وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وتكون بعيدة عن مدى تجارتنا. وهكذا لن أتكلم إلا عن تلك التي قصدتها والتي ترددت عليها لمدة طويلة ، وعن الممالك الأخرى التي كان ينطلق منها تجار لبيع سلعهم في البلاد التي كنت فيها والذين اعطوني عنها اخبارا وفيرة. ولا أريد أن أغفل اني ذهبت الى خمس عشرة مملكة في بلاد السودان ، ومكثت فيها مدة تبلغ ثلاثة أضعاف المدة التي قضيتها على الطريق ، وكل هذه الممالك كانت معروفة جدا ومجاورة لتلك التي أقمت فيها. (٢٨) وسأذكر أسماء هذه الممالك بدءا من الغرب سائرا في اتجاه الشرق وهي : ولّاته ، جنه ، مالى ، تومبوكتو ، غاءو ، (٢٩) غوبر (٣٠) آغادس ، كانو ، كاتسنه ، زقزق ، وانغاره ، وانفاره ، بورنو ، غاوغه ، (٣١) والنوبة ، وهذه الممالك الخمس عشرة والتي يقع أغلبها على نهر النيجر (٣٢) ، يمر منها الطريق الذي يسلكه الذين يذهبون من ولّاته قاصدين القاهرة. (٣٣) وهذه الطريق طويلة ولكنها مأمونة جدا. وهذه الممالك متباعدة بعضها عن بعض. وتنفصل عشر منها بعضها عن بعض بصحارى رملية أو بواسطة نهر النيجر. وعلينا أن نعلم أن كل مملكة كانت في الماضي تحت حكم عاهل متميز. ولكن خضعت في عصرنا لهيمنة ثلاثة ملوك ، وهم ملك تومبوكتو (٣٤) الذي يملك القسم الأعظم من المماليك المذكورة ، وملك بورنو الذي يملك أصغر قسم ، وملك غاوغه الذي يستحوذ على الباقي تحت سلطته. ولكن من الصحيح ايضا القول بأن ملك دوكالا (٣٥) يملك هو ايضا دولة صغيرة. وهناك عدة ممالك اخرى تتاخم من الجنوب الممالك المذكورة آنفا ، مثل

__________________

(٢٨) يمكن الوثوق بصدق المؤلف في أنه قام فعلا برحلتين الى تومبوكتو. ومن المحتمل انه قام بالأولى في عام ١٥٠٤ وسنة ستة عشر عاما ، والثانة كما يظن سنة ١٥١٢ م ولكن لا نعرف على الضبط البلاد التي زارها فيما وراء المدينة المذكورة.

(٢٩) غاءو باللغة البربرية غاوغه وحرفت بالعربية تارة على شكل كاوكاو ، وتارة اخرى على شكل كاغو ، او غاغو يمثل النطق المغربي لهذا الاسم.

(٣٠) وتلفظGober

(٣١) وتكتب غاوغه وغاو غاو ، وتعني بلادا فسيحة واقعة بين كانم ، على ضفة التشاد ، وبين النيل.

(٣٢) والذي يتصور المؤلف انه ينبع من بحيرة تشاد.

(٣٣) هذا الطريق بين ولّاته ومصر عن طريق السافانه في جنوب الصحراء الكبرى والذي يتصل بدرب الاربعين (يوما) بين دارفور واسيوط هو طريق غير مطروق كثيرا ، ولا يبدو انه صار كذلك الا ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر ، بعد سقوط مملكة النوبة النصرانية. وكانت كل الطرق المنطلقة من السودان الغربي الى مصر تجتاز الصحراء الكبرى بشكل مائل لتتّحد في فزان. ولكن يجب على كل حال ان نذكر ان المعلومات التي وصلتنا عن طريق القوافل في الصحراء الكبرى وفي افريقيا السوداء انما جاءتنا من الرحالة العرب الذين كانوا يرحلون من افريقيا الشمالية الى السودان عن طريق الدروب التي تقطع الصحراء الكبرى ولهذا السبب تظهر معلوماتنا ضئيلة عن الاتجاه الغربي الشرقي عبر السافانه R.MAUNY ,H.LHOTE

(٣٤) وهو آسكيا حاكم غاءو.

(٣٥) سبق قلم ، والصحيح دنقله من بلاد النوبة

٤١

مملكة بوريه (٣٦) وتميام (٣٧) وداومه (٣٨) ومدره (٣٩) وقروان (٤٠) وملوك هذه الممالك وسكانها اغنياء وتجار نشيطون وينشرون العدالة ولهم حكومة جيدة. أما سكان الممالك الاخرى فيعيشون في اوضاع اكثر رداءة من البهائم. (٤١)

إعمار افريقيا ، مدلوك كلمة البربر

يقول الجغرافيون والمؤرخون ان إفريقيا كانت خالية تماما في الأزمنة الغابرة باستثناء بلاد السودان. (٤٢) ويعتقد هؤلاء بأنه من الثابت ان بلاد البربر ونوميديا كانت خالية من السكان خلال العديد من القرون. أما الذين استوطنوها ، وأقصد بذلك الجنس الابيض فقد سموا البربر ، وهو اسم مشتق ، حسبما يقول البعض ، من فعل باللغة العربية وهو بربر ومعناه تمتم. وذلك ان اللسان الافريقي يظهر في سمع العرب كأصوات الحيوانات المبهمة الشبيهة بالصراخ والمجردة من المقاطع. ويرى آخرون ان كلمة بربر هي كلمة مزدوجة لأن البر في اللغة العربية يعني الصحراء. ويقال إنه في العصر الذي انكسر فيه الملك إفريقو على يد الاشوريين او ربما امام الاثيوبيين هرب باتجاه مصر. ولما كان مطاردا من قبل العدو ونظرا لأنه لا يعرف كيف يدافع عن نفسه فقد طلب الى جماعته أن يفتوه في أمره ويبيّنوا الطريق التي ينبغي سلوكها حفظا على سلامتهم. فلم يكن جوابهم سوى أن صرخوا «البر ، البر» أي إلى الصحراء الإفريقية. وينطبق هذا التفسير لاسم البربر مع رأي اولئك الذين يؤكدون أن الأفارقة يعودون اصلا لبلاد العرب السعيدة. (٤٣)

__________________

(٣٦) وهي منطقة مشهورة بمعدن الذهب في اعالي نهر النيجر في اتجاه سيغيري.

(٣٧) اسم غير محدود مكانيا ويقصد به بلاد تميم التي يذكرها المقريزي حوالي العام ١٤٣٠ م.

(٣٨) بلاد غير معروفة. وربما يقصد بها بلاد دامونوا التي يذكرها المقريزي ، عام ١٤٣٠ م ، وهل هي الداهومي او بينين الحالية؟ ربما كان ذلك ، ولكن لا يمكن توكيده ، بالرغم من ان علماء الخرائط في القرن السادس عشر وضعوا مملكة داومة التي يذكرها الحسن مكان بينين ، كما في خارطة تيفيه Thevet سنة ١٥٧٥ م.

(٣٩) اسم غير محدد المكان.

(٤٠) قروان أو القوارن وهم قوم يسكنون شمال شرق التشاد.

(٤١) كان الحسن يجهل انه كانت في عصره مملكة مزدهرة وذات مدنية عالية بجوار خليج بنين (ايفه life).

(٤٢) لقد أظهر علم ما قبل التاريخ ان معطيات الحسن غير صحيحة إطلاقا ، لأن افريقيا برمتها كانت مأهولة خلال الدور الرابع (وهي المرحلة الجيولوجية التي نجتازها الآن).

(٤٣) أما بالنسبة لقدامى الإغريق فان كلمة بار باروس تعني الاجنبي الذي يتكلم لغة غير مفهومة وصعبة ، وكانت كلمة باربروس عند اللاتين تعطي نفس المعنى ، ولم تحمل هذه الكلمة مدلول التحقير للمسمى الا في زمن متأخر جدا. وثم ـ

٤٢

أصل الأفارقة

لا يختلف مؤرخونا كثيرا فيما بينهم حول اصل الأفارقة. فذهب بعضهم إلى أن هؤلاء ينحدرون من الفلسطينيين ، لأن الفلسطينيين طردوا من بلادهم على يد الآشوريين فلجأوا الى إفريقيا ولما وجدوا هذا القطر طيبا وخصبا توقفوا فيه.

ويقدم الآخرون رأيا آخر يرى أن اصلهم يعود للسبأيين ، (٤٤) وهم قوم كانوا يعيشون في بلاد العرب السعيدة (اليمن) كما أشرنا الى ذلك فيما سبق ، وذلك قبل أن يطردهم الآشوريون او الاثيوبيون. ويرى آخرون أن الأفارقة كانوا من سكان بعض مناطق آسيا ، وأن أقواما آخرين شنت عليهم الحرب ، فانهزموا باتجاه بلاد اليونان ، التي كانت خاوية حينذاك. ولكن العدو تعقبهم فاضطروا لعبور بحر الموره. ولدى وصولهم الى إفريقيا استقروا فيها بينما استوطن أعداؤهم بلاد اليونان. (٤٥) ولا ينطبق هذا إلا على الأفارقة البيض ، أي أولئك الذين يسكنون بلاد البربر ونوميديا. أما أفارقة بلاد السودان ، فيعودن جميعا من حيث الاصل إلى كوش بن حام بن نوح. (٤٦) ومهما يكن الاختلاف بين الأفارقة البيض والأفارقة السود فانهم جميعا تقريبا ينحدرون من نفس الأرومة ، فاذا كان الافارقة البيض قد قدموا من فلسطين ، فإن الفلسطينيين هم من نسل مسرائيم بن كوش ، (٤٧) أما إذا كانوا ينحدرون من السبأيين ، فإن سبأ من جهته ، كان ابن

__________________

ـ شواهد كثيرة تحمل على الظن بأن العرب عند فتحهم هذه البلاد وجدوا هذا الاسم مستعملا ، ويقصد به السكان الوطنيون الذين لم يتأثروا كثيرا بالمدينة الرومانية. أما الذي تفاعلوا مع المدنية الرومانية من السكان الوطنيين فقد سموا انفسهم بالافريقيين ، ومنها جاءت تسميتهم العربية الأفارقة ومفردها افريقي. أما المحتلون الرومان ، او روم بالعربية ، فقد اطلق عليهم العرب تسمية اليونان والرومان في آن واحد ، والواحد منهم ، رومي.

(٤٤) أي للحميريين.

(٤٥) ويلخص المؤلف هنا مسألة اهتم بها القدامى منذ ايام هيرودوت ، وقد شغف بها الكتاب العرب ، والتي لا زالت تثير فكر بعض الباحثين المعاصرين ، من الذين يفاجأون برؤية العديد من أجناس بشرية مختلفة الأنواع ، أو متباينة ، لا يعرف مبدأ وحدتها السياسية ، تشكل «شعبا» حقيقيا ، له نفس اللسان ، يعود تاريخه لعدة آلاف من السنين ، ومحافظا على قوميته رغم التنوع الكبير في لهجاته «شعب» يتصف بخصائص فريدة بكل معنى الكلمة وظل محافظا على شخصيته منذ العصور القديمة. ويهتم العلم الحديث بالهجرات الاكيدة من أقوام شمالية أقامت بين ظهراني البربر ، غير ان المؤرخين القدامى لم يتكلموا مطلقا إلا عن هجرات من الشرق ، مما أدى لتصنيف الشعب البربري ولغته في زمرة «الحاميين» ومن العجيب ان المؤلف يتكلم قبل بضعة قرون من اكتشاف الوثائق المصرية عن «اجتياح شعوب البحر».

(٤٦) أي النبي نوح عليه السلام.

(٤٧) يذهب سفر التكوين (الفقرة السادسة من الاصحاح العاشر) ان مسرائيم أخ لكوش.

٤٣

غاما وغاما هذا كان ابن كوش (٤٨). وهناك بضع نظريات اخرى لا استطيع أن احتفظ منها بذكرى صحيحة اذ مضى على عشرة اعوام ، لم أر خلالها ولم ألمس اي كتاب في التاريخ المقدس. (٤٩)

تقسيم الأفارقة البيض إلى عدّة أقوام

ينقسم الأفارقة البيض الى خمسة أقوام هي : صنهاجة ، مصمودة ، زناته ، هوارة ، وغماره ، ويسكن المصامدة القسم الغربي من جبال الاطلس ابتداء من حاحه حتى نهر العبيد (٥٠). كما يسكنون ايضا السفح الجنوبي لجبل الاطلس وكل السهول المجاورة. وهكذا يشغلون اربعة اقاليم هي : حاحه ، السوس ، جزوله ومنطقة مراكش وتسكن غماره في جبال موريتانيا ، أي تحاذي البحر الابيض المتوسط. ويستوطنون الساحل الذي يحمل اسم بلاد الريف والذي يبدأ من أعمدة هرقل (٥١) كي يبلغ شرقا تخوم مملكة تلمسان ، تلك المنطقة المسماة قيصرية عند اللاتين (٥٢). وتعيش هاتان القبيلتان (المصامدة وغماره) منعزلتين عن الآخرين ، الذين يكونون على العموم مختلطين ومبعثرين في كل إفريقيا ، ولكنهم يتعارفون بعضهم على بعض بنفس الطريقة التي يميز بها المواطن عن الاجنبي. والاحتراب دائم فيما بينهم ويشتبكون في نزاعات دائبة لا تهدأ. تلك هي خاصة حالة سكان نوميديا. ويقول عدة من المؤلفين ان هذه القبائل الخمس تعتبر في عداد الذين يتخذون الخيام بيوتا لهم في الأرياف (٥٣). ويؤكد المؤرخون انه حدثت بينهم حروب طويلة في الأزمنة الغابرة. وبعد ان اصبح المغلوبون أتباعا للظافرين ، اجبروا على سكني المدن ، في حين اصبح المنتصرون سادة الأرياف حيث

__________________

(٤٨) لقد وقع المؤلفون العرب في التباس ، فحسب الاساطير القديمة ، لا يعتبر السبيئون أحفاد السبأ المذكور في سفر التكوين (الفقرة السابعة من الاصحاح العاشر) بل هم رعايا بلقيس ملكة سبأ الشهيرة ، التي قدمت الى سليمان ، وكانت عاصمتها سبأ التي عثر عليها في مأرب باليمن ويطلق على هؤلاء السبيئين اسم الحميريين أي الحمر ، وهم الذين أعطوا اسمهم للبحر الاحمر.

(٤٩) أي التاريخ الاسلامي طبعا (ويدل هذا على ان سقوطه بالاسر كان عام ١٥١٥ م. المترجم).

(٥٠) حاحة هي المنطقة الساحلية الواقعة جنوب مصب نهر التانسفت ، اما نهر العبيد فهو رافد نهر ام الربيع. (المترجم).

(٥١) أي جانبي مضيق جبل طارق وعلى وجه الدقة منطقة سبته وطنجة. (المترجم)

(٥٢) أي موريتانيا القيصرية عند اللاتين ، وعاصمتها شرشال ، وكانت تنطبق تقريبا على مملكة تلمسان.

(٥٣) أو البوادي حسب تعبير اهل المغرب (المترجم).

٤٤

أقاموا مساكنهم ويبدو هذا الزعم مؤيدا تقريبا لواقع وهو ان الناس الذين يقطنون الأرياف يستخدمون نفس لهجات سكان المدن ، فمثلا نجد ان زنانة الارياف يتكلمون كزنانة المدن ، وكذلك الحال بالنسبة للآخرين (٥٤).

ونلاحظ ان في أرياف تامسنه قد تعايش ثلاث من هذه القبائل وهي زناتة وهواره وصنهاجه. فتارة يعيشون في سلام وتارة اخرى يحتربون بشراسة ، مدفوعين على ما أظن ، بخصومة قديمة.

وكان بعض هذه القبائل يهيمن على كل افريقيا. تلك هي حالة الزناتة ، الذين قاموا بطرد أسرة ادريس (٥٥) ملك مدينة فاس الشرعي ومؤسسها (٥٦). ويدعى هذا الفرع من زناتة مكناسه. وجاء من بعدهم فرع آخر من زناتة نوميديا يدعى مغراوه ، وهو الذي أجلا مكناسه من المملكة ، وطرد منها الملوك الادارسة (٥٧). وبعد قليل من ذلك تعرض هؤلاء الزناتة كذلك للطرد على يد أناس قدموا من صحراء نوميديا. وكان هؤلاء ينتسبون لفرع من صنهاجه يدعى لمتونه. فحربوا كل منطقة تامسنة وأبادوا كل السكان الذين كانوا فيها ، باستثناء من كانوا من جنسهم ، فقد نقلوهم الى دكالة. وتلك الاسرة هي التي بنت مدينة مراكش (٥٨) (واشتهرت دولتهم باسم دولة «المرابطين»).

وقد حدث بعد ذلك ان جاء رجل على قدر كبير من الاهمية في العلوم الدينية ، دعي

__________________

(٥٤) يريد المؤلف أن بربر الأرياف لا يختلفون عن بربر المدن الا بوضعهم الاجتماعي ، ويعتبر كل الكتاب العرب ـ وهذا هو السائد كذلك عند البدو من البربر أنفسهم ـ ان الحياة الطليقة تحت الخيام تعتبر رمزا للحرية والشرف ، بينما تعتبر حياة المدن رمزا للعبودية

«اذا كان ذلك صحيحا جزئيا بالنسبة لبعض العصور التاريخية ، فهو لا يصح مطلقا في القرن العشرين». (المترجم).

(٥٥) وذلك تدريجيا حتى عام ٩٢٦ م.

(٥٦) هو إدريس بن عبد الله الذي يعتبر من سلالة الامام علي ، والذي قدم من المشرق ، وقد نودي به ملكا في ٦ شباط (فراير) ٧٨٩ م وربما أسس فاس في نفس السنة.

(٥٧) في أواخر القرن العاشر الميلادي.

(٥٨) في حوالي العام ١٠٥٤ م بدأ التوسع المرابطي الذي قامت به قبائل صنهاجة ، التي لم تأت من الواحات ، بل من الصحراء الكبرى الغربية ، والفرع الرئيسي منها كان لمتونه. وكانت اسرة بني وطاس التي انتهى اليها الملك في هذه المرحلة كانت تدّعى ، رغم انها من زناته ، انها تنحدر بالولاء أو بالتحالف من أمير المرابطين يوسف بن تاشفين. وقد أسس هذا مدينة مراكش سنة ١٠٦٢ م. وقد اعتقد الحسن (محمد بن الحسن الوزان الزياتي مؤلف الكتاب) بأن يوسف بن تاشفين هو الذي اباد المنشقين عن الاسلام في تامسنه ، ولم يستثن منهم سوى اخوانه في الدم الصناهجة. والواقع ان زناته وصنهاجة ليستا اكثر من اسمين عربيين لمسمى بربري واحد لهذه القبيلة وهو كلمة إيزناغن. هذا ولا زالت هناك قبيلة موريتانية في دائرة كايهيدي ، على نهر السنغال ، تدعى لمتونة.

٤٥

بالمهدي (ابن تومرت) ، فثار على دولة المرابطين ، وعقد حلفا مع قبيلة الهرقة ، وهي فرع من مصموده. وطرد الاسرة الحاكمة من لمتونة ونادى بنفسه ملكا (٥٩). وبعد وفاته تم انتخاب احد تلاميذه عبد المؤمن ، من قبيلة بني ورياغل ، من أحفاد صنهاجه ، وظلت السلطة بأيدي أسرة عبد المؤمن خلال فترة امتدت زهاء مائة وعشرين سنة وحكمت كل افريقيا تقريبا (واشتهرت دولتهم باسم دولة «الموحدين»). وقد خلعت هذه الاسرة على أيدي بني مرين الذين يعودون اصلا لقبيلة زناته. ودام حكم هؤلاء مائة وسبعين عاما. (٦٠)

وقد استولى بنو وطّاس على السلطة ، وهم فرع من لمتونة (٦١) أما بنو مرين فقد كانوا دوما في حالة حرب مع بني زيان ، ملوك تلمسان ، الذين ينتسبون لصنهاجه من حيث الاصل (٦٢) ومن فرع مغراوه (٦٣). وقاموا بحملات ايضا ضد الحفصيين ، ملوك تونس ، والذين يعودون من حيث الاصل لقبيلة هنتا ، وهى فرع من مصموده. (٦٤)

وهكذا نرى كفاح كل من هذه القبائل الخمس وما نجم عن كفاحها من آثار في هذه المناطق.

__________________

(٥٩) كان ذلك يوم الجمعة ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٢١ م ، وهذا المصلح الديني محمد بن عبد الله بن تومرت قد التجأ الى المصامدة في جبال الاطلس وقدمت له قبيلة هرقة الدعم ، ونودي به امام الموحدين مع لقب المهدي ثم أخذ يحارب المرابطين.

(٦٠) كان اول امير من بني مرين ينادى به ملكا وهو ابو يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي نودي به في ٢٧ رجب ٦٥٦ ه‍ المقابل ٣٠ تموز (يوليو) ١٢٥٨ م ، أي عام سقوط قرطبة ، وآخر أحفاده الذي كان على رأس الحكم هو عبد الحق بن علي الذي اغتيل بتاريخ ٢٧ رمضان ٨٦٩ ه‍ أو ٢٣ أيار (مايو) ١٤٦٥ م وهكذا دام حكم اسرة المرينيين ٢١٣ سنة هجرية.

(٦١) تم اغتيال عبد الحق بتحريض شريف ادريس من فاس ، وهو أبو عبد الله محمد بن علي الجوتي ، الذي استلم السلطة واحتفظ بها خلال عامين. ولكن هذه المحاولة لا عادة حكم الأدارسة اصطدمت بمقاومة بني وطاس الأقوياء ، والذين أثاروا اضطرابات متلاحقة فاضطر الشريف محمد للهرب الى تونس في شهر آب (اغسطس) ١٤٦٧ م ، واستمر النزاع بين الوطاسيين انفسهم ، ونجهل حاليا التاريخ الذي بويع فيه واحد من اكثرهم نفوذا (وهو ابو زكريا محمد بن يحي الملقب بالشيخ) ملكا بصورة نهائية.

(٦٢) سبق قلم ، وهو يقصد زناته.

(٦٣) كان يغمر اسن بن زيان ، مؤسس اسرة الزيانيين او بني عبد الواد ، في تلمسان في سنة ١٢٣٦ م أميرا على بني عبد الواد وهي قبيلة تنسب الى زغراوة.

(٦٤) كان لدى المهدي بن تومرت وخلفه عبد المؤمن معاون اسمه ابو حفص عمر الهنتاتي ، أو اينتي ، وهو رجل ذو قيمة فريدة ، وكان حفيده ابو زكريا يحي بن عبد الواحد بن عمر ، حاكم تونس منذ عام ١٢٢٨ م ، والذي نادى بنفسه ملكا عام ١٢٣٦ م ، وبذلك أسس اسرة الموحدين في تونس ، والتي استمرت حتى ١٣ ايلول (سبتمبر) ١٥٧٤ م ، في أعقاب احتلال العثمانيين البلاد التونسية.

٤٦

والحقيقة أنه لم يحمل أحد من قبيلتي غماره وهو راه لقب ملك ، ولكن كان منهما أمراء في بعض المناطق ، كما نقرأ ذلك في تاريخ الأفارقة. ويقع العصر الذي مارستا فيه هذه السلطة بعد دخول الدين الأسلامي إلى إفريقيا. فقد كان لكل قبيلة منهما حينئذ موطنها المحدد في البوادي محميه برجال عصبتها. ثم تقاسمت فيما بينها الأعمال الضرورية للحياة ، فانصرف سادة البوادي لتربية الماشية في حين عكف سكان المدن على المهن اليدوية وزراعة الأراضي (٦٥).

وانشعبت هذه القبائل الخمس الى عدد كبير جدا من الفروع في مجملها ، كما عرض ذلك أحد كتابهم. وهو ابن رقيق (٦٦) الذي قرأت كتابه عدة مرات ، غير أن كثيرا من المؤرخين يذهبون الى أن ملك تومبوكتو الحالي ، وملك مالى وملك آغادس ترجع أصولهم الى قبيلة زناتة ، إي من أولئك الذين يسكنون الصحراء (٦٧).

الاختلافات والمطابقات في اللغة الأفريقية

تستعمل هذه القبائل الخمس ـ التي تبدو منقسمة الى مئات الانساب والى آلاف المساكن ـ لغة واحدة يسمونها عادة آوال آمازيغ ، اى اللغة النبيلة. ويطلق عليها العرب اللغة البربرية. تلك هي اللغة الافريقية الوطنية : وهي لغة فريدة تختلف عن اللغات الاخرى. الا اننا نجد فيها بعض كلمات من اللغة العربية. وهذا هو الدليل الذي يعتمد عليه من يذهبون الى ان الافارقة ترجع أصولهم الى السبئيين ، وهم قوم من سكان بلاد العرب السعيدة ، اى اليمن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق. ولكن أنصار الرأي المقابل يؤكدون ان الكلمات العربية التي نعثر عليها في هذه اللغة انما تسربت اليها بعد ان دخل

__________________

(٦٥) هذا المفهوم الاجتماعي ، المستغرب جدا بالنسبة لنا نحن الأوروبيين ، هو مفهوم الباحثين العرب. وقد عرضه ابن خلدون بإسهاب وقوة. فالرعاة يهتمون بقطعانهم فحسب. ولهم تفوق اجتماعي بارز جدا ، بينما كان سكان المدن وكذلك القرى ، وإجمالا الحضر ، من حرفيين وفلاحين ، خاضعين عمليا للضرائب وللسخرة ، مثلما كانوا في وضع اجتماعي أدنى بشكل واضح.

(٦٦) وهو ابو اسحاق ابراهيم بن قاسم ، او القاتل الرقيق القيرواني والذي الف كتابا لا يزال مفقودا. وهذا هو ما يظهر مما كتبه ابن رشيق Rahick.

(٦٧) لقد كان ملك تومبوكتو ، أو ملك غاءو بشكل أدق ، في ذلك الوقت زنجيا من قبيلة سونينكه ولا يمت بأى نسب الى البربر. وكذلك كان حينئذ ملك مالى ، فقد كان هو الآخر زنجيا ، ولكن تذكر الروايات أن أبا بكر بن عمر الذي فتح السودان ، وهو بربري ، قد زوج إحدى بناته من ملك هذه الأسرة القديمة ، وذلك من خلال حملته في تلك البلاذ بين عام ١٠٦٣ و ١٠٨٧ م ، وكان الشرف والنبل عند قبائل الصحراء الملثمين ينتقل الى الفروع عن طريق الأم.

٤٧

العرب أفريقيا وأصبحوا سادة البلاد. وقد كانت هذه القبائل ساذجة جاهلة ؛ حتى انهم لم يخلفوا اي اثر كتابي يستدل به على صحة احد من هذين الرأيين (٦٨). ولا تختلف اللهجات البربرية بعضها عن بعض في اصوات المفردات وحروفها فحسب بل في مدلولاتها كذلك. وأكثر الأفارقة قربا من العرب ، والذين لهم علاقات معهم اكثر من سواهم ، هم الذين يستعملون أكبر نسبة من الكلمات العربية في لهجتهم. ويتكلم بالعربية كل افراد قبيلة غمارة تقريبا ، ولكن عربيتهم عربية محرفة غير سليمة. كما ان كثيرا من عشائر الهوارة يتكلمون ايضا عربية من هذا القبيل ، ويرجع السبب في ذلك إلى ان هذه العشائر كانت منذ حقب طويلة على علاقة لغوية بالعشائر العربية. ويتكلم الناس في السودان لغات متنوعة. ويسمى السود احدى هذه اللغات سونغى (٦٩) ، وهي اللغة الدارجة في عدة مناطق مثل : ولّاته وتومبوكتو وجنة ومالى وغاغو. وهناك لغة اخرى تدعى غوبر ، وتستعمل في بلاد غوبر ، وكانو ، وكاسينا وزقرق وغوانغارا (٧٠) وتوجد لغة اخرى دارجة في بورنو (٧١) تشبه اللغة الشائعة في غاءو (٧٢). وثم كذلك لغة اخرى لا تزال مستعلمة في مملكة النوبة ونجد فيها مفردات من العربية والكلدانية (٧٣) واللغة المصرية (٧٤) ويتكلم اهل مدن إفريقيا الواقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط ، وحتى جبال الأطلس ، لهجات عربية محرفة من أصولها ، باستثناء منطقة مراكش ، ومدينة مراكش ذاتها حيث تسود اللغة البربرية. وتستعمل هذه اللغة أيضا في كل أراضي نوميديا ، وعلى الأقل لدى النوميديين الذين يجاورون قيصرية وموريتانيا ، لان كل الذين يجاورون مملكة تونس يستعملون لهجات عربية محرفة عن أصولها.

__________________

(٦٨) تختلف كمية المفردات العربية التي انتقلت الى اللهجات البربرية بإختلاف هذه اللهجات. وقد انتقل اليها بعض مفردات لا تينية. وانتقل اليها كذلك بعض مفردات من لغات سامية غير العربية وخاصة اللغة الفينيقية الآسيوية والفينيقية الإفريقية (البونية) واللغة العبرية. وهذا هو ما جعل بعض مؤرخى العرب يذهبون إلى أن البربر يرجعون إلى أصول حميرية.

(٦٩) وتكتب حاليا سونغى ، أو سونغاى ، اوسونغائي.

(٧٠) هذه هي لغة «الهوسا» وهنا نجد المؤلف يطلق اسم «بيرز قرق» على «زيزق» ويظهر أنه قد نقل ذلك من مذكرة عربية قد كتبت هذا الاسم : «برز قرق» أى منطقة زقزق (بر منطقة).

(٧١) لغة الكانورى.

(٧٢) لغة الكانمبو ، وذلك لأن هذه الأقوام ترتبط بعضها مع بعض بالنسب.

(٧٣) السريانية.

(٧٤) القبطية.

٤٨

العرب الذين يسكنون مدن إفريقيا

لقد جلب الجيش الذي بعثه الخليفة الثالث عثمان ، في عام ٢٤ للهجرة ، الى افريقيا جالية كبيرة من العرب يبلغ عددها حوالي ثمانين ألفا من العشائر العريقة ومن غيرها (٧٥).

وعند ما أتموا فتح بضع مناطق عادت كل الشخصيات الكبرى والنبلاء الى جزيرة العرب. ولم يبق محليا مع الآخرين سوى القائد العام للجيش ، الذي يدعى عقبة بن نافع. وقد سبق لهذا ان اختط مدينة القيروان وأقام فيها تحصيناته. وقد ظل بالفعل متوجسا من أن يخونه سكان الساحل وأن يتلقوا بعض الدعم من جزيرة صقلية وتصل اليهم نجدات قد تشن عليه الحرب. وهكذا انسحب باتجاه الصحراء ، في داخل الأراضي ، مع كل الغنائم التي غنمها وأسس مدينة القيروان على مسافة ١٢٠ ميلا تقريبا (٧٦) من قرطاج. وأعطى الأمر لزعماء الجيش والمدنيين الذين ظلوا معه بأن يقيموا في أكثر المناطق مناعة وأكثرها مواءمة للدفاع وأن يشيدوا فيها قلاعا وحصونا لم يكن لها نظائر من قبل ، وقد تم تشييد كثير من هذه القلاع والحصون (٧٧).

__________________

(٧٥) لا تزال نفتقر لمعلومات دقيقة عن الفتح الاسلامي لإفريقيا. ومع هذا يبدو من المسلم به أن الجيش الذي أرسله الخليفة عثمان الى أفريقيا عام ٢٤ ه‍ ٦٤٨ م ، لم يكن يضم سوى ... ، ٢٠ رجلا. وقد سبق أن قام القائد العربي عمرو بن العاص في عام ٢١ ه‍ مطلع عام ٦٤٢ م في أعقاب فتح مصر ، بغارة ناجحة على برقة ، وبعدئذ ، بعد عام واحد او عامين ، أغار على منطقة طرابلس البيزنطية ، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب لم يوافقه على التوغل إلى أبعد من ذلك ، لأن المحاولة كانت خطيرة للغاية. وفي عام ٦٤٦ م ، وعلى أثر اضطربات سياسية انتابت الحكومة الامبراطورية في القسطنطينية ، أعلن حاكم أفريقيا البيزنطي ، وهو جريجوار ، استقلاله واتخذ لقب باسيلوس ، وحكم المنطقة الممتدة من طرابلس الى طنجة متخذا مدينة سبيطلة التونسية عاصمة له. وقد أرسل الخليفة عثمان حملة عسكرية ضد هذا الحاكم ، ونشبت معركة في صيف ٦٤٨ م انتهت بهزيمة الجيش البيزنطي ومقتل جريجوار ، وهي معركة كان لها صدى بعيد في عالم النصرانية. وظلت الجيوش الاسلامية مدة خمسة عشر شهر في هذه البلاد ثم عادت الى المشرق حاملة معها غنائم ضخمة. ويبدو أن المسلمين لم يتركوا محليا سوى مندوب دبلوماسي. واسترد البيزنطيون حكم أفريقيا. ولم يستأنف الخليفة معاوية اهتمامه بأفريقيا الا في عام ٦٦٥ م وأرسل جيشا قوامه ١٠٠٠٠ رجل بقيادة معاوية بن حديج. وقد ظل هذا مدة خمس سنوات عند سفوح المنطقة الجبلية في افريقيا دون ان يقوم ، كما يبدو ، بأكثر من غزوات قاذت لانتصارات محدودة محلية. وأخيرا في عام ٥٠ ه‍ ٦٧ م جل محل هذا القائد قائد جديد هو عقبة بن نافع ، الوجه اللامع في حروب افريقيا ، مع دعم عسكري قوامه ١٠٠٠٠ جندي.

(٧٦) تقع مدينة القيروان على مسافة ١٩٢ كم من تونس.

(٧٧) الحقيقة هي أن سلفه معاوية بن حديج قد جعل قاعدة عملياته العسكرية عند وصوله عام ٦٦٥ م ، اي قيروانه ، كما كان يقال حينئذ ، عند حضيض جبل وسلات ، ولكن عمد عقبة ، على أثر وصوله ، الى نقل هذا المعسكر وأقامه على مسافة ضعة كيلومترات الى الشرق من ذلك ، فى السهل الرملي حيث لا تزال تقوم القيروان الحالية ، وذلك لكي يكون في منأى عن ـ

٤٩

وقد اصبح العرب ، الذين ظلوا في طمأنينة ، مواطنين في هذه البلاد واختلطوا بالأفارقة ، الذين تبنوا في ذلك العصر ، اللغة الايطالية ، لأنهم كانوا محكومين خلال سنوات طويلة من قبل الطليان. وبنتيجة هذا الواقع ، وعلى اثر العلاقات المستمرة مع الأفارقة الذين كانوا يعيشون بينهم ، فسدت لغتهم الأصلية وأصبحت هذه خليطا من كل اللهجات الافريقية. وهكذا انصهر شعبان مختلفان وأصبحا شعبا واحدا (٧٨) ولكن كان كل عربي يحتفظ دائما بعادة حفظ نسب آبائه العرب ، وكذلك كان يفعل كل بربري. وهذا أمر هام كي يستطيع كل كاتب عدل او محرر عقد رسمى أن يسجل اسم صاحب المعاملة ، سواء أكان عربيا أم بربريا (٧٩).

العرب الذين يسكنون في افريقيا ويتخذون

بيوتهم من الخيام لا من المنازل المبنية

جظر الخلفاء المسلمون دوما على العرب عبور نهر النيل مع عائلاتهم وخيامهم حتى عام أربعمائة للهجرة ، الى أن حصل هؤلاء على الترخيص بذلك من خليفة شيعي ، لأن

__________________

المباغتات التي قد تصدر من المنطقة الجبلية. ولا يبدو ان عقبة قد أحرز نجاحات أكبر من سلفه. ولكن الذي منحه شهرته هي الغارة الرائعة التي اندفع بها حتى المحيط والسوس ملتفا من خلف جبال الأطلس حيث لا يبدو أنه اصطدم بشدة بالقوى الامبراطورية البيزنطية. وقد لاقى حتفه عند عودته في عام ٦٨٢ م او ٦٨٣ م في كمين انصب له في موقع تهوده ، قرب بسكره.

(٧٨) على اثر موت عقبة ، اضطر العرب للانسحاب الى برقة حيث ظلوا خمسة اعوام ، في حين اصبح الزعيم البربري كسيله حاكما على افريقيا. وفي عام ٦٨٧ أرسل الخليفة عبد الملك ، الذي سبق له ان اشترك في حملة عام ٦٦٥ م ، نجدات لجيش برقة كي يمكنة من تجريد حملة تأديبية ضد كسيلة. فأنكسر الزعيم البربري وقتل في المعركة. ولكن اضطرت الجيوش العربية الى التوقف. أو حوالي العام ٦٩٣ م أراد الخليفة عبد الملك ان يحسم مشكلة افريقيا ، وذلك بانتزاع قرطاج من الامبراطورية الرومانية في القسطنطينية وتحطيم قوة أكبر زعيمة بربرية في ذلك العصر وهي كاهنة ديا ، ملكة الاوراس ، فأرسل أكبر جيش عربي بعث الى افريقيا قوامه ٤٠٠٠٠ رجلا تحت إمرة الحسن بن النعمان. فاستولى هذا على قرطاج ولكن استردتها القوات الرومانية بعد عامين ، وانتهى الأمر بانهزام جيش الحسن أمام جيش الكاهنة واضطر للانسحاب لمدة خمسة أعوام أخرى حتى منطقة طرابلس وصحراء سيرت. وعلى أثر ذلك ، أى حوالى العام ٦٩٨ م أرسل عبد الملك نجدات جديدة ، وفي هذه المرة اندحرت الكاهنة وقتلت بتاريخ ومكان لا يزالان مجهولين. وهكذا أخضع الحسن كل المنطقة وعاد الى القيروان حوالى العام ٧٠٤ م ، بعد ان استتب له الامر وأخضع البربر والرومان للجزية. وابتداء من تلك الفترة استطاع العرب فعلا ان يستقروا في بلاد البربر. ويستحيل علينا تخمين عددهم. هذا وعلى الرغم من انصهار أكثرية عرب المدن في السكان الافريقيين فقد ظلت جماعات نقية منهم في مواقع مختلفة من هذه البلاد.

(٧٩) وهذه الاشارة تعني فقط اسم الأصل القبلى ، بحيث لا نستطيع تحديد ما اذا كان الشخص عربيا أو بربريا الا بعد معرفة نسب قبيلته لأحد هذين الشعبين. وهكذا كان الحسن الزياتي ينتسب أصلا لقبيلة زيات ، وربما كانت بربرية رغم أن أسرته كانت تسكن غرناطة ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بذلك.

٥٠

شخصا ما ، كان صديق الخليفة ومولاه ، تمرّد واستولى على السلطة في مدينة القيروان وفي كل بلاد البربر. وبعد موت هذا الرجل ظلت السلطة خلال فترة من الوقت في أيدي أسرته(٨٠).

ولقد قرأت في مؤلفات مؤرخي أفريقيا أنه في عهد القائم ، وهو خليفة هذه الأسرة الشيعية وزعيمها الروحى ، قد امتدت مملكته وبلغت درجة كبيرة من الاتساع ، وأن مذهبه الديني قد ازداد انتشارا لدرجة جعلته يرسل الى الغرب مملوكا له اسمه جوهر ، وكان هذا عبده وأمين سره ، على رأس جيش كبير جدا (٨١) فاستولى على كل بلاد البربر ونوميديا ووصل حتى الجنوب ، وجبى كل ضرائب هذه البقاع وعوائدها. وبعد ان أتم مهمته ، عاد الى سيده ووضع بين يديه ما جمعه من ذهب ومن اموال أخرى من هذه البلاد.

وبعد ان وقف الخليفة على قيمة الرجل وأدرك النجاح الباهر الذي حققه ، خطط لمشروع أكبر يعهد اليه بأمر تنفيذه ، وأفضى اليه به (يقصد فتح بلاد المشرق). فأجابه جوهر. «مولاي ، أعطيك الوعد التالي : مثلما فتحت لك مناطق الغرب ، كذلك سأستولى على ممالك الشرق ، أي مصر ، وبلاد الشام وكل جزيرة العرب. وسأنتقم لك عن كل الاهانات التي لحقت بأجدادك على يد أسرة العباسي (٨٢). ومهما تكن المخاطر والمصاعب التي سأواجهها ، فلن أتوقف عن إعادتك لعرش أجدادك العظام الكرام ، وهم أصل دمك الشهير». وهكذا قام الخليفة الذي تأثر بهذه البسالة ووثق بكلام مولاه بتجهيز جيش قوامه ثمانون ألف رجل وعهد به لجوهر مع كل الصلاحيات ، وزوده

__________________

(٨٠) لقد حدث في عام ٤٤١ ه‍ ١٠٥٠ م أن قبائل عربية كانت تسكن مصر حصلت على ترخيص من الخليفة الفاطمي في القاهرة بالهجرة الى المغرب. وابتداء من آب (أغسطس) ٩٧٢ كانت الأسرة الصنهاجية ، ممثلة بالأمراء الزيريين تحكم في القيروان. وقد كانت هذه الهجرة جوابا لقطع الخطبة والتبعية السياسية التي قام بها الأمير الزيري. وقد عملت هذه الهجرة ، التي تحمل في كتب التاريخ اسم غارة بني هلال ، أو الزحف الهلالي ، على تقويض سلطة الملوك الزيريين كثيرا ، ولكن هذه السلطة لم تتلاش تماما إلا بعد سقوط المهدية في يد نصارى صقلية ، بتاريخ ٢٢ حزيران (يونيه) ١١٤٨ م ، وخاصة بعد انتصار الخليفة الموحدي عبد المؤمن في سنتي ١١٥٩ ـ ١١٦٠ م.

(٨١) لقد توفي الخليفة الفاطمي أبو القاسم محمد القايم بأمر الله بتاريخ ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م قبل الحادث الذي تكلم عنه المؤلف بأمد طويل ، واما الذي يذكر المؤلف انه ارسل مملوكه على رأس جيشه الى بلاد البربر ونوميديا ، فهو حفيد القائم بأمر الله ، وهو ثاني خليفة فاطمي ، وهو أبو تميم معدّ المعز لدين الله فقد أرسل في شهر أيار (مايو) عام ٩٥٨ م ، جيشا بقيادة أبي الحسن اسماعيل بن عبد الله ، الملقب بجوهر الكاتب ، لكي يعيد لطاعته امراء بلاد البربر الذين انفصلوا عنه ودخلوا في طاعة خليفة قرطبة الأموي.

(٨٢) يقصد خلفاء العباس.

٥١

بالكثير من الذهب والأقوات (٨٣). فانطلق المولى الأمنين إذن وقاد جيشه مخترقا الصحراء التي تفصل بلاد البربر عن مصر. وقبل ان يصل جوهر الى الاسكندرية ، كان والي مصر قد انسحب الى بغداد حيث التجأ الى الخليفة المطيع لله (٨٤).

وهكذا استولى جوهر على كل مصر وكل بلاد الشام في وقت قصير ولم يلاق سوى مقاومة ضئيلة (٨٥). ولكن جوهر لم يكن مطمئن البال ، فقد خشى أن يباغته خليفة بغداد مع كل جيوش آسيا ، وأن يقوم بهجوم معاكس شديد يؤدى الى فقدان وسائله الدفاعية وابادة جيوشه القادمة من بلاد البربر. ولهذا قرر بناء قلعة تتمكن فيها جيوشه من اللجوء اليها عند الاقتضاء لمقاومة الهجوم المعادي (٨٦) ، فبنى مدينة أحاطها بسور وظل فيها مقيما ، مع جزء من جيشه لحمايتها ، اي مع أولئك الذين كان يثق بهم كل الثقة. وأطلق على هذه المدينة اسم «القاهرة» (٨٧) أي «الغالبة» وتسمى عادة في أوروبا «لوكير» LeCaire (٨٨).

وهكذا أصبحت القاهرة تتوسع يوما فيوما بزيادة عدد أحيائها ، ومساكنها ، سواء

__________________

(٨٣) لقد كان الاستيلاء على المشرق دوما هدف الخلافة الفاطمية ، فالخليفة الأول في القيروان ، المهدى عبيد الله ، والذي نودي به في شهر كانون الأول (ديسمبر) ٩٠٩ م ، أرسل في مطلع شتاء عام ٩١٣ ـ ٩١٤ م ، ولده أبا القاسم محمد القايم على رأس حملة ضد مصر وكادت الحملة تنجح ، وأعقب ذلك بحملة ثانية في شتاء ٩١٨ ـ ٩١٩ م وانتهت بكارثة حقيقية. أما هذه الحملة الثالثة فقد جهزت بمهارة مع أبهة كبيرة في الوسائل السياسية والعسكرية ، وسار جيش جوهر الصقلي بتاريخ ٥ شباط (فبراير) ٩٦٩ م.

(٨٤) لقد كانت السلطة في مصر حينذاك في يد الامراء المتوارثين من الاسرة الإخشيدية. ولما كان الأمير الحاكم ولدا عمره اثنتا عشرة سنة ، هو أحمد بن على ، فقد كانت مقاليد السلطة بيد الشخصيات الكبيرة ، التي انحاز العديد منهم للدعوة الفاطمية. أضف الى ذلك أن البلاد كانت تتعرض لأزمة اقتصادية شديدة الخطورة. ولا نعلم على وجه اليقين ما اذا كان الامير أحمد قد التجأ لجوار الخليفة العباسي في بغداد الفضل المطيع لله.

(٨٥) لم تحدث أية مقاومة في مصر وأصبحت الخطبة تلقى في الفسطاط باسم الخليفة الفاطمي أبي تميم معدّ المعز بتاريخ الجمعة ٩ تموز (يوليه) ٩٦٩. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) استولت تجريده بربرية على فلسطين ودمشق.

(٨٦) لم يكن خليفة بغداد العباسي مخيفا ، ولكن مصر كانت مهددة من قبل الفوضويين الخطرين في جزيرة العرب وهم القرامطة. والواقع كان جوهر قد حاول بالفعل حماية الفسطاط من القرامطة.

(٨٧) القاهرة ومعناها الحرفي «الغالبة» ، ولكن الرويات تذكر ان هذا الاسم جاء من اسم كوكب المريخ ، أى القاهر ، وهو برج اليوم الذي شرع فيه ببناء السور ، إذ كان المريخ يمر في سمت خط طول المدينة ، وكان للتنجيم دور كبير من حيث الأهمية في ذلك العصر. إذن يكون معنى القاهرة «المريخية».

(٨٨) كان يطلق على «الفسطاط» التي كانت عامصة للبلاد اسم «مصر» وهو اسم القطر كله ، وأخذت القاهرة بدورها هذا الاسم «مصر» واحتفظت به في حين أصبحت الفسطاط تدعى «مصر القديمة» التي نسميها خطأ «القاهرة القديمة».

٥٢

في خارج الأسوار أو في داخلها ، حتى أننا لا نجد مدينة تماثلها في العالم.

وبعد أن رأى جوهر أن خليفة بغداد لم يقم بأية تجهيزات لحملة عسكرية ، أخطر سيده بأن كل المناطق التي فتحها قد دانت له بالطاعة ، وأن الأمن قد استتب ، وأن كل المواقع بحالة أهبة للدفاع ومحروسة بشكل جيد. وعرض عليه فيما إذا كان من الممكن لجنابه أن ينتقل شخصيا الى مصر ، ذلك أن وجوده بمصر يعدل مئات الألوف من الجنود ، بل يزيد أثره على ذلك في فتح ما تبقى من بلاد. وسيكون ذلك سببا لكي يترك خليفة بغداد منصبه ويلجأ للهرب. وعندما بلغت هذه المناشدة الشهمة مسامع الخليفة الفاطمي ، قام بتجهيز جيش لجب ، وامتلأ تيها بهذا النجاح الجديد ، وقصد مصر دون اعتبار ما قد يحدث من مخاطر. وترك أميرا من قبيلة صنهاجة واليا وقائدا عاما على بلاد البربر ، ولم يكن هذا الأمير صديقه فحسب ، بل كان كذلك خادما في منزله (٨٩). وعندما بلغ الخليفة القاهرة ، استقبله خادمه بكل إجلال. ولما كانت نفسه مشبعة بالمشاريع الكبرى فقد أنفذ جيشه ضد خليفة بغداد (٩٠).

وفي غضون ذلك ، تمرد الحاكم الذي خلفه في بلاد البربر وقدم خضوعه لخليفة بغداد الذي سر بهذا الحادث ، ومنحه امتيازات واسعة مثلما منحه لقب ملك كل إفريقيا. وعندما علم القائم بذلك وهو في القاهرة اعتبره نبأ مؤلما لأنه موجود في خارج مملكته ، ولأنه أنفق كل احتياطيه من الذهب والمؤن التي حملها معه (٩١) ، ولما طار صوابه ولم يعرف أين يقف ، راح يصب لعناته على مولاه جوهر وما اقترحه عليه بشأن قدومه إلى مصر. وقد كان بجواره أمين سر له ، رجل عالم حاد الذكاء ، اسمه أبو محمد الحسن (٩٢) وقد أدرك

__________________

(٨٩) لقد غادر الخليفة أبو تميم معد المعز قصره المنصورية قرب القيروان بتاريخ ٦ آب (أعسطس) ٩٧٢ م ولم يصل الى القاهرة إلا في ١١ حزيران (يونية) ٩٧٣ م. وعهد بنيابة الملك على بلاد البربر لرجل شجاع ، هو يوسف بن زيرى ، الملقب بولوغّين ، أمير صنهاجه.

(٩٠) هذا الزعم غير صحيح ، ففي الداخل كان عليه حماية حدوده من تهديدات القرامطة المخيفة.

(٩١) وهنا يرتكب المؤلف خطأين تاريخيين. فعندما وقعت هذه الأحداث كان الخليفة القائم قد توفي منذ مائة عام ، أي بتاريخ ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م ، وكان حفيده فاتح مصر معد المعز قد توفي بتاريخ ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٩٧٥ م ، وكان الخليفة الفاطمي في مصر في ذلك العهد هو أبو تميم المعز المستنصر. هذا هو الخطأ الأول. وأما الخطأ الثاني فهو أن يوسف بن زيري كان قد توفي في شهر ماي (أيار) ٩٨٤ م ، وأن أحد حفدته ، وهو المعز بن باديس ، هو الذي انشق على حكومة مصر الشيعية ، وانتهى به الأمر ان خضع في سنة ١٠٥٠ م لخلافة بغداد السنية. وقد شجعه على ذلك نجاح الدعوة السنية في بلاده وانتشار المذهب السني في مختلف ارجائها.

(٩٢) اليازوري وهو قاضي القاهرة الكبير ، تولى منصب رئاسة الوزارة عام ١٠٥٠ م.

٥٣

هذا أحزان ملكه وتوقع الدمار المحلّق فوق رأس الملك إذا لم يتقدم بعلاج للموقف. فراح يواسي الملك وينصحه بالعبارات التالية :

«مولاي ، إن تقلبات الحظ متغيرة ، ولهذا لا يجوز لك أن ترتاب في قواك بسبب الحادث الحالي الذي تعرض له قدرك. وإنني أعتقد أنك إذا قبلت الرأي الذي سيعرضه عليك بكل ولاء وإخلاص خادمك الأمين ، فلن يكون لديّ أدنى ريب في أنك ستسترد في قليل من الوقت كل ما انتزع منك بالتمرد وأنك ستحصل بالتالي على ما تريد. وستبلغ ذلك بدون أن تحتمل أي مغرم ، وبدون أن تكون مضطر الدفع مرتب لجندي واحد ، بل إنني لآمل أن القوى التي سأضعها بين يديك هي التي ستدفع لك.

وعند سماع الخليفة هذا الكلام طابت نفسه وسأله كيف يمكن التوصل إلى ذلك. فتابع كلامه قائلا : «مولاي ، إن العرب قد تزايدوا كثيرا حتى إن جزيرتهم لم تعد قادرة على احتوائهم جميعا اليوم ، وما تنتجه تلك البلاد لا يكاد يكفيهم لتغذية ماشيتهم ، لأن هذه البلاد عقيمة لدرجة كبيرة. ولا يشكو الناس هناك من فقدان الأمكنة للسكنى فحسب بل من فقدان الأقوات ، وكان بإمكانهم الانتقال أكثر من مرة إلى إفريقيا فيما لو أذنت لهم بذلك. إذن امنحهم السماح بتحقيق هذا العبور. وبمقابل ذلك سأضع بين يديك مقدارا كبيرا من الذهب».

وعندما فرغ الكاتب (٩٣) من كلامه هذا ، بدا على الخليفة أنه لم يقتنع كثيرا بنصيحته. ورأى أن العرب سيكونون سبب خراب إفريقيا ، وأنه لن يجني فائدة من وراء ذلك ، لا هو ولا الثائر. ولكنه حينما رأى أن مملكة إفريقيا أصبحت ضائعة على كل حال من يده ، وجد أن أهون الشرين هو الحصول على مبلغ كبير من المال كما زين له كاتبه ، وأن ينتقم بنفس الوقت من عدوه ، وذلك عوضا عن أن يخسر في آن واحد افريقيا والمال. فطلب من مستشاره نشر مرسوم يقضي بأن كل عربي يرغب في الهجرة إلى إفريقيا سيسمح له بذلك ، على أن يدفع دينارا واحدا فقط عن نفسه وعن كل فرد من أسرته ، وعلى أن يقسم يمينا بأن يعامل الثائر في إفريقيا معاملة الأعداء.

وعلى أثر ذلك اجتاز البلاد قرابة عشر قبائل ، أو نصف سكان جزيرة العرب المقفرة. وكان من بينهم أيضا بعض من أفخاذ قبائل اليمن. وكان عدد الرجال القادرين

__________________

(٩٣) أي اليازوري.

٥٤

على حمل السلاح يقارب الخمسين ألفا ، باستثناء النساء والأولاد والمواشي وكان عدد هؤلاء لا يحصى. وقد ذكر المؤرخ الإفريقي ابن رقيق ، الذي سبق لنا الكلام عنه ، تقديرا صحيحا عنهم (٩٤). وهكذا اجتاز العرب الصحراء التى قلنا إنها تقع بين مصر وبلاد البربر ، في قليل من الوقت. وتوقفوا قليلا لضرب الحصار على طرابلس ، واستولوا على هذه المدينة عنوة وخربوها ، وقتلوا كل أولئك الذين تمكنوا من قتلهم. وانطلقوا من هناك إلى قابس التي هدموها. وأخيرا حاصروا القيروان. ولكن الأمير الثائر الذي كان قد اختزن الأقوات وكل ما كان يحتاج إليه استطاع أن يصمد للحصار المضروب على المدينة مدة ثمانية أشهر إلى أن اجتاحها العرب بالقوة ودمروها. أما هو فقد اغتيل بعد أن تعرض للعديد من أشكال التعذيب (٩٥).

وعلى أثر ذلك استحوذ العرب على جميع الأرياف وسكنوها وفرضوا على كل مدينة غرامات وتكاليف باهظة. وظلوا سادة هذه المنطقة من إفريقيا حتى عهد يوسف بن تاشفين (مؤسس دولة المرابطين) وهو أول ملك في مراكش. فاستخدم هذا كل سلطته لنجدة أولئك الذين يمتون بصلة القربى والصداقة إلى الأمير الثائر المتوفي. ولم يهدأ إلا بعد أن أنقذ المدن من هيمنة العرب (٩٦).

__________________

(٩٤) يبدو من المشكوك فيه كثيرا ان يكون ابراهيم بن قاسم الرقيق قد تكلم عن الزحف الهلالي. فقد عاش هذا الرجل في اواخر القرن العاشر الميلادي. وآخر ذكر ورد عن مؤلفاته كان في عام ١٠٢٧ م [وربما كان اسم هذا المؤرخ ابن رشيق]. كما ان القبائل لم تأت مباشرة من جزيرة العرب ، بل من مصر ، حيث كانت هذه القبائل تحت نوع من حصار بسبب شغبها بعد ان اشتركت في العمليات الحربية ضد القرامطة واصبحت لا تطاق بجوار الفلاحين المصريين الوديعين. وكان في ذلك فرصة للتخلص منهم.

(٩٥) لقد حفظ التاريخ ذكر هذه الهجرة تحت اسم الزحف الهلالي أو هجرة بني هلال ونسب إليها صفة الوحشية المفرطة. بيد أن دراسة النصوص لا تدل اعلى أنها كانت انقضاضا ضاريا وهداما كما تصورها الكثيرون ، ولكن برقة وحدها ، التي كانت مزدهرة حتى ذلك الحين ، هي التي تخربت نهائيا. ولم تقع سوى معركة حامية واحدة هي معركة جندر ، او جندران ، أو حيدران ، قرب مدينة القيروان. فقد استطاع ثلاثة آلاف فارس ، ومثلهم تقريبا من المشاة العرب ، أن يلحقوا الهزيمة بأمير إفريقية بعد مباغتته يوم العيد بتاريخ الاثنين ١٣ نيسان (أبريل) ١٠٥٢ م ، وهو الأمير المعز الذي كان على رأس جيشه بينما كانت قواته تنصب الخيام لكي تعسكر فيها. أما نهب القيروان الحقيقي فلم يحدث إلا بعد ستة أعوام ، وذلك بعد أن غادر المعز هذه المدينة كي يلجأ إلى المهدية ، حيث توفي فيها نتيجة موت طبيعي بتاريخ ١٤ آب ١٠٦٢ م. وقد خسر بالفعل تقريبا كل مملكته ، رغم أنه زوج ثلاثا من بناته من أمراء من العرب. ولكنه ظل محتفظا مع أحفاده حتى تاريخ حزيران (يونية) ١١٤٨ م بسلطة رمزية على المهدية ، الواقعة على الساحل التونسي.

(٩٦) في عام ١٠٥٣ م اجتاحت صنهاجة أو زناجة ، وهم الملثمون ، والذين يذكرهم التاريخ باسم المرابطين ، والذين يذكرهم الحسن دوما باسم لمتونة ، وهم اسم أهم قبائلهم ، أقول اجتاحت إمارة سجلماسة المزدهرة ، ولقد تطلب فتح بلاد ـ

٥٥

ومع هذا ظل العرب في البوادي يقتلون وينهبون كل ما يمكن أن يقع تحت ايديهم. وفي أثناء ذلك ظل أقارب الأمير المتمرد يمارسون السلطة في أماكن مختلفة.

ولكن عندما آلت السلطة إلى المنصور ، رابع ملك وخليفة في دولة الموحدين ، لم يعمل كما صنع أسلافه الذين كانوا يحاربون لمصلحة أحفاد الأمير الثائر ويعيدون لهم سلطتهم ، بل اتخذ قراره بمناصبتهم العداء وانتزاع أية سلطة منهم. وتصرف لذلك بمكر ودهاء ، وعقد معاهدات معهم ، ثم حرض العرب على محاربتهم ، فانتصر هؤلاء عليهم بدون كبير عناء. وحينئذ اصطحب المنصور أهم رجالات العرب وأمراءهم إلى ممالك الغرب ، فأقطع زعماءهم منطقة دكالة وأزغار ومنح نوميديا لعامتهم (٩٧).

__________________

ـ البربر أربعين عاما فوصلوا حتى مدينة الجزائر ، وتوغلوا في أسبانيا حتى مدينة فراغا في أراغون ، تحت قيادة زعيمهم الشهير يوسف بن تاشفين ، وهو الذي تقلد أمر قيادتهم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ١٠٦١ م ، وأسس مراكش عام ١٠٦٢ م ومات بتاريخ الثالي من أيلول (سبتمبر) ١١٠٦ م عن عمر يبلغ ٩٦ عاما. ولا يبدو أن يوسف بن تاشفين قد اهتم كثيرا بشأن مشاكل العرب مع الامراء الصنهاجيين. بل كل ما هنالك يظهر أنه احترم اسم ذلك النسب القبلي البعيد ، وهو امارة بني حماد الصنهاجية ، التي كانت عاصمتها حينذاك تاكربوست ، أو قلعة بني حماد ، قرب مسيلة بالقطر الجزائري.

(٩٧) يظهر هذا العرض غير صحيح إطلاقا. فبعد أن نودي بعبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين في ١١ آذار (مارس) ١١٣٢ م قام هذا بالاستيلاء على كل شمالي أفريقيا ، أو بلاد البربر عند الوزان ، وفي ١١٦٠ م اعترفت برقة بسلطته. وفي شباط (فبراير) ١١٥٢ م احتل بجاية التي كانت منذ ١٠٦٧ م عاصمة الأمراء الحماديين ، وخرب عاصمتهم القديمة ، قلعة بني حماد ، تماما. ولكن العرب ، على العكس ، هم الذين عملوا على دعم الأمراء الصنهاجيين. فبعد أن حشدوا جموعهم في بأجة أنقضوا في أيار (مايو) أو حزيران (يونية) عام ١١٥٣ م على ستيف ، أي على مؤخرة جيش الموحدين العائد إلى المغرب. وبعد معركة حامية الوطيس امتدت على ثلاثة أيام انهزموا وطوردوا إلى أن أعلنوا خضوعهم الذي استمر حتى عام ١١٨٥ م. فتلاشت مملكة بني حماد في بجاية ولم يبق منها سوى الإمارات الصنهاجية في إفريقية ، أي في الشمال التونسي. وعلى أثر الاستنجاد بعبد المؤمن لطرد نصارى صقلية من المهدية ومن الساحل التونسي الذي احتلوه عام ١١٤٨ م انطلق من مراكش في تشرين الأول (اكتوبر) ١١٥٨ م ودخل بدون مقاومة الى تونس في الرابع من حزيران (يونيو) ١١٥٩ م وانتزع المهدية منهم في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م بعد حصار طويل. وقام بتصفية الأمراء الصغار المحليين وعين مكانهم حكاما من الموحدين. وعند عودته إلى المغرب اصطحب عبد المؤمن معه عددا من العرب مع عائلاتهم. واضطر ابنه وخليفته أبو يعقوب يوسف أن يقوم بحملة استغرقت عامين من ١١٧٩ م إلى ١١٨١ م لإخضاع إفريقية. وبعد عودته الى مراكش بقليل جاءت كتيبة كبيرة من العرب لتضع نفسها تحت تصرفه. وفي ٣٠ تموز (يوليو) ١١٨٤ م نودي بأبي يوسف يعقوب ، الملقب بالمنصور خليفة الموحدين الرابع ، إذا اعتبرنا ابن تومرت الخليفة الأول ، أو ثالث خليفة مؤمني (أي بعد عبد المؤمن. وذلك إذا اعتبرنا عبد المؤمن هو الخليفة الموحدي الأول). وفي العاشر من أيار (مايو) ١١٨٥ م نزل في بجاية دعىّ لإعادة حكم المرابطين ، هو علي بن إسحق بن غانية ، أمير جزيرة ماجورقة ، مع بضعة من إخوته وقواته. وبعد أن أحرز المرابطون عدة نجاحات محلية ، اضطروا للانكفاء نحو الجنوب التونسي ، حيث حرضوا العرب على العصيان ولاقوا عونا من الفرق التركية القادمة من مصر بقيادة احد مماليك صلاح الدين الايوبي ، وهو قراقوش الارمني الاصل. واصبح الوضع خطيرا. فغادر الخليفة المنصور عاصمته مراكش في ١٧ كانون الأول ١١٨٦ م واندفع لإستعادة قفصه وقابس ، وكسر المرابطين والاتراك ـ

٥٦

وفي الأزمنة التالية استرد عرب نوميديا ، الذين كانوا عبيد النوميديين تقريبا ، استردوا حريتهم وهيمنوا رغم أولئك على جزء من نوميديا الذي أقطعهم إياه المنصور ، حتى أصبحوا يوسعون أراضييهم يوما بعد يوم. أما العرب الذين كانوا يسكنون أزغار والمناطق الأخرى من موريتانيا فقد استعبدوا ، لأن العرب خارج الصحراء كالسمك خارج الماء (٩٨) ، وكانوا يودون الذهاب إلى الصحراء ولكن كان ذلك من المستحيل عليهم ، لأن ممرات جبال الأطلس كانت تحت حراسة وسيطرة البربر. ومن جهة أخرى كان عليهم أن يكفوا عن أي توسع في الأرياف ، لأن عربا آخرين كانوا سادتها. ولهذا تخلوا عن كبريائهم وانصرفوا إلى رعي الماشية وزراعة الأرض. ولكنهم ظلوا يعيشون تحت الخيام لا تحت أكواخ أو بيوت ريفية. وبالإضافة إلى توسعهم أصبح عليهم أن يدفعوا سنويا ضرائب وعوائد لملك فاس. أما عرب دكالة الذين تحصنوا بكثرتهم فقد كانوا أحرارا وما كانوا ملزمين بدفع أية ضريبة. وبقي قسم من العرب في منطقة تونس لأن المنصور رفض اصطحابهم معه. وبعد رحيله قام هؤلاء باحتلال تونس ، وأصبحوا سادة البلاد واستمرت هيمنتهم إلى أن ثار بعض أمراء أسرة أبي حفص. فاتفق العرب معهم كي يتركوا لهم السلطة العليا بشرط أن يحصلوا على نصف الضرائب ومنتجات الأرض التي ستنتزع من المملكة (٩٩).

__________________

ـ وعاقب العرب الدين أمدوهم بالعون. وعاد الى مراكش في ايلول (سبتمبر) ١١٨٨ م بعد معركة مظفرة ، مصطحبا معه اكثر العرب شغبا كي يجعلهم تحت مراقبته ولكي يستخدمهم في حرب الأندلس. فأقام هؤلاء العرب في تامسنه وفي ازغار.

ولكن عرب المعاقيل ، الذين لم يكن عددهم يتجاوز ٢٠٠ رجل عند الزحف الهلالي والذين تكاثروا تكاثرا مذهلا ، أخذوا بالتسلل نحو الغرب عبر الجنوب التونسي والجنوب الجزائري والجنوب المغربي كي يصلوا الى السوس في القرن الثالث عشر الميلادي. وفي اواخر القرن الرابع عشر لم يكونوا قد تجاوزوا جنوبا الساقية الحمراء ، وفي اواسط القرن الخامس عشر الميلادي. وصلوا وادان ، وفي عصر المؤلف بلغوا تيشيت في موريتانيا الحالية ، وقد كانوا من ناحية اخرى قد بلغوا البحر المتوسط سالكين وادي الملوية وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي.

(٩٨) وهنا نتوقف قليلا لنوضح المفهوم الجغرافي لبعض الأسماء الواردة في نص الوزان : فكلمة موريتانيا عنده تعني المنطقة الواقعة إلى الجنوب من مدينة الجزائر حتى شمال مصب نهر السبو ، وتعني نوميديا منطقة قسنطينة ، وأما افريقية فتغني بلاد تونس الشمالية بما في ذلك القسم الشرقي من منطقة قسنطينة أي كل حوض نهر المجردة ورافده نهر الملاق. ويقصد المؤلف بعبارة العرب دوما الأعراب لو البدو من بني هلال وسليم والمعاقيل (المترجم).

(٩٩) لقد حدث الاستيلاء على تونس في كانون الأول (ديستمبر) ١٢٠٣ م ، ولم يتم انتزاع المدينة على أيدي العرب ، بل بواسطة قوات المدعي المرابطي يحيى بن إسحق بن غانية المايورقي ، الذي تزعم التمرد المرابطي بعد وفاة أخيه علي. وجاء خليفة مراكش أبو عبد الله محمد الناصر ذاته لاستخلاص تونس في ١٢٠٥ م. وأرسل أفضل قواده ، عبد الواحد بن أبي حفصة عمر لمطاردة يحيى الذي انهزم في تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٠٥ م. عند جبل تاجيره في الجنوب التونسي. وعند عودته من تونس الى مراكش في ايار (مايو) ١٢٠٧ م ترك الناصر عبد الواحد واليا على تونس وحاكما على البلاد التونسة. وفي ـ

٥٧

ولكن ملوك تونس عجزوا عن إرضاء كل العرب ، لأن عدد هؤلاء كان يتجاوز إمكانات موارد المملكة ومنتجاتها ، وهكذا كانت توزع هذه المعونات بين قسم فقط من العرب ، مع تكليفهم حفظ النظام في الأرياف وعلى ألا يلحقوا أذى بإنسان. أما بقية العرب المحرومين من هذه الموارد فقد اتجه نشاطهم إلى النهب والقتل وإلى أسوأ أنواع الأذى. فكانوا ينصبون الكمائن في أغلب الأحيان وعندما يمر مسافر كانوا يبرزون له ويسلبون ماله وثيابه ثم يقتلونه ، حتى لم تعد الطرق آمنة. وكان التجار الذين يودون الذهاب من تونس الى مكان ما يقصدونه ، كانوا يصطحبون معهم للحماية حرسا من حملة الأسلحة. ولكنهم ظلوا مع ذلك يتعرضون لطوارىء خطيرة. أولها دفع رسم كبير عن المرور إلى العرب الذين كانوا يتمتعون بدعامة من الملك ؛ والآخر ، وهو الأسوأ هو تعرضهم في معظم الأوقات لوثوب العرب الآخرين عليهم. وأحيانا ما كان حرس الحماية الذي اصطحبوه معهم ليغنى عنهم شيئا ، فيخسرون حياتهم وأموالهم معا.

تقسيم العرب الذين قدموا لسكنى إفريقيا والذين دعوا بالعرب المتبربرين

ينتسب العرب الذين دخلوا إفريقيا (١٠٠) إلى ثلاث قبائل. الأولى تدعى شاشين ، والثانية بني هلال والثالثة معقل (١٠١).

وتنقسم شاشين إلى ثلاثة أفخاذ هي : أثبج وسميت وسعيد.

__________________

ـ اثر وفاة الوالي المذكور في ٢٥ شباط (فبراير) ١٢٢١ م ، زاد الوضع سؤا اكثر فأكثر لا سيما وان الخلافة الموحدية راحت تنحدر نحو انحطاط كامل. وقد ادى انكسار الناصر الشنيع في ١٦ تموز (يوليه) ١٢١٢ م في موقعة حصن عقبة او «لاس نافاس دوطولوشة» في الاندلس ، فضلا عن التمرد الزناتي الطويل بزعامة يحيى بن غانية في المغرب الأوسط وضعف خلفاء الناصر ، اقول ادى كل ذلك لأن يقتطع بنو مرين لهم مملكة في المغرب ، وأن يؤسس بنو عبد الواد مملكتهم في تلمسان. وفي حزيران (يونيه) ١٢٢٨ م نودي بأحد ابناء عبد الواحد واليا على تونس. ولم يعد يعترف الامير الحفصي ، ابو زكريا يحيى ، ابدا بسلطة خليفة مراكش منذ ١٢٢٩ م. وفي ١٢٣٦ م اعلن نفسه اميرا مستقلا. اما ابنه ابو عبد الله محمد الذي اعقبه بتاريخ ٩ تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٤٩ م فقد اتخذ لقب خليفة موحدي في شباط (فبراير) ١٩٥٣ م وهنا يقع العصيان الحفصي.

(١٠٠) حين الزحف الهلالي.

(١٠١) لا تسمح الوثائق التي تعرفنا عليها بمثل هذا التصنيف المطلق. غير أنها تتفق مع ما كتبه المؤلف فيما يتعلق بأسمي القبيلتين الكبيرتين معقل وهلال. أما اسم شاشين الذي سنجده فيما بعد فلم يمكن تفسيره بصورة مقبولة. وربما كان من الممكن أنه خاخين أو حكيم أو حكم. وحكيم اسم عشيرة صغيرة كانت تمتد أراضيها في الماضي بين سوسة والجم في البلاد التونسية. ويمكن الأفتراض أن المؤلف لقي استقبالا ممتازا لدى هذه العشيرة المذكورة وأنه سجل بعض الروايات عن سمو شأن أجدادها ، أو أنه بكل بساطة قد جافى الحقيقة التاريخية ليقدم رمزا للعرفان بالجميل لعشيرة الحكيم.

٥٨

وتتوزع اثبج بدورها بين ثلاثة فروع هي : دلّج والمنتفق وصبيح. وتنقسم هذه العشائر بدورها الى عدد لا حصر له من الطوائف.

أما بنو هلال من جهتهم ، فينقسمون إلى أربعة فروع هي : بنو عامر ، رياح ، سفيان ، غصين.

ويتوزع بنو عامر بين عروة وعقبة وهبرة وسلم.

وتضم رياح الدواودة وسويد وسجاع وهريت والندر والكرفة. وتتفتت هذه العشائر الأخيرة إلى عدد لا يحصى من العائلات.

وتنقسم معقل إلى ثلاثة فروع هي : مختار وعثمان وحسان.

فالمخاترة يتشعبون الى روحة وسليم.

وتنقسم عشيرة عثمان إلى الحسين وشنانة.

وتتوزع حسان بين دوى حسان ، ودوى منصور ، ودوى عبيد الله.

وتنقسم دوى حسان إلى دليم والأوداية والبرابيش والرحامنة والحمر.

وتشتمل عشيرة بني منصور على العمارنة والمنبهة والحسين وأبي الحسين.

وتنقسم دوى عبد الله بدورها إلى خراج وإلى حدج وإلى ثعلبة وإلى جعوان.

وجميع هذه العشائر مقسومة إلى عدد لا متناه من الفرق التي يصعب تذكرها بل يستحيل.

التوزع الأرضي للعرب ـ عددهم

لقد كانت أثبج أكثر العرب شرفا وأكثرهم أهمية. وهم الذين اختارهم المنصور (١٠٢) كي يسكنوا دكالة وسهول تادلة. وفي أيامنا هذه أصبحوا مرهقين بالضرائب تارة من ملك البرتغال وتارة أخرى من ملك فاس. ويبلغ عدد القادرين منهم على حمل السلاح ١٠٠٠٠٠ رجل نصفهم من الخيالة. أما سميت فقد مكثت في صحراء ليبيا التي

__________________

(١٠٢) الخليفة الموحدي يعقوب المنصور. عام ١١٨٨ م

٥٩

تعتبر امتدادا لصحاري طرابلس. وكان من النادر أن يأتوا إلى بلاد البربر التي لم يكن لهم فيها أي نفوذ وما كانت تنسب إليهم فيها أية مقاطعة. وهكذا يظلون على الدوام في الصحراء مع إبلهم. وعدد القادرين منهم على ممارسة الحرب يبلغ ٩٠٠٠٠ معظمهم من المشاة(١٠٣).

وتسكن عشيرة سعيد نفس صحاري ليبيا (١٠٤) ويرتبطون بعلاقات صداقة وتجارة مع مملكة ورقلة. ويملكون عددا لا يحصى من الماشية ويصدرون اللحوم لكل المدن والقرى القريبة من صحاريهم ، ويكون ذلك في الصيف ، لأنهم لا يغادرون الصحراء في الشتاء. ويقاربون ١٥٠٠٠٠ من حيث العدد ولكنهم لا يملكون سوى القليل من الجياد.

وتسكن دلّج عدة مناطق. والقسم الأعظم منهم يعيش على تخوم قيصرية ومملكة بجاية (١٠٥). ويتلقى هؤلاء العرب معونات من الأمراء والمجاورين. ويسكن أصغر جزء منهم سهل آدخسن (١٠٦) على تخوم موريتانيا مع جبال الأطلس. ويدفع هؤلاء الضريبة لملك فاس. وتسكن المنتفق سهول آزغار. ويطلق عليهم اليوم اسم الخلوط (١٠٧) وهم يدفعون الضريبة أيضا لملك فاس ويستطيعون تعبئة ٨٠٠٠ فارس مجهزين تجهيزا جيدا جدا. وتسكن صبيح ، وأقصد أعظمهم أهمية وأرفعهم قدرا ، بجوار تخوم مملكة الجزائر ويتلقون مساعدات من ملك تلمسان. ولهم في نوميديا بضع مناطق خاضعة لهم. ولا يقل عدد فرسانهم كثيرا عن ٣٠٠٠ فارس ، وهم شجعان للغاية عند الصدام. ولهؤلاء العرب أيضا عادة الانسحاب شتاء نحو الصحراء لأنهم يملكون كثيرا من الإبل. ويسكن قسم آخر من صبيح في السهول الواقعة بين سلا ومكناس. ولهؤلاء أغنام وأبقار ويزرعون الأرض ويدفعون كذلك ضريبة لملك فاس ، ويبلغ عدد فرسانهم ٤٠٠٠ فارس مجهزون أحسن جهاز.

__________________

(١٠٣) لم نتمكن من التعرف على هذه العشيرة الكبيرة في الجنوب الطرابلسي.

(١٠٤) أي جنوبي منطقة قسنطينة.

(١٠٥) أي جنوب شرق ولاية مدينة الجزائر الحالية.

(١٠٦) أي سهل خنيفره الحالي في المملكة المغربية.

(١٠٧) ولا يزال قسم منهم فى منطقة القصر الكبير بجوار ساحل المحيط.

٦٠