وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

إلى القيروان أحد قواده وهو موسى بن نصير (١٤٤) على رأس جيش كبير. وعند وصول موسى إلى القيروان أقام فيها بعض الوقت إلى أن استراح جيشه تماما ، ثم اندفع نحو الغرب ، فاحتل مدنا عديدة ووصل أخيرا إلى ساحل المحيط. وهناك خاض في البحر مع جواده إلى ان بلغ الماء ركائبه (١٤٥). ورأى أن انتصاره كان كافيا في هذه المرة وقفل عائدا إلى القيروان. وأرسل أحد قواده إلى موريتانيا. وكان هذا يدعى طارق وهو الذي عقد معاهدة مع الكونت جوليان أمير سبتة (١٤٦) وأمره موسى أن يعبر إلى بلاد بتيكا (١٤٧) ، وهذا ما فعله في شهر نيسان (ابريل) ٧١١ م ، واستطاع طارق أن يحتل العديد من المدن والأقاليم برمتها ، كما نقرأ ذلك في كتاب ابن حيان (١٤٨) وفي كتاب الآخرين من مؤرخي الاندلس. وقد انتابت موسى الغيرة وأمر طارق بالتوقف

__________________

ـ ـ بن سعد الذي كسر في سنة ٦٤٨ م الوالي البيزنطي غريغوار وقتله وأنه لم يؤسس القيروان قاعدة للعمليات الحربية ، كما أن معاوية بن حديج أقام معسكره ، لدى وصوله عام ٦٦٥ م على سفح جبل وسلات ، في موقع يسمى القرن ، وأن خلفه عقبة أقام معسكره حيث قامت القيروان. وقد أرسل عقبة إلى افريقية سنة ٦٧٠ م بعد مقتل الخليفة عثمان بعد ١٧ حزيران (يونية) ٦٥٦ م. وقد عزله حاكم مصر عن قيادته سنة ٦٧٥ م وحل مكانه أبو المهاجر دينار الذي أقام «قيروانة» على مسافة ٥ ، ٣ كم من المعسكر الأول ، على طريق تونس. ولكن الخليفة يزيد رد القيادة سنة ٦٨١ م الى عقبة الذي استشهد عام ٦٨٣ م. ولكن بعد مقتل عقبة جلا العرب عن أفريقيا واصبحت القيروان مدينة بربرية خالصة الى أن قرر الخليفة عبد الملك ، وهو من قدامى المحاربين في أفريقيا ، أن يستأنف فتح هذا الإقليم وأرسل الحسن بن النعمان الغساني خلال العام ٦٩٣ م. ولكن هذا لم يستطيع الاستقرار نهائيا في القيروان إلا حوالي العام ٦٩٨ م. ولنتذكر أن كل هذه التواريخ غير موثوق بها كل الثقة. وربما لم تتحول القيروان التي أقامها عقبة إلى مدينة إلا في عصر حسان بن النعمان.

ويتفق المؤرخون على القول بأن المكان الذي اختاره عقبة كان بقصد السلامة ولتحاشي المنطقة الساحلية الشديدة الخطورة. ومن المحتمل أيضا أن القائد العربي كان موجها بأسباب تكتيكية فجعل قاعدته في نهاية سهل صحراوي يجاذي كتلة جبلية كانت في أيدي البيزنطيين. وكان من اللازم أن يكون تحت إمرته جيش بدوي كي يعيش في هذه البقعة الفقيرة بالمياه.

(١٤٤) توفي الخليفة عبد الملك في ٨ تشرين الأول (اكتوبر) ٧٠٥ م وخلفه إبنه الوليد. ولم يتمكن موسى بن نصير أن يصل إلى القيروان إلا في عام ٧٠٦ م.

(١٤٥) وتنسب هذه الرواية عموما إلى عقبة بن نافع بعد وصوله إلى السوس سنة ٦٨٣ م ولا نكاد نعرف شيئا عن هذا الفتح السريع نسبيا.

(١٤٦) من المجتمل أن طارق بن زياد كان مولّدا ، أي لأب عربي وأم أجنبية ، وعلى الأرجح افريقية ، مما ساعده على الكلام باللاتينية (لعله يقصد العربية) وبالبربرية وأن يتولى قيادة مصمودة في منطقة طنجة ، وقد انجز إخضاع البلاد حوالي العام ٧٠٩ م. وهناك رواية يسردها ابن القوطية مفادها أن جوليان الذي دخل معه طارق في مفاوضات لم يكن كونت سبتة ، بل ثريا أسبانيا يعمل في التصدير ، وكان يزاول التجارة في طنجة.

(١٤٧) «شبه جزيرة ايبريا ، أو أسبانيا ، وعلى وجه الدقة بلاد الأندلس» (المترجم).

(١٤٨) ابن حيّان ، مؤرخ أسبانيا والأسرة الأموية التي قامت في هذه البلاد ، ويعتبره ابن خلدون كنموذج للمؤرخين.

٤٦١

وانتظاره. وهذا ما فعله هذا على الساحل الأندلسي. ووصل موسى بعد اربعة اشهر مع جيش كبير. وبعد عبوره بحر غرناطة (١٤٩) ، قاما بتوحيد جيشيهما وتوغلا في الداخل لمجابهة جيش القوط. وتوجه ملك القوط «لذريق» للقائهما. ولسوء حظه انكسر وقضى على جيشه. وتابع القائدان انتصارهما ، وتقدما حتى قشتالة ، واحتلا طليطلة حيث وجدا أموالا طائلة ، وثروات عظيمة ، وبقايا قديسين موضوعة في كنيسة هذه المدينة ، ولا سيما المائدة التي تناول عليها المسيح العشاء الرباني مع الحواريين ، وهي مائدة مكسوة بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة ، وتقدر قيمتها بنحو نصف مليون دينار (١٥٠). وبعد فتح طليطلة عاد موسى مع قسم من جيشه وحمل معه كل ثروات أسبانيا. وعبر البحر كي يعود إلى القيروان ، ولكنه تلقى في هذه الأثناء رسائل استدعاء من قبل الوليد خليفة دمشق. وسار في طريقه نحو مصر مع كنوزه. وما أن بلغ الاسكندرية حتى أعلمه شقيق خليفة دمشق ، واسمه هشام ، أن الخليفة في النزع الأخير ، ومن الأجدر به ألا يأتي لأنه إذا وقع موت الخليفة ، فإن من المحتمل جدا أن تتعرض هذه الكنوز للنهب. ولكن موسى لم ينصت لذلك وقدم إلى دمشق ، ووجد فعلا ، كما قال هشام ، أن الخليفة في حالة احتضار.

ونودي بأخيه هشام خليفة ، ولكن هذا عزل موسى من قيادة افريقيا وسمي قائدا آخر عليها يدعى يزيد بن المهلب (١٥١) الذي خلفه إبنه وأخوه وحفيده بالتتالي ، وحكموا مدينة القيروان في اثناء المدة التي استمرت فيها أسرة بني أمية في الخلافة (١٥٢).

وبعد أن فقدت أسرة بني أمية سلطتها وانتقلت الخلافة بقوة السيف إلى أسرة بني

__________________

(١٤٩) «أو بحر الزقاق أو مضيق جبل طارق» (المترجم).

(١٥٠) لقد سمى كل المؤلفين الذين جاءوا بعد ابن خرداذبة الذي كتب حوالي العام ٨٤٦ م ، هذه المائدة «مائدة سليمان».

(١٥١) على أثر موت الوليد تولى الخلافة بتاريخ ٢٤ شباط (فبراير) ٧١٥ م أخوه سليمان الذي عين محمد بن يزيد حاكما على افريقيا وأسبانيا ، سنة ٧١٥ م ، وبعد موت سليمان في أيلول (سبتمبر) ٧١٧ م خلفه ابن عمه عمر بن عبد العزيز.

واحل مكان محمد بن يزيد بعد موته ، في ١٠ شباط (فبراير) ٧٢٠ م ، يزيد بن المهلب ، الذي توفي في ٢٤ كانون الثاني (يناير) سنة ٧٢٤ م. وفي هذا الوقت على الضبط أصبح هشام بن عبد الملك وشقيق الوليد خليفة. وبعد تعيين يزيد بن المهلب عهد بحكم افريقيا للمدعو يزيد بن أبي مسلم الذي حكم لفترة قصيرة.

(١٥٢) هذا السرد غير صحيح لأن حكام افريقيا في عصر الأمويين كانوا كما يبدو لا يمتون بعضهم إلى بعض بصلة القربى.

٤٦٢

العباس ، وعند حكم السفاح ، أرسل هذا الخليفة قائدا يدعى الأغلب بن سليم ، الذي حكم في صورة ملك مستقل (١٥٣). وفي هذا العصر هجر الخلفاء المسلمون دمشق واستقروا في بغداد لأسباب معروضة في الكتب التاريخية الاسلامية (١٥٤). وبعد وفاة الأغلب تعاقبت ذريته في الحكم وبقيت أمارة افريقيا في أيدي هؤلاء الأمراء مائة وستين سنة ، إلى أن طرد آخر واحد منهم على يد الخليفة الشيعي المهدي (١٥٥).

وقد توسعت القيروان وازدهرت في زمن ملوك أسرة الأغلب كما كثر سكانها حتى إن المدينة لم تعد قادرة على احتواء كل سكانها. وهكذا بنى الملك (١٥٦) مدينة أخرى أطلق عليها اسم الرقادة ، حيث أقام مع شخصيات بلاطه الرئيسية. وفي هذه الحقبة تم فتح صقلية على يد الجيوش التي أرسلها بحرا بقيادة قائد يدعى علقمة. وقام هذا القائد ببناء مدينة صغيرة في هذه الجزيرة كي تكون قلعة لسلامته الشخصية وأطلق اسمه على هذه القلعة. وكادت هذه المدينة أن تسقط تحت حصار القوات التي قدمت لنجدة صقلية. ولهذا أرسل ملك القيروان قوات أكثر عددا بقيادة قائد باسل يدعى أسد ، الذي جاء ليدعم علقمة. فجمع الاثنان قواتهما واحتلا بقية المدن. وقد جلبت هذه الحملة واحتلال صقلية إلى القيروان التوسع والازدهار وتزايد السكان (١٥٧).

__________________

(١٥٣) حكم أول خلفاء بني العباس ، أبو العباس محمد ، والذي كنّى نفسه بالسفاح ، حكم بين ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٧٤٩ م الى ٩ حزيران (يونية) ٧٥٤ م. وقام أخوه وخلفه ابو جعفر عبد الله المنصور ، بتعيين حاكم على افريقيا وهو قائد كان موجودا في هذه البلاد ، هو الأغلب بن سليم التميمي الذي شغل هذا المنصب من آب (أغسطس) ٧٦٥ م الى موته في ايلول (سبتمبر) ٧٦٧ م. وفي عام ٨٠٠ م عين الخليفة هارون الرشيد حاكما مطلق الصلاحية ابن الأغلب ، وهو إبراهيم ، الذي استلم منصبه في ٨ تموز (يولية) ٨٠٠ م وهو التاريخ الذي يشير الى بداية عهد الأسرة لأغلبية.

(١٥٤) لقد أقام السفاح في مدينة الأنبار ، وهي مدينة فارسية على الفرات ، ولكن أخاه وخلفه أبا جعفر عبد الله اختط بغداد سنة ٧٦٢ م.

(١٥٥) لم يمض سوى مائة وثمانية وأربعين عاما بين تقلد الأغلب بن سليم سلطانه في عام ١٤٨ ه‍ وبين هرب زيادة الله بعد طرده من رقادة على يد الداعية أبي عبد الله في سنة ٢٩٦ ه‍ ، ولكن قوة الأغالبة لم تكن مستقلة ووراثية إلا في أثناء مائة واثني عشر عاما هجريا ، أي بين ١٨٤ ه‍ و ٢٩٦ ه‍ / تموز (يولية) ٨٠٠ الى نيسان (ابريل) ٩٠٩ م.

(١٥٦) ابراهيم بن أحمد الذي حكم بين ٨٧٨ و ٨٧٩ م.

(١٥٧) علقمة هو اسم عربي حقيقي ، ولكن هذه الشخصية في هذا النص خيالية. فمدينة الكامو ، قرب بالرمو ، كانت تدعى في العصور القديمة لونغار يكوم ، ويبدو أن اسمها الحالي من أصل عربي ولا تزال تحمل آثار الاحتلال الاسلامي. وفي ١٣ حزيران (يونية) ٨٢٧ م انطلقت سبعون سفينة من ميناء سوسة وحملت إلى صقلية قوة قوامها ٧٠٠ فارسا بقيادة قاضي القيروان أسد بن الفرات ، بأمر من الملك زيادة الله. وابتداء من هذه الفترة أصبحت صقلية وجنوبي إيطاليا ـ

٤٦٣

وتقع القيروان في برية رملية وخاوية حيث لا ينبت شجر ولا حب. فالقمح وكل منتجات الأرض الضرورية للحياة تجلب من الساحل ، سواء من سوسة ، أو من المنستير ، أو من المهدية وتبعد كل واحدة منها مسافة أربعين ميلا. وعلى مسافة اثني عشر ميلا من المدينة يوجد جبل يدعى وسلات حيث لا تزال بعض الأطلال الرومانية ماثلة (١٥٨). وهنا توجد ينابيع عديدة قرب أراض مزروعة بالخروب. ومن وسلات يجلب ماء الشرب للقيروان ، التي لا تحوي نبعا ولا بئرا صالحا للشرب ، بل بعض الخزانات. غير أن بعض الخزانات القديمة ، تقوم في خارج المدينة وتمتلىء في وقت الأمطار. ولكن ما أن يمضي شهر حزيران (يونية) حتى لا يعثر على ماء فيها لأن الناس يسقون منها حيواناتهم. ويأتي العرب في الصيف ليقيموا حول المدينة ، مما يضاعف من ندرة الماء والقمح ، ولكن وجودهم يؤدي رغم ذلك إلى كثرة اللحم والتمور المجلوبة من موريتانيا ، التي تبعد عن القيروان بمسافة مائة وسبعين ميلا (١٥٩).

ولقد ازدهرت الدراسات الدينية في القيروان في مرحلة من تاريخها ، حتى أن أكثر علماء افريقيا كانوا من خريجيها.

وبعد أن تخربت هذه المدينة على أيدي العرب أخذت في الوقت الحاضر تعمر بالسكان من جديد ، ولكن بصورة بائسة. فلا نرى فيها حاليا سوى صناع فقراء ومعظمهم من دباغي جلود الأغنام والماعز ، الذين يبيعون الثياب الجلدية في مدن نوميديا حيث لا تتوافر الأقمشة الأوروبية. وفضلا عن ذلك يتعرضون لا بتزاز ملك تونس ، وقد أوقعهم ذلك في كرب عظيم كما رأيت ذلك في اثناء رحلة من تونس إلى نوميديا ، حيث كان هناك معسكر ملك تونس في عام ٩٢٢ للهجرة (١٦٠).

مدينة قابس

قابس مدينة كبيرة جدا بناها الرومان على حافة البحر المتوسط في صدر

__________________

ـ بالنسبة للمسلمين مسرح عمليات عسكرية. وسقطت بالرمو تحت سلطتهم سنة ٨٣١ م وأصبحت صقلية تحت حكم نائب ملك أغلبي. ثم أصبحت تابعة للفاطميين. وظهر النورمان الفرنسيون لأول مرة سنة ١٠٣٨ م في جملة النصارى الذين يهاجمون المسلمين وفي ١٠٩١ م أصبح الملك النورماندي السيد الأوحد في الجزيرة.

(١٥٨) أو سلاتوم عند الرومان ، وسمي ممطور عند الفتح العربي ، ويسمى حاليا وسلات.

(١٥٩) ٢٧٢ كم.

(١٦٠) بين ٥ / ٢ / ١٥١٦ الى ٢٣ / ١ / ١٥١٧ م.

٤٦٤

خليج (١٦١). وهي محاطة بأسوار عالية قديمة وكذلك الحال أيضا بالنسبة لقصبتها. ويجري جدول صغير قرب المدينة ، ولكن ماءه حار يكاد يكون مالحا. وقد أدى نهب قابس على ايدي العرب (١٦٢) إلى انحطاطها. وقد أساءوا كثيرا إلى سكانها حتى إنهم هجروها وذهبوا ليعيشوا في خارجها ، أي في حديقة النخيل التي تنتج مقادير عظيمة من التمور. ولا يمكن حفظ هذه التمور على مدى العام ، لأنها تصبح مرة المذاق. ولا شيء آخر ينمو في هذه الأرض ، باستثناء الثمر الذي ينمو تحت الأرض. وله شكل الفجل ، ولكنه صغير كالفول. وعندما يمص تكون له عذوبة اللوز ، ويكون له تقريبا نفس الطعم. ويستهلك في كل المملكة التونسية. ويدعوه العرب حب العزيز (١٦٣).

ولسكان قابس بشرة سوداء اللون ، وهم فلاحون فقراء أو صيادون فقراء ، مرهقون بالأتاوات ، سواء من قبل العرب أو من جانب ملك تونس.

الحامّة

الحامة (١٦٤) مدينة تعود لأوائل العصر القديم ، بناها الرومان في داخل الأراضي ، على مسافة خمسة عشر ميلا (١٦٥) من قابس. وهي محاطة بسور مبني بحجارة كبيرة حسنة النحت للغاية. وحتى اليوم لا تزال تظهر فوق الأبواب لوحات مرمر مع كتابات منقوشة عليها. وبيوتها وشوارعها قبيحة. والسكان فقراء ولصوص. وأراضي المدينة كالحة وجافة : ولا ينبت فيها سوى تمور من نوع غير جيد.

وعلى مسافة ميل ونصف من المدينة ينبجس ينبوع ضخم من ماء شديد الحرارة ، ويؤلف جدولا يخترق المدينة من أوسطها في قنوات عريضة. وتقوم فوق هذه القنوات أبنية ، هي نوع من حجرات منفصلة بعضها عن بعض ، تحت مستوى الأرض. ويتألف بلاط هذه الغرف من قعر القناة. وعندما تدخل في غرفة فإن الماء يصعد الى

__________________

(١٦١) كان اسمها القديم تاكابس ، وكابيس عند العرب الأوائل ، وقابس حاليا.

(١٦٢) الهلاليون.

(١٦٣) وهو نبات جذري له أرومة تؤكل واسمه العلمي Cyperus esculentus ويعتبر مقويا جنسيا.

(١٦٤) «وكانت تدعى في الماضي حامّة مطماطة ، واليوم حامّة قابس. والحامّة معناها النبع المعدني الحار. «وتسمى في بلاد الشام الحمّة كالحمة الواقعة على ضفة اليرموك الشمالية قبيل التقائه بنهر الأردن» (المترجم).

(١٦٥) والحقيقة ١٧ ميلا أو ٢٧ كم.

٤٦٥

سرّتك ، ولكن لا يجرؤ أحد على الدخول فيها لأن الماء مفرط في سخونته. غير أن السكان يشربون هذا الماء. وعندما يريدون أن يشربوه في الصباح يجلبونه في المساء حتى يبرد والعكس بالعكس.

ويتجمع كل هذا الماء ، عند الخروج من المدينة ، إلى الشمال منها ، ويؤلف بحيرة تدعى بحيرة المجذومين. ولها بالفعل خاصية شفاء الجذام والتئام الجروح. ولهذا يقيم عدد كبير من المجذومين حول هذه البحيرة. ولكن عندما يشرب ماؤها يكون له طعم الكبريت ، كما تأكدت من ذلك لمّا تذوقته ، حتى أنه لا يروي من الظمأ.

قصر محرس

محرس (١٦٦) قصر بناه الأفارقة (١٦٧) في زمننا من مدخل خليج قابس. وقد شيّد بقصد حراسة هذا الخليج من هجمات السفن المعادية. ويقع على مسافة خمسين ميلا من جزيرة جربة (١٦٨). ويقوم سكانه بنسج بعض الأقمشة الصوفية. وكثير منهم بحارة وصيادون. ولهم علاقات تجارية مع جزيرة جربة. ويتكلمون جميعا نفس اللهجة الافريقية شأن أهل جربة. وبما أنهم لا يملكون أراض زراعية ، أو أية ملكية زراعية ، فإن الذين لا يعملون في النسيج يعتاشون من مهنة ركوب متن البحر.

جزيرة جربة

جربة جزيرة قريبة من البحر وكلها منبسطة ورملية. وتظهر فيها مزارع لا تحصى من النخيل والكرمة والزيتون وأشجار مثمرة أخرى ، ويبلغ طول محيطها ثمانين ميلا تقريبا (١٦٩). ويعيش سكانها في مداشر تتبعثر فيها البيوت ، ولكل مزرعة بيتها الذي تسكنه عائلة واحدة منعزلة. ولكن رغم هذا توجد بعض الدساكر ذات المساكن

__________________

(١٦٦) المحرس ، ومعناها الذي يقوم بوظيفة الحراسة.

(١٦٧) «المقصود بالأفارقة عند المؤلف البربر او سكان افريقيا الأصليون» (المترجم)

(١٦٨) وهي مسافة صحيحة عن طريق البحر. والواقع هناك مسافة ٤٥ ميلا بحريا بين المحرس والساحل الشمالي الغربي لجزيرة جربة.

(١٦٩) ١٢٨ كم ، مع متابعة التعرجات الساحلية.

٤٦٦

المتجمعة. والتربة هنا هزيلة ، ولهذا يجب العكوف على خدمتها وريّها بماء ينتح من أبار عميقة كي يمكن زراعة قليل من الشعير فيها. وينجم عن ذلك ندرة شديدة في الغلة ، وهذا يؤدي الى ارتفاع سعرها حتى إن الكيل يساوي فيها دائما ست دوبلات (١٧٠) وأحيانا أكثر. واللحم كذلك غال جدا.

وتقوم في الجزيرة قلعة شيدت على حافة البحر حيث يقيم الحاكم وأسرته. وبجوار القلعة توجد قرية ضخمه يقيم فيها التجار الغرباء ، من مسلمين ونصارى. ويقام في هذه القرية سوق مرة كل أسبوع. وهو يشبه معرضا لأن كل سكان الجزيرة يتجمّعون فيه ويقصده الكثير من العرب كذلك من البر وهم يقودون ماشيتهم ويجلبون إليه كمية كبيرة من الصوف (١٧١). ويعيش معظم سكان الجزيرة من تجارة الأقمشة الصوفية التي تصنع في الجزيرة نفسها. وهم ينقلونها إلى تونس وإلى الاسكندرية ، ويصدرون كذلك الزبيب.

ولقد هوجمت هذه الجزيرة قبل خمسين عاما تقريبا من اسطول نصراني احتلها ونهبها ، ولكن ملك تونس استردها بعد قليل واعاد إعمارها بالسكان من جديد. وحينئذ بنيت فيها القلعة ، إذ لم يكن فيها في الماضي سوى المداشر (١٧٢).

وكانت جربة تحكم باستمرار باسم ملك تونس ، ويتولى الحكم فيها باسمه رئيسا الحزبين اللذين تنتمي اليهما مجموعة سكان الجزيرة. وكان الملك يرسل اليها كذلك قاضيا وجابيا (١٧٣).

وعلى اثر موت الملك عثمان (١٧٤) طالبت الجزيرة بحريتها ، نظرا لضعف سلطة الذين خلفوه ، وسارعوا الى قطع الجسر الذي كان يربط الجزيرة بالبر ، خوفا من قدوم القوات عن طريق البر ، وعمد أحد الرئيسين لقتل وجهاء الحزب الآخر. وبذلك

__________________

(١٧٠) «عملة ايطالية قديمة من أجزاء الدوكا ، أي الدينار الايطالي» (المترجم)

(١٧١) ويقصد بها بلدة حومة السوق. أما القلعة المقصودة فقد تلاشت ، وليست هي كشتيل الموجودة في الجنوب.

(١٧٢) لقد كانت هذه الحملة بقيادة الفونس الخامس ملك آرغون ، ملك ايطاليا الاسبانية. وقد وقعت في آخر آب (اغسطس) ومطلع ايلول (سبتمبر) من عام ١٤٣٢ م. وجاء السلطان ابو فارس شخصيا لنجدة الجزيرة.

(١٧٣) منذ بداية دخول الجزيرة في الاسلام واعتناق اهلها هذا الدين ، انحاز سكانها للمذهب الخارجى من الفرع الإباضي وانقسموا الى مذهبين فرعيين متنافسين هما المذهب الوهبي والمذهب النكاري.

(١٧٤) توفي ابو عمرو عثمان في بداية شهر ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م.

٤٦٧

ظل وحده أميرا على الجزيرة وخلفه أقرباؤه من بعده ، وظلت الجزيرة تحت إمرتهم حتى يومنا هذا.

وتنتج جربة عشرين ألف دوبل من رسوم الجمرك والدخولية ، بسبب التجارة الكبيرة التي تمارس فيها ، إذ يقصدها الكثير من تجار الاسكندرية وتونس والأتراك. ولكن الناس الذين يسيطرون على الحكم فيها يلجأوون إلى أشد أنواع الغدر : فالابن يقتل أباه ، والأخ يفتك بأخيه كي يحصل على الزعامة ، حتى لقد قتل فيها ستة امراء في فترة خمس عشرة سنة.

وفي أيامنا أرسل فرديناند ملك أسبانيا الى جربة اسطولا كبيرا بقيادة دوق دالب. ولما كان هذا لا يعرف شيئا عن الجزيرة ، أنزل قواته على مسافة بضعة أميال من الساحل. وقد دافع المسلمون ببسالة عن الجزيرة ، واضطر الأسبان للقتال متقهقرين. وقد عانوا مشقة شديدة من الحر اللاهب ومن العطش إذ لم يجدوا ماء للشرب. وقد نزلوا في وقت المدّ : وعند عودتهم كان البحر بحالة الجزر ، وانسحبت المراكب مع موجة الجزر كيلا ترسو على القاع حتى لقد كان هناك أربعة آلاف من الغرقى بسبب انحسار البحر. وقد أضيف هؤلاء الى الجنود الأسبان الذين كانوا منهكين ورأوا أنفسهم في خطر جعلهم يهربون بحالة فوضى نحو سفنهم ، وكان يطاردهم الفرسان المسلمون. وقد قتل معظمهم او سقطوا فى الأسر. ولم يتمكن من العودة الى صقلية مع الأسطول سوى القليل منهم (١٧٥). وبعدئذ ، وفي زمن صاحب الجلالة القيصرية الامبراطورية شارل ، أرسل أسطولا آخر إلى جربة بأمر منه ، تحت قيادة دون نوفو ، فارس ورئيس دير من طائفة القديس يوحنا في مدينة مسينا. وقد استطاع هذا الأخير بفضل يقظته ومهارته وبدون الاشتباك في معركة ان يحظى بخضوع المسلمين الذين تعهدوا بدفع جزية معينة لصاحب الجلالة القيصرية الامبراطور واوفدوا سفراء وصلوا المانيا لتوثيق الاتفاقيات التي عقدوها مع القائد دون نوفو. وقد

__________________

(١٧٥) قرر الكونت ببارنا فارو بعد استيلائه على طرابلس في ٢٥ تموز (يولية) ١٥١٠ م أن يقوم بمحاولة ضد جزيرة جربة. وفي يوم الجمعة ٣٠ اب (اغسطس) عند الفجر نزل فيها ١٢٠٠٠ رجل قادمين من طرابلس و ٣٠٠٠ من بجاية ، وكان بينهم ولدا دوق دالب ، وقد قتل أحدهما وهو غارسيا دو طليطلة بصورة بطولية في المعركة. وبلغت الحسائر ١٥٠٠ رجل منهم ١٠٠٠ ماتوا عطشا ، أو على الأصح بضربة الشمس ، وسقط ٥٠٠ بين قتيل وجريح. وعادت القوات الباقية في المساء ، وفي صبيحة اليوم التالي عاد الاسطول الى طرابلس.

٤٦٨

وقع عليها الامبراطور وأمر بأن تدفع الجزيرة كل سنة خمسة آلاف دوبل لنائب الملك في صقلية ، ولا زالت هذه المعاهدة نافذة المفعول (١٧٦).

مدينة زاورة

زوارة مدينة صغيرة بناها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط على مسافة خمسين ميلا من جربة الى الشرق (١٧٧) وهي محاطة بأسوار قبيحة وضعيفة ويسكنها فقراء الناس الذين لا يعيشون إلا من صنع الكلس والجص ومن نقلهما الى طرابلس. وليس لديهم أراض زراعية ويعيشون في فزع دائم من ان يهاجمهم قراصنة النصارى ، لا سيما بعد ان سقطت طرابلس.

لبدة

بنيت هذه المدينة من قبل الرومان. وهي محاطة بأسوار عالية من حجارة ضخمة. ولقد تخربت في الماضي ، غير أنها عادت فأعمرت بالسكان عندما جاءت الجيوش الاسلامية وظلت كذلك حتى زحف الاعراب عليها ، وحينئذ تخربت مرة أخرى وآلت إلى الحالة التي نراها عليها اليوم. وقد استخدمت حجارتها وأعمدتها لبناء طرابلس (١٧٨).

طرابلس القديمة (١٧٩)

وهي مدينة قديمة بناها الرومان (١٨٠) وبعدئذ حكمها القوط (١٨١) ، ثم اقتحمها

__________________

(١٧٦) تعوزنا المعلومات عن هذه الأحداث.

(١٧٧) المسافة بين جربة وزوارة بطريق البحر ٧٠ ميلا بحريا والميل البحري ١٨٥٢ م.

(١٧٨) والمقصود بها لبتيس ماغنا الرومانية ، والتي تحمل أطلالها عند العرب اسم لبدة. وتقع على مسافة ٢٤٠ كم الى الشرق من زواره و ١٢٣ فيما وراء طرابلس. والمؤلف الذي لا يعرف البلاد الواقعة بين قابس ومصر الّا من خلال بعض المحطات التي توقف فيها على طول الساحل فى رحلته البحرية من مصر الى جربة ، سيبدو في العرض الذي سيقدمه عن هذه المناطق بعض مظاهر الاضطراب والخطأ في الترتيب.

(١٧٩) صبراته.

(١٨٠) وهي صبراته كولونيا لدى الرومان. وصبرة عند العرب ، قرب زواغة.

(١٨١) أى الفندال.

٤٦٩

المسلمون واحتلوها في عهد عمر ، الخليفة الثاني ، وقد حوصر الدوق القوطي فيها خلال ستة أشهر واضطر الى الفرار الى قرطاج. فتعرضت المدينة للنهب وقتل سكانها او اقتيدوا أسرى الى مصر والى شبه جزيرة العرب ، وذلك استنادا الى ما يرويه المؤرخ ابن رقيق (١٨٢).

طرابلس بلاد البربر

بنيت طرابلس على أيدي الأفارقة على اثر خراب طرابلس القديمة (١٨٣) وهي مطوّقة بأسوار عالية جميلة ، ولكنها ليست قوية كثيرا. وتقع في سهل رملي مزروع بالعديد من النخيل. وبيوتها جميلة بالقياس الى بيوت تونس ، وأسواقها منسقة ، مع انفصال في جماعات المهن ، ولا سيما فيما يختص بالحاكة. وليس فيها موارد ماء ، ولا آبار ، ولا شيء سوى الخزانات ، وندرة الحبوب فيها شديدة لأن كل أريافها عبارة عن رمل ، مثل أرياف نوميديا. والسبب في ذلك أن البحر المتوسط يتوغل في هذه المناطق بعيدا نحو الجنوب ، حتى إن الأمكنة التي كان يجب أن تكون قديما (١٨٤) سميكة وخصيبة ، أصبحت مغطاة بالمياه. ويقول سكان هذه البلاد انه كانت في قديم الزمن رقعة كبيرة من الأراضي تتقدم بعيدا كثيرا في اتجاه الشمال ، ولكن تغطت مع توالي العصور بالمياه بسبب توغل البحر المستمر وانتقاصه الأرض من أطرافها ، كما يظهر الآن فوق سواحل المنستير والمهدية وصفاقس وقابس وجزيرة جربة والمدن الأخرى الواقعة الى الشرق حيث لا يكون البحر عميقا ، حتى ليستطيع الشخص أن يدخل فيه ، ولا يصل الماء إلى أكثر من سرته. فهم يقولون ان هذه الأمكنة كانت أرضا ثم غطاها البحر منذ زمن سحيق. ويقولون فيما يتعلق بطرابلس التي نتحدث عنها إن المدينة كانت تمتد لأكثر من

__________________

(١٨٢) لقد ضاع كتاب ابن رقيق مع الاسف ، ولكن من المؤكد ان المؤلف يقع هنا في ارتباك ، فطرابلس هي التي حاصرها عمرو بن العاص سنة ٦٤٢ م. وبعد سقوط طرابلس دخلت فصيلة من قوات عمرو الى صبراته بدون قتال.

(١٨٣) كانت المستعمرة الرومانية أويا ، ومستعمرة صبراته ، ومستعمرة لبتس ، كانت هذه البلاد تؤلف في القديم منطقة اتخذت اسما يونانيا هو تريبوليس ، اي المدن الثلاث ، وظل هذا الاسم للعاصمة أويا ، ثم حرّف الى أطرابلس عند العرت. وتريبولي في اللغات الرومانية. [أي اللغات المنشعبة عن اللاتينيةLes Langues Romanes ـ المراجع].

(١٨٤) صفحة ٨٥ من مخطوط الحسن الوزاني ، وهي الصفحة الواقعة عند هذه الجملة من المخطوط ، مفقودة ، وقد اثبتنا هنا ما تحويه هذه الصفحة استنادا الى ما يقابلها من ترجمة تامبورال ، وذلك حتى كلمة «التماسا للسلامة» في آخر الفقرة التالية.

٤٧٠

ذلك في اتجاه الشمال ، ولكن أثر البحر التقويضي جعل المدينة تتقهقر دائما نحو الجنوب ، وحتى في الوقت الحاضر تظهر بيوت وابنية محتجبة تحت الماء. وقد كان في هذه المدينة قديما جوامع كثيرة وعدة مدارس ومستشفيات لسكنى الفقراء والغرباء. ويستعمل السكان لحما (١٨٥) رديئا جدا ، مصنوعا من بازين الشعير ، لأن الأقوات التي تجلب الى المدينة لا تكفي مطلقا لمعيشة يوم واحد فقط ، ويعتبر الفلاح غنيا إذا استطاع أن يدخر صاعا من الحب او اثنين لمؤونته. غير انهم ينصرفون كثيرا للتجارة لأن المدينة قريبة من نوميديا ومن تونس ، دون أن يمنع ذلك من ذهابهم بعيدا حتى الاسكندرية. كما أن طرابلس قريبة ايضا من مالطة ومن صقلية. وكان من عادة سفن البنادقة في الماضي ان ترسو فيها وتقوم بتجارة كبيرة مع تجارها ومع الذين يقصدونها كل سنة بسبب وجود هذه المراكب.

وقد كانت هذه المدينة دوما تحت وصاية ملك تونس ، فيما عدا الفترة التي جاء فيها أبو الحسن ملك فاس وضرب معسكره بجوار تونس ، فاضطر الملك للإلتجاء الى صحارى العرب التماسا للسلامة.

ولكن ملك تونس (١٨٦) استرد سلطته بعد أن ألحق الهزيمة بأبي الحسن وقضى على جيشه ، وثارت تونس في هذه الفترة واستمرت الثورة خمسة اعوام إلى أن قام ملك فاس ابو عنان بحملة على مملكة تونس (١٨٧) ونهض ملك تونس الذي كان يدعى ابا العباس لملاقاته واشتبك الجيشان فانكسر ملك تونس الذي اضطر الى الالتجاء الى قسنطينة. وتقدم ملك فاس وضرب معسكره أمام هذه المدينة وهاجمها بعنف جعل السكان يعجزون عن المقاومة وفتحوا الأبواب. وألقي القبض على ملك تونس وأقتيد أسيرا إلى فاس ، ثم اعتقل في قلعة سبتة (١٨٨).

__________________

(١٨٥) وربما المقصود غذاء.

(١٨٦) في نيسان (ابريل) ١٣٤٨ م استطاع العرب المتمردون القضاء على الجيش المريني قرب القيروان. واستطاع السلطان أبو الحسن ان يتماسك أيضا في تونس في وضع وقتي حتى كانون الاول (ديسمبر) ١٣٤٩ م ، وبعدئذ اضطر للهرب الى المغرب حيث حارب بلا طائل ضد ولده أبي عنان فارس الذي وثب على السلطة وذلك في الوقت الذي كانت المملكة الحفصية هدف منافسات مضطربة.

(١٨٧) في عام ١٣٥٢ م على التحديد ابتدأ أبو عنان حملة / ضد / المملكة الحفصية التي كانت في هذه الاثناء منقسمة بين ثلاثة ملوك ؛ احدهم في بجاية ، والثاني في قسنطينة ، والثالث في تونس.

(١٨٨) كان ابو العباس احمد في الحقيقة سلطان قسنطينة ، في حين ان سلطان تونس كان عمه ابو اسحق ابراهيم. ـ

٤٧١

وبينما كان ملك فاس يقود ملك تونس الى الأسر ، تعرضت طرابلس لهجوم أسطول مؤلف من عشرين سفينة جنوية ، استطاعت بعد معركة طاحنة ان تجتاح المدينة وأن تنهبها وأخذوا كل سكانها أسرى. وفي الحال كتب هلال بن ميمون ، الذي كان حينذاك نائب الملك أبي عنان في تونس يخبره بما حدث وأنه تفاهم مع الجنويين على أن يدفع لهم خمسين ألف دينار. وبعد أن تمّ دفع المبلغ أخلى الجنويون المدينة وأطلقوا سراح السجناء ، ولكنهم وجدوا بعد رحيلهم أن نصف الدنانير كانت مزوّرة (١٨٩).

وبعد ذلك أطلق أبو سليم ، ملك فاس ، سراح ملك تونس ، بسبب صلة قرابة كانت بينهما ، واسترد السلطة (١٩٠).

وهكذا عادت طرابلس أيضا تحت سلطة ملك تونس. واستمر هذا حتى زمن الأمير ابي بكر ، إبن ملك تونس عثمان. وقد قتل أبو بكر في قلعة طرابلس مع أحد أبنائه بأمر من يحيى ، ابن أخ لهذا الأمير. وقد قتل هذا ، أي يحيى ، بعدئذ في اثناء معركة مع ابن عمه عبد المؤمن الذي انتزع منه المملكة واحتفظ بها حتى موته. وخلفه

__________________

ـ شهرآب (اغسطس) ١٣٥٧ م فقط تمكن السلطان المريني ابو عنان من احتلال قسنطينة. ولما استسلم ابو العباس سجن في سبتة. وبعد ذلك بقليل اسطاعت القوات البرية والأسطول أن تحتل تونس بينما التجأ السلطان ابو اسحق الى العرب.

ولكنه عاد الى تونس في نهاية عام ١٣٥٧ م. ولما سئم السلطان ابو عنان من ضروب المقاومة التي لاقاها في كل معاركه والتي ثبطت همة قواته التي تشتتت ، قرر العودة الى فاس

(١٨٩) بتاريخ الثاني من نيسان (ابريل) ١٣٥٥ م باغت القائد الجنوي فيليب دوريا طرابلس على رأس خمس عشرة سفينة حربية فاحتل المدينة على حين غرة وكان يحكمها حينئذ أمير صغير محلي. وقد غادر المدينة في ٢٢ أب (اغسطس) ١٣٥٥ واقتاد معه سبع آلاف أسير وغنائم ضخمة ، بعد أن قبض تعويضا حربيا بالغا ، ساهم فيه سلطان فاس المريني الذي لم يكن يحكم بلاد تونس في تلك الفترة ـ بمبلغ خمسين ألف دينار ذهب نقدا. ويقول لنا ابن جزى ، منشىء «رحلة ابن بطوطة» ـ وقد كتب ذلك بعد ثلاثة اشهر من وقوع هذه الاحداث ـ يقول أن أبا عنان أعطى الأمر لخدامه ، اي عمالّه ، في مدن افريقيا ، ان يقوموا بافتداء طرابلس ، قائلا : «الحمد لله الذي انقذ طرابلس من ايدي الكفار مقابل هذا المبلغ الزهيد» ، بعد ان علم بنتيجة هذه المفاوضات ، وقد أرسل مبلغ الخمسين الف دينار ، أو ما يعادل خمسة قناطير ، أو ٥٠٠ رطل مريني من القطع الذهبية ، الى افريقية. ويمتدح ابن جزي اريحية السلطان العظيمة وفضله ، ولكن يغفل الكلام عن حيلة القطع النقدية المزيفة.

(١٩٠) بينما كان السلطان ابو عنان في النزع الاخير اجهز عليه وزيره الأول بتاريخ ٣ كانون الاول (ديسمبر) ١٣٥٨ م.

وفي تموز (يولية) ١٣٥٩ تمكّن اخوه اخو سليم ابراهيم من الحصول على مبايعته ملكا في فاس. وفي آب (اغسطس) ١٣٦٠ اطلق سراح الملك الحفصي أبي العباس احمد ، المعتقل في سبتة ، واسترد هذا حكمه المستقل في قسنطينة. أمّا سلطان تونس ، أبو اسحق ابراهيم ، فقد توفي فجأة في ١٩ شباط (فبراير) ١٤٦٩ م وقام ابن اخيه ابو العباس احمد باحتلال تونس بتاريخ ٩ تشرين الثاني (يناير) ١٣٧٠ وظل حاكم المملكة الأوحد.

٤٧٢

زكريا ابن الملك يحيى وهلك بالطاعون بعد بضعة اشهر. وحينئذ انتخب شعب تونس وكبراؤه محمد ، ابن الحسن وابن عم زكريا ، ورفعوه إلى سدة العرش. ولكن محمد بعد أن وصل الى هذا المنصب السامي تملكته العجرفة مع نوع من استبداد جعل شعب طرابلس يطرد حاكمه والموظفين الملكيين ويختار أحد أبناء المدينة أميرا ، ووضع تحت تصرفه كل العوائد وخزينة طرابلس. وقد حكم هذا الرجل المدينة بتواضع كبير (١٩١).

ولكي يثأر ملك تونس من هذا التمرد ، أرسل الى طرابلس جيشا كبيرا بقيادة نائبه. ولكن هذا القائد مات مسموما بفعل العرب وبتحريض من أهل طرابلس ، وحينئذ تفرق الجيش. ولكنه حدث أن أمير طرابلس هذا ، الذي بدا في أول أمره متواضعا ، راح يمارس سلطة طاغية ، فقتله صهره. وحينئذ أجبر الشعب أحد شخصيات حاشية الأمير أبي بكر ، الذي كان قد اعتزل متنسكا ، على استلام إمارة طرابلس ، فاحتفظ بها بضعة أشهر إلى أن أرسل الملك الكاثوليكي فرديناند أسطولا ضد طرابلس بقيادة الكونت بيير نافارو. ووصل هذا الأسطول في إحدى الليالي على حين غرة أمام طرابلس. وفي اليوم التالي أخذ المدينة وسقط كل أهلها أسرى. وأقتيد الأمير وأحد أصهاره إلى مسيّنا حيث أمضوا في السجن بضع سنين ، ثم نقلوا الى بالرمو وهناك اعاد الامبراطور شارل لهما حريتهما. وعادا الى طرابلس بمحض ارادتهما. وكانت هذه المدينة قد تخربت على أيدي النصارى بعد سقوطها. وقاما فعلا بتحصين القلعة بسور متين مع تجهيزه بمدفعية ضخمة كما رأينا ذلك في عام ١٥١٨ م. واستنادا الى ما سمعته منذ وقت قريب ، فإن الأمير راح يعمرها بالسكان بإذن من القيصر شارلكان (١٩٢).

__________________

(١٩١) على اثر موت سلطان تونس عثمان في ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م تقلد السلطة خلفه الذي اوصى به ، وهو حفيده ابو زكريا يحيى ، حاكم قسنطينة. ولما حاول احد أبناء عثمان وهو ابو بكر ، الذي كان يحكم حينذاك طرابلس ، حاول ان يثير أحقيته بالملك ، قتله ابن اخيه. وقد قتل السلطان يحيى في معركة شنها عليه ابن عمه عبد المؤمن في حزيران (يونيه) ١٤٨٩ م ، ونودي بهذا الاخير سلطانا ثم طرد من تونس في ١٣ تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٩٠ م وهرب ثم مات في السجن بلا ريب. وبعد أن أستولى أبو يحيى ، وهو أبو يحيى زكريا ، على تونس ، تقلد منصب ملك. ومات من الطاعون في ١٥ ايار (مايو) ١٤٩٤ م. وقد خلفه ابن عمه ابو عبد الله محمد ابن الحسن وحكم حتى ٩ شباط (فبراير) ١٥٢٦ م.

(١٩٢) بعد ان احتل الكونت بيير نافارو بجاية في ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٩ م راح يحارب في اثناء عدة اشهر حول المدينة الى ان ظهر الطاعون. فقرر حينئذ حملة على طرابلس ، وقاد خمسة عشر ألف رجل وقصد صقلية طلبا للمؤونة ـ

٤٧٣

وهذا هو كل ما استطعت أن أذكره عن مدن مملكة تونس.

جبال دولة بجاية

تتألف كل دولة بجاية تقريبا من جبال عالية وعرة حيث يوجد الكثير من الغابات والعيون. وتسكن هذه الجبال قبائل عريقة غنية كريمة ، تملك عددا كبيرا من الماعز ومن الثيران والخيل. وقد عاشت دائما تقريبا في حرية ، ولا سيما بعد أن سقطت بجاية بأيدي النصارى (١٩٣). ويحمل كل الناس تقريبا في هذه البلاد وشما في صورة صليب على الخد ، حسب العادة القديمة التي اشرنا اليها من قبل. وغذاؤهم الرئيسي خبز الشعير. ولديهم كمية كبيرة من أشجار الجوز والتين التي تكثر على الخصوص في الجبال المحاذية للبحر والمسماة جبل زواوة (١٩٤). وتوجد في هذه الجبال مناجم حديد. ويصنع من هذا الحديد سبائك صغيرة من وزن نصف رطل (١٩٥) تستخدم عملة. كما تضرب النقود الفضية من وزن أربع حبات (١٩٦). وينبت هنا الكثير من الكتان والقنب. وتصنع منه كمية كبيرة من الاقمشة الكتانية ، وكلها غليظة خشنة.

وأهل هذه البلاد يتصفون بالغيرة. وهم أقوياء البنية ومحبون لعمل الخير. وكلهم تقريبا من ذوي الهندام الحسن.

وتمتد دولة بجاية هذه في قسمها الجبلي ، على طول البحر المتوسط على مسافة مائة

__________________

ـ ووصل أسطوله المؤلف من خمسين سفينة في ٢٤ تموز (يوليه) تجاه ساحل طرابلس الى ان سقطت في ٢٥ تموز (يوليو) بعد مقاومة ضارية جدا لان الناس الذين كان لهم علم بذلك منذ زمن طويل كانوا بحالة اهبة للدفاع. وكانت الخسائر جسيمة وهدمت المدينة انتقاما. وعادت للإعمار بالسكان عند ما عاد اليها حاكمها السابق المسلم. وبعد ان انتزع الأتراك رودس في ١٥٢٣ م من فرسان نظام القديس يوحنا ، أعطاهم الامبراطور شارلكان جزيرة مالطة وفي ١٥٢٨ م عهد اليهم بطرابلس حيث اصبح احد فرسانهم حاكما عليها. وقد انقذ القائد التركي سنان باشا طرابلس من أيدي أتباع نظام القديس يوحنا بتاريخ ٤ آب (اغسطس) ١٥٥١ م رغم الدفاع المستميت الذي قام به القائد العام في هذه المدينة وهو الفارس الفرنسي دوكامبري.

(١٩٣) «المقصود هنا هو انهم لم يكونوا ملتزمين بدفع الضرائب لا سيما بعد ان سقطت عاصمة المنطقة بأيدي الاسبان» (المترجم)

(١٩٤) جبال زواوة هي جبال القبائل الكبرى حاليا إلى الغرب من بجاية. ويعتبر السكان البربر القائليون أنفسهم من زواوة.

(١٩٥) حوالي ١٧٥ غرام.

(١٩٦) ٢٠ غرام.

٤٧٤

وخمسين ميلا وعلى عمق اربعين ميلا (١٩٧). وتسكن كل جبل من هذه الجبال قبيلة تختلف عن التي تسكن جبلا آخر. ولكن لا توجد اختلافات فيما بينها في أسلوب الحياة. ولهذا سأغفل الكلام عنها.

جبال الأوراس

وهي كتلة جبلية عالية جدا يسكنها قوم على ذكاء محدود ، وهم فضلا عن ذلك لصوص وقتلة.

وتقع الأوراس على مسافة ثمانين ميلا من بجاية وستين ميلا من قسنطينة (١٩٨) وتنفصل عن الجبال الأخرى وتمتد على طول ستين ميلا. وتتاخم من الجنوب نوميديا ، ومن الشمال أراضي مسيلة وستيف ونغاوس وقسنطينة (١٩٩). ويتولد فوق المرتفعات العديد من العيون التي ينساح ماؤها في السهل وتتكون منها بعض أنواع المستنقعات. وعند ما يصبح الطقس حارا تتحول هذه المستنقعات الى ملاحات.

ولا يستطيع أي انسان أن يقيم علاقات مع سكان اوراس الجبليين ، لأنهم لا يريدون أن تكون المداخل إلى جبلهم معروفة خوفا من أعدائهم العرب ومن الأمراء المجاورين.

جبال دولة قسنطينة

تمتلىء المنطقة الوافعة شمال وغرب قسنطينة بعدد غير محدود من جبال تتاخم بجاية وتمتد على طول البحر المتوسط حتى قرب عنابة ، أي على طول مقداره مائة ميل تقريبا (٢٠٠). وكل هذه الجبال وفيرة الانتاج ، لأن الأراضي المزروعة الموجودة فيما

__________________

(١٩٧) اذن كانت تضم السفح الشرقي لجبال القبائل الكبرى وكل جبال القبائل الصغرى او قبائل بابور. على مسافة ٢٣٠ كم.

(١٩٨) في الحقيقة ١٦٠ ميلا او ٢٥٦ كم عن بجاية و ٨٠ ميلا او ١٢٨ كم عن قسنطينة.

(١٩٩) في الحقيقة لا تمتد كتلة اوراس الجبلية بحد ذاتها الا من شمال بسكرة حتى الجنوب من خنشلة ، وتمتد في الواقع على مسافة ٦٠ ميلا. ولكن المؤلف يحددها إلى جنوب نغاوس وستيف ومسيلة ، اي يجب قراءة هذا الرقم ١٦٠ ميلا أو ٢٠٦ كم.

(٢٠٠) أي حوالي ٢١٠ كم ، أي من جنوب جيجل حتى أدوغ تقريبا ، والتي تشكل جزءا من جبال عنابة.

٤٧٥

بينها تقع في السهل ، وهي كثيرة الخصب ، حتى إنها لتمون كل المدن المجاورة مثل قسنطينة والقالة وجيجل وكذلك العرب أيضا.

وسكان هذه الجبال أكثر حضارة من أهل جبال بجاية ويمارسون مختلف المهن ويصنعون على الخصوص كمية من أقمشة الكتان.

ومن عادة نساء هذه البلاد الهرب الى جبل آخر حينما لا يعجبهن أزواجهن. وتترك المرأة الهاربة أولادها. واذا كان الجبل الذي تقصده معاديا لجبل زوجها ، تتزوج من جديد. ومن هذا تنشب النزاعات. ولكن يتوصل أحيانا الى تفاهم ، سواء عن طريق التعويض المادي ، او بطريقة من طرق المقايضة ، كأن يعطي الرجل التي استقبل الهاربة إحدى بناته او إحدى أخواته للرجل الذي هربت زوجته منه.

وسكان هذه المنطقة أغنياء جدا لأنهم لا يدفعون اية ضريبة. ولكنهم لا يستطيعون مزاولة التجارة لا في السهل خوفا من العرب ، ولا في المدن خوفا من الأمراء. فيقيمون كل أسبوع سوقا في ايام مختلفة ، يقصده تجار من قسنطينة ومن القالة. ويجب ان يكون لكل من هؤلاء التجار صديق يقوم بدور كفيل ، إذ بدون ذلك لا يستطيع أحد أن ينصفهم إذا تعرضوا للغش.

ولا يوجد هنا قضاة ولا أئمة ، ولا أي شخص يعرف القراءة. وإذا احتاج احد لقراءة رسالة ، فعليه ان يبحث عن قارىء على مسافة اثنى عشرة او خمسة عشرة ميلا.

وفي هذه الجبال نحو أربعين الف فارس. ولو كان هؤلاء الناس متحدين جيدا لاستطاعوا بسهولة السيطرة على كل افريقيا لأنهم على غاية من الإقدام.

جبال عنابة

تحوي عنابة ، المحفوفة من الشمال بالبحر ، بعض الجبال في غربها ، وفي جنوبها. وهي متصلة بجبال قسنطنية. ولكن توجد إلى الشرق جبال ، على شكل تلال ، مغطاة بأراض صالحة للزراعة. وكانت تضم في الماضي بضع مدن وعددا من القصور التي بناها الرومان ، ولكن لم يبق منها الآن الا أطلال لا يعرف أحد اسم أي منها.

والمناطق الصالحة للزراعة غير مسكونة بسبب العرب ، باستثناء منطقة صغيرة

٤٧٦

تزرعها بعض القبائل التي تعيش في الأرياف والذين ثبتوا فيها بقوة السلاح على الرغم من العرب.

وتمتد هذه التلال على طول يقارب ثمانين ميلا (٢٠١) من الشرق الى الغرب ، أي من جوار عنابة حتى باجة وعلى عرض ثلاثين ميلا (٢٠٢). ويوجد في هذه الجبال عدد من الينابيع تتولد عنها أنهار تخترق السهل الواقع بين هذه الكتلة الجبلية وبين البحر المتوسط.

الجبال المجاورة لتونس

تونس واقعة في السهل ، ولا يوجد في جوارها مباشرة جبال سوى بعض مرتفعات صخرية تتقدم فى البحر الى الغرب ، كالجبل الذي تقوم فوقه قرطاج (٢٠٣). غير أنه يوجد جبل عال جدا وكثير البرودة يقع على مسافة ثلاثين ميلا الى الجنوب الشرقي من تونس (٢٠٤) ويدعي جبل زغوان ، ولكنه غير مأهول. ولكن تظهر فيه مع ذلك بعض أكواخ الفلاحين الذين ينصرفون لتربية النحل ويزرعون القليل من الشعير. وفي العصر القديم ، وعندما كان الرومان يحكمون افريقيا كان جبل زغوان مأهولا. فقد بنوا فوق قمته ، وعلى سفوحه ، وعند حضيضه قصورا عديدة وقرى تبدو اليوم مهدّمة تماما. ونجد بين هذه الآثار القديمة الكثيرة للغاية ، العديد من الكتابات باللغة اللاتينية. وقد رأيتها بنفسي كما أن عددا منها قرئي لي وترجم بواسطة نصراني اعتنق الاسلام وهو صقلي الأصل. وفي ذلك العصر تمّ جر المياه من زغوان حتى قرطاج ولا تزال القناة ظاهرة حتى الآن.

جبال بني يفرن ونفوسة

هذه الجبال منعزلة بواسطة الصحراء ، وواقعة على مسافة ثلاثين ميلا (٢٠٥) من

__________________

(٢٠١) ١٣٠ كم.

(٢٠٢) ٥٠ كم.

(٢٠٣) «الحقيقة هي أن هذا الجبل عبارة عن نشز بسيط من الأرض لا يرتفع اكثر من ٢٥ مترا عن مستوى البحر» (المترجم)

(٢٠٤) هو جبل زغوان.

(٢٠٥) ٥٠ كم.

٤٧٧

جربة ومن صفاقس. وهي عالية وباردة ، ولا ينبت فيها القمح. وينبت فيها شيء يسير من الشعير ، مما لا يكفي لاستهلاك نصف العام. وسكان هذه الجبال شجعان حقا. ولكنهم يعتبرون من ناحية العقيدة مارقين في نظر المسلمين من مذهب خلفاء القيروان. وقد عزف الناس في مختلف اقطار افريقيا عن هذه العقائد المارقة باستثناء هؤلاء الجبليين. ولهذا يذهبون الى ضواحي تونس وللمدن الأخرى حيث يمارسون المهن الحقيرة كي يكسبوا قوتهم ، ولا يجرؤون على الجهر بمعتقداتهم ، خوفا من عقاب المفتشين (٢٠٦).

جبال غريان

غريان جبل عال وبارد ، يبلغ طوله أربعين ميلا وعرضه خمسة عشر ميلا (٢٠٧)

__________________

(٢٠٦) وهنا يضم المؤلف تحت اسم جبال نفوسة جبال مطماطة الحالية في جنوب غرب قابس وجبل نفوسة ذاته من منطقة طرابلس. والمارقون المقصودون هنا هم الخوارج من المذهبين الأباضي والوهبي. واستنادا الى اقوال ابن حوقل أنه بعد معركة النهروان ، سنة ٦٥٨ م ، حيث سحق الخليقة على بن أبي طالب عصابة مسلّحة مؤلفة من ألف وخمسمائة خارجي ، التجأ اثنان من زعمائهم وهما عبد الله بن أباض وعبد الله بن وهب الى جبل نفوسة قبل عام ٦٦١ م وماتا فيه. وكان بعض الذين نجوا من النهروان بصحبتهما. وبعد ذلك أصبح جبل نفوسة وكل جنوب بلاد البربر عبارة عن مكان لجوء للخوارج الشرقيين من مختلف المذاهب ، وقد ظل الحلفاء السنّيون يطاردونهم. والحقيقة هي أن هؤلاء الخوارج هم الذين نشروا الاسلام في كل بلاد البربر باستثناء المدن والمناطق التي استطاع الفتح العربي أن يوحدها وأن يقيم فيها ادارة مدنية وعسكرية كافية. وظل جبل نفوسة وجزيرة جربة ومنطقة وادي المزاب في الجنوب الجزائري موطن الخوارج من المذهبين الأباضي والوهبي. ولا نعرف شيئا عن التفتيش الاسلامي في القرن السادس عشر ، ولكن في أيامنا ظل الاسلام السنى والاسلام الخارجي متفاهمين عمليا رغم بقاء كل منهما مصرّا على مواقفه العقائدية. وكان خلفاء القيروان يتبعون المذهب الشيعي (الاسماعيلي) ، والذي كان له نزاعات خطيرة مع الخوارج في بلاد البربر. «ويشبه المؤلف هنا مواقف المسلمين من أشياع السنة من الخوارج كموقف النصارى من مسلمي الاندلس بعد سقوطه بأيديهم والذين لاقوا الأهوال من محاكم التفتيش الاسبانية الرهيبة ، وهذا لم يحدث مطلقا لأن التسامح كان ولا يزال من ابرز ملامح الاسلام في كل زمان ومكان» (المترجم).

«المذهب الأباضي في اتجاهه الفقهي التشريعي مذهب اسلامي يستمد احكامه من الاصول التي تستمد منها المذاهب الاسلامية الاخرى أحكامها ، وان كان لأصحابه طرائق فى الاستنباط تختلف عن طرائق غيرهم. ويدرس هذا المذهب في كلية الشريعة بجامعة الأزهر ويرجع اليه فقهاؤنا في كثير من الشؤن. وهو احد المذاهب التي تتضمنها موسوعة الأحكام الفقهية التي يقوم بإعددها مجمع البحوث الاسلامية والمجلس الاعلى للشؤون الاسلامية في دولة الكويت. ولا يعتبر اتباعه مارقين عن الاسلام. ويسير عليه الآن معظم سكان مسقط وعمان وكثير من اهل زنجبار وليبيا وتونس والجزائر ، انظر كتابنا «المجتمع العربي ص ٧٤». (المراجع)

(٢٠٧) ٦٤ كم في ٢٤ كم.

٤٧٨

وينفصل عن الجبال الأخرى ببعض الرقع الرملية. ويبعد عن طرابلس بمقدار خمسين ميلا تقريبا (٢٠٨). وينبت فيه الكثير من الشعير وتمور ممتازة يحسن أكلها طرية. وينتج هذا الجبل كذلك كثيرا من الزيتون الذي تستخرج منه كمية كبيرة من الزيت تنقل الى الاسكندرية والى المدن المجاورة.

وينبت فيه كذلك الزعفران بكثرة. وهو متميز من حيث اللون والنوعية وأفضل بكثير وأغلى سعرا من الأنواع التي تجلب من مختلف انحاء العالم. فاذا كان سعر زعفران اليونان او تونس مثلا يساوي في القاهرة عشر أشرفيات للرطل الواحد ، فإن الرطل من زعفران غريان يساوي خمس عشرة أشرفية ، وذلك حسبما رواه لي أحدهم الذي كان حاكما في هذا الجبل (٢٠٩). وقد قال لي هذا الشخص أن هذا الجبل كان دخله السنوي ، في عصر امير طرابلس ، مقدار ستين الف دوبل ، وكان محصول الزعفران ، في أثناء حكمه ، يبلغ ثلاثين قنطارا ، وهذا يمثل خمسة عشر حمل بغل (٢١٠).

وكان سكان غريان يتعرضون دوما لابتزاز العرب وملوك تونس ، ولهم الكثير من القرى ، وعددها حوالي مائة وثلاثين ، مؤلفة من بيوت فقيرة وشنيعة.

جبال بني وليد

يقع هذا الجبل على مسافة مائة ميل من طرابلس (٢١١) ، وتقطنه قبيلة باسلة وغنية

__________________

(٢٠٨) تقع كتلة جبل غريان ، التي تتمدد شرقا بجبل يفرن ، على مسافة ١٠٠ كم جنوب طرابلس.

(٢٠٩) الأشرف ، وبالإيطالية ، شرافو ، وبالإسبانية سراف ، كان هو الدينار الاشرفي ، الذي ضربه في مصر السلطان سيف الدين برسباي الأشرف في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٤٢٥ م. وكان هذا من الذهب الخالص الخالي من الخلائط وكان يزن نظريا ٤٦٦ ، ٣ غراما ، أو ما يعادل بالقيمة الحالية ١٢ فرنك ذهب. وكان دارجا جدا في كل أقطار المشرق حتى الهند ، وكان مرغوبا فيه حتى ان عبارة «ذهب شرف» كانت تعني في فرنسا ، في القرن السادس عشر ، الذهب من النوع الأول. وكان الرطل العطاري أو رطل العطارين ، يعادل حوالي ٤٤٥ غراما. مما كان يعادل تقريبا سعر زعفران غريان وهو ٤ فرنكات ذهب في القاهرة وزعفران اليونان وتونس ٧ ، ٢ فرنك الغرام ، وهو سعر غاية من الارتفاع بالنسبة لذلك العصر.

(٢١٠) كانت ٦٠٠٠ دوبل بسعر الدوبل ٢١٩ ، ١٦ فرنك ذهبي وهي تمثل ٩٧٣٠٠ فرنك ذهب ، و ٣٠ قنطارا من وزن ١٠٠ رطل تساوي حوالي ١٣٥٥ كغم ، وكل بغل يحمل ٨٩ كغم من أزهار الزعفران.

(٢١١) ١٦٠ كم وهو يقع على طريق فزان ، في الجنوب الشرقي.

٤٧٩

تعيش في حرية ، وهي متحالفة مع سكان جبال آخرين ، على تخوم صحراء نوميديا.

* * *

بعد أن فرغت من الكلام عن الجبال ، سأتابع كلامى على اقاليم مملكة تونس التي ليس فيها مدن ، ولا قصور ، بل أنواع قرى صغيرة فحسب (*) ، وسنتابعها واحدة فواحدة.

قصر أحمد (٢١٢)

شيّد هذا القصر قائد الجيوش التي قدمت الى افريقيا ، وقد هدمه العرب.

سبيخة

كانت سبيخة (٢١٣) أيضا قصرا بنى فى العصر الذي قدمت فيه الجيوش الاسلامية إلى افريقيا. وكان كثير السكان ، ولكنه تهدم على أيدى العرب. ولكنه لا يزال مأهولا بصيادين وأفراد آخرين من فقراء الناس.

قصر حسّان (٢١٤)

وهو قصر آخر مبنى على ساحل البحر على أيدى الجيوش الاسلامية ، وقد تهدم شأن القصور الأخرى ، على أيدي العرب.

قرية الغار (٢١٥)

وهي قرية على حافة البحر ، وتكثر فيها التمور ، وأرضها قاحلة ، ويزرع فيها

__________________

(*) وان بعضها كان يطلق عليه اسم قصر كما سيأتي (المراجع).

(٢١٢) لم يمكن التعرف على مكان هذا القصر.

(٢١٣) تصغير سبخة ، أي مستنقع ملحي ، أو شط. ولم يمكن التعرف على هذا الموقع.

(٢١٤) لا يوجد أثر عن قصر حسن أو حسّان غرب طرابلس. ولكن بما أن مذكرات المؤلف مضطربة جدا فيما يتعلق بهذه المنطقة فيمكن الظن بأن قصور حسّان عند المؤرخين والجغرافيين العرب ، كانت قد بيت في الموقع الذي انسحب اليه القائد حسان بن النعمان الغساني مع جيشه على أثر هزيمته التي الحقتها به حوالي العام ٦٩٣ م الكاهنة ، ملكة أوراس البربرية ، على ضفاف واد نينى قرب باغية ، حيث ظل خمس سنوات بمنأى عنها بانتظار المدد واستئناف فتح افريقيا. والمعتقد أن هذه القصور كانت واقعة على حافة البحر ، على مسافة ٤٠٠ كم من طرابلس و ١٤٠ كم تقريبا جنوب تاورغة ، في المكان المسمى اليوم تماد حسان ، وتماد تعنى المستنقع الصغير الذي يجف صيفا.

(٢١٥) هذا الموقع الذي يظن أنه كان يحمل اسم الغار ، أي الكهف ، لم يمكن التعرف عليه.

٤٨٠