وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وظلت مدة طويلة غير مأهولة حتى زمن المهدي ، الخليفة الشيعي ، الذي عمل على إعمارها بالسكان. ولكن لم يعمر منها سوى واحد من عشرين من رقعتها التي كانت مسكونة بالأصل. وترى في بعض أمكنتها أسوار كاملة ، فضلا عن خزان ماء ذي سعة كبيرة جدا. وكانت هناك قناة تأتي إلى قرطاج بالماء من جبل يقع على مسافة ثلاثين ميلا من هنا ولا تزال كاملة على حالها. ولهذه القناة نفس ارتفاع القناة التي تقود الماء إلى القصر الكبير في روما (٨٢). وقد ذهبت إلى مأخذ الماء الذي يغذي قناة قرطاج (٨٣). وتظل القناة على مستوى سطح الأرض على مسافة طولها عشرة أميال (٨٤) لأن الأرض مرتفعة بجوار الجبل. وكلما ابتعدت عن الجبل ، وكلما انخفضت الأرض ، أصبحت القناة أعلى فأعلى إلى أن تصل إلى قرطاج.

وقد رأيت كذلك في خارج المدينة كثيرا من الأبنية القديمة والتي لم أعد أتذكرها بصورة دقيقة في الوقت الحالي. ويقوم حول قرطاج ، ولا سيما من الغرب والجنوب ، عدد عظيم من مزارع الأشجار المليئة بالثمار التي لا تقل رونقا في نوعها وجودتها عن حجمها ، وخاصة الدراق والرمان والزيتون والتين. وتستمد تونس من هذه المزارع فواكهها.

والأراضي الزراعية المجاورة لها طيبة للزراعة ولكنها صغيرة الرقعة للغاية. إذ يقع البحر من طرف الشمال ومن الشرق ، وبحيرة حلق الواد من الجنوب ، والتلال من الغرب ، ومن ورائها تتاخم سهول بنزرت التي تؤلف قسما من أراضي هذه المدينة الأخيرة.

أما اليوم فقد آلت مدينة قرطاج إلى حالة قصوى من البؤس فلا نجد فيها أكثر من عشرين أو خمسة وعشرين دكانا وحوالي خمسمائة من البيوت القبيحة المنحطة. ولكن يوجد فيها جامع جميل ، شيد في أيامنا ، ومدرسة ليس بها أي طالب ، حتى أن عوائدها تصرف إلى الخزينة الملكية.

__________________

(٨٢) أي إلى قصر البالاتان في روما.

(٨٣) أي إلى نيمفيا الرومانية الواقعة على مسافة ٥٥ كم جنوب تونس قرب المدينة الصغيرة زغوان والتي تجمع الماء من عدة عيون في جبل زغوان.

(٨٤) ١٦ كم.

٤٤١

ولأهل قرطاج تكبر يفوق القياس ولكنهم فقراء وبؤساء. ويبدو عليهم شدة التدين. وأكثرهم بساتنة وفلاحون. ويرهقهم الملك بالضرائب حتى لا تجد منهم من يملك عشرة دنانير. وفي ذلك جور يعرفه الجميع.

مدينة تونس الكبرى

تسمى تونس عند اللاتين تونيتوم ، ولدى العرب تونس. ولكن يعتقد هؤلاء أن هذا الاسم محرف لأنه لا يعني شيئا في لسانهم. وكانت تدعى في غابر الزمن ترسيس ، كتلك المدينة الموجودة في آسيا (٨٥). ومهما كان الأمر ، فقد كانت في الماضي مدينة صغيرة بنيت على أيدي الأفارقة على ضفة بحيرة تتكون مياهها من ممر حلق الواد ، على مسافة ميلين تقريبا من البحر المتوسط.

وقد أخذت هذه المدينة بالتوسع بعد خراب قرطاج ، سواء فيما يتعلق بعدد مساكنها او فيما يتعلق بعدد سكانها. والواقع هو أن القوات التي احتلت قرطاج لم ترغب في المكث فيها خشية وصول بعض النجدات القادمة من أوربا فسكنوا تونس وبنوا فيها بيوتا. وبعدئذ قدم قائد جيش عثمان ، ثالث خليفة ، واسمه عقبة ، فأعطى هذا امرا للقوات بألّا تقيم في أية مدينة كانت قريبة من البحر أو على شاطىء البحر نفسه. ولهذا السبب بنى المدينة التي دعيت القيروان ، على مسافة ست وثلاثين ميلا من البحر وحوالي مائة ميل من تونس. فغادرت القوات إذن تونس واستقرت في القيروان. فاحتل أهل تونس البيوت التي غادرها الجنود (٨٦)

__________________

(٨٥) يقارب المؤلف اسم مدينة تارس في كيليكيه (واسمها اليوم طرسوس) مع ترسيس أو ترشيش التي ورد ذكرها في التوراة والتي يعتقد أنها منطقة «حلوة» و «أشبيلية» في أسبانيا. وقد ظن العرب بالفعل أن ترسيس كان هو اسم تونس القديمة.

(٨٦) على الرغم من فقدان الدقة في معرفة أحداث الفتح الإسلامي لإفريقيا وعن تواريخها ، لأن هذا الأمر مضطرب كل الاضطراب ، فإن ولاية إفريقيا خرجت عن سلطة امبراطور القسطنطينة ، كونستان الثاني في عام ٦٤٦ م بسبب تمرد القائد البيزنطي جريجوار. ولكن هذا قتل في صيف عام ٦٤٨ م في معركة ضد جيش عربي لم يمكث في هذه البلاد سوى خمسة عشر شهرا جمع خلالها الغنائم وعاد أدراجه. وعادت ولاية إفريقية إذن للسلطة الامبراطورية ولم يتم الفتح الإسلامي الفعلي لهذه البلاد إلا من قبل الخليفة معاوية عام ٦٦٥ م. وفي خلال حكم كونستان الثاني حتى ٦٦٨ م وابنه قسطنطين باغونات حتى ٦٨٨ م لم يستطع العرب اكتساح الكتلة الجبلية في بلاد تونس الشمالية. وفضلا عن ذلك ظلت الخلافة في المشرق بين ٦٨٠ م ، ٦٩٣ م عرضة لاضطرابات خطيرة ، فأهملت قضية إفريقيا. كما أن القادة الذين تعاقبوا ـ

٤٤٢

وبعد مضي قرابة ثلاثمائة وخمسين عاما تخربت مدينة القيروان على أيدي العرب ، في أعقاب تمرد قائد أفريقيا الذي خرج على الخليفة القائم ، حتى إن هذا الحاكم انسحب نحو الغرب وحكم بجاية وكل البلاد المحيطة بها (٨٧).

وبقيت في تونس أسرة تمت بصلة القرابة لقائد إفريقيا. وإليها كان ينتسب الأمراء الذين كانت يمتلكون تونس (٨٨). وبعد عشرة أعوام تم طرد أمراء بجاية على يد يوسف بن تاشفين الذي أقرّ أمراء تونس في مناصبهم بعد أن رأى خضوعهم

__________________

ـ على إفريقيا ، مثل معاوية بن حديج الكندي بين ٦٦٥ م إلى ٦٧٠ وعقبة بن نافع الفهري من ٦٧٠ إلى ٦٨٥ م ، الذي أسس القيروان ، وابو مهاجر دينار من ٦٧٥ إلى ٦٨١ م ، وعقبة بن نافع للمرة الثانية من ٦٨١ إلى ٦٨٣ م لم يخوضوا معارك حقيقية ضد البيزنطيين ، وقتل عقبة في تهوده ، قرب بسكرة على أيدي البربر الذين حكم زعيمهم كسيلة خلال خمسة أعوام في القيروان. وقدمت حملة عسكرية انتصرت على هؤلاء البربر وقتلت هذا الزعيم في ممس سنة ٦٨٧ م ، ولكن هذه القوات اضطرت للعودة في اتجاه مصر ولاحقها البيزنطيون حتى إنها انكسرت في برقة ، في ليبيا الحالية ، بحيث ضاعت إفريقيا بعدها من أيدي المسلمين. غير أن اضطرابات المشرق الإسلامي هدأت في عام ٦٩٣ م واستردت الخلافة حرية التصرف. وتجاه ذلك ارتكب الامبراطور جوستنيان الثاني كل الاخطاء الممكنة حتى أنه تعرض لبتر أحد أعضائه وللنفي في سنة ٦٩٥ م. وفي تاريخ غير دقيق ، وفي حدود العام ٦٩٣ م تراءى للخليفة عبد الملك أن الوقت قد حان للتحرك في أفريقيا فأرسل إليها جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل بقيادة الحسن بن النعمان الغساني وأفلح هذا في اجتياح قرطاج. واعتقد بعد ذلك أنه خضد شوكة الملكة البربرية الكاهنة ديا ، ولكنه تعرض لهزيمة اضطرته للبقاء خمسة أعوام متريثا على الحدود الشرقية لولاية طرابلس وصحراء سيرت. وهكذا استرد البيزنطيون ملكية قرطاج. وبعد أن أرسل الخليفة عبد الملك المال اللازم والقوات الجديدة استأنف الحسن الغساني حملته ضد الملكة البربرية ، فكسر قواتها وقتلها ، واسترد بعد ذلك قرطاج ومنطقتها وأصبح الفتح نهائيا. ويبدو أن الحسن الذي جعل مقره القيروان اهتم بوجه خاص بمدينة تونس ، وليس من المستبعد أن يكون هو الذي أعاد القوات المرابطة في تونس إلى القيروان ، مما سمح لأهل المنطقة بشغل المساكن التي أصبحت خالية ، وساعد على ازدهار هذه المدينة الصغيرة بعد أن تهدمت قرطاج.

(٨٧) بعد أكثر من ثلاثمائة وستين سنة هجرية أي في ٤٤٩ ه‍ / ١٠٥٧ م لجأ ملك القيروان المعز بن باديس ، الذي كان تحت التهديد المستمر من زحف العرب الهلاليين الذين كانوا يثيرون الفوضى في القيروان ومنطقتها منذ ١٠٥٢ م ، لجأ إلى المهدية حيث توفي في ١٤ آب ١٠٦٢ م ، واحتفظ أحفاده بسلطة مزعزعة حتى سقوط هذه المدينة بيد أمير البحر النصراني جورج التابع للملك روجر ، ملك صقلية ، بتاريخ ٢٢ حزيران (يونية) ١١٤٨ م. وقد خلط المؤلف قصة المعز ، وهو ملك القيروان الصنهاجي الزيري ، مع قصة جاره في الغرب ومنافسه ، وابن عمه البعيد الناصر بن علناس ، وهو ملك من بني حماد في تاكربوست ، أو قلعة بني حماد ، قرب مسيلة ، والذي ارتكب المعز في حقه غلطة الاستنجاد بالعرب في عام ١٠٥٢ م. ولما بلغ ذروة صولته على أثر انهيار الملك الزيري الناصر ، احتل بلدة بجاية سنة ١٠٦٧ م وبنى فيها مدينة استقر فيها عام ١٠٦٨ م.

(٨٨) لا يبدو أن هذه الأسرة ، وهي بنو خراسان ، كانت تنتسب إلى الزيريين ، ولكنها تحالفت مع ملوك بني حماد بعد عام ١٠٥٧ م.

٤٤٣

واستكانتهم (٨٩). ولكن بعد أن استرد عبد المؤمن ، ملك مراكش ، مدينة المهدية من النصارى ، مر بتونس في أثناء عودته ، وانتزع منهم هذه الإمارة (٩٠).

وظلت تونس طيلة حياة عبد المؤمن (٩١) ، ملك مراكش ، ثم ابنه يوسف (٩٢) ثم ابن هذا ، يعقوب المنصور (٩٣) ، ظلت آمنة في سلام تحت حكم ملوك مراكش. وبعد موت المنصور ، أعلن ابنه محمد الناصر ، حربا على ملك أسبانيا ، ولكنه انكسر وهزم (٩٤) واضطر للهرب إلى مراكش حيث لم يعش بعدها أكثر من بضعة أعوام (٩٥). وبعد وفاته انتخب أخوه ، ولكن هذا الملك قتل على يد بعض جنود ملك تلمسان (٩٦). وفي الفترة الواقعة بين هزيمة محمد وموته وبين موت أخيه يوسف ، عاد العرب لسكنى دولة تونس وكثيرا ما ضربوا الحصار على حاكمها. فأخبر هذا ملك مراكش بأنه إذا لم يرسل له نجدة قوية ، فسيضطر لتسليم المدينة للعرب (٩٧) ، وقد فكر الملك (٩٨) أن مشروعا كبيرا كهذا يحتاج لرجل مجرب. ولهذا اختار من بين رجال حاشيته

__________________

(٨٩) لم يكن بين يوسف بن تاشفين وبين جيرانه الشرقيين ، أي بني حماد ، أكثر من خلافات خفيفة سرعان ما هدأت باسم قرابة الدم النظرية باعتبارهم صنهاجيين ، كما أنه لم يهتم مطلقا بالبعيدين وهم بنو خراسان في تونس.

(٩٠) انتزع عبد المؤمن ، بادىء ذي بدء ، أي قبل نهاية شهرآب (أغسطس) ١١٥٢ م ، انتزع مدينة بجاية من أيدي بني حماد الذين تلاشت أسرتهم. وبعد أن استدعي في عام ١١٥٩ لإنقاذ المهدية ، دخل تونس إثر معركة وقعت في ٤ حزيران (يونية) وانتزع السلطة من بني خراسان ، ثم دخل المهدية في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م بعد حصار طويل.

(٩١) توفى سنة ١١٦٣ م.

(٩٢) مات يوسف سنة ١١٨٤ م.

(٩٣) توفى يعقوب المنصور ١١٩٩ م.

(٩٤) فى معركة حصن العقاب ، واسمها لاس نافاس دي طولوشه ، عند الأسبان ، في ١٦ تموز (يولية) ١٢١٢ م.

(٩٥) مات محمد الناصر في ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ١٢١٣ م ، أي بعد عام فقط من المعركة المشئومة» (المترجم).

(٩٦) لقد كان يوسف أخا الناصر وليس ابنه. وقد قتلته في ٦ كانون الثاني (يناير) بقرة هائجة ، وفضلا عن ذلك لم تظهر مملكة تلمسان إلا فى ١٢٣٦ م.

(٩٧) وهنا يقع المؤلف في خطإ تاريخي : فقد جاء الخليفة الناصر لنجدة تونس التي سقطت في شهر كانون الأول (ديسمبر) ١٢٠٣ م بيد يحيى بن غانية وتخربت على أيدي العرب حلفاؤه. وبعد موت أخيه علي سنة ١١٨٩ تزعم يحيى حركة المرابطية. واستمر فى خلال خمسة وأربعين عاما ، مع استماتة وسرعة في الحركة لا يتصورها عقل ، في حملة أو صلته من تلمسان حتى حدود مصر ، ومن ورقلة إلى تونس ، ولكنه كان متمركزا بوجه الخصوص في الجنوب التونسي. وكان عرب هذه المنطقة أهم أعوانه ، والثورة التي حرض فيها زناته ضد الموحدين في المغرب الأوسط ، هي التي كانت سبب تخريب هذه اليلاد.

(٩٨) أي محمد الناصر نفسه.

٤٤٤

رجلا اسمه عبد الواحد ، وأصله من أشبيلية ، من بلاد غرناطة. فأرسله إلى تونس مزوّدا بالصلاحيات المطلقة. فوصل هذا إلى تونس على رأس خمس وثلاثين سفينة كبيرة. فوجد المدينة شبه مدمرة على أيدي العرب (٩٩). وبفضل شدة حذره وفصاحته الأخاذة ، استطاع أن يسنوي الأمور ، ووطد الدولة وحصّل الضرائب من كل البلاد (١٠٠). وأعقب هذا الرجل ولده أبو زكريا (١٠١) الذي فاق والده في المهارة السياسية والذكاء. وبني في تونس ، في الجزء الأكثر ارتفاعا من المدينة ، أي في الغرب ، بنى قلعة كبيرة مع قصور بديعة من داخلها ، وجامعا جميلا ذا منارة عالية امتازت هي أيضا بإتقان بنيانها الفائق (١٠٢).

وذهب أبو زكريا في حملة عسكرية حتى طرابلس ، وعاد عن طريق بلاد الجنوب واستلم ضرائب هذه المناطق ، حتى لقد ترك عند وفاته أموالا ضخمة في الخزينة (١٠٣) وبعد موت أبي زكريا (١٠٤) خلفه أحد أبنائه (١٠٥) وكان شابا متغطرسا لم يرض لنفسه الاعتراف بالتبعية لملوك مراكش الذين أخذت بوادر انحطاط أسرتهم في الظهور (١٠٦).

__________________

(٩٩) بعد أن نودي بالناصر ملكا في ٢٢ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م قرر حوالي العام ١٢٠٢ م أن يذهب لتوطيد الامن في شرقي امبراطوريته وبعد أن وصل الى مدينة الجزائر ؛ أرسل أسطولا ضد جزيرة مايورقة ، وهي مركز امارة بني غانية من المرابطين ، وربما ذهب إليها بنفسه وسقطت مايورقة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) ١٢٠٣ م ، وجاء الأسطول المذكور بعدئذ لاستخلاص تونس ، فهرب ابن غانية. ولاحقه الناصر وحاربه بأفضل قواده ، وهو الشيخ أبو محمد عبد الواحد ، الذي لم يكن اشبيليا ، بل ابن تلميذ شهير وقائد من قواد المهدي بين تومرت ، واسمه أبو حفص عمر الهنتاتي. ولم يغادر الناصر مدينة تونس إلا في أيار (مايو) ١٢٠٧ م ، تاركا فيها حاكما من قبله هو عبد الواحد ، الذي دخل اليها في ١٢ أيار (مايو).

(١٠٠) كان عبد الواحد واليا على تونس ابتداء من ١٢ أيار (مايو) ١٢٠٧ حتى وفاته في ٢٥ شباط (فبراير) ١٢٢١ م.

وقد كان واليا ممتازا.

(١٠١) في الحقيقة تقلد أبو زكريا يحيى وظيفة والي تونس في حزيران (يونية) ١٢٢٨ م ، ولكنه تملص شيئا فشيئا من طاعة خليفة مراكش الموحدي ، وفي ١٢٢٦ م نادى بنفسه أميرا مستقلا.

(١٠٢) بنيت القصبة في أيام الأغالبة ، في القرن التاسع الميلادي ، ولكن أضيفت لهذه القصبة ، بعض الأبنية ، وشيد جامعها في عام ١٢٣٢ م.

(١٠٣) عمل أبو زكريا منذ بداية حكمه على مطاردة يحيى بن غانية حتى واحة ورقلة في الصحراء الجزائرية. ولكن هذا مات بصورة غامضة سنة ١٢٣٤ م ، وقد كان ازدهار المملكة الجديدة عظيما بفضل مهارة هذا الملك. وقد استمرت الأسرة الحفصية التي أسسها حتى ١٣ أيلول ١٥٧٤ م ، «أي الى اليوم الذي سقطت فيه تونس بيد الأتراك العثمانيين» (المترجم)

(١٠٤) في ٩ تشرين الأول ١٢٤٩ م.

(١٠٥) أبو عبد الله محمد.

(١٠٦) في شهر شباط (فبراير) ١١٥٣ اتخذ أبو عبد الله لنفسه لقب الخليفة أمير المؤمنين وكان عمره ستا وعشرين سنة. ـ

٤٤٥

وفي هذه الأثناء أخذ بنو مرين يحكمون مناطق فاس في حين كان بنو زيان قد فرغوا من تأسيس مملكتهم في تلمسان. كما ثارت بلاد الأندلس هي أيضا على ملوك مراكش وطردت حكامهم من شبه الجزيرة. وفضلا عن ذلك ، أصبحت. السلطة في مراكش هدفا للمنازعات والمؤامرات ، فإبن الأخ يحارب عمه والأب ضد ابنه. وعندها شعر ملك تونس بقوته ، فقاد حملة ضد تلمسان على رأس جيشه. ففرض الجزية على ملك تلمسان (١٠٧). وما إن علم بذلك الملك المريني الذي كان حينئذ في حملة ضد مراكش ، حتى أرسل له هدايا جزيلة وأوصاه بنفسه وبمملكته خيرا. ورضي ملك تونس بذلك واعتبره صديقا ، مع النظر إليه دوما على أنه دونه (١٠٨). ولما قفل الملك راجعا إلى تونس مكللا بالنصر دخلها احتفال كبير ونادى بنفسه ملكا على إفريقيا. وأخذ في تنظيم بلاطه الملكي مستعينا بالكتاب والمستشارين وبقائد عام. وطبق كل مراسم الاحتفالات التي كانت دارجة عند ملوك مراكش (١٠٩).

ومنذ ذلك الوقت حتى عصرنا ، لم تنفك تونس عن التزايد في السكان وفي الامتياز على سواها ، حتى أصبحت أكثر مدن أفريقيا لمعانا.

وعلى أثر وفاة هذا الملك ، شيد ابنه الذي حظي بالتاج الملكي ، أربعة ارباض حول تونس (١١٠). فبنى أحد هذه الأرباض في خارج الباب المسمّى باب سويقة ، وكان يضم ثلاثمائة أسرة. وأقيم ثان في خارج باب المنارة وكان يحوي قرابة ألف أسرة.

__________________

ـ ولم تكن سلطة خليفة مراكش ، المرتضي ، الذي نودي به في حزيران (يونية) ١٢٤٨ م ، تمتد لأكثر من المسافة الواقعة بين سلا والسوس ، وظل خمسة أعوام لا يجرؤ على الخروج من عاصمته مراكش خوفا من المرينيين. أما في المشرق فلم يكن لخليفة بغداد السني أي ظل من السلطة. ومات آخر خليفة عباسي وهو المستعصم بصورة بائسة بعد عدة أيام من استسلامه لهولاكو في ١١ شباط (فبراير) ١٢٥٨ م ، أي في نفس السنة التي سقطت فيها قرطبة بيد الأسبان ، وأطلق هولاكو العنان لجنوده المنغول في ١٤ شباط (فبراير) لتذبيح مسلمي بغداد ولتدمير عاصمة الخلافة.

(١٠٧) تعود هذه الحملة إلى زمن أبي زكريا في سنة ١٢٤٢ م. فقد استلم يغمراسن بن زيان السلطة في تلمسان في شهر آب (أغسطس) عام ١٢٣٦ م ، ولكن مع الاعتراف نظريا بسلطة خليفة مراكش. وفي تموز (يولية) ١٢٤٢ م وصل أبو زكريا الى أبواب تلمسان مع قوات كبيرة فنهب المدينة ورد الملك الجديد إلى جادة الصواب.

(١٠٨) لم يحاول بنو مرين شيئا في ذلك الوقت ضد حكومة مراكش. حتى إن أميرهم أبو معرّف محمد لم يكن يحمل بعد لقب ملك ، ولكن بعد ستة عشر عاما من ذلك اتخذ أخوه يعقوب بتاريخ ٣٠ تموز (يوليه) ١٢٥٨ م لقب ملك.

(١٠٩) كان ملوك الأسرة الحفصية يعتبرون أنفسهم موحدين شرعيين.

(١١٠) نودي بأبي زكريا يحيى الواثق ملكا يوم ١٧ أيار (مايو) ١٢٧٧ م بعد ساعات من وفاة والده. واضطره الخليفة أبو عبد الله المنتصر للتنازل في آب (أغسطس) ١٢٧٠ م ، ولا يوجد نص يؤدي المعلومات الواردة أعلاه.

٤٤٦

وهذان الربضان مليئان بعدد لا يحصى من الصناع والصيادين والعطارين .. الخ. وكان يقوم في الربض الأخير حي منفصل يؤلف بنفسه نوعا من ربض صغير ، وهنا يقيم نصارى تونس المستخدمون في حرس الملك أو من الذين يمارسون مهنا لم يألف المسلمون ممارستها. وبعد ذلك تشكل ربض آخر في خارج باب البحر ، أي باب البحرية ، الواقع على مسافة نصف ميل تقريبا من بحيرة حلق الواد. ويقيم التجار الأجانب كالجنويين (أهل جنوة) والبنادقة والقطالونيين في هذا الربض ولهم فيه فنادقهم ومخازنهم على حدة. وهذا الربض على درجة من الاتساع إذ يحوي حوالي ثلاثمائة أسرة بين نصارى ومسلمين.

ومدينة تونس جميلة جدا ودقيقة التنسيق. فلكل جماعة مهنية موضعها الخاص بها. وفضلا عن ذلك فهي مدينة مزدحمة بسكان متكاثفين تكاثفا كبيرا. وغالبية سكان تونس من الحاكة. وتصنع فيها كمية كبيرة من الأقمشة المتقنة كل الإتقان والتي تباع في كل إفريقيا. وهي مرتفعة السعر كثيرا لأنها ناعمة ومتينة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن النساء يتقن مهنة الغزل كل الإتقان. وللقيام بذلك يجلسن فوق مقعد مرتفع نوعا ما ويدعن مغزلهن يتدلى كثيرا ، فيقعدن مثلا في نافذة ويتركن المغزل ينزل إلى صحن البيت ، أو ينزل من ثقب مفتوح في أرضية البيت بين كل طابق وآخر. ونظرا إلى ثقل المغزل يبرم الخيط المشدود برما قويا بصورة جيدة وعلى ثخانة منتظمة.

وهناك سوق خاص في تونس يحوي عددا كبيرا من تجار القماش. ويعتبر هؤلاء أكثر أهل المدينة ثراء. ويشغل تجار آخرون وصناع معهم هذا السوق ، كالعطارين وباعة الأشربة والترياقات (١١١) وباعة العطور والحرير والخياطين والسراجين والفرائين ، وباعة الفاكهة ، والحلابين ، وصناع الزلابية ، والقصابين الذين يذبحون في فصلي الربيع والصيف من الخراف أكثر من سائر الحيوانات الأخرى. وثم مهن كثيرة أخرى تمارس في هذا السوق لا يتسع المقام لذكرها.

وأهل تونس طيبون للغاية ومحببون كثيرا. ويلبس صناعها وتجارها وأئمتها وجميع موظفيها هنداما جميلا لائقا. ويضعون فوق رءوسهم قلنسوة مغطاة بقماشة طويلة. كما يضع العسكريون وموظفو البلاط قلنسوة أيضا ولكن بدون قماشة. ولا

__________________

(١١١) مستحضرات من مساحيق طبية مغلفة بشراب من السكر أو العسل.

٤٤٧

يوجد الكثير من الأغنياء ، بسبب ندرة القمح لأن سعره في داخل البلد يقارب ثلاثة أضعاف سعره في البلاد المصدرة له ، أي اربعة دنانير ايطالية. ويرجع السبب في ندرته الى أن السكان لا يستطيعون زراعة الأراضي المجاورة بسبب السلب الذي يقوم به العرب. فالقمح يجلب من بعيد ، من الأربص ومن باجة ومن عنابة بشكل خاص. (ولاضطرار الناس لشراء القمح بهذا السعر المرتفع لا يوجد كثير من الأغنياء في هذا البلد) غير أن لدى بعض سكان المدينة أملاكا زراعية صغيرة بجوار المدينة يزرعونها قمحا وشعيرا. وتحتاج هذه الأراضي للري ، ولهذا يوجد في كل مزرعة بئر يستخرج الماء منه بسواق مبنية بناء فنيا دقيقا. ويرسل إليها الماء بواسطة آلة مركبة من دولاب يديره بغل أو جمل (١١٢) كي تروي المزروعات. فلا يمكن مع ضيق المساحة وكثرة هذه النفقات اللازمة للري وتسوير الضيعة وصيانتها أن يحصل منها صاحبها على غلة يعتد بها فلا يستطيع شخص ما أن يجني من ضيعته ما يكفيه لنصف العام.

ولكن مع هذا يوجد خبز ظريف جدا في تونس ، وهو أبيض اللون ومخبوز بشكل حسن. وهو لا يصنع من الدقيق فحسب بل يمزج معه السميد. وتبذل عناية كبيرة في صنع هذا الخبز ، ولا سيما لتحضير العجين الذي يضرب بمدقة شبيهة بتلك التي يضرب بها الأرز في مصر. ومن عادة الباعة والصناع وسكان المدينة أن يتناولوا في النهار وجبة خفيفة مؤلفة من دقيق الشعير المحلول بالماء ، وله قوام الصمغ ويوضع فيه قليل من الزيت أو شيء من عصير الليمون أو البرتقال. وتبلع هذه العجينة نيئة بدون مضغ. وتدعى البسيس ، وهي كريهة المذاق. ويوجد سوق لا يباع فيه سوى دقيق الشعير لصنع البسيس. وهناك غذاء من نفس النوع ولكنه أفضل كثيرا. تضنع عجينة خفيفة ، ثم تغلى في الماء ، وبعد أن تنضج تعجن في وعاء ثم ترص في وسط الإناء ، وبعد أن تسقى بالزيت أو بمرق اللحم ، تبلع دون مضغ. وهذا ما يسمى بالبازين (١١٣). وهناك وجبات أخرى أكثر لذة في الطعم وأكثر عناية.

هذا ولا يوجد أي طاحون يحرك بالماء ، لا في تونس ، ولا في خارج المدينة. فكلها تدار بالحيوانات. وينتج عن هذا أن الطاحون لا يكاد يطحن أكثر من حمل قمح في اليوم إلا بصعوبة. ولا يوجد في تونس نبع ، ولا نهر ولا بئر ، بل تستخدم خزانات

__________________

(١١٢) أي الناعورة.

(١١٣) البازين والبسيس هما وجبتان معروفتان جدا في الأرياف التونسية الليبية (المترجم).

٤٤٨

يجمع فيها ماء المطر. ولكن توجد بئر ماء صالحة للشرب في خارج المدينة ولكن ماءها مالح نوعا ما ، ويحمل منه السقاءون الماء على ظهور حيواناتهم وفي قربهم التي يملئونها ثم ينطلقون لبيعها في المدينة. ويأخذ منه الناس لشربهم لأنه أنقى من الوجهة الصحية من ماء الخزان. كما توجد في خارج المدينة آبار أخرى ذات مياه ممتازة ولكنها مخصصة لاستعمال الملك وأهل حاشيته.

ولمدينة تونس جامع جميل جدا (١١٤) ، فسيح للغاية ، وله مستخدمون عديدون وموارد عظيمة. وهناك جوامع أخرى في المدينة وفي الأرباض ولكنها أقل أهمية ، وتضم بضع مدارس للطلاب وعددا من الزوايا للمتعبدين المسلمين ، وهي مؤسسات تسمح أوقافها بالإنفاق عليها واستمرار وظائفها في صورة مناسبة.

وتسيطر على أذهان أهل تونس عقيدة حمقاء وهي اعتبار كل مجنون يقذف بالحجارة من أولياء الله. وعندما كنت في تونس قام الملك ببناء زاوية بديعة جدا لأحد هؤلاء المجانين المدعو سيدي الضاحي (١١٥). وكان هذا الرجل يمشي في الشوارع لابسا كيسا ، عاري الرأس وحافيا ، يقذف بالحجارة ويصرخ كالمسعور. وقد خصص له الملك دخلا طيبا كي يعيش هو وأفراد أسرته.

ولأكثر المنازل منظر بديع ، وهي مبنية بحجارة مجهزة وجيدة النحت. وسقوفها مزدانة كثيرا بالفسيفساء وبالجصّ المجزع ، مع فن رائع ، ومزوقة باللون الأزرق وبألوان زاهية أخرى ، ويعود هذا إلى أن ألواح الخشب وأخشاب النجارة نادره للغاية ، ولذلك يستخدم في الغالب الخشب المتوافر محليا ، وهذا لا يمكن أن يتخذ منه سوى ألواح رديئة. وتبلط الغرف بمربعات من بلاط مطلي بلون فاتح ، كما يبلط الصحن أيضا ببلاط مطلي بالدهان. وبيوتها على العموم وحيدة الطابق. ولها مدخل بديع مع أول باب يطل على الطريق وباب ثان يطل على المسكن ، الذي يتوصل إليه بواسطة سلم يتألف من بضع درجات مبلطة بصورة حسنة. ويلجأ كل واحد إلى جعل مدخل بيته أكثر أناقة وأكثر تزيينا من البقية ، إذ يقف الناس في أغلب الأحيان في مداخل البيوت عندما يتحادثون مع أصدقائهم أو عندما تكون لديهم مشاكل ينبغي تسويتها مع خدامهم.

__________________

(١١٤) هو جامع الزيتونة.

(١١٥) سيدي الضاهي أو الداهي.

٤٤٩

والحمامات كثيرة ، وهي أدق نظاما وأكثر يسرا وتسهيلا من حمامات فاس ، ولكنها لا تضارعها جمالا ولا اتساعا.

وتوجد في خارج تونس مزارع غاية في الإبداع تنتج فواكه رائعة ، بكميات قليلة ، ولكنها في غاية الجودة. وهناك عدد لا يحصى من البساتين المزروعة بالبرتقال والليمون ، وبالورود وبزهور جميلة أخرى. وفي المكان الذي يدعى الباردو على الخصوص توجد البساتين والقصور الفخمة لملك تونس. وهذه القصور مبنية بصورة رائعة مع منحوتات ورسوم كثيرة الإتقان.

وعلى مسافة أربعة إلى ستة أميال حول المدينة (١١٦) تنتشر مصانع عديدة لإنتاج الزيت لا لتموين مدينة تونس فحسب بل للتصدير كذلك إلى مصر. ويصنع من حطب الزيتون فحم يستخدم في المدينة. ويستعمل جزء من هذا الحطب في التدفئة فلا يبقى منه شيء يعتد به للاستعمالات الأخرى. وكذلك لا توجد مدينة في العالم يعوزها الحطب لهذه الاستعمالات بالقدر الذي يعوز تونس.

وأخيرا فإن البؤس الذي يفتك بفقراء الشعب في تونس يؤدي إلى اضطرار الكثير من النساء إلى أن يأكلن بأثدائهن بثمن بخس ، والكثير من الغلمان إلى التخنث ، وهؤلاء الغلمان هم أكثر دناءة وأفحش وقاحة ، وأشد فجورا من النساء المومسات.

ومهما كان عليه الحال فإن لسيدات تونس هنداما جيدا ويتزين بتظرف. وعندما يكن في الخارج يسترن وجوههن مثل نساء فاس. ويخفين وجوههن بوضع عصبة عريضة جدا من قماش فوق الجبين. وهناك حجاب آخر يدعى سفساري ، يجعل من رءوس النساء رءوسا ضخمة كبيرة ، ولا تعنى النسوة إلا بزينتهن وعطرهن ، ودليل ذلك أن باعة العطور هم دوما آخر من يغلق دكاكينهم.

ولسكان تونس عادة أكل نوع من مستحضر يدعى الحشيش (١١٧). وهو غال جدا. وعندما يؤكل منه مقدار اونسه (١١٨) يصبح آكله مرحا ، ويستغرق فى الضحك ،

__________________

(١١٦) من ٨ إلى ١٠ كم.

(١١٧) يستخلص الحشيش من القنب الهندي ويضاف إليه السكر ومستحضرات متنوعة.

(١١٨) حوالي ٢٨ غرام.

٤٥٠

وتزيد شهيته للطعام بما يعادل ثلاثة أشخاص. ويكون متعاطيه في حال أسوأ من الرجل الثمل. وهذا المخدر مهيج لدرجة خارقة للعادة.

بلاط الملك ، ترتيبه ، عوائد الإكرام فيه ، موظفوه

يسمى ملك تونس حسب الخط الوراثي عن طريق اختيار أبيه مع أدائه القسم أمام الشخصيات الرئيسية : كالقواد ، والعلماء والأئمة والقضاة والأساتذة. وعندما يموت الملك ينتخب خليفته ، فيجلس على العرش ، ويحلف له الجميع يمين الطاعة.

وبعد الملك يأتي الشخص الذي يشغل أسمى المراتب. ويسمى المنفذ. وهو كنائب الملك بالنسبة لحكومة المملكة. ويقدم المنفذ تقريرا للملك يشتمل على القضايا التي عالجها. وهو الذي يسمي الموظفين في وظائفهم ، مع موافقة الملك وبمعرفته بالتفصيل عن كل الشخصيات التي عهد إليها بهذه المناصب وكذلك عن النفقات العسكرية.

ويدعى صاحب المنصب الثاني المزوار ، وهو نوع من قائد عام مخول بكل الصلاحيات على الجيوش والحرس الملكي. ويستطيع توزيع المعاشات ، فيزيدها أو ينقصها كما يحلو له ، وله التصرف في أمر الترقية ، ويعطي الأوامر لتحرك القوات المسلحة ... الخ.

والمنصب الثالث هي مرتبة صاحب القصر. وهو الذي يهتم بحرس القصر ، وبالأبنية التي تشغلها هذه القوات ، وبالقصور الملكية ، وبالسجناء المعتقلين في القصر من أجل مخالفات قليلة الأهمية. وله السلطة أيضا في تحقيق العدالة للأشخاص الذين يعرضون قضاياهم عليه كما لو كان الملك ذاته.

والشخصية الرابعة هو حاكم تونس الذي له صلاحية الفصل في القضايا الجنائية ، ويقرر الأحكام حسب خطورة الجريمة.

والخامس هو الكاتب الكبير الذي يكتب ويجيب باسم الملك. وله الحق في فتح رسائل كل الناس ، باستثناء الواردة للشخصيتين الساميتين السابقتين.

والسادس هو صاحب القاعة. وعلى عاتقه تزيين القاعة. ففي أيام الاجتماعات عليه أن يزين قاعة المجلس بالسجاد والمفارش ، ويحدد لكل عضو في المجلس مكانه.

٤٥١

وهو يطلب من السعاة باسم الملك الإعلان عن القرارات المتخذة في المجلس ، أو أن يقوموا بتوقيف بعض الشخصيات الهامة ، وهذا الموظف على علاقة وثيقة بالملك ، إذ يستطيع أن يكلمه في أي وقت يشاء.

والسابع هو الخازن الذي يستلم المال من الجباة ، ويودعه لدى أمناء صندوق بيت المال ، وينفقه بناء على حوالات الملك أو الوزير الأول مع المصادقة عليه بيد الملك.

والثامن هو مدير المكس. وهو يتلقى رسوم البضائع الداخلة إلى تونس عن طريق البر. والرسوم التجارية التي يدفعها التجار الغرباء عن تونس تبلغ اثنين ونصف بالمائة. ولدى هذا الموظف عدد كبير من المأمورين الذين ما إن يروا أجنبيا دخل المدينة ، وتظهر عليه علائم رجل ميسور ، حتى يقتادوه إلى مدير المكس. فإذا لم يكن هذا حاضرا أودعوه السجن إلى أن يحضر ، فيجبر المدير عندئذ هذا الأجنبي أن يدفع نسبة مئوية عن المال الذي يحمله ويكلف بالقوة بأداء اليمين عن الكشف الذي قدمه.

والموظف التاسع هو مدير الجمرك الذي تقوم وظيفته على استيفاء الرسوم الجمركية عن البضائع التي تخرج من تونس للتصدير عن طريق البحر وكذلك الواردة بحرا. ويعهد بهذه المهمة عادة ليهودي غني. وتقع دائرة الجمرك على بحيرة باب الواد ، قرب تونس.

والموظف العاشر هو آمر الصرف. وتتمثل وظيفته في الإشراف على شئون التموين. فهو يعمل على توفير حاجات القصر الملكي من الخبز واللحم والأشياء الضرورية الأخرى. كألبسة السيدات وآنسات الملك ، والخصيان ، والإماء الزنجيات اللواتي هن خادمات الملك. وهو الذي يسدد نفقات أبناء الملك الصغار ومربياتهم ، مثلما يوزع بين العبيد والنصارى وظائفهم المسندة اليهم ، سواء في القصر ، أو في خارج القصر. ويوفر لهؤلاء العبيد غذاءهم وكساءهم حسب الحاجات.

تلك هي الوظائف الرئيسية وأهم المناصب في هذا البلاط. وفيه أيضا بعض وظائف أخرى ذات مستوى أقل سموا كوظائف رئيس الاسطبلات ، ومعلم الصوان ، وإمام الملك ، وقاضي العسكر ، ومعلم أولاد الملك ورئيس الحشم .. الخ.

٤٥٢

ولملك تونس ألف وخمسمائة من الفرسان ومعظمهم من النصارى الذين اعتنقوا الإسلام. ولكل واحد منهم مرتب لنفقته هو ولحصانه. ولهؤلاء الفرسان قائدهم الخاص الذي يعينهم ويسرحهم كما يشاء.

ولدى الملك أيضا مائة وخمسون فارسا ، وهم مسلمون بالولادة ، وهم عبارة عن مستشارين عسكريين للملك فيما يتعلق بالأوامر التي تعطى وبشئون الحرب. وهم عبارة عن ضباط أركان حرب.

ولدى الملك ، من ناحية أخرى ، مائة من راشقي السهام والكثير منهم نصارى أسلموا. وهم يواكبون الملك عندما يخرج راكبا في المدينة أو في خارجها.

ولكن الملك يحاط عن قرب أكثر عند خروجه بالحرس السري ، المؤلف من نصارى يسكنون الربض الذي تكلمنا عنه. ومن ناحية أخرى يتقدمه حرس آخر ، مشاة ، مؤلف من أتراك مسلحين بالأقواس وبالطبنجات (١١٩) ويمشي أمام الملك ، راكبا ، رئيس الحشم ، الذي يكون مواكبا من جانب بالضابط حامل حربة الملك ، ومن الجانب الآخر بالضابط الذي يحمل ترسه ، ومن خلفه الضابط الذي يحمل راشقة السهام. ويركب حوله بعض الضباط مثل رؤساء أركان الحرب والمشرفين على شئون التشريفات الملكية.

ذاك هو النظام السائد حسب القواعد المقررة والعادات المتعارف عليها في بلاط تونس ، ولكن ذلك معروض بصورة عامة ، لأن الاختلاف كبير بين أسلوب الحياة العادية لقدامى الملوك وطريقة الحياة الفريدة لدى الملك الحالي. والواقع أن هذا الملك هو من نوعية أخرى مختلفة ، فله عادات وسلوك آخر يختلف عن أسلافه. ويعتورني الخجل من الكلام عن الرذائل الشخصية لملك ما ، ولا سيما ملك لقيت منه الكريم من اللفتات. ومع هذا ، حتى لو تجاوزت هذه النقائص وضربت صفحا عنها ، فيجب علي أن أقول إن هذا الملك برع في استخلاص المال من رعاياه. ويعطى قسما منه إلى العرب وينفق الباقي لبناء قصوره ، حيث يحيا فيها حياة كلها ميوعة وشهوانية ، بين الموسيقيين والمطربين والمطربات ، تارة في القصبة ، وتارة أخرى في بساتين بديعة.

__________________

(١١٩) الطبنجة عبارة عن بندقية قصيرة وعريضة الفوهة تحمل باليد ، وظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

٤٥٣

وعندما يكون على الرجل أن يغني أو أن يدق على آلة موسيقية بحضرته ، تعصب عيناه كما يصنع مع الصقور ، ثم يدخل في الحجرة حيث يكون الملك مع عشيقاته (١٢٠).

ويزن الدينار الذي سكه ملك تونس أربعة وعشرين قيراطا ، وهو يعادل دينارا وثلثا من الدنانير الدارجة في أوربا. كما تسك أيضا عملة فضية مربعة الشكل وتزن ستة قراريط. وتعادل ثلاثون أو اثنان وثلاثون من هذه القطع دينارا واحدا (١٢١).

رادس

هي مدينة صغيرة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط قرب حلق الواد. وقد كانت في الماضي متمدنة وآمنة جدا ، ولكن لم يبق فيها سوى بعض المزارعين الذين يزرعون الكتان ، ولا يجنون أي محصول آخر (١٢٢).

قمرط

قمرط هي مدينة أخرى ، تعود تاريخيا أيضا للعصر القديم وتجاور قرطاج على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (١٢٣) إلى الشمال من تونس ، وهي مأهولة جيدا بزراعي الخضر الذين يجلبون خضرهم إلى تونس. وينبت هنا الكثير من قصب السكر ويباع في تونس. ويكتفي الذين يشترونه بمصه ، لأنهم لا يعرفون طريقة استخراج السكر منه.

المرسى

هي مدينة صغيرة قديمة بنيت على ساحل البحر. وهنا يقع ميناء قرطاج. وقد

__________________

(١٢٠) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن الذي مات مسموما في ٩ شباط (فبراير) ١٥٢٦ م ، كما يعتقد ، على يدي إحدى زوجاته التي نادت بابنه ملكا وهو ابو محمد الحسن.

(١٢١) نرى من خلال ذلك أن الأسرة الحفصية ظلت أمينة للنظام النقدي الموحدي. والقطع النقدية الفضية المربعة الشكل هي عملة نوعية موحدية ، وكانت الواحدة منها تسمى الناصري ، مما يسمح بالافتراض بأنها ابتدعت أيام حكم الخليفة الموحدي محمد الناصر الذي احتل شخصيا مدينة تونس بين أواخر عام ١٢٠٣ م وحتى أيار ١٢٠٧ م.

(١٢٢) لقد أخطأ المؤلف فسمى هذه البلدة نابل ، ولكن الوصف ينطبق على رادس وهي مكسولا الرومانية لأن نابل التي تقوم قرب أطلال نيابوليس القديمة ، تقع على الساحل الجنوبي لشبه جزيرة الرأس الطيب Cap Bon او الوطن القبلي.

(١٢٣) ٢٩ كم.

٤٥٤

تخربت في الماضي وظلت أطلالا لمدة طويلة. ولكن يشغلها اليوم صيادون ومزارعون وقصار والأقمشة الكتانية. وتقوم بالقرب منها قصور ملكية ومزارع يقضي فيها الملك الحالي عادة كل فصل الصيف (١٢٤).

أريانة

هي مدينة صغيرة قديمة بناها القوط (١٢٥) على مسافة ثمانية أميال من تونس. ونجد بالقرب منها مزارع أشجار تنتج مختلف الثمار ولا سيما الخروب ، وأسوارها قديمة ، ويسكنها فلاحون.

الحمّامات

الحمّامات مدينة حديثة بناها المسلمون وتحيط بها أسوار قوية. وتقع على مسافة أربعين ميلا (١٢٦) من تونس ويسكنها أناس فقراء مدقعون. وكلهم صيادون وبحارة ، وفحامون وقصار والأقمشة الكتانية. وهي مرهقة بالضرائب من جانب الملك حتى إن فقراءها يكادون يكونون متسولين.

هرقلية (١٢٧)

وهى مدينة صغيرة بناها الرومان (١٢٨). وقد تخربت على أيدي العرب.

سوسة

سوسة مدينة كبيرة قديمة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة

__________________

(١٢٤) المرسى ومعناها مرفأ ، وهو مذكر ويخطىء الفرنسيون وغيرهم فيؤنثونه. وأما الميناء البوني ، واسمه كروتون ، فقد كان يقع جنوب تل قرطاج.

(١٢٥) الفندال ، ويحتمل أن اسمها العربي (أريانة) قد جاء من وصف الفندال ، لأن الفندال كانوا نصارى أريانيين أي من التابعين لمذهب آريوس القائل ببشرية المسيح.

(١٢٦) ٦٤ كم.

(١٢٧) وتلفظ اهرقلية وهرقلة.

(١٢٨) واسمها اللاتيني هورّيس كوليا ، ومنها الكلمة العربية أهرقليا ، التي تحرّفت إلى هرقلة.

٤٥٥

ميل من تونس (١٢٩). وعندما احتلها المسلمون على الساحل جعلوا منها مقر النائب الحاكم. وهنا شيّد قصر الحاكم ، ذلك القصر الذي تحول الآن إلى ما يشبه الزاوية. وتحيط بالمدينة أسوار جميلة وبها قلعة قوية وكبيرة. وهي مدينة أنيقة وموقعها بديع. وقد كانت في الماضي كثيرة السكان وآمنة. كما كانت تحوي منازل جميلة لا زال بعضها باقيا. ويوجد فيها كذلك جامع جميل جدا. وفي خارجها أملاك كثيرة مزروعة بالزيتون الذي تستخرج منه كمية كبيرة من الزيت ومزروعة كذلك بالتين. كما توجد أيضا هناك أراض ممتازة لزراعة الشعير. ولكن لا يمكن استغلالها بسبب الأعباء المادية التي يفرضها العرب.

وسكانها أناس وديعون يستقبلون الأجانب بحفاوة بالغة. ومعظمهم بحارة ، ويبحرون على المراكب التجارية التي تذهب إلى المشرق وإلى تركيا ، أو على مراكب القرصنة ، فيذهبون لمهاجمة مدن صقلية المجاورة أو سواها من البلدان الأخرى في إيطاليا. وتتألف بقية السكان من حاكة وبقّارة وخزّافين. ويصنع هؤلاء أباريق ودوارق وقماقم وكل أنواع الأوعية غير المطليّة. ويصدّرون الخزف لكل الساحل وإلى مدينة تونس أيضا.

ولكن سوسة المسكينة خلت الآن من ساكنيها بسبب ظلم الملوك وجورهم. ولم يبق فيها سوى خمس بيوتها المأهولة. ولا نجد فيها أكثر من خمس أو ست دكاكين ، وهم إما باعة جبن أو بقالون ، أو باعة خضار أو باعة سلع دنيئة. وقد مكثت مدة أربعة أيام في هذا الميناء بسبب عاصفة. وقد آلمنا كثيرا أن رأينا هذه المدينة خاضعة لمثل هذا النوع من المعاملة.

ألمنستير

المنستير مدينة قديمة بناها الرومان على ساحل البحر ، على مسافة اثني عشر ميلا من سوسة (١٣٠) وهي محاطة بأسوار قوية وعالية. وبيوتها متقنة البناء .. وهناك أمر مؤكد هو ان سكانها فقراء مدقعون إلى درجة التسول. فهم يلبسون ثيابا رثة وخشنة ويضعون

__________________

(١٢٩) في الحقيقة ١٥٠ كم.

(١٣٠) في الحقيقة ٢١ كم.

٤٥٦

في أرجلهم نعالا من القصب البحري. وأكثرية هؤلاء السكان حاكة أو صيادون. ويقتاتون بخبز الشعير أو بهذا البازين المخلوط بالزيت الذي تكلمنا عنه من قبل ، كما يصنعه كل أهل مدن الساحل ، إذ لا ينبت هنا غير الشعير. وفي هذه المناسبة إليكم ما حدث لي بينما كنت أسافر على ظهر سفينة بصحبة سفير أصله من هذه البلدة وكان يقصد تركيا. ولما كنا نتكلم في مواضيع مختلفة ، فقد تطرّق الحديث الى أن ذكر لي أن الملك خصص له معاشا يتألف من عدد من الدنانير وأربعة وعشرين كيلا من الشعير في العام. ولما لم تكن لديّ أية خبرة عن هذه البلاد ، قلت له : «إذن لديك بضعة خيول؟» فأجابني بالنفي ، فرددت عليه بقولي : «إذن ما ذا تصنع بكل هذا القدر من الشعير؟». فرأيته وقد احمرّ وجهه وفهمت أنه يريد أن يقول أنه يأكله. وقد امتعضت من نفسي لأنني طرحت عليه مثل هذا السؤال الذي خطر ببالي ، لأنني كنت أفكر بأن الفقراء وحدهم هم الذين يأكلون الشعير.

ويوجد في خارج المنستير عدد كبير من الملكيات الزراعية المغروسة بالأشجار المثمرة كالمشمش والتين والتفاح والرمان وبعدد لا يحصى من أشجار الزيتون. غير أن الملك يحمّل المدينة من الضرائب ما يفوق طاقتها.

طبلبة

طبلبة مدينة قديمة من بناء الرومان ، على البحر المتوسط على مسافة اثني عشر ميلا من المنستير (١٣١). وقد كانت في وقت ما كثيرة السكان ، وكانت أراضيها تنتج الكثير جدا من الزيتون. ولكن كل أراضيها أصبحت الآن مهجورة بسبب غزوات العرب. ولم يبق الآن سوى القليل من البيوت في طبلبة ، وهي مسكونة بأنواع من المتعبدين الذين لهم مسكن كبير يقوم بوظيفة مارستان لسكنى الغرباء. ويقصد بعض العرب أيضا هذه المدينة ولكن بدون أن يسببوا أي إزعاج للناس.

مدينة المهدية

المهدية مدينة بنيت في زمننا (١٣٢) بمسعى من المهدي ، الشيعي ، أول خليفة في

__________________

(١٣١) تقع طبلبة على مسافة ٢ كيلومتر عن ساحل البحر و ٢٢ كم جنوب شرق المنستير.

(١٣٢) يقصد المؤلف بعبارة زمننا ، أو الأزمنة الحديثة ، كل الحقبة التالية لفتح المسلمين افريقيا.

٤٥٧

القيروان (١٣٣). وقد بناها على ساحل البحر المتوسط فوق نتوء صخري. وأحاطها بأسوار عالية قوية ، مع أبراج ضخمة وأبواب مصفحة بالحديد. كما يحتمي الميناء أيضا بصورة محكمة بواسطة أسوار جيدة.

وقد وصل المهدي إلى هذه المنطقة بثياب حاج ، وحظي بترحيب السكان متظاهرا بأنه من نسل الرسول. وتوصل بعون من الشعب إلى أن ينادي بنفسه الخليفة المهدي للحصول على حظوة أكبر. ثم راح يجبي الضريبة في بلاد نوميديا الواقعة على مسافة أربعين ميلا الى الغرب من القيروان. ولكنه وقع بيد أمير سجلماسه الذي رمى به في السجن. ولكن الأمير تأثر بالشفقة عليه ، فردّ عليه حريته ، وعرفانا منه بالجميل ، قام المهدي بقتله (١٣٤). ومارس المهدي بعدئذ سلطة طاغية ، حتى أن الشعب ائتمر بقتله (١٣٥).

وحينئذ ظهر داعية يسمى أبا يزيد الملقّب فارس الحمار ، لأنه كان يركب حمارا

__________________

(١٣٣) الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي.

(١٣٤) في الحقيقة لقد اقضّت الحركة الفاطمية في القرن التاسع مضاجع الخلفاء العباسيين لأن دعاتها المتحمسين انتشروا في كل العالم الاسلامي ، ولأن احدهم ، وهو أبو عبد الله ، الذي استقر سنة ٨٩٣ م في ايكجان ، شمال ستيف ، استطاع أن يثير قبيلة كتامة الكبرى وتمكّن من تحريضها وتحريض جميع أهل المنطقة على الثورة السافرة ضد أمراء القيروان الأغالبة. أما المهدي عبيد الله ، الذي كان يدعى له بوصفه إماما ومهديا منتظرا ، فإنه بعد أن غادر المشرق عام ٩٠٢ م اختبأ في مصر ، ومع أنه كان مطاردا ملاحقا ، فقد استطاع أن يلحق بالمغرب ، وذلك أنه سافر متخفيا بزي تاجر خوفا من التنكيل بأسرته. وتحاشى الذهاب بقصد اللحاق بكتامة رهط أبي عبد الله وانتظر بضعة أعوام نتيجة الأحداث في سجلماسة التي كانت حينئذ عاصمة مزدهرة ، وعاصمة أمير خارجي لا يعترف بسلطة خليفة بغداد ، وبعد أن لقي ترحيبا طيبا ألقى به في السجن لأن هذه الحركة الفاطمية الشرقية أصبحت شيئا فشيئا مزعجة بالنسبة للملوك المستقلين الذين كانوا يحكمون في الغرب. وفي نيسان (ابريل) ٩٠٩ م هزم الداعية ابو عبد الله أمير قيروان الأغلبي ، زيادة الله ، ثم ذهب نحو الغرب ، على رأس رجال من قبيلة كتامة ، الملتهبين حماسا نتيجة انتصارهم ، وقضى على الاسرة الرستمية في تاهرت ، وهزم أعداءه أمام سجلماسة واطلق سراح عبيد الله الذي نادى بنفسه إماما. وقد قتل أمير سجلماسة في المعركة ، واصطحب أبو عبد الله معه عبيد الله إلى رقادة قرب القيروان ونادى به خليفة مع لقب المهدي في كانون الأول (ديسمبر) ٩٠٩ م.

(١٣٥) يبدو أن الخلافة الفاطمية قد برهنت في البداية على درجة عالية من الحرية ، في حين يبدو أن الإسلام كما فهمه البربر في القرون الأولى كان شديد التزمت. وكان عبيد الله يطمع في المشرق. فابتداء من عام ٩١٣ م وبينما كان يجهز أول حملة ضد مصر ؛ أخذ يبحث عن نقطة في الساحل يستطيع أن يستقر فيها في طمأنينة لكي يكون لديه نافذة بحرية مفتوحة على المشرق. وابتدأت أعمال بناء المهدية في ٦ حزيران (يونية) ٩١٦ م وما أن تم بناء أسوار القصبة حتى غادر عبيد الله رقادة. التي تخربت بعد قليل ، وجاء ليقيم في المهدية نهائيا.

٤٥٨

باستمرار ، وهاجم القيروان بجيش قوامه أربعون ألف رجل ، فهرب المهدي والتجأ إلى المدينة الجديدة. وأنجده ملك قرطبة بأربعين سفينة فقاتل بها إلى أن هزم أبا يزيد وقتله وقتل أحد أبنائه. ومن هناك عاد إلى القيرووان وطمأن الشعب واسترد مودّته (١٣٦).

وظلت السلطة في أسرة المهدي حتى العصر الذي اتكلم عنه في هذا الكتاب (١٣٧).

وبعد ثلاثين عاما سقطت المهدية بيد النصارى (١٣٨) ولكن عبد المؤمن ، خليفة مراكش وملكها (١٣٩) استرد هذه المدينة بعد ذلك.

وهي الآن تحت سلطة ملك تونس الذي يرسل إليها حاكما ويثقل الضرائب على هذه المدينة. ويزاول سكانها التجارة البحرية ويعيشون في عداء كبير مع العرب ، حتى انهم لا يستطيعون زراعة أراضيهم.

__________________

(١٣٦) توفى المهدي عبيد الله في ٣ أذار (مارس) ٩٣٤ م وخلفه إبنه أبو الحسن محمد القائم إلى ان اندلعت في عام ٩٤٣ الثورة الخارجية الرهيبة التي كانت تؤجج بتأثير فقيه يدعى أبو يزيد مخلد بن كيداد ، من توزر في الجنوب التونسي. وقامت الجحافل المتعصبة والضارية بتخريب البلاد ، إلى أن حاصرت المهدية في ٩٤٤ م. ولما كان القائم قد توفي في ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م فقد تمكن إبنه أبو طاهر اسماعيل المنصور ، عدة مرات بعد كر وفر ، أن يحاصر المتمرد في جبل تاكربوست ، قرب مسيلة وأن يأسره جريحا. ومات أبو يزيد بعد بضعة أيام أي بعد ١٩ آب (اغسطس) ٩٤٧ م. ولكن ابنه الفضل ، الذي يتكلم عنه المؤلف هنا ، لم يقتل غدرا إلا في أيار (مايو) ٩٤٨. وفي نفس هذا العام أي في ٩٤٨ م غادر المنصور المهدية نهائيا كي يجعل مكان إقامته جدا من القيروان ، في بلدة اختفت اليوم وهي صبرة ، التي اتخذت اسم المنصورية.

(١٣٧) بتاريخ ٦ آب (أغسطس) ٩٧٢ م غادر ابن اسماعيل المنصور ، وهو أبو تميم معدّ المعز ، غادر المنصورية نهائيا كي يذهب للاقامة في القاهرة ، ولكن مقر حكومة نائب الملك في افريقيا ظل في المنصورية. وفي بداية سنة ١٠٥٢ م وفي الوقت الذي كان نائب الملك هذا وهو المعز بن باديس ، والذي كان على خلافات شديدة مع خليفة القاهرة الفاطمي ، كان يقطع كل ولاء ديني ، أي الخطبة ، وكل طاعة تجاه مليكه وانحاز إلى الخليفة العباسي في بغداد. وهذا الانسحاب من التبعية هو الذي أدى الى زحف العرب الهلاليين. وهذا الزحف جعل حياته في القيروان مستحيلة. فأضطر إلى اللجوء ، تحت مظلة من حماية العرب ، إلى المهدية سنة ١٠٥٧ م. وعادت هذه المدينة حينذاك عاصمة ، ولكن عاصمة دولة صغيرة زيرية ، تعاني دوما مصاعب كثيرة مع جيرانها العرب الهمجيين.

(١٣٨) في سنة ٤٤٣ ه‍ / بداية عام ١٠٥٢ م اعترف ملك افريقية الزيري ، المعز بن باديس ، اعترف رسميا بسلطة خليفة بغداد العباسي. وفي تاريخ ٢٢ حزيران (يونية) ١١٤٨ م ، الموافق ، ٢ صفر ٥٤٣ ه‍ ، أي بعد مائة عام هجري استولى الاميرال جورج الأنطاكي على المهدية بإسم ملك صقلية روجر. وهرب الأمير الحسن الزيري.

(١٣٩) لقد استرد الخليفة الموحدي المهدية بعد حصار استمر بضعة أشهر في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م.

٤٥٩

وفي أيامنا فكر الكونت بييرنافارو في احتلال المهدية بتسع سفن. ولكن المدينة دافعت عن نفسها بشكل طيب بواسطة مدفعيتها فاضطر هذا للانسحاب بعد خسائر شديدة. وحدث هذا عام ١٥١٩ ميلادية (١٤٠).

صفاقس

صفاقس مدينة قديمة عمّرها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط في الزمن الذي كانوا فيه بحالة حرب مع الرومان. وهي مدينة كبيرة لها أيضا أسوارها العالية المنيعة. وكانت في الماضي كثيرة السكان ، ولكنها لا تحوي اليوم أكثر من ثلاثمائة إلى أربعمائة أسرة (١٤١). وعدد الدكاكين فيها قليل لأنها تتعرض لابتزاز العرب وملك تونس. وغالبية سكانها من الحاكة والبحارة والصيادين. ويصطادون كمية كبيرة من السمك الذي يدعى سبارس ، وهو اسم ليس عربيا ولا بربريا ولا لاتينيا. ويتغذون كسائر الناس الذين تكلمنا عنهم ، أي بخبز الشعير والبازين. وهم رديئو الهندام ، ويذهب بعضهم لمزاولة التجارة في مصر وفي تركيا.

القيروان التي كانت مدينة كبيرة

القيروان أو القروان مدينة شريفة ، أسسها عقبة ، قائد جيوش بلاد العرب الصحراوية (١٤٢) التي أرسلها عثمان ، ثالث خليفة. وبناها على مسافة ستة وثلاثين ميلا عن البحر المتوسط ، وحوالي مائة ميل عن تونس لهدف وحيد ، وهو وضع جيشه والغنائم التى غنمها من مدن بلاد البربر ونوميديا في أمان. وقد أحاط القيروان بسور جميل كله من القرميد. وشيّد فيها جامعا كبيرا رائعا مع أعمدة مرمرية بهيجة ، منها اثنان قرب المحراب ، لهما ارتفاع لا يتصوره عقل ، لهما لون أحمر مرقّش بنقاط بيضاء ، مثل الرخام السماقي. وبعد موت عثمان ، أقرّه معاوية في قيادته حتى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك ، الذي كان يحكم حينذاك في دمشق (١٤٣). وعندئذ أرسل الوليد

__________________

(١٤٠) لا نعلم شيئا عن هذه المحاولة الفاشلة.

(١٤١) «أي ما بين ١٥٠٠ و ٢٠٠٠ نسمة. وسكانها الآن يقاربون مائة ضعف هذا الرقم» (المترجم).

(١٤٢) «بالمقابلة مع بلاد العرب السعيدة ، أي اليمن» (المترجم).

(١٤٣) يتطلب هذا العرض التاريخي إعادة نظر. في الواقع يهتم المؤرخون أن يذكروا لنا ان اول فاتح عربي كان عبد الله ـ

٤٦٠