثق من الأفق. والآخرون ، مثل أهل ولاتة ، يعبدون النار. وجماعة منهم نصارى على مذهب المصريين : تلك هي حالة أهل منطقة غاوغاو (٥). وقد حكم يوسف ، ملك مراكش ومؤسسها مع أقوام ليبيا الخمسة ، حكموا هؤلاء الزنوج وعلموهم الشريعة الإسلامية والمعارف الضرورية لسلوكهم في الحياة (٦). فدخل الكثير منهم في الإسلام ، وحينئذ أخذ تجار بلاد البربر يقصدون هذه البلاد لمبادلة مختلف السلع ، حتى إنهم تعلموا لغاتهم (٧).

وقد اقتسمت أقوام ليبيا الخمسة هذه البلاد إلى خمس عشرة حصة ونال كل من أقوام ليبيا ثلاثا من هذه الحصص. والحقيقة أن ملك تومبوكتو الحالي ، أبو بكر أسكيا ، هو من عرق أسود. وقد سمّي قائدا عاما لقوم سوني علي ، وملكا على تومبوكتو وغاءو وهو من أصل ليبي (٨) ، وبعد موت سوني على (٩) ، ثار أبو بكر ضد أبنائه وقتلهم. ثم أنقذ كل الأقوام الزنجية من أيدى زعماء قبائل ليبيا ، حتى إنه فتح بضع ممالك فى خلال ستة أعوام. وعند ما فرغ من نشر السلام والهدوء فى مملكته ، شعر

__________________

ـ الحالة ، ونحن نعرف فى أيامنا أن الحضارة السوداء ، والتى تعود لآلاف السنين تخضع لعادات محددة بشكل دقيق للغاية وهى متينة التسلسل.

(٥) إذا كان لهذا الخبر بعض الصحة ، فمعنى ذلك أنه كان هناك نصارى زنوج من القائلين بطبيعة واحدة للمسيح ، فى السودانى الشرقى. والمقصود هنا مملكة غاوغاو وليس مدينة غاءو.

(٦) لا يبدو أن يوسف بن تاشفين ومرابطيه قد واصلوا عملية الفتح السودانى بعد وفاة أبى بكر بن عمر ، ومهما كان عليه الأمر فإن دخول الزنوج فى الإسلام بصورة بطيئة ـ وهو لا يزال مستمرا حتى أيامنا هذه ـ يعود فقط لدعاة ولتجار مسلمين ، وقد كان هناك دوما نوع من عدم تداخل بين بربر الصحراء الكبرى الملثمين وبين الزنوج.

(٧) على عكس ذلك يبدو أن تخريب أوداغست وانهيار قوة مملكة غانة بفعل المرابطين قد ألحق أكبر الضرر بازدهار الطريق التجارى الغربى المار من موريتانيا الحالية.

(٨) هذه المعطيات خاطئة : فقد تطورت الممالك الزنجية فى الحقيقة تطورا ذاتيا. فالملك السونى على الذى فتح تومبوكتو حوالي العام ١٤٦٨ وانتزعها من ملك مالى ، كان ملك غاءو ، وهو سونغى من ناحية أمه ، ومانديغى من ناحية أبيه. وعلى إثر موته آلت السلطة إلى قائده العام ، وهو سونينكي ، من تكرور ، أى من قوم فوتا السنغالى ، والذى كان له اسم

٥٣٤

بالرغبة فى أداء مناسك الحج إلى مكة. وأنفق فى هذه الحجة كل خزينته وبلغت ديونه خمسين ألف دينار (١٠).

وتمتد هذه الممالك الخمس عشرة التى نعرفها على طول ضفتى نهر النيجر وروافده (١١). وهى واقعة بين صحراوين واسعتين ، تبدأ الواحدة عند نوميديا وتنتهى عند هذه البلاد ، وتمتد الأخرى إلى الجنوب منها حتى المحيط. وتوجد هنا مناطق عديدة جدا ولكنها مجهولة بالنسبة لنا ، سواء بسبب طول ومشقة الرحلة أو بسبب تنوع اللغات والمعتقدات ، والتي تحول بينها وبين أن يكون لها علاقات مع البلاد المعروفة لدينا ، كما تمنع أقوامنا أن يكون لهم علاقات معها. ولكن هناك مع ذلك بعض العلاقات مع الزنوج الذين يعيشون على ساحل المحيط.

مملكة ولاته (١٢)

هذه مملكة صغيرة ذات وضع هزيل بالقياس إلى الممالك الزنجية الأخرى. فهى لا تحوى فى الواقع من الأمكنة المأهولة سوى ثلاث قرى وأكواخ مبعثرة بين بعض حدائق النخيل. وتقع هذه القرى على مسافة ثلاثمائة ميل تقريبا جنوب نون. وعلى مسافة خمسمائة ميل تقريبا شمال تومبوكتو ، وعلى مسافة مائة ميل من المحيط (١٣).

__________________

ـ محلي هو توريه فضلا عن اسم إسلامى وهو أبو بكر محمد. ونال لقب اسكيا. وكان مؤسس أسرة آسكيا الزنجية. ويمكن اعتبار ملوك مالى ، وحدهم ، من وجهة نظر البربر الصحراويين أنهم من نسلهم ، لأن إحدى جداتهم كانت ابنة الأمير أبي بكر عمر ، ولدى هؤلاء الصحراويين بعض بقايا من مفهوم «النظام الأمي» أي «البطن يجلب النبل» Epaulard.

ـ وعلى كل يجب أن نذكر أن التقاليد لدى زنوج سونغاي كانت دائما تعتبر أسرة دياوسوني من أصل أبيض ، وهو رأي مقبول على العموم اليوم لدى المختصين بشئون إفريقيا. وفضلا عن ذلك يظهر أيضا ، كما سنرى فيما بعد ، أن مملكة غوبر ، ومملكة كانم ـ بورنو قد أسستا على أيدي «ليبيين» مما يجعل رأي الحسن الوزان مقبولا تماما. وأبو بكر أسكيا المذكور هنا ، كان هو اسكيا الحاج محمد بن أبو بكر ، وقد حكم من عام ١٤٩٣ إلى ١٥٢٨ م ، وكان ملك بلاد سونغاى وعاصمته غاءو ، وليس تومبوكتو ـ ه. ل H.Lhote

(٩) في ١٤٩٣ م.

(١٠) عن حجة اسكيا محمد بن أبو بكر إلى مكة سنة ١٤٩٧ ـ ١٤٩٨ م انظر تاريخ الفتاش ص ١٢٤ ـ ١٣٣ وتاريخ السودان ص ١١٩ ـ ١٢١.

(١١) يعتبر المؤلف الذي ظل مخلصا للمعطيات التقليدية لدى الجغرافيين العرب ، يعتبر أن النيجر ينبع من تشاد ، وهي منابع النيل وأنه يصب في المحيط عن طريق مصب نهر السنغال.

(١٢) ولاته مدينة ثلاثة أرباعها عبارة عن خرائب ، واقعة في جنوب جمهورية موريتانيا.

(١٣) والحقيقة على مسافة ١٩٠٠ كم جنوب نون ، ٤٥٠ كم غرب تومبوكتو ، ٩٠٠ كم عن المحيط.

٥٣٥

وفي العصر الذي كانت فيه أقوام ليبيا تسيطر على المنطقة ، قام فيها مقر الحكومة الملكية ، وبالتالي ، كان لدى الكثير من تجار بلاد البربر عادة القدوم إليها (١٤) ، ولكن منذ عصر سوني علي ، الذى كان رجلا عظيما ، ترك التجار ولاته شيئا فشيئا وذهبوا إلى تومبوكتو وإلى غاءو ، حتى لقد أصبح أمير ولّاته فقيرا وبدون سلطة.

ويتكلم أهل هذه البلد لغة تدعى سونغاى (١٥). وهم أناس حالكو السواد وأدنياء ، ولكنهم لطاف جدا وخاصة مع الأغراب. ويدفع الأمير الذي يحكمهم إتاوة لملك تومبوكتو لأن هذا جاء مرة إلى هذه البلدة مع جيشه ، وحينئذ هرب أمير ولاته ، وعاد للصحراء حيث يوجد أهله. ورأى ملك تومبكتو أنه لن يستطيع السيطرة على البلاد كما يرغب لأن هذا الأمير ، المدعوم بأقربائه ، يستطيع أن يسبب له متاعب ، فاتفق معه على دفع ضريبة محددة. فعاد الأمير إلى ولاته ورجع الملك إلى تومبكتو (١٦). ونمط حياة أهل ولاته وعاداتهم هي نفسها التي نجدها لدى جيرانهم سكان الصحراء (١٧) ، ولا ينبت سوى القليل من الحب في هذا البلد : أى الدخن ونوع آخر من الحب مدور وأبيض اللون كالحمص ولا يرى مثله فى أوربا (١٨). وتعاني المنطقة من ندرة اللحم. ومن عادة الرجال والنساء أيضا أن يبقوا على وجوههم ملثمة. وكل تنظيم مدني مجهول فى المنطقة ، فلا يوجد رجال بلاط ولا قضاة (١٩). ويعيش هؤلاء الناس في حالة قصوى من الإملاق.

__________________

(١٤) فى الحقيقة يبدو أن الصحراويين أيولاتن ، وعند العرب ولّاته ، وهم فخذ من سوفة الدين كانوا فى المبدأ فى القسم الغربى من الصحراء الكبرى والواقعة إلى الشمال من هذه المنطقة ، لم يقومو بتحقيق خدمة القوافل التجارية العابرة للصحراء وقيادتها وحمايتها فحسب ، بل ساهموا كذلك فى حكم هذه المنطقة. ومنهم استمدت قرية بيرو اسم أيو ألاتن ، ثم ولاته الذى احتفظت به حتى نيسان (أبريل) ١٣٥٢ عند مرور الرحالة الكبير ابن بطوطه ، إذ كانت تحت حكم رجل أسود ، هو نائب أو «فربا» ملك مالى ، والذى استقبل ابن بطوطه وكان محاطا بوجهاء مسوفة.

(١٥) سونعىء أو سونغائى. ويتكلم كل السكان العربية حاليا ، ولكن كان الناس يتكلمون لغة آزر التى ظلت معروفة أيضا ، وهى لهجة سونيكة التى ظلت حتى القرن العشرين.

(١٦) وهذا الحادث غير المؤكد بمصادر أخرى ربما حدث حوالى العام ١٤٦٩ م.

(١٧) أى يعيشون كالصحراويين وليس كالزنوج.

(١٨) وربما كان الذرة البيضاء ، لأن الدخن هو من نوع دخن الشمعدان.

(١٩) هذا التفصيل يوضح الفكرة التى يتصورها المؤلف عن مملكة ما. فهى بالنسبة له رقعة أرضية تتعلق بحكومة واحدة ، والتى ربما لا تكون أبدا حكومة ملك : وهكذا يوجد أمير صحراوى فى ولاته ، هو تابع بسيط لملك تومبوكتو وليس لديه موظفون حكوميون ولا عدليون.

٥٣٦

مملكة جنة (٢٠)

وهي مملكة يسميها التجار الأفارقة جنيوه (٢١) ويسميها أهل البلاد جنيّ (٢٢) وكذلك البرتغاليون ، أما الذين لديهم معرفة بهذه الأصقاع فى أوربا فيسمونها غينيا (٢٣). وتتاخم المملكة السابقة ، غير أنه توجد بين الواحدة والأخرى مسافة تقارب خمسمائة ميل (٢٤) فى خلال الصحراء. فولاته تقع فى الشمال ، وتومبوكتو فى الشرق ومالى فى الجنوب. وتمتد على نهر النيجر على مسافة مائتين وخمسين ميلا تقريبا (٢٥).

ولها قسم يطل على المحيط ، وهو القسم الذى يصب عنده نهر النيجر فى البحر (٢٦).

ويكثر هنا الشعير والأرز والماشية والسمك والقطن بشكل مفرط. ويجنى سكان البلاد أرباحا عظيمة من تجارة أقمشة القطن التى يمارسونها مع تجار بلاد البربر ، ويبيع منهم هؤلاء بالمقايضة الكثير من الأقمشة الأوربية ، والنحاس والخارصين ، والأسلحة مثل الخناجر. والعملة التى يستعملها الزنوج من ذهب غير مسكوك اى التبر. كما يستعملون قطعا من الحديد لتسديد ثمن أشياء زهيدة القيمة ، كالحليب والخبز والعسل ، وتزن الواحدة من هذه القطع رطلا ، ونصف رطل ، أو ربع رطل.

ولا تنبت أية شجرة مثمرة فى هذه البلاد ، ولهذا لا يرى أى ثمر سوى التمر الأسود من ولاته أو من نوميديا. ولا توجد هنا مدينة ولا قصر وكل ما هنالك قرية

__________________

(٢٠) جنّة أو دينيّة ، والواقع لم تكن هناك مطلقا مملكة حقيقية في جنة.

(٢١) كناوه ، جناوا ، اسم لا زال دارجا فى المغرب الأقصى للكناية عن الزنوج وعن بلدهم.

(٢٢) مدينة قديمة في السودان الفرنسي سابقا ، أو مالى الحالية ، قرب باني ، رافد الجير ، وقد نقلت وظائفها التجارية اليوم إلى موبتي.

(٢٣) التباس من الحسن الوزان بين مدينة جنة وغينيا على ساحل المحيط الأطلنطى.

(٢٤) أي ٨٠٠ كم ، والحقيقة هي أن المسافة بين ولاته وجنة ٤٥٠ كم.

(٢٥) ٦٠ كم.

(٢٦) يقصد به طبعا نهر السنغال ، لأن المؤلف يتمسك بالرأى التقليدى لدى الجغرافيين العرب حتى ذلك العصر.

٥٣٧

كبيرة (٢٧) يسكنها الملك والفقهاء والعلماء والباعة والوجهاء من الناس. وكل البيوت التي يسكنها هؤلاء الناس هي كالأكواخ ، مطلية بالطين ومغطاة بالقش.

وأهل هذه القرية ذو وهندام جيد جدا. ويضعون لثاما كبيرا من القطن ، أسود وأزرق ، يتغطون به حتى رأسهم ، ولكن الفقهاء والعلماء يلبسونه أبيض اللون. وأخيرا تشكل هذه القرية نوعا من جزيرة خلال ثلاثة أشهر فى العام ، فى تموز ، وآب ، وأيلول (يولية وأغسطس وسبتمبر) إذ في هذه الفترة يتعرض النيجر للفيضان الشبيه تماما بفيضان النيل.

ومن عادة تجار تومبوكتو القدوم إليها فى هذه الفترة ، فيجلبون بضائعهم فى مراكب صغيرة ضيقة جدا ، مصنوعة من نصف جذع شجرة مجوّفة ويجدفون طيلة النهار ، ويربطون مراكبهم فى المساء ، وينامون على الأرض.

وكانت تحكم هذه المملكة فى الماضى أسرة تعود أصلا لقوم من ليبيا ، ولكن فى عصر الملك سوني على أصبح أمير هذه المملكة تابعا له (٢٨). وعندما خسر سونى على مملكته على يد خلفه أسكيا قبض أسيكا على هذا الأمير وسجنه في غاءو حتى وفاته.

وأصبحت المملكة بعدئذ يحكمها نائب من قبل أسكيا.

مملكة مالى

تمتد مالى (٢٩) على طول فرع من نهر النيجر (٣٠) على مسافة قد تبلغ ثلاثمائة ميل (٣١). وهي تتاخم المملكة السابقة من الشمال وتتاخم صحراء وجبالا قاحلة نحو الجنوب. وتحدها من الغرب غابات موحشة تمتد حتى المحيط ، وتتاخم من الشرق أراضي غاءو. ويوجد في هذا القطر قرية كبيرة جدا تضم ستة آلاف أسرة وتدعى

__________________

(٢٧) هى جنة.

(٢٨) تقول الأسطورة إن سونى على عجز عن احتلال جنة بسبب الجوع بعد حصار طويل وأنه تزوج والدة أم. هذه البلاد.

(٢٩) وهى مملكة الماندينغ الهامة والتى بلغت أوجها فى القرن الرابع عشر الميلادى.

(٣٠) ولا سيما على هذا النهر ذاته ، والذى يدعى أيضا ديوليبا.

(٣١) ٤٨٠ كم.

٥٣٨

مالى (٣٢) ، ومنها جاء اسم كل بقية المملكة. ويقطنها الملك وحاشيته. ويكثر في البلاد اللحم والقطن والغلال. كما يوجد في هذه القرية عدد كبير من الصناع ومن الباعة المحليين والأغراب ، ويتمتع هؤلاء برعاية الملك أكثر من الآخرين. والسكان أغنياء بسبب تجارتهم ، لأنهم يقدمون لجنّة ولتومبوكتو كثيرا من المنتجات. ولديهم عدة جوامع ، وأئمة وأساتذة يعملون في الجوامع ، نظرا لعدم وجود مدارس. وهؤلاء هم الأكثر تمدنا وذكاء واعتبارا من جميع السود. فقد كانوا الأوائل في اعتناق دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وقد كانوا محكومين في عصر دخولهم الإسلام من قبل أكبر أمراء ليبيا ، وهو الذى كان عما ليوسف ، ملك مراكش (٣٣) ، وقد ظلت السلطة بيد حفدة إخوته من أمه ، حتى عصر اسكيا (٣٤) وأصبح آخر هؤلاء تابعا له. وكانت التزاماته المالية ثقيلة جدا حتى لقد عجز عن إطعام أسرته.

تومبكتو

اسم هذه المملكة حديث العهد ، فهو اسم مدينة بناها ملك يدعى منسى سليمان فى عام ٦٠٠ للهجرة (٣٥) على مسافة اثني عشر ميلا من فرع النيجر (٣٦).

__________________

(٣٢) يجب أن يكون المقصود بها حينذاك نيانى ، وهى قرية على نهر سنكارانى ، قرب مقرنه مع النيجر. وقد تبدل موقع عاصمة مالى عدة مرات.

(٣٣) كان يوسف بن تاشفين ابن عم أبى بكر بن عمر ، كبير أمراء المرابطين. ويظهر أن هذا قد عاش دوما في الأدرار الموريتانى ، مع قبيلته لمتونة وذلك فيما عدا المراحل التي كان يقوم في أثنائها بحملاته العسكرية فى البلاد الأخرى. ولكن تذكر الروايات أنه زوج إحدى بناته من ملك من أسرة محلية من الماندينغ الذين كانوا يحكمون وقتئذ.

(٣٤) اسكيا الحاج محمد. ولا يجوز خلط هذا الاسم مع إسحق الذى حكم من ١٥٣٩ إلى ١٥٤٩ م.

(٣٥) ١٢١٣ ـ ١٢١٤ م. ويجب أن نذكر أن منسى سليمان حكم بالفعل من عام ١٣٣٦ إلى ١٣٥٩ م. وكان ابن بطوطة أول من ذكر تومبوكتو (١٣٥٤ م).

(٣٦) لقد تأسست المدينة ، بناء على أقوال الروايات ، فى القرن الحادى عشر من قبل الطوارق ، الذين أقاموا هنا مخزنا للبضائع التى عهدوا بحراستها لعبد يدعى تينبوتو ، أى من السرّة ، ثم تحولت على ألسنة السود إلى تونبوتو ، ولفظها العرب تونبوكتو. واستقر فيها العديد من التجار والعلماء المسلمين الذين كانوا فى ولّاته ، وتوسعت المدينة بسرعة. وفي أثناء عودة كنكان موسى ، امبراطور مالى ، من مكة ، مربغاء وحيث تلقى مراسم التبعية ، ثم احتل تومبوكتو حوالي العام ١٣٢٤ م. وفى ١٤٣٣ أصبح الطوارق سادتها بقيادة تامبنوكال اكيل آغ آملويل ، ووضعوا عليها أميرا من صنهاجة شنقيط. وفى هذا العصر لم يكن الطوارق من قبيلة تادمكت قد هبطوا من الأدرار ومن مرتفعات دس ايفوراس ، وأصحت المنطقة ، شأن ولّاته ، تحت سيطرة قبائل المسوفه من الملثمين ، من أصل زناتي طارقي. والغالب على الظن أن أكيل كان ينتسب إلى هذا الفخذ ، واحتفظ بالإمارة عليها حتى عام ١٤٦٩ م ، أى حتى التاريخ الذي قام فيه زعيم من سونغائى. وهو سونى على ، باحتلالها ه. ل H.I.hote.

٥٣٩

وبيوت تومبوكتو هى أكواخ مصنوعة من أعمدة مطلية بالطين مع سقوف من القش. ويقع فى وسط المدينة الجامع المبنى بحجارة منحوتة مع طين الكلس على يد مهندس من الأندلس ، مولود فى مدينة المانه ، كما أن هناك قصرا كبيرا بناه المهندس نفسه وحيث يسكن الملك (٣٧) ، وبها كثير من دكاكين الصناع والباعة ، ولا سيما حاكة قماش القطن ، وتصل أقمشة أوربا إلى تومبوكتو ويجلبها تجار من بلاد البربر.

ولا زال من عادة نساء المدينة وضع الحجاب على وجوههن ، باستثناء الاماء اللواتى يبعن كل الأشياء المأكولة. والسكان واسعو الثراء ، ولا سيما الأغراب الذين أقاموا فى البلاد ، حتى إن الملك الحالى (٣٨) أعطى اثنتين من بناته زوجتين لأخوين تاجرين بسبب ثرائهما. ويوجد فى تومبوكتو عدة آبار مياه عذبة ، وفضلا عن ذلك فإن الماء يصل حتى المدينة بواسطة قنوات فى وقت فيضان النيجر. وتغزر هناك الحبوب والمواشى ويكثر تبعا لذلك استهلاك الحليب والسمن. ولكن هناك افتقار شديد للملح ، لأن هذا يجلب من تغازة ، التى تيعد عن توميوكتو بنحو خمسمائة ميل (٣٩). وقد كنت موجودا فى هذه المدينة فى وقت كان فيه سعر حمل الملح ثمانين دينارا (٤٠). ولدى الملك خزينة كبيرة من العملة ومن سبائك الذهب ، وتزن إحدى هذه السبائك ألفا وثلاثمائة رطل (٤١).

والبلاط الملكى جيد التنظيم للغاية وذو أبهة. وعندما يذهب الملك من مدينة

__________________

(٣٧) إن الذى أشرف على بناء هاتين العمارتين هو رجل يدعى إسحق السهيلى الغرناطى ، الذى اصطحبه كنكان موسى من مصر فى أثناء مروره بالقاهرة. وينسب إليه أيضا بناء الجامع فى غاءو. أما الجامع الذى شيد بناء على أوامر كنكان موسى فقد تخرب فيما بعد وأعاد بناءه القاضى العقيل بن محمود. كما أن القصر الذى ذكر فى كتب التاريخ باسم معدوغو قد اختفى اليوم. ه. ل.H.Lhote

(٣٨) لم يكن هناك ملك فى تومبوكتو بل نائب عن امبراطور غاءو السونغائى ، والذى كان يلقب بتومبوكتو كوى. أما الذى كان موجودا فى أثناء مرور الحسن الوزان فكان يدعى عمر بن محمد النّدى. وقد نصبه أسكيا الحاج محمد سنة ١٤٩٣ وتوفى عام ١٥٢١ ، وكان هذا المنصب أسمى مناصب الامبراطورية ، وكان يخول صاحبه امتيازات عديدة ، ولا سيما امتلاك الطبل ، وهى شارة قيادة عليا. ه. ل H.Lhote

(٣٩) ٨٠٠ كم.

(٤٠) أى أربعة ألواح من الملح الصخرى.

(٤١) أو حوالى ٤٠٠ كغم من الأرطال المصرية. وقد سبق للبكرى أن تكلم عن سبيكة ضخمة من التبر يملكها ملك غانة ، ويوضح الإدريسي في سنة ١١٥٤ م انها كانت تزن ثلاثين رطلا وكان يربط بها حصان الملك. وعن هذه السبيكة بلا شك يتكلم ابن خلدون ويذكر عنها أن الملك الماندينغي ماريدياتا الثاني الذي حكم بين ١٣٥٩ و ١٣٧٤ م قد باعها لنخاسين مصريين وأن هذه الكتلة كانت تزن ٢٥ قنطارا. فمن هذا يظهر أن الرقم الذي ذكره الحسن الوزان مبالغ فيه.

٥٤٠