وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

يستطيع أحد أن يمردون أن يدفع ربع دينار عن كل جمل. ويجبي نفس المبلغ عن كل يهودي. وقد حدث أن مررت من هنا مرة بصحبة أربعة عشر يهوديا. وسألنا الحرس عن عددنا فصرحنا بعدد يقل باثنين عن الحقيقي. وعدّنا الحرس وأراد الإمساك باثنين منا. فأكدنا بأن اثنين منا مسلمون والباقي يهود. ولكي يتأكد من ذلك طلب منا نحن الاثنين أن نتلو الصلاة الإسلامية (يقصد الفاتحة) وبعد أن تلوناها اعتذر وسمح لنا بالذهاب (٥٧).

تابلبالة

وهي مكان مسكون في وسط صحراء نوميديا ، على مسافة مائتي ميل من جبل الأطلس ، ومائة ميل جنوب سجلماسة. وهنا تقوم ثلاثة قصور كثيرة السكان. وأراضيها الصالحة للزراعة مغروسة بالنخيل (٥٨).

والماء فيها نادر جدا ، وكذلك اللحم : وتؤكل فيها طيور النعام والوعول التي تصاد. والسكان فقراء مع أنهم يزاولون التجارة مع أرض السودان لأنهم أتباع للعرب (٥٩).

تودغة

التودغة هي إقليم صغير على مجرى ماء صغير له نفس الاسم. وتكثر التمور في هذا الإقليم ، وكذلك الدراق والأعناب والتين. وتقوم هنا أربعة قصور وعشر قرى يسكنها فقراء الناس. ويعمل معظمهم في الفلاحة والدباغة. ويقع هذا الإقليم على مسافة أربعين ميلا من سجلماسة (٦٠).

__________________

(٥٧) لا تعرف أطلال أم العفن إلا باسم إيغرم ، ومعناه باللغة البربرية المحلية قصر. ولكن لا تزال بركة تقع على مسافة بضع مئات الأمتار الى الشمال من هذه الخرائب تحمل اسم أم العفن ، لأن البدو كانوا يأتون بأعداد كبيرة ليستحموا فيها. وتقع هذه الآثار على مسافة ستين كيلومترا جنوب سجلماسة ، على ضفة وادي غريس اليسرى.

(٥٨) هذه القصور الثلاثة هي حاليا : الشرائية ، زكري ومخلوف.

(٥٩) أي عرب العمارنة. والحقيقة تقع تابلبالة على مسافة ٥٠٠ كم من الأطلس و ٣٥٠ كم جنوب سجلماسة.

(٦٠) لقد ولع المؤلف هنا في الالتباس ، ذلك أن فيركله هي التي تقع على مسافة ٩٠ كم غربي سجلماسة ، أما تودغة فهي أكثر بعدا نحو الغرب ، وليس من الممكن تحديد أي من الواحتين كان ينطبق عليهما هذا الوصف.

٥٠١

فيركله

وهي كورة أخرى مأهولة ، على نهر صغير. وتكثر فيها التمور والثمار الأخرى ، ولكن لا ينبت فيها حب ، باستثناء كمية زهيدة. وتحوي ثلاثة قصور وخمس قرى. وتقع على مسافة مائة ميل من جبال الأطلس وستين ميلا من سجلماسة ، والسكان هم أتباع للعرب (٦١).

تزارين

تزارين منطقة جبلية مأهولة تقع على جدول على مسافة ثلاثين ميلا من فيركله وعلى مسافة عشرة أميال من الأطلس. وهذه الكورة خصيبة جذا بالتمور. وتضم خمس عشرة قرية ، وستة قصور وبقايا مدينتين لا يعرف اسمهما. ومن هنا جاءت تسميتها لأن تزارين تعني المدن في اللغة الإفريقية (٦٢).

بني جومي

وهي كورة أخرى مسكونة على نهر غير. وتكثر فيها أشجار النخيل. وسكان هذه المنطقة فقراء. ويمارسون في فاس كل ضروب المهن الحقيرة. ويشترون بما يكسبونه فى أثناء عام حصانا يقودونه حتى قراهم ويبيعونه بعدئذ من التجار الذين

__________________

(٦١) تقع فيركلة على مسافة ٩٠ كم جنوب شرق تافيلالت ، وعلى ثلاثين كم جنوب الأطلس ، في حين أن تودغة تقع على مسافة تقل عن ١٢٠ كم شمال غرب تافيلالت ، ويقع قسم من واديها في الأطلس ذاته. ويقول المؤلف في كتابه الأول إن روحه وهم فرع من عرب معقل كانوا يسكنون فيركلة ، في حين أن المقصود هو تودغة ، وأن العمارنة وهم من «دوي منصور» وهو فرع آخر من معقل ، كانوا يستوفون عوائد من أهل سجلماسة وتودغة ، في حين أن المقصود هي فيركلة ، وقد ارتكب المؤلف نفس الخلط في الكتاب الثاني عند ما وضع جبال ايمغارن بجوار فيركلة وجبال تادس وكأنها مجاورة لتودغة.

(٦٢) إن المؤلف الذي كان لا يعرف اللغة البربرية قد خلط بين تزارين أو تازارين التي تعني أشجار التين مع تدارين التي تعني البيوت ، وتطلق بطريق التوسع على القرى. وتقع تزارين كما تشير إليها الخرائط الفرنسية الحديثة على مسافة مائة كيلومتر جنوب غرب فيركلة وعند حضيض جيل صاغر ومن الجنوب ، الذي يؤلف قسما من الأطلس. وقد فقدت حدائق نخيل تزارين الكثير من أهميتها ، وكذلك حال نخيل تافيلالت وكل هذه المناطق التي يجتاحها اليبس تدريجيا ويبدو هذا حتى فى أثناء حياة شخص عادي.

«المقصود باللغة الإفريقية اللغة البربرية ، والمقصود بالأفارقة دوما البربر» (المترجم).

٥٠٢

يذهبون إلى أرض السودان. ويوجد في هذه الكورة ثمانية قصور صغيرة وأكثر من خمس عشرة قرية تبعد عن سجلماسة حوالي مائة وخمسين ميلا في اتجاه الجنوب الشرقي (٦٣).

قصر المزاليق وقصر أبى عنان (٦٤)

وهما قصران في صحراء نوميديا ، ويقعان على مسافة خمسين ميلا من سجلماسة ، ويعيش سكانها العرب دوما في ضنك وفاقه ولا ينبت في هذه الأراضي أي نوع من الحبوب ، ولا يوجد بها سوى بعض النخلات. ويقع هذان القصران على ضفة واد غير (٦٥).

قصر المزاليق وقصر أبي عنان (٦٤)

وهي مدينة صغيرة في صحراء نوميديا ، على مسافة مائة وعشرين ميلا تقريبا من جبال الأطلس. وفيها منجم رصاص وآخر للأثمد. وعمل السكان هو إنتاج هذين المعدنين ، وينقلونهما إلى فاس ، ولا ينبت شيء حول هذه البلدة (٦٦).

__________________

(٦٣) تتواكب قصور بني قومي أو جومي على مسافة ٢٥٠ كم تقريبا إلى الجنوب الشرقي من تافيلالت وتمتد على مسافة عشرين كيلومترا على طول وادي زوزفانه وليس واد غير كما وقد أمكن التعرف على القصور الثمانية التي كانت موجودة في عصر المؤلف ، ولكن اختفت خمس منها ، وحلت محلها قصور أخرى وأهمها قصر تاغيت ، وهو أكثر قصور الجنوب روعة بسحر الألوان المتغيرة على موقعه حسب وضع الشمس ، وهذا ما اجتذب إليه الرسامين ، ومخرجي الافلام السينمائية والسواح. وقد اختفت القرى أيضا. وقد استقر هذا الفخذ من بني جومي ، وهو فرع من زناته عبد الواد ، في هذه النقطة على أحد طرق السودان الرئيسية.

«والسودان هنا يعني الأقطار الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى والتي يسكنها الزنوج» (المترجم).

(٦٤) لم يكن التعرف على قصر أبي عنان.

(٦٥) لم يكن التعرف على قصر المزاليق. وتقع بودنيب على واد غير وعلى نفس المسافة المذكورة. ولا يقع قصر أبي عنان على واد الغير ، ولكن رافده ، وادي أبي عنان. ويقع القصر المذكور على مسافة بضعة كيلومترات شمالي المخفر الذي يحمل نفس الاسم.

(٦٤) لم يكن التعرف على قصر أبي عنان.

(٦٦) القصير ومعناه القصر الصغير ، وقد اختفى. ولكن يمكن الاستدلال على موقعه بموقع حاسي قصير. ويحمل مجرى الوادي الجاف الموجود هنا اسم وادي قصير ، وهناك كتلة كثبان مجاورة ، هي عرق القصير ونجد كذلك نفس الاسم على الممر الواقع إلى الشرق الذي يسمح بالدخول إلى الهضبة المسماة حمادة غير وثنية قصير. ويقع حاسي قصير على مسافة ٧٠ كم جنوب شرق سجلماسة ، إذن تبعد عن الاطلس مسافة ١٩٢ كم. وهذا يطابق المسافة بين القصير ومدخل الخانق حيث كان يمر بالتأكيد معدن الرصاص والأثمد اللذين كانا ينقلان إلى فاس.

٥٠٣

بني بصري

وهي كورة مسكونة ، حيث يوجد ثلاثة قصور عند أقدام جبال الأطلس. وتكثر هنا الثمار ، ولكن لا ينبت فيها النخيل ولا الحبوب. ويقع هنا منجم حديد يمون كل إقليم سجلماسة بحاجته. ونجد في هذه الكورة بعض القرى تحت سلطة أمير دبدو. ويعمل السكان في المنجم (٦٧).

واكدة

واكدة كورة تقع على مسافة مائة وسبعين ميلا إلى الشرق من سجلماسة. ونجد فيها ثلاثة قصور كبيرة وبضعة قرى وكلها على ضفة واد غير (٦٨) ولا ينبت هنا سوى القليل من القمح ، ولكن تجنى كمية كبيرة من التمور. وينقل السكان بضائعهم إلى بلاد السودان. وكلهم من الذين يدفعون الإتاوة للعرب.

فيقيق

وهى عبارة عن ثلاثة قصور فى وسط الصحراء ، توجد بالقرب منها كمية كبيرة من أشجار النخيل. وتنسج النسوة فيها أقمشة صوفية من نوع ملاءات السرير ، ولكنها ناعمة للغاية ومتقنة حتى ليظن انها من حرير ، وتباع بأسعار غالية جدا في مدن بلاد البربر مثل تلمسان وفاس. ورجال هذه القصور غاية في الذكاء. وينصرف بعضهم للتجارة فى بلاد السودان ، كما يقصد الآخرون فاس لدراسة الآداب. وعند ما يحصل أحدهم على شهادة الدكتوراه (٦٩) يعود إلى نوميديا ويعمل إماما أو خطيبا. وكل الناس

__________________

(٦٧) تقع فصور بنى بصرى فى رأس وادى غيس ، وهو فرع رافد لواد أبي عنان ، رافد وادي غير. وتقع على مسافة مائتي كيلومتر جنوب دبدو تقريبا ، وعلى مسافة ثلاثين كيلومترا جنوب غرب ثكنة تلسنت. وتوجد حاليا خمسة قصور لبنى بصرى والثلاثة الأولى القديمة خربة ، وبالقرب من هذه القصور الحالية تسكن عشائر بني يحيى أو غيس ، وآيت عيسى أو على وتخوالت. ولم يبق سوى آثار عن مناجم الحديد بجوار هذه القصور كما توقف استغلالها.

(٦٨) يقع القصران الباقيان فى واحة النخيل على واد بشار الذي لا اتصال له مطلقا مع واد غير. وهذان القصران هما واكدة على مسافة ستة كيلومترات فى الجنوب الغربي ، وبشار الذى أصبح اسمه أيام الحكم الفرنسي للجزائر كولومب بشار. وهو مركز إدارى هام.

(٦٩) أى العالمية.

٥٠٤

هنا أغنياء. وتقع هذه القصور على مسافة خمسين ومائتى ميل شرقي سجلماسة (٧٠).

تسابيت

تسابيت كورة مأهولة ، في صحراء نوميديا ، على مسافة خمسين ومائتي ميل إلى الشرق من سجلماسة وعلى مسافة ستمائة ميل من الأطلس. وتحوي أربعة قصور وبضع قرى على تخوم ليبيا ، على طريق فاس وتلمسان إلى مملكة أغادس في بلاد السودان. وسكانها مدقعون ، ولا ينبت في بلادهم شيء سوى التمور والقليل من الشعير. وهؤلاء الناس زنوج غير أن نساءهم جميلات ولكنهن سمراوات (٧١).

تيغورارين

التيغورارين (٧٢) منطقة مسكونة في صحراء نوميديا ، تبعد مائة وعشرين ميلا تقريبا شرق تسابيت ، حيث يوجد حوالي خمسين قصرا وأكثر من مائة قرية بين حدائق النخيل (٧٣). وسكان هذه البقعة أغنياء لأن عادتهم الذهاب كثيرا مع بضائعهم إلى بلاد السودان حيث يجنون أرباحا كبيرة. وهنا يقع رأس خط القوافل. حيث ينتظر تجار بلاد البربر تجار بلاد السودان ثم يذهبون سوية.

ولهذه البلاد الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة ، ولكن يجب ريها بمياه الآبار وتسميدها بالسماد ، لأن هذه الأراضي جافة وغير خصيبة ، ولهذا يعيرون مساكنهم للغرباء بدون تعويض كي يحصلوا على سماد الخيل وبراز الآدميين وأكبر ما يغضب صاحب المنزل هو أن يقضي الضيف حاجته خارج البيت. وإذا رآه صاحب البيت اغتم

__________________

(٧٠) تضم فقيق أو فيقيق خمسة تجمعات سكانية هي قصور ودغير ، أولاد سليمان ، المعيز ، وقصر الحمام في الشمال ، وقصر زناته في الجنوب ، وتقع واحة النخيل الرائعة هذه على مسافة ٤٠٠ كم من سجلماسة وهي في طريق الانحطاط حاليا. ولا تزال قيمة أهل فقيق ومهارتهم مشهورة ، ولكن يظهر أن سر المنسوجات الجميلة قد ضاع.

(٧١) تعتبر تسابيت في أيامنا كورة من تيغورارين أو قوراره ، ومن ناحية أخرى تبعد ألف كيلومتر أو أكثر من ٦٠٠ ميل عن الأطلس أو بين سجلماسة وتسابيت على مختلف الدروب الممكنة.

(٧٢) تيغورارين معناها المخيمات بالبربرية ، وقد عربت على شكل قورارة.

(٧٣) يظن أن المؤلف لا يقتصر هنا على حدائق النخيل في قوراره (ما عدا تسابيت ، ومنها واحة تيميمون ، وهي أشهرها في أيامنا) ، بل يعرض كذلك لواحة توات ، التي ذكرها في كتابه الأول من هذا المؤلّف ، والتي أوردها على شكل تغات بين أقسام نوميديا بين فقيق وتسابيت. وعدد القصور المسورة والقرى غير المسورة الذي يعطيه هنا يؤكد هذا الافتراض كما يبدو.

٥٠٥

وصرخ «ألا يوجد مرحاض فى بيتى حتى تضطر لقضاء حاجاتك فى الخارج؟» واللحم غال جذا فى تيغورارين إذ لا يمكن اقتناء ماشية بسبب جفاف البلاد. ولا يوجد سوى بعض العنزات التى تربى من أجل الحليب. ويؤكل لحم الجمال المشتراه من العرب الذين يأتون للأسواق التي تقام فى المنطقة. وتربى هذه الجمال لأنها لا تصلح كحيوانات حمل. كما يستخدم أيضا في هذا الغذاء التافه السمن المملح الذى يستودره تجار فاس وتلمسان ويجنون من وراء ذلك ربحا كبيرا. وكان يقيم فى تيغورارين بعض اليهود الواسعي الثراء. ولكن تدخل أحد أئمة تلمسان (٧٤) أدى إلى نهب أرزاقهم كما أن السكان قتلوا أكثرهم. وقد وقع هذا الحادث فى العام الذى طرد فيه الملك الكاثوليكي اليهود من أسبانيا ومن صقلية (٧٥).

وحكومة الشعب في يد بعض زعماء الطوائف. وكثيرا ما يقتتلون فيما بينهم ، ولكنهم لا يلحقون أي ضرر بالغرباء ومن عادتهم دفع إتاوة زهيدة للعرب (٧٦) لأنهم أتباع لهم.

مزاب

المزاب (٧٧) منطقة مسكونة في صحاري نوميديا على مسافة ثلاثمائة ميل تقريبا شرق تيغورارين وعلى نفس المسافة من البحر المتوسط (٧٨) وتضم ستة قصور وبضع

__________________

(٧٤) لقد تمتعت كل من واحتي قوراره وتوات بالتأكيد بإزدهار كبير نسبيا في الماضي ، عند ما كانت تجارة السودان تتم بواسطة الطريق العابر للصحراء الكبرى. غير أن ضعف ممالك جزيرة المغرب ، ثم تقدم الملاحة الأوربية قضت تدريجيا على هذا الازدهار ، وقد ساهم زحف بحر الرمال نحو الغرب والذي يتألف من العرق الغربي الكبير في هذا الخراب ، وأخيرا فإن تمرد عام ١٤٩٢ م الذي قضى على هيمنة اليهود في هذه المناطق لم يكن قليل التأثير على الانحطاط التجارى الذي استفحل تدريجيا.

(٧٥) يعود تاريخ مرسوم طرد يهود أسبانيا لتاريخ الثالث من آذار (مارس) ١٤٩٢ م أي بعد حوالي شهرين من سقوط غرناطة بأيدي الأسبان. وقد نشأت في هذه الواحات شيئا فشيئا طبقة من شخصيات ينية إسلامية ، من أشراف وسواهم ، عرفوا باسم المرابطين ـ نفس اسم مرابطي لمتونة ـ. وقد عمد المحرض المغيلي ، الذى طرد من فاس ، إلى استثارة سكان قورارة وتوات ضد اليهود.

(٧٦) وهم بنو عمير ، فرع من بني هلال. انظر الكتاب الأول.

(٧٧) واحات المزاب ومدينتها الرئيسية غرداية. [وجمع سكان هذه المنطقة تقريبا يتبعون المذهب الاباضي] (المراجع)

(٧٨) والحقيقة ٦٠٠ كم تقريبا جنوبي البحر المتوسط و ٧٠٠ كم عن قورارة.

٥٠٦

قرى (٧٩) والسكان أغنياء. وهى أيضا رأس الخط التجارى حيث يتلاقى تجار مدينة الجزائر وبجاية مع تجار بلاد السودان. ويدفع أهل المنطقة إتاوة للعرب ، بوصفهم اتباعا لهم.

طوقورت

طوقورت مدينة قديمة بناها النوميديون على جبل له شكل نتوء يمر عند سفحه نهر صغير يجتازه جسر متحرك كما نجد امثالا له عند أبواب المدن. وهي محاطة بجدار من الحجر الغشيم والطين ، باستثناء طرف الجبل الذي تعد جروفه وسائل دفاع (٨٠). وتقع هذه المدينة على مسافة خمسمائة ميل من البحر المتوسط وثلاثمائة ميل تقريبا من تيغورارين (٨١). وتسكن طوقورت خمسمائة وثلاثة آلاف أسرة (٨٢). وبيوتها من الآجر المشوى والنيء. والجامع وحده من الحجارة المنحوتة الجميلة. وهي مأهولة جيدا بالصناع والوجهاء الذين هم من ملاكي حدائق النخيل الأغنياء. ولكن المدينة تفتقر للقمح الذي يجلب اليها من قسنطينة بالتبادل مع التمور. ويحب أهل طوقورت الغرباء كثيرا ويستضيفونهم في بيوتهم بالمجان ، ويرجحون تزويج بناتهم للغرباء أكثر من اهل البلاد ، ومن عادتهم ان يعطوا بناتهم مهرا مؤلفا من أثاث كعادة اهل اوروبا. ويقدمون هدايا كبيرة للغرباء حتى ولو عرفوا انهم لن يعودوا مطلقا ، وذلك لانهم مفرطون في الكرم. وقد كانت طوقورت في الماضي تحت سلطة ملوك مراكش (٨٣) ثم اصبحت تابعة لملوك تلمسان. واخيرا صارت تابعة لملك تونس الذي تدفع له خمسين

__________________

(٧٩) إن القصور الستة التي كانت في ذلك العصر هي : العطف ، بونواره ، بني ايسغن ، وغرداية. وقد أسست هذه القصور الأربعة في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي على يد جماعات من زناتة الأباضيين الذين قدموا تقريبا من كل حدب وصوب كي يلتجئوا إلى هذه المنطقة الموحشة للغاية والعسيرة المواصلات ، ثم أنشئت مليكه سنة ١٣٨٠ م ، وأخيرا سيدي سعيد التي خربها الأتراك في القرن السابع عشر. أما القرى فليست معروفة بالنسبة لدينا.

(٨٠) هذا الوصف مجاف للحقيقة كل المجافاة. وهذا يقودنا الى الظن بأن المؤلف كان مضطرا لقبول معلومات قدمها له مازح ردئي ولا يمكن انه وقع في التباس ما ، إذ ليس لبلدة اخرى في هذه المناطق مجموع هذه الخصائص ، ولا تحوي الجولية سوى بعضها.

(٨١) لا يوجد اكثر من ٣٣٠ ميل او. ٥٣ كم بين طوقورت والبحر المتوسط ، وتبلغ المسافة بين طوقورت وتيميمون والجولية على الطريق المباشر مقدار ٥٥٠ ميلا او ٨٨٠ كم.

(٨٢) مبالغة اكيدة.

(٨٣) من المرابطين ثم الموحدين ، ويبدو ان المنطقة ظلت لمدة طويلة مركز مقاومة مرابطية.

٥٠٧

الف دينار في السنة ، ولكن على شرط أن يأتي شخصيا لاستلام هذه الضريبة.

وقد ذهب ملك تونس الحالي (٨٤) اليها مرتين. ويوجد حول طوقورت بضعة قصور وقرى ، وكذلك اماكن مسكونة على مسافة تمتد حتى ثلاثة او اربعة ايام مشيا (٨٥). وكل من هذه تتبع امير طوقورت الذي ينال بذلك مقدار مائة وثلاثين الف دينار من العوائد. ولهذا الامير حرس من الفرسان ، ومن راشقي السهام (الرماة) ومن حملة البنادق الأتراك : ويعطي لهم مرتبا طيبا كي يظل كل واحد منهم في الخدمة بمحض ارادته. وهو شاب طيب القلب وكريم يدعى عبد الله وقد كانت لي علاقة به ووجدته لطيفا حقا ، وديعا ومرحا للغاية ، ينظر للغرباء نظرة طيبة (٨٦).

ورقلة

وهي مدينة قديمة جدا بناها النوميديون في صحراء نوميديا. ولها جدار سور من اللبن ، وبيوت جميلة حولها في واحة نخيل واسعة. وتقوم الى جوارها بضعة قصور وعدد لا يحصى من القرى. ويكثر في هذه المدينة الصناع ، وسكانها من كبار الاغنياء لأنهم على علاقة بمملكة آغادس. ونجد بين ظهرانيهم الكثير من الباعة الغرباء عن البلاد ، ولا سيما القادمين من قسنطينة ومن تونس. ويجلب هؤلاء الى ورقلة منتجات بلاد البربر كي يتبادلوها بالسلع التي جلبها تجار بلاد السودان.

وتفتقر البلدة كثيرا الى القمح واللحم. ويؤكل لحم الجمل ولحم طير النعام. وأكثرية الرجال سود ، وليس ذلك بسبب المناخ ، ولكن لأن لهؤلاء الناس الكثير من الجواري ذوات اللون الاسود ، ويتخذونهن سريات لهم ، فيرث اولادهم الوان أمهاتهم ، ويخصون الغرباء باستقبال طيب لأنهم لا يملكون شيئا سوى ما يأتيهم به هؤلاء وخاصة فيما يتعلق بالقمح ، واللحم المملح ، والسمن ، والأقمشة الصوفية والكتانية ، والاسلحة ، والمدى ، وبالجملة كل ما هم بحاجة اليه.

__________________

(٨٤) ابو عبد الله محمد.

(٨٥) حتى الريغ او ريغ.

(٨٦) يظهر أن المؤلف صادف هذا الشاب في بلاط ملك تونس وانه هو الذي خدعه بوصف طوقورت بهذه المظاهر.

٥٠٨

ولها أمير تقدم له التشريفات الملكية (٨٧) ، وينفق هذا الامير على حرسه البالغ الف فارس. وتجلب له دولته مائة وخمسين الف دينار ، ويدفع لجيرانه العرب إتاوة مرتفعة (٨٨).

ولاية الزاب

تقع هذه الولاية في وسط صحارى نوميديا. وتبدأ في الغرب من تخوم مسيلة ، ويحدها من الشمال جبال مملكة بجاية. وتمتد شرقا حتى بلاد الجريد (٨٩) التي تواجه مملكة تونس ، وتمتد جنوبا حتى الصحاري التي يخترقها طريق طو قورت ورقلة. وهذه المنطقة شديدة الحر ورملية. ولا يتوافر فيها سوى القليل من الماء ، والقليل من الأراضي الزراعية الصالحة لزراعة الحبوب ، ولكن عدد حدائق النخيل لا يكاد يحصى فيها ، ويضم هذا الاقليم خمس مدن وعددا كبيرا من القرى. وسنصف المدن حسب ترتيبها :

بسكرة

بسكرة (٩٠) مدينة قديمة تأسست في العصر الذي كان فيه الرومان يحكمون بلاد البربر ، وبعدئذ تخربت ، ثم أعيد بناؤها في الزمن الذي دخلت فيه الجيوش الاسلامية الى افريقيا. وتبدو اليوم آهلة تماما بالسكان. وجدار سورها من اللبن النيء ، وتربية السكان طيبة ولكنهم فقراء لان اراضيهم لا تنتج شيئا سوى التمور.

وقد تبدل حكام هذه البلدة عدة مرات ، فقد ظلت حقبة من الزمن تحت سلطة ملك تونس ، حتى وفاة الملك عثمان (٩١). وفي هذه الفترة اعلن امام المدينة (القائم بشئون الدين) الثورة فيها ونصب نفسه أميرا. وقد عجز ملك تونس عن استعادتها منذ

__________________

(٨٧) كان هذا الأمير يحمل فعلا لقب سلطان ، حسب العادة المتعارف عليها.

(٨٨) اي عرب سعيد. انظر الكتاب الأول.

(٨٩) او الجريد في الجنوب التونسي.

(٩٠) وهي مسكرة الرومانية.

(٩١) مات ابو الحسن عثمان في ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م.

٥٠٩

ذلك الحين. ويوجد فيها عدد كبير من العقارب التي تقتل لسعتها فورا. ولهذا السبب يغادر السكان المدينة في اثناء الصيف ويقيمون في مزارعهم حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) (٩٢)

البرج

وهي مدينة اخرى على مسافة اربعة وعشرين ميلا (٩٣) الى الغرب من بسكرة. وهي مدينة مطمئنة وآهلة بالسكان. ونجد فيها الكثير من الصناع ، ولكن المزارعين يشكلون فيها الأغلبية. وتؤدي ندرة المياه فيها إلى أن كل مزارع يجلب الماء الى حقله خلال ساعة او اثنتين ، حسب مساحة أرضه (٩٤) وذلك عندما يريد سقايتها بماء القناة التي تمر من جوار حقله. ولكل مزارع منهم ساعات معينة يسقي أرضه في اثنائها ، وعندما تفرغ يكون وقت الري الذي يحق له قد انتهى. والذي يكون الماء تحت تصرفه لا يحق له الاحتفاظ به بعد انتهاء مدته. وينتج عن ذلك ان تحدث في اغلب الاحيان مشاجرات ويقع بعض القتلى (٩٥).

نفطة

نفطة مدينة أو بالاحرى نفطة مكان مأهول وتقسم الى ثلاثة قصور كبيرة جدا ، ولا سيما أحدها ، حيث توجد القلعة. وأعتقد أنها من بناء الرومان استنادا الى الأبنية التي ترى فيها. ومهما كان الأمر فهي مأهولة كثيرا وليس لها مطلقا صفة مدينة متحضرة آمنة. وكان سكانها اغنياء في العادة لأنها كانت واقعة على تخوم ليبيا ، على الطريق المؤدية لبلاد السودان. ولكن منذ مائة سنة دخلت في تمرد مستمر مع ملك تونس. وقاد ملك تونس الحالي (٩٦) حملة ضدها ، فاحتلها ونهبها ، وقتل الكثير من سكانها وهدم

__________________

(٩٢) تتكاثر العقارب بشدة دائما في اثناء الصيف ، ولكن نادرا ما تكون لسعتها مميتة.

(٩٣) ٣٨ كم.

(٩٤) ليس هذا النظام خاصا بالبرج ، فهو النظام الشائع بلا ريب في كل الواحات.

(٩٥) لا يزال هذا صحيحا في كل الواحات ، ولكن نظام القياس وتوزيع الماء يختلف باختلاف المناطق.

(٩٦) ابو عبد الله محمد.

٥١٠

جدار سورها ، حتى لقد أصبحت قصورها الثلاثة اليوم قرية واحدة. ويمر من قربها جدول تميل مياهه للسخونة (٩٧).

تولغه

تولغة مدينة بناها النوميديون ، ولها جدار سور صغير. ويمر من جوارها جدول ذو ماء ساخن ، وتنتج اراضيها التمور بوفرة ، ولكنها لا تنتج سوى الفليل من القمح. وسكانها فقراء ايضا ومرهقون بالضرائب من قبل العرب وملك تونس. ولكنهم بخلاء ومتعجرفون لا قصى حد وينظرون للغرباء نظرة سوء وريب (٩٨).

دوسن (٩٩)

دوسن مدينة قديمة جدا بناها الرومان عند النقطة التي تتاخم مملكة بجاية صحراء نوميديا. وقد تهدمت عند دخول الجيوش الاسلامية افريقيا. ويعود هذا لوجود كونت روماني فيها مع عدد كبير من رجال شجعان. ولما لم يقبل هذا مطلقا تسليم المدينة الى القائد المسلم ، فقد استمر الحصار مضروبا عليها مدة عام تقريبا. وعندما سقطت بالقوة وقتل كل الرجال ، أخذت النساء واخذ الاطفال اسرى ثم أشعلت فيها النيران. وقد احترقت المنازل لان الاسوار كانت من حجارة ضخمة ، فلم تتقوض. ولكنها تظهر مهدمة من الواجهتين ، ولا اعرف كيف تم ذلك بأي آلة او بزلزال. وتظهر قرب المدينة بعض الآثار التي تشبه المدافن. وعند هطول الامطار تكشف الامطار عن قطع كبيرة من الذهب والفضة يعثر عليها الصيادون مع صور وكتابات حول اطارها لم يستطع احد ان يفسر لي معناها (١٠٠).

__________________

(٩٧) ليس من المؤكد انه يقصد نفطة بالتأكيد. فأولا تقع نفطة في منطقة الجريد وليس في الزاب ، وهو ما لا يمكن ان يجهله المؤلف ، حتى ولو لم يكتب ذلك إلا بناء على معلومات استقاها. ثم انها لا تقع على طريق القوافل الكبيرة في الجنوب. وأخيرا فإن هذا التفصيل عن الجدول ذي الماء الحار لا ينطبق على ما تتصف به نفطة ، وتتصف به مجموعة ينابيعها. وهذه الجداول الحارة انما توجد على طريق الجنوب فيما وراء بسكرة. وربما يقصد المؤلف او ماشي ، الواقعة على مسافة ٢٠ كم جنوب بسكره.

(٩٨) لا تبعد تولغة اكثر من كيلومترين شرق البرج ، في نفس واحة النخيل. ولا يمكن تفسير سبب تحديد المؤلف لموقع مدينة نفطة بين البرج وتولغة.

(٩٩) وهي بلدة صغيرة على مسافة ٢٥ كم جنوب شرق البرج.

(١٠٠) تحوي هذه البلدة آثارا رومانية ، وقد أمكن التعرف على اهميتها منذ عهد قريب بفضل الصور الجوية.

٥١١

بلاد الجريد

تمتد هذه الولاية من تخوم بسكرة حتى جزيرة جربة. وفيها قسم يبتعد كثيرا عن البحر المتوسط ، كحالة بلاد قفصة التي تكون على مسافة ثلاثمائة ميل في داخل الأراضي (١٠١). وهذه البلاد شديدة الحر وكثيرة الجفاف ، ولا تتبت فيها الحبوب ، ولكن تنتج كمية كبيرة من تمور ممتازة ، غاية في الجودة ، وتنقل الى الساحل التونسي (١٠٢). وتضم الولاية بضع مدن ، كما سنسرد ذلك.

توزر

توزر (١٠٣) مدنية قديمة بناها الرومان في صحراء نوميديا على مجرى ماء صغير يأتي من بعض الجبال من جهة الجنوب (١٠٤). وكانت جدارن أسوارها سميكة وصلبة تحيط برقعة كبيرة من الارض ، ولكن هدمها المسلمون عند الفتح في نفس الوقت مع قصور لم تعد الآن سوى انقاض. والسكان أغنياء ، سواء فيما يتعلق بالعقار أو فيما يتعلق بالنقد ، لأنهم يقيمون في مدينتهم بضعة أسواق يقصدها اناس من مختلف القبايل النوميدية والبربرية. وهم يتوزعون بين منطقتين تنفصل كلتاهما عن الأخرى بنهر صغير. ويطلق على إحدى هاتين المنطقتين اسم فنطاسة (١٠٥) وإليها ينتسب كل ما هو حسن المنبت وشريف في المدينة. ويطلق على الأخرى إسم مرداس ، وتتألف من عرب مكثوا في المدينة منذ أن سقطت بأيدي المسلمين (١٠٦). وهاتان المجموعتان

__________________

(١٠١) أي ٤٨٠ كم. ولكن قفصة لا تبعد سوى ٢١٧ كم عن ميناء محرس ، وتوزر ٢١١ كم عن قابس.

(١٠٢) «لا تزال بلاد الجريد محافظة على سمعة طيبة جدا في تمورها من نوع دقلة النور التي تصدّر الى أوروبا» (المترجم).

(١٠٣) وهي توزوروس عند الرومان.

(١٠٤) يدل هذا الخطأ الجسيم على أن المؤلف لم ير توزر ، وكتب ما كتب استنادا الى معلومات غير صحيحة استقاها من احد الناس : فتوزر واقعة على حافة شط الجريد الى الشمال منه ، وهي سبخة تكمارت القديمة. كما ان اصل المجرى المائي ، وهو رأس العيون ، يكون متميزا هنا.

(١٠٥) تقع البلدة المسماة فنطاسة على الجانب الآخر من شط الجريد ، على ضفته الجنوبية ، في منطقة نفزاوة ، وعندما نذهب من توزر ونجتاز الشط ، فإننا نصل مباشرة الى فنطاسة.

(١٠٦) لقد ذكر المؤلف سابقا ، في القسم الخامس ، وجود فخذ من مرداس في ضواحي عنابة ، ومرداسيو توزرهم من فخذ آخر من هذه القبيلة ، فرع من عوف ، وهي قبيلة سليمانية لحقت بالقبائل الهلالية عند انطلاق الزحف غربا وحينما هاجروا الى المغرب في اواسط القرن الحادي عشر ، وليس عند الفتح الاسلامي.

٥١٢

متعاديتان ، الواحدة ضد الأخرى ، ومن النادر ان يدينوا بالطاعة لملك تونس الذي يعاملهم بقسوة عندما يأتي شخصيا الى توزر ، ولا سيما الملك الحالي.

مدينة قفصة

قفصة (١٠٧) مدينة قديمة ، بناها الرومان ، وظلت بأيدي أمرائهم إلى أن قدم عقبة ، قائد جيش عثمان ، لمحاصرتها (١٠٨). وعندئذ سقطت بأيدي المسلمين ، الذين هدموا جدار سورها. ولكنهم عجزوا عن هدم القلعة ، التي تعد حقيقة من الخوارق ، لان لها جدرانا ترتفع الى خمسة وعشرين ذراعا (١٠٩) وسمكها ثلاثة أذرع (١١٠) مبنية بحجارة ضخمة منحوتة ، مثل كوليزة روما. وقد أعيد بناء الاسوار بعد مضي بعض الوقت وأخذت المدينة تسترد طابعها كمدينة آمنة حتى قدوم المنصور ، ملك مراكش وخليفتها. ولكنه قام بتقويض جدار السور من جديد مع شقة حائط من القلعة. وإليكم السبب : لقد ظل في هذه المنطقة أمير من أسرة ملك لمتونة ، الذي كان يسيطر على البلاد ويوقع الكثير من الأذى بالساحل التونسي ، بالاستعانة بالعرب (١١١) ، ولما جاء المنصور لأول مرة الى هذه البلاد مع جيوشه ، سرعان ما غادر الامير المذكور المنطقة وذهب الى الصحراء مع بعض العرب. وقبل المنصور خضوع المنطقة وعاد الى مراكش ، وما أن وصلها ، حتى عاد الامير من الصحراء وطرد الحاكم المعينّ من قبل المنصور. وهكذا عاد المنصور بعد عدة أعوام مع جيش كبير متجها الى

__________________

(١٠٧) قفصة او كابسة عند الرومان.

(١٠٨) ارسل عقبة بن نافع الى افريقيا حوالي سنة ٦٧٠ من قبل معاوية (الخليفة الاموي الأول). فاحتل قفصة عند التجاقه بالجيش العربي بقيادة معاوية بن حديج ، الذي عزله عن قيادته ، ثم اسس القيروان.

(١٠٩) ٧٥ ، ١٦ م.

(١١٠) ٣٥ ، ٣ م.

(١١١) بتاريخ يوم الجمعة ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٨٤ م نزل سلطان ماجورقة المرابطي ، على بن اسحق المايورقي ، واسمه ابن غانية ، لأنه كان ينحدر من يوسف بن تاشفين ، من طرف جده غانية ، نزل في بجاية على أمل إحياء الأسرة المرابطية في بلاد البربر ، وافلح في تحقيق عدد من الانتصارات في الشمال. وقد استرد الموحدون أنفاسهم وتم طرد علي ومرابطيه الى الجنوب التونسي حيث وجدوا عونا من العرب وحيث حققوا اتصالهم مع القوات التركية ، او الغز ، الذين كانوا بقيادة المدعو قراقوش الناصري ، وهو مملوك لملك مصر صلاح الدين الايوبي ، وكان قد جاء لمحاولة فتح بلاد طرابلس باسم مليكه. وقد استطاع المرابطون والاتراك مع دعم من العرب ان يحتلوا مدن الجريد من قابس الى قفصة.

٥١٣

قفصة (١١٢) ، حتى وصل اليها. وقد فوجىء الأمير الذي كان في القلعة بذلك فهاجمه المنصور دون توان. وكان الدفاع سهلا لأن اسوار المدينة كانت تكفي لصد هجوم افريقيا برمتها. ولكن الامير البائس لم يكن لديه ما يكفي من أقوات في القلعة. فحاول في أحد الأيام القيام بخروج مسلّح مع أولاده وأهله وحاربوا جميعا إلى ان تقطعت أجسادهم. وحينئذ قام المنصور بهدم واجهة القلعة (١١٣) ، وعينّ المنصور حكاما وموظفين في الاقليم وقفل عائدا الى الغرب ، واقتاد معه زعماء العرب الذين كانوا سبب تمرد البلاد (١١٤).

واليوم عادت قفصة فأمتلأت بالسكان ، ولكن مساكنها متواضعة ، باستثناء بعض المساجد. وشوارعها عريضة جدا ، وكلها مبلطة بالحجارة السوداء كشوارع نابولي وفلورنسة. والسكان مهذبون ولكنهم فقراء لأنهم ينوءون تحت وطأة ضرائب ملك تونس. ويوجد في قلب المدينة ينابيع منظمة مع أحواض مستطيلة عميقة وعريضة. وتحاط هذه العيون بالجدر ، وتوجد بين الجدران والأحواض فرجة يستطيع

__________________

(١١٢) لقد وقع المؤلف هنا في التباس. فقد شنت أول حملة على قفصة في عام ١١٨٠ م ، إذ ذهب اليها ابن يعقوب يوسف لأنتزاع المدينة من الأمير الصنهاجي الذي اصبح سيدا عليها. وكان ابن هذا الخليفة وخلفه ، ابو يوسف يعقوب المنصور ، الذي نودي به في ٣٠ تموز (يولية) ١١٨٤ هو الذي تأثر من الاضطرابات التي أثارها ابن غانية في هذا الجزء من امبراطوريته ، وكان هو الذي انطلق من مراكش مع قواته في ١٧ كانون الاول (ديسمبر) ١١٨٦ ، وذهب على مهل حتى إنه لم يدرك على بن غاينة وقرقوش الا في تشرين الاول (اكتوبر) ١١٨٧ م في منطقة قابس. وفي ١٤ تشرين الأول (اكتوبر) ١١٨٧ م قرب الحامة هزمهم هزيمة منكرة اضطروا على اثرها ان يهربوا الى الصحراء وتبعثرت عصاباتهم من العرب ومن الغز.

(١١٣) بعد هرب علي بن غانية وقرقوش الى الصحراء وتشتت قواتهما ، احتل يعقوب المنصور فورا قابس ومدن الجريد. ولكن قفصة التي ثبتت بعزم بقيادة القائد الأعلى لقراقوش ، وهو الملوك ابراهيم بن قرة تيكين مع جنوده الاتراك ، تعرضت للحصار ودافعت بعض الوقت. ولكنها سقطت في شهر كانون الثاني (يناير) ، فقتل ابراهيم وذبح حلفاؤه العرب ، ولكن عفى عن الغز وكذلك عن سكان قفصة ، الذين استسلموا ، وبعد ذلك فرض الخليفة على عرب البلاد عقابا قاسيا.

(١١٤) في شهر ايار (مايو) ١١٨٨ م استأنف الخليفة يعقوب المنصور الطريق المباشر من المهدية الى تلمسان مرورا بالهضاب العليا وعاد الى مراكش في ايلول (سبتمبر) ، وأجلى معه بعض قبائل من جشم ورياح وعاصم الذين كان لهم اكبر نصيب في التمرد. ومما لا ريب فيه أنه اراد ان يكونوا تحت يده كي يضبطهم بصورة افضل وكي يجد فيهم بعض حاجته من القوات في حروب اسبانيا. وقبيل وفاته في كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م اعترف بأنه ارتكب بذلك غلطة خطيرة ، مع انه من الممكن حينئذ توقع النتائج الطويلة لعمله هذا.

٥١٤

الناس أن يمروا خلالها كي يغتسلوا ، لأن الماء ساخن ، ويشرب هذا الماء بعد تركه ليتبرد مدة ساعة او ساعتين (١١٥).

وهواء قفصة وخيم للغاية. ولهذا السبب فإن نصف السكان مصاب دائما بالحمىّ. وهؤلاء الناس فقراء وأشرار على الخصوص. ولا يودون عقد صداقة مع الأغراب ، ولذلك فهم مذمومون في كل افريقيا (١١٦). ويوجد في خارج المدينة عدد لا يحصى من أشجار النخيل والزيتون والبرتقال. والتمور هي أجمل وأفضل وأكبر حجما من جميع نظائرها في سائر الاقاليم. وكذلك الحال بالنسبة للزيتون الذي يصنع منه زيت جيد في مذاقه وجميل في لونه. وهناك أربعة أشياء من الطراز الأول في قفصة : التمور والزيتون والاقمشة الكتانية والخزف. ويرتدي اهلها لباسا لائقا ، ولكن فيما يتعلق بالنعال فإن معظم اهلها يستعملون نعالا من جلد الوعل وهي عريضة جدا ، كي يمكن تجديد النعل عدة مرات.

وقد سبق لنا الكلام عن مدينة الحامة ، وقابس وجربة في معرض كلامنا عن مملكة تونس.

نفزاوة

تتشكل نفزاوة من ثلاثة قصور متقاربة. ولها سكان عديدون ، ولكنهم محاطون بأسوار حقيرة تضم بيوتا أكثر كآبة. والأراضي تجود فيها التمور ، ولا ينبت فيها اي نوع من الحبوب. والسكان فقراء لانهم مثقلون بضرائب ملك تونس ، ويبعدون مسافة تقارب مائة ميل عن البحر المتوسط (١١٧).

__________________

(١١٥) لا تزال هذه المسابح العامة باقية حتى اليوم وتحمل الاسم اللاتيني «ترميد» وهو اسم ورثته عن الماضي القديم.

(١١٦) يظهر ان السبب في هذا الزعم يرجع الى ان المؤلف قد ذهب الى قفصة ، ولقي هناك استقبالا سيئا ، ومن هذا جاءت ملاحظته ، وهو اتجاه انتقامي صغير مألوف عند الكتاب العرب.

(١١٧) حوالي ١٦٠ كم (١٠٠ ميل) ، وربما كانت قصور نفزاوة الثلاثة هي توّره وتلمين ، اي النقطة العسكرية الرومانية توريس تاميللين ، بشريع ، وليكامس وهي ليماغس.

٥١٥

تاورغه

تاورغه (١١٨) هي مكان مسكون على تخوم دولة طرابلس ، وعلى تخوم صحراء برقة. وتظهر فيها ثلاثة قصور وبعض القرى مع الكثير من النخيل. ولا تنبت فيها حبوب. وحرمان السكان من المال لا يقل في شدته عن حرمانهم من سائر ضروريات الحياة. وذلك لأنهم محصورون في الصحراء بعيدا عن كل مركز متحضر.

زليطن

زليطن (١١٩) منطقة مأهولة على ساحل البحر المتوسط حيث تقوم بضعة قصور مع حدائق نخيل. وينعم السكان فيها برخاء نسبي ، ذلك أن موقعهم على ساحل البحر سمح لهم بمقايضة سلعهم مع المصريين ومع الصقليين.

غدامس : منطقة مسكونة

غدامس منطقة كبيرة مسكونة حيث توجد بضعة قصور وقرى مأهولة ، على مسافة ثلاثمائة ميل عن البحر المتوسط (١٢٠) وسكانها أغنياء يملكون أموالا وبساتين من نخيل ، ذلك لأنهم يتجرون مع بلاد السودان. ويحكمون أنفسهم بأنفسهم ويدفعون إتاوة للعرب. وكانوا في الماضي تحت سلطة ملك تونس ، أي تحت سلطة نائية عن طرابلس. وفي هذه المنطقة يرتفع سعر القمح واللحم إرتفاعا كبيرا.

فزان

فزان ، هي أيضا منطقة كبيرة تقوم فيها قصور ضخمة وقرى كبيرة ، وكلها مأهولة بأناس أغنياء ، بالمال وبحدائق النخيل. وهم واقعون فعلا على تخوم آغادس

__________________

(١١٨) تقع تاورغة على مسافة ٢٦٠ كم شرقي طرابلس ، وعلى مسافة اربعين كيلومترا حنوب ميناء مصراته التي اشار اليها المؤلف عند ما وصف منطقة طرابلس في القسم الخامس.

(١١٩) نقع واحة زليطن الهامة على مسافة ١٦٠ كم شرق طرابلس وعلى مسافة ٦٠ كم غرب ميناء مصراته ، بين ولايتي مسلّاته ومصراته ، اللتين تكلم عنهما المؤلف في وصف الاقليم الطرابلسي.

(١٢٠) المسافة هي ٥٣٧ كم اي ٣٣٥ ميل بين زوارة وغدامس.

٥١٦

وصحراء ليبيا التي تتاخم مصر ، على مسافة ستين يوما على طريق القاهرة. ولا يوجد بين فزان ومصر مناطق مسكونة سوى أوجلة الواقعة في صحراء ليبيا. ويحكم فزان أمير هو نوع من قاض أول للشعب ، وتحت تصرفه كل عوائد البلاد لفائدة الأهالي او لبعض الإتاوات التي يدفعها لجيرانه العرب. ويندر هنا القمح واللحم بدرجة كبيرة. ويأكل الناس لحم الجمل وهو مع ذلك غال جدا.

* * *

صحاري ليبيا

صحراء زناقة

والآن بعد أن تكلمنا عن نوميديا ، وهي الجزء الثاني من افريقيا ، سنتحدث لكم الآن عن صحاري ليبيا ، التي تنقسم خمسة اقسام ، كما سبق ان قلنا في مطلع هذا القسم.

وسنبدأ بصحراء زناقة : هي صحراء جافة جدا وقاحلة ، تبدأ من المحيط غربا وتمتد نحو الشرق حتى ملاحات تغازة. وتنتهي شمالا على تخوم نوميديا ، أي عند تخوم السوس ، عند عكا والدرعه ، وتمتد جنوبا حتى بلاد السودان ، حتى مملكتي ولّاته وتومبوكتو. ولا يعثر فيها على ماء الّا كل مائة او مائتي ميل. وفضلا عن ذلك فمياهها مالحة ومرة وفي آبار غاية في العمق ، ولا سيما على الطريق الذاهب من سجلماسة الى تومبوكتو. ويوجد في هذه الصحراء الكثير من الحيوانات المتوحشة ومن الأفاعي ، كما سنذكر ذلك في موضعه. ويوجد في هذه المنطقة صحراء فريدة ، كالحة جدا ، وعسيرة الاجتياز للغاية ، تدعى ازواد ، حيث لا يصادف على مسافة مائتي ميل (١٢١) لا ماء ولا مسكن ، وتمتد بين آبار ازواد وآبار اروان التي تبعد مسافة مائة وخمسين ميلا من تومبوكتو (١٢٢).

__________________

(١٢١) ٣٢٠ كم. والواقع توجد مسافة ٢٦٠ كم على خط مستقيم بين اروان وبيرأونان ، و ٣٠٠ كم حتى جرف خناشيش.

(١٢٢) ٢٣٠ كم. والحقيقة اكثر من ذلك بقليل. ويطلق اليوم اسم ازواد عموما على منطقة الكثبان الميتة الواقعة في شمال وشمال شرق تومبوكتو. ويبدو حقا ان كلمة ازواد يجب ان تنطبق على السهل المتموج الرملي العاري والصلب الذي يفصل الكتبان الميتة في الجنوب (ذات ممرات بين الاقواز ، وفيها شجر) عن المنطقة التي يظهر فيها الصخر الرملي في خناشيس ، إذن إجمالا ، كما يقول الحسن الوزان ، بين اروان وبيراونان ـ ت. م. (Th.Monod)

٥١٧

ويموت فيها الكثير من الناس من الحر والعطش ، وأذكر أنني قلت ذلك (١٢٣)

__________________

(١٢٣) لقد استوحى هذا التعميم من ابن خلدون (نهاية القرن الرابع عشر ميلادي) الذي قال عنهم ما يلي في اثناء كلامه عن وضع البربر في الصحراء الكبرى : «يؤلفون نوعا من حزام على حدود بلاد السودان ، حزام يمتد غربا بشكل متواز مع الحزام الذي يشكله العرب على تخوم المغربين وافريقية ، فجدالة وهي احدى قبائلهم ، تقع في مواجهة «دوي حسن» ، فرع من قبيلة عربية من معقل التي تسكن السوس الاقصى ، أما لمتونة وأونزيقة (أو اوزيجا) فيسكنون في مواجهة «دوي منصور و «دوي عبيد الله» وهم من معاقيل المغرب الأوسط ، وتسكن لمتة في مواجهة رياح ، وهي قبيلة عربية تقطن الزاب وبراري بجاية وقسنطينة ، وأما تارغة التي تقع في مقابل سليم ، فهي قبيلة عربية في افريقية» (تاريخ البربر ج ٥ ، ص ١٠٤). ومهما كانت قلة دقة الاشارات فهي تعطي تقريبا وضع قبائل الملثمين بالنسبة للمواضع التي كانت تشغلها القبائل العربية الضاربة في الشمال ، ومن الغرب الى الشرق ، وتشمل قبائل جدالة ، لمتونة ، او نزيقة ، لمتة والتارغة. وقد استوحى الحسن الوزان نفس التصنيف ، ضامّا على كل حال حدالة ولمتونة تحت اسم زناقة ، وحرّف اسم او نزيقة الى قنزيفة ، وقلب وضع لمتة والتارغة ، واضعا في ترتيبه من الغرب الى الشرق الأخيرة قبل سابقتها ، اي تارغة قبل لمتة. وجميع رسامي الخرائط ، الذين استوحوا رسومهم من الحسن الوزان ومن شارحيه ، قبلوا هذه التقسيمات ، ناسبين ان لكل قبيلة نطاقا شماليا جنوبيا يتواصل بشكل متواز ويمتد من المغرب حتى النطاق السوداني ، مع بعض التفاصيل الجزئية. وينجم عن هذه النظرة وضع سكاني يختلف عن الوضع السكاني للقبائل البربرية الحالية في الصحراء الكبرى ، وهذا يدل على أنه قد حدثت تغيرات سكانية كبرى ، نتجت عنها مختلف المجموعات المغربية ، من عرب وبربر وطوارق ، التي تحتل القسم الغربي من الصحراء الكبرى والصحراء الوسطى والسودان. وقد قدّمت عدة فرضيات في هذا الموضوع ، ويمكن القول أن أية واحدة منها لم تأخذ بعين الاعتبار النصوص التي سبقت الحسن الوزان ولا سيما كتابات ابن حوقل ، والبكري ، والادريسي ، وابن بطوطة وابي الفدا ، الذين عرّفونا على مواضع مختلف المجموعات العربية والبربرية والطوارق. وفيما عدا تبدل مواقع بعض القبائل الذي حدث فيما بعد ، فإن هذه المجموعات لا تزال ، مع اختلافات طفيفة ، في نفس النطاقات التي نجدها اليوم فيها. ولا يجوز ان يغرب عن نظرنا ، انه كان للتضاريس في كل زمن ، في الصحراء الكبرى ، ولا سيما في المنطقة التي تشغلها قبائل الطوارق ، دور عظيم في اختيار نطاقات الوزان ، ومن قبله ، ابن خلدون ، ضمن المجموعات الحالية بحيث يمكن العثور عليها. وسنرى فيما بعد أن هذا لم يصادف صعوبة ، إذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار واقعا هو انه لم يكن لدى ابن خلدون والحسن الوزان اكثر من معلومات سطحية عن النطاق الجنوبي للصحراء الكبرى. ومن هذا الواقع نرى ان ابن خلدون قد حدّد امكنة قبائل المغرب العربية ، أي بالنسبة للشمال ، في حين لا يتكلم الثاني عن قبائل الطوارق الرحالة بين تومبوكتو وغوبر وآيير والتي كان لا بد ان يمرّ بها إذا كان قد أنجز فعلا الرحلة بين تومبوكتو والقاهرة عن طريق السودان الغربي ، كما أكّد ذلك. ولندرك أيضا أنه إذا كان الحسن الوزان قد أوجد بلبلة نوعا ما على الخرائط المرسومة بناء على اقوال ابن خلدون ، فهو في مقابل ذلك قد قدّم بعض التفاصيل عن حدود مختلف هذه «الصحارى». وهذه التفاصيل ، رغم عدم دقة وضوحها ، تساعد على العثور على الشبكة الشطرنجية التي تعيش ضمنها القبائل في الصحراء الكبرى. ولنتذكر في اثناء ذلك أن عبارة «صحراء» المستعملة عند الحسن الوزان ليست لها المعنى الثابت لرقعة صحراوية ، اي دون ماء ونبات. بل اراض غير مسكونة ، غامرة ، او بلاد الخلاء عند العرب ، لاسباب قد تكون متباينة ، سواء لحالتها الصحراوية. أو بسبب انعدام الأمن. اما في ما يتعلق بصحراء زناقة ، فقد كانت حسب اقوال الوزان ، مؤلفة من مثلث يمس رأسه السوس. بينما كانت قاعدته محددة بخط تومبوكتو ـ ولاته ـ المحيط ، ويمر الضلع الغربي من المحيط ، والضلع الشرقي من خط سوس ـ تغازه ـ تومبوكتو. وكانت المنطقة المحصورة ببين تغازه والساورة. والتي يدمجها ضمن صحراء ونزيقة ، كانت مغمورة ، او تكاد ، تقع ، كما سنرى ذلك فيما بعد. واستنادا الى نص ابن خلدون ، حوالي مركز الرقّان. في الصحراء الجزائر ـ

٥١٨

الصحراء التي يسكنها قوم قنزيغه

تبدأ الصحراء الثانية في الغرب من تخوم تغازة وتمتد شرقا حتى تخوم آيير وهي صحراء يسكنها الطوارقة ، وتتاخم من الشمال صحراء سجلماسة ، وصحراء تبلبالة وبني قومي ، ومن الجنوب صحراء غير ، التي تقابل مملكة غوبر. وهذه الصحراء اكثر وحشة وقحلا من الصحراء السابقة. ومن هنا يمر التجار الذين يذهبون من تلمسان الى تومبوكتو وهم يقطعونها في اكبر قطر لها ، فتؤدي صعوبة الاجتياز الى هلاك كثير من الناس والحيوانات لفقدان الماء. ويوجد في هذا القفر صحراء فريدة ، تدعى جيوغدم ، حيث لا يعثر على ماء لمدة تسعة أيام ، ويجب الاكتفاء بالماء الذي حمل على ظهر الجمل ، باستثناء ماء بعض البرك التي قد تتكون أحيانا من ماء المطر ، ولكن هذا يحدث فجأة ومن قبيل الصدف (١٢٤).

__________________

ـ الحالية. وفي الواقع كان مجال زناقة يمتد سياسيا حتى أوائل واحات توات. وينطبق على الصحراء الكبرى الغربية ، وعلى المجالات الحالية لقبائل الرقيبات والبرابيش ومختلف القبائل العربية ـ الاسبانية للتاغنت وللأدرار الموريتانية.

) H. Lhote («ويقصد بالاسبانية سكان الصحراء الاسبانية سابقا» (المترجم).

(١٢٤) يضم هذا التحديد إذن رقعة واسعة جدا لأنها ، نظريا ، كانت تمتد بصورة عرضية من الشمال الشرقي في الصحراء الكبرى نحو جنوبها الشرقي. وعلى كل حال عند ما يقول الحسن الوزان انها تتاخم صحراء سجلماسة او حتى تخوم تغازه فمعنى ذلك ان هناك غموضا قد يكون منشؤه صعوبة في شحر النص ، إذ لا نرى اي منطقة يتوافر فيها الوصف الذي ذكره. أين كانت تنتهي صحراء سجلماسة ، وأين تبدأ صحراء تابلبالة.؟ لا نعرف شيئا عن ذلك. لأن هذه الأسماء لا تعني اليوم سوى بلدانا لا مناطق صحراوية. ويشتمل النص على مظاهر كثيرة من هذا الأضطراب حتى ليتراءى بجلاء ان الحسن الوزان لم يستطع ان يقيم تحديده الا بناء على معلومات استقاها من بعض الأفراد ، وأنه ليس لديه سوى مفاهيم غامضة عن داخل الصحراء الكبرى. ومن جهة أخرى إذا انتبهنا إليه ، نجده يقول أن آيير كانت مأهولة بالطوارق ، ولكن عند ما يتكلم عن مملكة آغادس ، لا يذكر إسم آيير ولا مرة واحدة ، ويبدو انه يجهل العلاقات السلالية التي كانت قائمة بين بدو هذه الكتلة الجبلية وبين إخوانهم قنزيغة ، والطوارق ولمتة. وربما كانت هذه العلاقة بين الطوارق وآيير ناتجة عن أن الحسن الوزان استقى معلومات مفادها ان قبائل «كل آيير» كانت من نفس عائلة الطوارق ، غير انه ، في الحقيقة ، هناك عدد من قبائل هي من أصل طارقي وقدمت من خزان في وقت متأخر عن الفتح العربي. وفي هذا لفتة نظر بسيطة بضم «كل آيير» من الطوارق الذين يتكلم عنهم الوزان ، ولكنها تستطيع تبرير بلبلته. أما فيما يتعلق «بصحراء غير التي تقابل مملكة غوبر» فلا نعرف على أي شيء تنطبق ، لأن اسم «غير» غير موجود ظاهريا في المنطقة ، كما أن غوبر لم تكن أبدا صحراء. وهذا الخلط في هذه النقطة الأخرى مستحيل التفسير ما دام الوزان يقول أنه كان في غوبر ، وأنه من غير المفهوم أن يعد المنطقة صحراء. ويجب أن نستخلص من ذلك أن الوزان إذا كان قد زار آيير وغوبر ، فهو لم يعرف أن يحكم الاتصال في مخططه او لأنه ، من الاحتمال الآخر ، قد اجترح خطأ مؤسفا. والواقع يتحدد النطاق الصحراوي بتخوم الآيير وبالمنطقة الواقعة بعيدا إلى شمال غوبر حسب خط يربط تقريبا بين آبار تاماية ـ

٥١٩

ـ ونبغيدا تيسمت وتاكنتكوتات ، وهنا يجب ان تتوقف مناطق القنزيغة. وهذه الاشارة التي اعطيت ، فعلا عن دس ايفوراس ، والتي تحوى ، بلا خلاف ، على اخطار كبيرة ، هذه الاشارة تضعنا في بيئة اكثر وضوحا ، لأن النطاق المعبور تابع لطوارق تايتوك ، إذ لا يوجد قوم يدعون قنزيغة بالمعنى الدقيق ، قد ذكر ابن خلدون (ج ٢ ، ص ١٠٤) ونزيقة ، من جنوب المغرب الاقصى ، ولكن هذا الاسم غير مؤكد ، ويمكن قراءته ، استنادا الى ترجمة دوسلان ، أو ترغاس. ولربما كان هذا ، على ما يبدو ، نوعا من تحريف لكلمة انزيزة أو ونزيزة الذي كان له حينئذ معنى «اهل انزيزة» والذي ربما كان كنية. وقد تلقى الحسن الوزان هذا الاسم من ابن خلدون وجعله قنزيغه ومن جهة اخرى فإن انزيزه ليس اكثر من تحريف عربي لكلمة اينهيها حسب لفظ جماعة «كل آهكار» ، واينشيشاو ، حسب لفظ قبيلة «كل ادرار» ، وكلمة اينزيزا وحسب لهجة قبيلة كل آيير ، وهو بئر يقع في جبل صغير له نفس الأسم ، بين ادرار آهنت وادرار دس ايفوراس ، وورد بلفظ انيزيز فوق الخرائط الفرنسية الحديثة. ولهذا المورد المائي ، ذي الاهمية الفريدة في اتصالات القوافل بين توات والسودان ، شهرة سابقة في كل خرائط العصر الوسيط ، حيث ورد تحت اسم آنيا (الخربطة القطالونية في القرن الخامس عشر) وآنزيكا (خريطة ميسيا دوميلادستس ، ١٤١٣ م) وأنسيشا (خارطة فالسيشا ١٤٣٩ م) وآنزيش (لوحة فللتري ١٤٣٥ م) وخرائط قطالونية اخرى في القرن الخامس عشر).

وكان كل ارباب القوافل يقصدون انزيزة كثيرا ، ولا تزال ، والذين كانوا يأتون من عين صالح ، ومن أبعد منها شمالا ، قاصدين تادميكا ، تومبوكتو او غاءو. ويقع هذا البئر في اراضي تجوال طوارق تيتوك وكل آهنت الذين كانوا يذهبون حتى رقّان وآلّن اذا كان المرعى يسمح بذلك. وكان الأمر على هذه الحالة في عصر ابن خلدون ، يقول عند كلامه عن والن (ج ٢ ، ص ٢٤١): «إن هذا «القصر» كان قصر قوم من متغارة ، وأنه لما كان هذا من أقرب الأمكنة للبلاد التي يقطنها اهل اللثام ، نرى فيه وصول عصائب من بدو في السنين التي تقسرهم شدة الحر على مغادرة صحرائهم». وتبدو الحدود التي ينسبها الحسن الوزان الصحراء قنزيقة ، لأول وهلة غير مطابقة لأي وحدة جغرافية. ولكن العلاقة بين والن وانزيز. وتيتوك تضعنا ، لحسن الحظ ، على الطريق. وتؤلف جماعة التايتوك واقرباؤهم كل آهنت ، مجموعة طوارقية معروفة أحيانا تحت اسم عرعر فن آهنت ، والتي تنسب عموما لجماعة كل آهقّار ، ولكن لم يكن لها في كل الأزمنة اكثر من علاقات متراخية معها ، وقد اعتبروا أنفسهم مستقلين على الدوام. وتمتد اراضي نجعاتهم غربا حتى توات. وكانت منطقة والّن ، كما سنرى ، تضم جبال أدرار آهنت ، التي تؤلف القسم الشرقي من كتلة جبل الهقّار ، أي كل المنطقة الصحراوية المحصورة بين الهقار من ناحية وادرار دس ايفوراس ، والزاوية الجنوبية من آيير ، من ناحية أخرى. وقد حدث أيضا في السنوات الأخيرة ان وصلت جماعة التايتوك وكل آهنت حتى انزيزة ، في ادرار ناهالت ، إلى تيم ميّساو ، عند ما تحيي الامطار مراعي هذه المنطقة حيث نجد الكثير من دمن مخيماتهم. ومنذ قرن واحد تقريبا فقط ، وعلى أثر نزاعات دموية مع قبيلة كلديلة ، وهي قبيلة طبل في الهقّار ، أخذت تجنح الى الجلاء من آهنت كي تستوطن بصورة دائمة التخوم الغربية لمرتفعات آيير حيث استقروا نهائيا منذ عام ١٩٤٥ م ، وهو تاريخ الحافهم إداريا بدائرة آغادس ، ومن جهة أخرى كانت منطقة تغازة مألوفة لديهم ، ومن المشهور انهم كانوا يمدّون نطاق غزواتهم حتى الدرعة. ويتجلّى من الآن ان أراضي نجعاتهم القديمة التي كانت تنطبق بالفعل على النطاق الذي يصفه الوزان ، على اعتباره المنطقة التي يسكنها قوم ونزيقة ، إذن ينطبق عليهم هذا الاسم. ولكن ماذا تمثل صحراء جوغدم؟ وسنجد هذا الاسم على شكل غوغادم (الادريسي) وكوكادام (ابو الفدا) وكاكدم (ابن خلدون) ، واستنادا الى الادريسي ترجمة (. دوزي وم. ج. دي خويه. ص ٦٩) فان اسم كوكادام هذا يعني «في لسان اهل غينيا» مدينة ازوغي البربرية. أما بالنسبة لأبي الفداء فهي مدينة اخرى واقعة على مسافة ثمانية ايام شمال غربي آزوغي ، وتعني ايضا جبلا له نفس الأسم. وأخيرا فإن ابن خلدون (ج ٢ ص ٦٥) يقصد بها صحراء تسكنها أفخاذ مختلفة من لمتونه. ولم يرد أي ذكر عن وجود مدينة بجوار آزوغي بإسم كوكادم ، باستثناء المدينة التي يذكرها ابو الفدا الذي لم يكن أكثر من جمّاعة ولم يكن التوفيق حليفه دائما. ويظهر أن رواية الأدريسي ، الذي يمدج هذه المدينة ـ

٥٢٠