وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

مملكة بجاية وتونس

عندما قسّمت بلاد البربر الى ممالك ، في بداية هذا المؤلف ، اعتقدت أن من الواجب اعتبار دولة بجاية مملكة ، ثم تأملت القضية بترو فلاحظت أن بجاية لم تكن أبدا مدينة ملكية إلا منذ عهد قريب وحتى الأزمنة الأخيرة ، وأن حكومة هذه المدينة تتبع فعلا ملك تونس. ولكنها كانت تحت حكم ملوك تلمسان وظلت مدة طويلة تابعة لهم ، الى أن شعر أبو فارس ، ملك تونس ، أنه أصبح على درجة كبيرة من القوة ، فقام على رأس جيشه بحملة انتهت ببسط يده على بجاية ، وأصبح ملك تلمسان تابعا يدفع له الضريبة (١). وترك أبو فارس أحد أبنائه وهو عبد العزيز حاكما وأميرا على بجاية ، وذلك كي يؤمن سلامة هذه المدينة. ولتلافي الفتن التي قد تنشب بين أبنائه بعد وفاته ؛ أعطى ابنا آخر وهو عثمان ، مملكة تونس وحكم هذا الأخير مدة أربعين سنة. وأعطى ابنا ثالثا ، يدعى عمار ، قيادة بلاد الجريد. وقد ثار هذا ضد أخيه عثمان ، ملك تونس ، فطاره هذا إلى أن أحتل مدينة صفاقس. واختار المتمرد عقابه بنفسه : فسملت عيناه واقتيد الى تونس حيث عاش ضريرا بضعة اعوام. وظل أمير بجاية مطيعا لأخيه على الدوام (٢). وظلت السلطة الملكية لمدة طويلة في أسرة أمير بجاية الى ان

__________________

(١) في الحقيقة لم تكن بجاية اكثر من ميناء صغير يعيش فيه بحارة اندلسيون وظلت كذلك الى ان رأى الملك الحمّادى الناصر بن آليناس ، في عام ١٠٦٧ م ، وهو امير دولة صنهاجة كبيرة وقوية ، حينما حاصره عرب بني هلال في عاصمته تاكر بوست ، او قلعة بني حماد ، رأى ان من الحكمة ان يلتجىء الى الساحل ، وبنى هذه المدينة (بجاية) التي اصبحت عاصمة بني حماد حتى سقوطها بيد الخليفة الموحدي عبد المؤمن سنة ١١٥٢ م. وظلت بعد ذلك رغم التقلبات المختلفة والمتعددة ، عاصمة ولاية في الامبراطورية الموحدية في مراكش اولا ، ثم في تونس. وفى عام ١٤٢٤ م قام سلطان تونس ابو فارس عبد العزيز باجتياح تلمسان وأخضع مملكة بني عبد الواد.

(٢) على اثر موت ابي فارس ، في ١٨ تموز (يوليه) ١٣٤٣ م ، كان وريثه وولي عهده حفيده ، ابو عبد الله محمد المنتصر ، هو الذي خلفه. وعهد هذا الاخير الى احد اعمامه وهو أبو الحسن علي ، بحكومة بجاية. ولكنه سمل عيني عم آخر ، وهو المعتمد ، الذي ثار عليه وهرب عند تسنّمه السلطة (سبتمبر) ١٤٣٥ م.

وعين مكانه اخوه ، ابو عمرو عثمان ، الذي توفي في بداية أيلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م ، بعد خمسة واربعين عاما هجريا من الحكم المجيد. وعند جلوسه على العرش قام عمه حاكم بجاية ، ابو الحسن علي ، بالتمرد عليه. وانتهى الامر بعد تقلبات مختلفة ، الى الحكم على هذا المتمرد بالاعدام في شهر تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٥٢ م.

٤٢١

خلع عنها بتدخل من الملك فرديناند وبتأثير القوة الحربية لبيير نافار وتأثير اقدامه (٣)

مدينة بجاية الكبرى

بجاية (٤) مدينة قديمة ، بناها الرومان ، كما يظن بعضهم ، فوق سفح جبل شديد الأرتفاع ، على ساحل البحر المتوسط ، وتحيط بهذه المدينة أسوار عالية وقوية ، وتضم ثمانية آلاف أسرة ، وأقصد بذلك القسم المسكون ، لأنها لو امتلأت بالمساكن لاحتوت أكثر من أربع وعشرين ألف أسرة ، وتمتد من حيث العرض على خاصرة الجبل امتدادا كبيرا خارقا للعادة. وسائر بيوتها جميلة ، وهي مجهزة بالجوامع بشكل طيب ، وبالمدارس التي يكثر فيها الطلاب وكذلك اساتذة الشريعة والعلوم. كما تحوى أيضا زوايا للمتعبدين المسلمين ، وحمامات وفنادق ومارستانات وكلها عمارات حسنة البنيان وأسواقها جميلة حسنة التنسيق. وتقوم المدينة كلها على تلال صغيرة ، حتى أنه ليتعذر السير بضع خطوات بدون صعود أو نزول.

وإلى جانب الجبل توجد قلعة كبيرة ذات جدران متينة. وتزدان بالكثير من الفسيفساء ، وبالجص المجزع ، وبالأخشاب المحفرة بالنقوش التي تعلوها رسومات عجيبة بلون أزرق سماوي ، حتى لتساوي هذه الأشغال الفنية من حيث القيمة أكثر من البنيان ذاته.

وكان أهل بجاية على قدر كبير من الغنى ، فكانوا يسلحون مراكب وسفنا حربية ويرسلونها لغزو سواحل أسبانيا. وهذا هو ما أدى الى سقوطها وحفز الكونت بيير نافار وعلى غزوها واحتلالها. ويعيش الناس في فاقة لأن أراضيها الزراعية هزيلة للغاية لا تنتج الحبوب ، ولكنهم مغمورون بالثمار ، اذ يوجد حول المدينة عدد لا يحصى من البساتين المليئة بالاشجار المثمرة ، وتكثر هذه الحدائق من جهة الباب الذي يشرف على الشرق.

والمنطقة مليئة بجبال وعرة مغطاة بغابات تعج بالقردة والفهود.

__________________

(٣) اسندت مهمة حكم بجاية بالتعاقب لأمراء حفصيين مختلفين ، ولكنها كانت تتمتع باستقلال كان يتزايد على توالي الأيام ، حتى إن الكونت بيير دونافار وعندما قام بإنزال قواته في ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٠ م ، وجفل السكان ، حاول ان يتضامن مع «الملك» الشرعي عبد الله ، الذي سبق ان خلع قبل وقت قليل على يدعمه «الملك» عبد الرحمن.

(٤) بالبربرية بجيت ، وهو اسم قبيلة ، وفى العربية بجاية ، وفي العصور القديمة سلداءة.

٤٢٢

وأهل بجاية رجال لطيفو المعشر ميالون الى المرح والى الموسيقى والرقص ، ولا سيما الأمراء الذين لم يقووا على محاربة مخلوق ، حتى لقد تجلى خورهم عندما جاء الكونت بيير نافارو مع بضع سفن من سفن النقل (٥) ، فقد لاذ حينئذ جميع السكان ، والملك على رأسهم ، بالفرار الى الجبل ، حاملين معهم كل ما يملكون بدون أن يمتشقوا حساما. فاحتل الكونت بيير المدينة ونهبها ، ثم عمد فورا لبناء قلعة قرب البحر ، في مكان يوجد فيه ساحل طيب ، هذا كما حصّن قلعة قديمة كانت قريبة من البحر وبجوار دار الصناعة (٦).

وبعد ستة اعوام (٧) أراد التركي بربروس ان ينتزع المدينة من أيدي النصارى وجاء ورابط أمام المدينة مع الف من الجنود الأتراك. وهاجم القلعة القديمة فاحتلها وحصنها. وجاءت كل قبائل الجبال المجاورة لمساعدة بربروس ، فقوى عزمه على احتلال القلعة الأخرى ، المجاورة للشاطىء. ولكن عند اول هجوم سقط مائة تركي من بين أكثرهم بسالة ، ومائة من أهل الجبال قتلى ، حتى إن القوات التركية عزفت عن استئناف المعركة واضطر بربروس للالتجاء الى قصر جيجل ، كما سبق أن قلنا آنفا (٨).

قصر جيجل (٩)

هو قصر قديم بناه الأفارقة على ساحل البحر ، فوق جرف عال ، على مسافة ستين ميلا من بجاية (١٠) ويضم حوالي خمسمائة أسرة وبيوته جميلة جدا. ورجاله بواسل كرماء واوفياء! وكلهم فلاحون وأراضيهم وعرة غير صالحة الا لزراعة الشعير والكتان والقنب الذي ينمو هنا بكمية كبيرة. ويوجد في هذا القصر كذلك الكثير من شجر الجوز والتين ، وتنقل ثمرات هذا الشجر الى تونس فوق مراكب صغيرة. وقد حافظ

__________________

(٥) ١٤ سفينة كانت تنقل ٨٠٠٠ رجل.

(٦) سقطت بجاية في عام ٩١٧ ه‍) في يوم السبت ٢٤ رمضان الموافق ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٠ م.

(٧) في رجب ٩٢١ ه‍ / آب (أغسطس) ١٥١٥ م.

(٨) في منتصف ايلول (سبتمبر) زادا الطين بلة هطول امطار غزيرة وذهب الفلاحون الى فلاحتهم.

(٩) جيجيل أو جيجيلي.

(١٠) وهي ايعيلغيلي الرومانية ، وجيجل بالعربية ، وكانت جيجللي تقع فوق شبه جزيرة منخفضة جدا ومنبسطة كثيرا ، واقعة على مسافة ٩٦ كم او ٦٠ ميلا من بجاية.

٤٢٣

هذا القصر دوما على حريته ، رغما عن ملوك بجاية وملوك تونس لاستحالة محاصرته ، غير ان هؤلاء السكان خضعوا بمحض إرادتهم لبربروس (١١). ولم يفرض عليهم بربروس سوى ضريبة العشر على الحبوب والثمار ، وهو أمر كان دائما مشروعا في العادة. ولم يترك ممثلا له في القصر سوى مفوض واحد.

مدينة مسيلة

هي مدينة قديمة بناها الرومان على تخوم صحراء نوميديا ، في داخل الأراضي على مسافة مائة وأربعين ميلا من بجاية (١٢). ومع أن الأسوار المحيطة بها جميلة فإن بيوتها قبيحة. وكل سكانها صناع ومزارعون. وهم رديئو الهندام لأنهم فقراء. وهذا بسبب العرب جيرانهم الذين يغتصبون أموالهم واقواتهم ، ولأن ملك بجاية فرض عليهم عدة ضرائب. وفي الوقت الذي مررت فيه بمسيلة أصبت بالذهول من البؤس السائد فيها. وقد عانيت صعوبات جمة للحصول على الشعير اللازم لحصانين ولليلة واحدة. ولو بقيت فيها ليلة اضافية لما وجدت بها نفس الكمية بسبب الشدة والمجاعة اللتين كانتا مستفحلتين فيها.

ستيف

ستيف (١٣) مدينة بناها الرومان على مسافة ستين ميلا (١٤) جنوب بجاية ، بعد اجتياز كل الجبال ، في سهل جميل جدا. وهذه المدينة محاطة بأسوار مشيدة بحجارة بديعة وكبيرة ، منحوتة ومكعبة الشكل. وقد كانت في غابر الزمن آمنة متحضرة كثيرة السكان ، ولكنها جنحت للانحطاط بعد الفتح الاسلامي وعلى الخصوص بعد قدوم العرب (١٥) الذين هدموا قسما من أسوارها. ولم يبق فيها سوى مائة بيت مسكون ،

__________________

(١١) استرد بربروس قصر جيجل هذا من الجنويين الذين احتلوه ، وذلك في عام ١٥١٤ م ، بمعونة امير محلي هو ابن القاضي الذي ساعد بربروس.

(١٢) لقد تأسست المسيلة في عام ٩٢٦ م على مسافة ٧ كم من اطلال المدينة الرومانية زابي التي تحمل اليوم اسم بشيلغه ، وتقع مسيلة على مسافة ١٢٠ ميلا او ١٩٠ كم من بجاية.

(١٣) ستيفيس الرومانية ، او سطيف ، ستيف.

(١٤) ٩٦ كم.

(١٥) أي الهلاليون في آخر القرن الحادي عشر الميلادي.

٤٢٤

ولكن موقعها الفسيح لا زال موجودا ، وهذا ما أدركته عند ذهابي من فاس الى تونس.

نكاوس

نكاوس (١٦) مدينة تتاخم نوميديا. وقد بناها الرومان على مسافة مائة ميل من البحر المتوسط وثلاثين ميلا تقريبا من مسيلة (١٧). وهي محاطة بأسوار قديمة قوية. ويمر بجوارها نهر ، تقع مزارع التين والجوز على ضفافه. ويشتهر تين المنطقة بأنه أفضل انواع التين في مملكة تونس ، وينقل الى قسنطينة الواقعة على مسافة اربعين ميلا عنها (١٨). وتوجد حول نكاوس سهول جيدة صالحة لزراعة القمح. وسكانها اغنياء ، شرفاء كرماء. ويلبسون ثيابا لائقة ، مثل سكان بجاية. وتحتوي البلدة على بيت معد لسكنى الغرباء. وفيها أيضا مدرسة للطلاب الذين جرت العادة أن يعفوا من نفقات الكساء والغذاء. كما أن فيها جامعا جميلا فسيحا جدا ومجهزا بكل ما تمس الحاجة اليه. والنساء هنا جميلات ، لون بشرتهن أبيض ، وشعورهن فاحمة ولامعة ، لأنهن يكثرن من التردد على الحمامات ويعتنين بأنفسهن كثيرا. وليس لبيوتها على العموم سوى طابق واحد أرضي. ومع ذلك فهي أنيقة جدا ، وبهيجة المنظر لأن لكل بيت منها حديقته المليئة بالزهور المتنوعة ، لا سيما من ورود دمشق ، والريحان والبنفسج ، والحبق ، والقرنفل وأزهار أخرى لا تقل عنها بهاء. ولجميع المنازل تقريبا عيون ماء تسقى منها. وعلى الجانب الآخر من الحديقة تظهر «تكعيبة» بديعة تعطي في الصيف ظلا ظليلا ومنعشا حول الجزء المكشوف من المسكن. ولهذا فإن الذي يقصد نكاوس يود لو يبقى فيها حينا طويلا من الدهر ويأسف لاضطراره إلى مغادرتها ، وذلك لما لقيه من اهلها المضيافين المحبين من حفاوة وترحاب (١٩).

__________________

(١٦) اونيسبوس الرومانية ، وهي أكثر شهرة بشكل غير مباشر باسم نيسيفيبوس ، ونيكاوس بالعربية ، او نكاوس.

(١٧) او ٦٠ كم و ٤٨ كم.

(١٨) ٦٤ كم.

(١٩) لا تنطبق هذه اللوحة الفاتنة على نكاوس في الوقت الحاضر : فالمدينة القديمة المسورة الواقعة قرب النهر ليست اكثر من ميدان حجارة لاشكل لها ، والبلدة الحديثة ، الواقعة على السفح الذي يشرف عليها ، ليس فيها شيء فريد ، ولكن الموقع يكون نسبيا جميلا ، كما أن وفرة المياه قد تبرر جزئيا هذا الوصف الذي يبدو انه كتب بناء على معلومات محابية.

٤٢٥

مدينة القالة

القالة مدينة كبيرة بناها كذلك الرومان على حافة البحر المتوسط ، عند حضيض جبل عال جدا. وليس لهذه المدينة في الوقت الحاضر أسوار. فقد هدم أسوارها القوط (٢٠) ، وقد تركها المسلمون الذين حكموها من بعدهم ، على الحالة التي وجدوها عليها. مع ذلك فهي مدينة آمنة ، مليئة بالصناع ، وسكانها أناس لطفاء وكرماء. وهم يقومون بتجارة طيبة لأنهم يستمدون من جبلهم الكثير من الشمع ، ولديهم كمية كبيرة من الجلود. ويقايضون هذه المنتجات بالسلع التي يجلبها الجنويون الذين يترددون على مينائهم. واراضيهم الزراعية منتجة ، ولكنها واقعة في الجبل. ويعيش السكان في حرية : وقد كانت دائما في حماية ملك تونس ومن أمير قسنطينة ، لأن المسافة بين قسنطينة وبين القالة تبلغ مائة وعشرين ميلا (٢١). ونصف اراضي كورة القالة مؤلفة من جبال يسكنها رجال بواسل جدا.

ولا يوجد على ساحل مملكة تونس مدينة اكثر غنى من هذه المدينة. فهي تربح من تجارتها مع الجنويين (اهل جنوة) ضعف قيمة ما تعطيه اياهم. ثم تبيع بالمفرّق (٢٢) في الجبال المجاورة البضائع التي جلبها الجنويون وتجنى من ذلك كسبا ضخما.

سكيكدة (٢٣)

وهي مدينة قديمة جدا ، بناها الرومان على ساحل البحر ، على مسافة خمسة وثلاثين ميلا من قسنطينة (٢٤). وقد خربها القوط في الماضي (٢٥). ولكن نظرا لوجود ميناء

__________________

(٢٠) أي الفندال.

(٢١) في الحقيقة ٨٠ ميلا او ١٢٨ كم.

(٢٢) او القطاعي.

(٢٣) «وقد سماها الفرنسيون فيليبفيل في اثناء فترة استعمارهم القطر الجزائري تخليدا لذكرى الملك لويس فيليب الذي كان على رأس البلاد عند الفتح» (المترجم).

(٢٤) اسم المدنية الرومانية روز يكاد ، وقد تحولت الى سكيكدة عند العرب ، وتقع على مسافة ٥٤ ميلا او ٨٧ كم من قسنطينة.

(٢٥) الفندال.

٤٢٦

فيها فقد أقام امير قسنطينة بها مساكن ومستودعات للجنويين الذين يتاجرون في البلاد ، وبنى كذلك قرية في قمة جبل مجاور (٢٦) ، ويقيم في هذه القرية باستمرار مرشد يعطي اشارة للسفن المتجهة نحو الميناء. ويزاول سكان جبل سكيكدة التجارة بكثرة مع الجنويين ، فيقدمون لهم القمح ويأخذون منهم بالمقابل اقمشة ومنتوجات اوروبية اخرى. ويمتد بين هذا الميناء ومدينة قسنطينة طريق مبلطة بحجارة سوداء ، كما ترى في ايطاليا الطرق التي يسمونها الطرق الرومانية. وفي ذلك دليل قوي على ان سكيكدة قد بناها الرومان (فقد رصفوا بعض طرقها على غرار طرق ايطاليا) (٢٧).

مدينة قسنطينة

قسنطينة مدينة قديمة من بناء الرومان (٢٨). ومن المستحيل نكران ذلك عندما ترى أسوارها القديمة العهد ، العالية ، والسميكة ، والمصنوعة من حجارة منحوتة مسودّة. وتقع قسنطينة فوق جبل شديد الارتفاع وهي محاطة من الجهة الجنوبية بجروف عالية يمر من أسفلها نهر يدعى سوفغمار (٢٩). والضفة الاخرى للنهر محفوفة أيضا بجروف ، حتى أن الفج العميق الذي يقع بين هذين الجرفين القائمين يقوم بوظيفة خندق بالنسبة للمدينة ، ولكنه اكثر فائدة للمدينة من مجرد خندق.

وتتمتع المدينة من الشمال بأسوار غاية في المناعة ، وهي فضلا عن ذلك تقع في اعلى قمة في الجبل. وينتج عن ذلك تعذر الوصول الى قسنطينة الا بدروب ضيقة صغيرة. بعضها من الشرق ، وبعضها من الغرب. وللمدينة أبواب جميلة كبيرة جيدة التصفيح بالحديد.

__________________

(٢٦) على رأس سكيكدة.

(٢٧) هناك كتابة فوق جسور هذا الطريق تدل على انها شيدت بجهود كتيبة اوغستا بناء على امر الامبراطور هادريان (١١٧ ـ ١٢٨ م).

(٢٨) كانت تدعى في العصر القديم سيرتا ، وكيرتا في اللغة البونية ، اي المدينة. ولقد تخربت في اعقاب ثورة ثم اعيد بناؤها بأمر من الامبراطور قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٢٣ م) ومنحت اسم قسطنطين ، وفي العربية قسنطينة.

(٢٩) ذكر هذا الاسم على شكل سوفغمار في القسم العاشر. وقد نقله مارمول على شكل سوفوغمار بومرزوق. وكلمة سوف تعني النهر في بعض اللجهات البربرية ، ولكن لم يكن التعرف على معنى بقية الكلمة بشكل مضبوط ، ويبدو ان المقصود بها وادي الرمل الذي يرفده واد بومرزوق قبل دخوله قسنطينة.

٤٢٧

وتستطيع قسنطينة ، استنادا إلى أبعادها ، أن تضم ثمانية آلاف أسرة. ولديها موارد كبيرة ، وهي مدينة مطمئنة ، مليئة بأبنية شريفة وبمنازل كبيرة ، كالجامع الكبير ومدرستين وثلاث زوايا أو أربع. وأسواقها عديدة ، حسنة التنظيم ، ولكل أصحاب مهنة فيها مقر منفصل عن مقر اصحاب المهن الأخرى. ورجالها شجعان ، ميالون للخصام ، ويشتد هذا الميل بين الصناع. وفيها عدد كبير من الباعة الذين يزاولون تجارة الأقمشة الصوفية المصنوعة محليا. ويصدر بعض التجار الزيت والحرير الى نوميديا. وكذلك الأقمشة الكتانية. ويباع كل ذلك بالمقايضة مقابل التمور والعبيد. ولا توجد مدينة في جميع بلاد البربر ترخص اثمان تمورها بمقدار رخصها في قسنطينة ، إذ يمكن شراء ثمانية أرطال إلى عشرة (٣٠) مقابل ثلاثة بيوكشيات (٣١). ويميل أهل قسنطينة الى القصد في شئون ثيابهم وزينتهم ، وهم متعجرفون وذو وتفكير سقيم. وكان من عادة ملوك تونس منح قسنطينة لولدهم البكر. ولكن الملك الحالي (٣٢) كان يعطيها تارة لهذا وتارة لذاك من أبنائه. فقد عهد بها في البداية الى ولي عهده (٣٣) الذي شرع في اعمال جليلة اذ ذهب مع جيشه لملاقاة العرب. ولكنه قتل في أول حملة على أيدي هؤلاء وقضي على كل جيشه (٣٤) ، وعلى أثر ذلك اعطى الملك المدينة لولد آخر من اولاده يدعى عبد العزيز ، وهو شاب قاس ظالم ، كان ثملا باستمرار ، وانتهى به الامر الى الهلاك بسرطان نهش خاصرتيه.

ثم أعطاها لولد آخر ، وهو غلام صغير ، كان أقرع ، لوطيا ، سكيرا عربيدا ظالما. وثار الشعب عليه وحاصره في القلعة ، الى أن ارسل والده بعض الضباط الذين اقتادوه مكبلا بالأغلال الى تونس. والقي به في السجن وأجبره على دفع غرامة بلغت خمسين الفا من الدنانير المزدوجة (٣٥). وبعد هذا أرسل الملك الى قسنطينة ،

__________________

(٣٠) اي ما يعادل ٧ ، ٢ كغم إلى ٤ ، ٣ كغم.

(٣١) حوالي ٢٠ سنت ذهب.

(٣٢) السلطان ابو عبد الله محمد.

(٣٣) الناصر.

(٣٤) قال المؤلف في كتابه الأول انه في عام ٩١٥ ه‍ (بين ٢ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م ذهب ابن ملك تونس لاستلام الضريبه من الشاوية فتعرض لهجوم وانكسر وقتل وكان على رأس قوة قوامها ٢٠٠٠ فارس على رأسها الناصر ذاته. «الشاوية هم بربر جبال الاوراس وليسوا من العرب» (المترجم).

(٣٥) ضعف الدينار التونسي او ما يعادل ٨١١٠٠٠ فرنك ذهب.

٤٢٨

وكيلا ، كان رجلا طيبا ، وابن موظف ملكي كبير يدعى فرح وكان هذا نصرانيا اعتنق الاسلام ، كان الملك يستعين به في اكثر القضايا اهمية سواء في الخدمة او في الادارة. وقد انشرحت نفوس السكان لهذا الوكيل ، وهو رجل شريف ومتواضع في قيادته.

وفي الجانب الشمالي من قسنطينة تقع قلعة قوية كبيرة بنيت في زمن تأسيس المدينة ، ودعمت تحصيناتها على يد الوكيل الحالي ، وهو كذلك نصراني اعتنق الاسلام ، واصله من مقاطعة بروقانس. ويدعى السيد نبيل (٣٦).

وكان هذا الرجل على درجة كبيرة من الدهاء فقد استطاع ان يبث مكائد خطيرة بين سكان قسنطينة بعضهم ضد بعض ، وكان يحرك هذه الخصومات في الاتجاهات التي تحقق اغراضه ، ولجأ كذلك الى مداورات مع العرب المجاورين للمدينة ، ومع أن هؤلاء كانوا أنبل العرب الموجودين في افريقيا وأشدهم بأسا (٣٧) فقد جعلهم يعيشون في حذر دائم. وقبض مرة على رئيس من هؤلاء العرب كان تحت امرته خمسة آلاف فارس ، وقبض على أبنائه وحفدته وإخوته ، ولم يطلق سراحه الا بعد ان ترك عنده ثلاثة من ابنائه رهائن في قلعة قسنطينة.

وبلغ به الغرور ان راح يضرب عملة تحمل اسمه. وقد بدت هذه العملة افضل من عملة الملك ولما علم الملك بالأمر استدعاه على عجل ، ولكنه لم يستجب لدعوة الملك ولم يرغب في ذلك ، واكتفى بأن أرسل للملك كمية كبيرة من الدنانير مع هدية عظيمة. واضطر الملك الى السكوت لأنه لم يستطع ان يفعل شيئا آخر.

وانتهى الامر بنبيل الى ارتكاب الكثير من المظالم تجاه الشعب الذي ثار عليه ، في الوقت الذي كان في نوميديا يضرب الحصار على مدينة بسكرة. وعند سماعه بهذه الانتفاضة ، عاد مباشرة الى قسنطينة ولكنه عجز عن دخولها. واضطر الى الذهاب الى تونس طالبا نجدة الملك. ولكن الملك رماه في سجن مظلم بمجرد وصوله وفرض عليه غرامة مقدارها خمسة آلاف دينار. وبعد ان دفع الغرامة وخرج من السجن منحه الملك النجدة التي طلبها وأرسله كي يضرب الحصار على قسنطينة فدخلها بعد عدة ايام بفضل

__________________

(٣٦) استلم السلطان ابو عبد الله محمد مقاليد السلطة في ١٦ ايار (مايو) ١٤٩٤ م كما توفي القائد ابو الفهم نبيل في ٢١ ايار (مايو) ١٤٥٣ م في عهد السلطان عثمان.

(٣٧) قبيلة رياح.

٤٢٩

ما كان تحت إمرته من قوة وما هداه اليه حذقه وتدبيره. وعمد حينئذ الى قتل عدد كبير من الشخصيات الرئيسية في المدينة ، حتى ان الشعب ثار عليه من جديد. وحوصر في القلعة وكان يقوم بمعركة يومية ضد المهاجمين ، ولكن سقط كثير من أتباعه صرعى ، ووقع هو نفسه في اكتئاب وغم شديدين ، وأصيب بعلة مات على اثرها بعد بضعة أيام. فاستسلم اهل القلعة وردوها الى الشعب الذي دخلها ونهب قصر نائب الملك فعثر فيه على اشياء ثمينة وحوالي اثنى عشر الف كيل من الحب فضلا عن مائة رأس من كرام الخيل (٣٨).

وعلى اثر هذه الحوادث ارسل الملك نائبا الى قسنطينة لكي يشرح للشعب ان صاحب الجلالة قد عفا عنهم وضرب صفحا عن كل الاهانات. فأنشرح صدر السكان الذين لم يعودوا راغبين في ان يرسل الملك بعد الآن نائبا عنه. ولهذا أرسل الملك بالتعاقب اولاده واحدا فواحدا كما سبق ان قلنا قبل قليل.

وجميع الأراضي الزراعية الواقعة حول المدينة طيبة وخصيبة. ويبلغ محصولها ثلاثين ضعفا لما بذر فيها. وكذلك توجد بساتين جميلة جدا في السهل على طول النهر ولكنها لا تنتج كثيرا من الثمار لأن اهلها لا يعرفون كيفية زراعتها.

ويشاهد في ظاهر قسنطينة بضعة أبنية شريفة قديمة ، وعلى مسافة ميل ونصف من المدينة ، يوجد قوس نصر شبيه بأقواس النصر في روما. ولكن العامي يعتقد ، وذلك لحمقه ، أنه يوجد هنا قصر تسكنه الشياطين الذين طردهم المسلمون فى العصر الذي قد قدموا فيه ليسكنوا هذه المنطقة.

ويوجد بجوار النهر ، تحت الجرف ، درج من أجل النزول منحوت فى الصخر بالمعول. وعند حافة الماء يوجد رواق على شكل قبة منحوتة هي أيضا في الصخر ، حتى ان السقف والاعمدة والأرضية تؤلف جميعا قطعة واحدة. ومن عادة نساء المدينة الذهاب اليه لغسل الثياب.

وعلى مسافة ثلاث رميات حجر من المدينة تقريبا ، يوجد حمام ، مؤلف من نبع

__________________

(٣٨) في الحقيقة مات القائد ابو الفهم نبيل بن ابي كتاية في ٢١ ايار (مايو) ١٤٥٣ سجينا في تونس من قبل السلطان ابي عمر وعثمان.

٤٣٠

ساخن يتدفق بين جلاميد كبيرة (٣٩). وتوجد كمية كبيرة من السلاحف التي يعتبرها النسوة ارواحا شريرة. وعند ما تصاب ، على سبيل الصدفة ، احدى تلك النساء بالحمى أو بأي مرض آخر ، فإنها تعتبرها خطيئة السلاحف ، وتعالج مرضها بأن تذبح حالا دجاجة بيضاء ، تضعها في وعاء مع كل ريشها ، ثم تحملها الى العين وتتركها بعد ان تربط حول الوعاء بضع شمعات مصنوعة من شمع العسل. ويقوم بعض الفطنين بمتابعة المرأة عند ما يرونها تتجه نحو العين مع الوعاء والدجاجة ، كي يأخذوها بمجرد أن تقفل راجعة ، ثم يطبخوا الدجاجة ويأكلوها.

وعلى مسافة أبعد من نبع الماء الحار يوجد نبع ماء بارد يقوم بجانبه بناء من الرخام ، وقد رأيت كثيرا من أشباهه في ايطاليا وفي كل بلاد أوروبا. ويعتقد العامة انه كانت هنا مدرسة لدراسة الآداب كان استاذها وتلاميذها فاسقين فمسخهم الله تعالى الى رخام ، عقابا على آثامهم. وتحولت كذلك أبنية مدرستهم الى قطعة رخام. ويجتمع اهل قسنطينة مرتين في العام في قافلة تذهب الى نوميديا. وينقلوا اليها اقمشة الصوف المصنوعة في بلادهم ونوعا من دنس يسمى الحشيش (٤٠). ونظرا لكثرة تعرضهم لهجمات العرب ، فهم يصطحبون معهم بعض رماة البنادق من الاتراك الذين ينالون اجرا طيبا على ذلك. هذا ولا يدفع تجار قسنطينة رسم دخول الى تونس ، ولكنهم يدفعون عند الخروج من قسنطينة مقدار اثنين ونصف بالمئة من قيمة بضائعهم. ولكن اضرار رحلتهم الى تونس تزيد على منافعها ، اذ تسيطر عليهم في اثنائها متعة الفسق والفجور فينفقون معظم ما ربحوه على النساء الساقطات.

مدينة ميله

ميله مدينة قديمة بناها الرومان على مسافة اثنين وثلاثين ميلا من قسنطينة (٤١) وهي محاطة بأسوار قديمة وتحوي قرابة ثلاثة آلاف أسرة. ولكنها أقفرت اليوم ، ولم يبق فيها كثير من البيوت المسكونة ، وذلك بسبب ظلم الأمراء. وفيها عدد كبير من الصناع ، ولا

__________________

(٣٩) حاليا حمام سيدي مسيد.

(٤٠) الحشيش هو تركيب اساسه القنب الهندي. «ويزرع حاليا على نطاق واسع في منطقة الريف في شمال المغرب حيث يسمى المشموم ، ويعتبر إدمان تدخينه محنة وطنية لشدة فتكه بالمواطنين» (المترجم).

(٤١) اكثر من ٥٠ كم.

٤٣١

سيما الذين يعملون في نسج أقمشة الصوف الذي تصنع منه أغطية السرائر. ويوجد في ساحتها عين بديعة يستخدم ماؤها في حاجات سكان المدينة. وهؤلاء السكان أناس بواسل ، ولكن مع فهم سقيم.

والمنطقة ذات إنتاج غزير من التفاح والكمثرى والثمار الأخرى. وأظن أن اسم هذه المدينة مشتق من كلمة لاتينية هي ميتا ، أي التفاح (٤٢) ، ويكثر فيها كذلك القمح.

ومن عادة أمير قسنطينة أن يرسل لهذه المدينة حاكما مهمته تحقيق العدالة فيها وجباية الضرائب المخصصة له. ويمكن تحصيل مبلغ أربعة آلاف دينار تقريبا من ميله. ولكن في الغالب يثور سكان هذه المدينة على هؤلاء الحكام ويقتلونهم منقادين في ذلك الى نزعة العنف المتأصلة فيهم.

مدينة عنابة

عنابة مدينة (٤٣) قديمة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة وعشرين ميلا نحو الشرق (٤٤). وكانت تدعى في القديم اوربونه. وهنا كان القديس أوغسطين أسقفا. وكانت تحت سلطة القوط (٤٥) ولكن الخليفة عثمان استولى عليها ، وهو ثالث خليفة بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم فخربها وتركت مهجورة بعد أن استحوذ على الغنائم وأحرقها (٤٦).

وشيدت بعد ذلك مدينة أخرى تبعد عن السابقة مسافة ميلين تقريبا. وقد بنيت بحجارة المدينة القديمة. وأكثرية الناس تسمى هذه المدينة الجديدة بلد العناب ، أي مدينة ثمر العناب ، بسبب كثرة هذه الثمار في هذه البقعة. وتجفف ثمار العناب كي

__________________

(٤٢) اشتقاق متكلف ، لأن اسم بلدة «ميتا» اللاتيني كان ميلو أو ميليئو ، وهي كلمة بربرية يقينا.

(٤٣) أو بونه أو هيبونه.

(٤٤) تعادل المسافة المذكورة ١٩٢ كم بالنسبة لقسنطينة.

(٤٥) أي الفندال.

(٤٦) تقع خلافة عثمان بين ٦٤٤ و ٦٥٦ م. ولا نزال نجهل تاريخ سقوط هيبونه ولكن المؤلف سيقول نفسه إن رومان قرطاج قد التجأوا إليها بعد سقوط مدينتهم وخرابها ، وقد حدث ذلك عام ٦٩٣ ه‍.

«أضف إلى هذا أن الخليفة عثمان لم يفتحها شخصيا كما يذكر المؤلف إذ لم يكن على رأس الجيش مطلقا» (المترجم).

٤٣٢

تؤكل أثناء الشتاء. وتضم المدينة حوالي ثلاث آلاف أسرة. وسكانها متكاثفون جدا فيها ، ولكن لا يوجد فيها سوى القليل من المنازل الجميلة. ويظهر فيها جامع جميل جدا بني على ساحل البحر.

والرجال فيها وديعون فبعضهم تجار وبعضهم الآخر من الصناع والحاكة. ويبيع الأخيرون كمية كبيرة من أقمشتهم الكتانية في مدن نوميديا. ولكن العنابيين على درجة قصوى من العجرفة والعنف حتى إنهم لا يقنعون بقتل حكامهم بل تبلغ بهم الجرأة أن يهددوا بتسليم مدينتهم للنصارى إذا لم يرسل لهم الملك حكاما طيبين وعادلين. ويضيفون إلى هذا الصلف سذاجة كبيرة ، فمن ذلك أنهم يبجلون أشخاصا يتجولون في المدينة كالمجانين ، ويعتقدون أن هؤلاء أولياء ويحيطونهم بكل اعتبار وتقدير.

هذا ولا توجد في عنابة ينابيع وأنما توجد فيها خزنات «مواجن» تجمع فيها مياه المطر. ويظهر في الجانب الشرقي من المدينة قلعة كبيرة وحصينة محاطة باسوار سميكة ، وقد شيدها ملوك تونس ، وفيها يسكن الحاكم. والأرض في خارج المدينة مزروعة على مسافة تبلغ أربعين ميلا تقريبا طولا وعلى خمسة وعشرين ميلا عرضا (٤٧). وكل هذه الأراضي ممتازة لزراعة القمح. وتقطنها قبيلة عربية تدعى مرداس ، وهم الذين يزرعونها ، ويملكون عددا كبيرا من الأبقار والثيران والأغنام. وتنتج هذه المواشي كمية ضخمة من السمن ، ولكن العرب لا يجنون منها فائدة يعتد بها عند ما يذهبون لبيعها في عنابة. وكذلك الحال بالنسبة للقمح. وفي كل السنين تقصد هذه المدينة سفن عديدة قادمة من تونس ومن جربه ومن كل الساحل ، حتى جنوا ، لشراء القمح والسمن من عنابة ، ويستقبل أهل المدينة هذه السفن بكل ترحاب.

ويعقد في كل ايام الجمعة سوق خارج المدينة ، قرب الاسوار ، ويستمر حتى المساء.

وعلى مسافة ليست ببعيدة عن القالة يوجد ساحل للبحر به كثير من المرجان ، ولكن ليس لأحد الحق في صيده أو في التقاطه من على الساحل لأن الملك أعطى هذا

__________________

(٤٧) أي ٦٤ كم في ٤٠ كم.

٤٣٣

الساحل بالتأجير إلى أهل جنوا الذين يتعرضون لمضايقة القراصنة حتى إنهم طلبوا السماح لهم ببناء قلعة فيه. ولكن السكان لم يقبلوا ذلك بدعوى أن أهل جنوا سبق لهم في الماضي أن هيمنوا على المدينة بسبب هذه الحيلة ونهبوها ، ثم استردها ملك تونس فيما بعد.

تيفش

تيفش مدينة بناها الأفارقة في العصر القديم على مسافة خمسين ميلا من عنابة باتجاه الجنوب (٤٨). وقد كانت في الماضي مدينة آمنة كثيرة السكان ومزدانة بأبنية فخمة ، ولكنها تخربت عند ما جاء العرب (٤٩) إلى إفريقيا. ثم أعيد إعمارها فيما بعد ، أي بعد بضعة أشهر ، ولم تتعرض حينئذ لأي أذى. وبعد ذلك احتلها عرب آخرون وخربوها من جديد.

وظلت أخيرا في حوزة قبيلة إفريقية لم تستخدمها إلا لتخزين حبوبها. وتدعى هذه القبيلة هوارة. ولها في أيامنا أمير يدعى نسر. وبعد أن جمع هذا الأمير العديد من الفرسان راح يحارب لمصلحة قبيلته حتى بلغت به الشجاعة أن يوطد مركزه في الأرياف على الرغم من العرب. وهو الذي قتل أمير قسنطينه الذي يدعى الناصر ، ابن ملك تونس. وبعد هذا جاء الملك بشخصه ، في إحدى المرات التي كان عائدا فيها من نوميديا ، ومر بتيفش ونهبها وهدم ما كان قائما فيها. وقد وقعت هذه الأحداث في عام ٩١٥ ه‍ (٥٠).

__________________

(٤٨) تقع تيفش على مسافة ٨٠ ميلا أو ١٢٨ كم من عنابة ولا يرى فيها سوى القليل من آثار تيبازا نوميدا روم في المنطقة النوميدية الخالصة. وهذا الاسم هو مثال واضح للتحريف اللاتيني للحروف الصوتية البربرية فانقلب حرف ب الى حرف ف كما انقلب حرف س الى حرف ش «وعلى هذا يمكن لفظها تيفش» (المترجم).

(٤٩) أي البدو الهلاليون «ونظريته في هذا الصدد تماثل آراء ابن خلدون تماما» (المترجم).

[انظر تعليقنا رقم ٣٥٩ على مقدمة ابن خلدون لتوضيح ما يقصده ابن خلدون من كلمة «العرب» في جميع الفصول التي وردت فيها هذه الكلمة في مقدمته ، الجزء الثاني الطبعة الثانية للجنة البيان تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافي ص ٥٧٩ وتوابعها ، وانظر كذلك مقالا لنا بعنوان «اتهام ابن خلدون بالتحامل على العرب» نشر بمجلة «الأصالة» الجزائرية عدد سبتمبر ـ أكتوبر ١٩٧٣]. (المراجع).

(٥٠) أي بين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.

٤٣٤

مدينة تبسّه

تبسه مدينة قديمة وحصينة بناها الرومان (٥١) على تخوم نوميديا (٥٢) على مسافة مائتي ميل جنوب البحر المتوسط (٥٣). وهي محاطة بأسوار عالية ، قوية وسميكة ، مشيدة بحجارة منحوتة تشابه جدران الكوليزه في روما. ولم أر أسوارا من هذا الصنف لا في أفريقيا ولا في أوربا (٥٤). ويمر من قرب المدينة نهر كبير جدا (٥٥) يدخل في جزء من المدينة. ويوجد في الساحة العامة ، وفي أماكن أخرى ، أعمدة من رخام وعليها كتابات لاتينية بحروف كبيرة وعمارة تقوم على أعمدة رخامية مربعة تعلوها قبة (٥٦).

وأريافها منتجة ، مع أن تربتها ضعيفة. وعندما يصل الإنسان لمسافة أربعة أو خمسة أميال من تبسه يخالها واقعة في غابة ، ولكن الأشجار ليست سوى أشجار جوز كبيرة (٥٧).

وبجوار المدينة يوجد جبل يحتوي على تجاويف عديدة محفورة بالمعول. ويعتقد العوام أنها كانت تستخدم مساكن للجبابرة ، ولكن من الواضح أنها مقالع حجارة استعان بها الرومان لبناء أسوار تبسه.

وسكان المدينة بخلاء غلاظ قساة ، ولا يحبون رؤية أي غريب ، حتى أن الدباغ وهو شاعر ذائع الصيت وأصله من مالقة التابعة لغرناطة ، تلقى إهانة عند مروره بهذه المدينة ، وكتب الأبيات التالية التي أوثر ذكرها لما تدل عليه من حقارة هذه المدينة وانحطاط أهلها :

فيما عدا أشجار الجوز لا شيء في تبسّه

مما يمكن اعتباره ذا قيمة وجديرا بالاهتمام

__________________

(٥١) تيفسته عن الرومان.

(٥٢) «المقصود دوما بنو ميديا المناطق الواقعة جنوب جبال الأطلس مباشرة» (المترجم).

(٥٣) الحقيقة لا يوجد سوى ١٥٠ ميلا تقريبا أو ٢٤٠ كم بين عنابة وتبسّه.

(٥٤) إن ما بقي من أسوارها يدل على وجود مبالغة أكيدة في قول المؤلف.

(٥٥) وهو اليوم جاف في معظم أيام السنة.

(٥٦) وربما كان هذا الكنيسة الكبرى.

(٥٧) لقد اختفت أشجار الجوز من المناطق المجاورة لمدينة تبسه في الوقت الحاضر.

٤٣٥

لقد أخطأت : فيها كذلك الأسوار والماء النقي في النهر المجاور. وهذه المدينة قد تجردت من الفضائل وسأقول : ذلك هو الجحيم ، مع كثير من الخنازير الذين يسكنون منازلها وقد كان الدباغ شاعرا عربيا أنيقا ، مقذعا في هجائه (٥٧).

ولنعد الآن إلى سكان تبسّه. فقد عاشوا دوما في حالة تمرد ضد ملوك تونس. وكانوا يقتلون الحكام الموفدين من قبلهم. وحينما مر ملك فاس الحالي (٥٨) في أثناء آخر رحلة له في نوميديا ، بهذه المدينة ، ووصل لمسافة قريبة منها ، أرسل إليها طلائعه فنادوا عند اقترابهم من الأسوار «من يعيش هنا؟» فأجيبوا : «السور الأحمر» ومعنى ذلك سور المدينة. وعندها استشاط الملك غضبا وأصدر أمرا بالهجوم فدخل إلى تبسّه عنوة وشنق فيها أكثر من مائة رجل وذبح أكثر من مائة آخرين ، ثم نهب المدينة ، حتى أصبحت خاوية تقريبا. وحدث هذا عام ٩١٥ هجرية (٥٩).

مدينة الأربص

الأربص مدينة قديمة بناها الرومان كما يستدل على ذلك من اسمها (٦٠). وتقع في سهل بديع جدا ، هو زهرة الولايات الإفريقية كلها. وأرضها منبسطة مع سهولة كبيرة في الري. وتقدم أريافها لتونس القمح والشعير.

وتقع الأربص على مسافة تسعين ميلا جنوبي تونس (٦١). وتكثر فيها الأطلال الرومانية. ويوجد فيها كذلك تماثيل من رخام وصفائح رخامية موضوعة فوق الأبواب تحمل كتابات محفورة بالحروف اللاتينية ، والكثير من الحجارة المنحوتة. وقد سقطت

__________________

(٥٧) نفتقر للمعلومات عن هذا الشاعر الذي لا يعطينا المؤلف أكثر من كنيته.

(٥٨) أبو عبد الله محمد.

(٥٩) أي بين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.

(٦٠) كان يشار إلى مستعمرة لارس اللاتينية ، حسبما هو مألوف عند اللاتين ، بعبارة لاريبوس. وحرف العرب الكلمة صوتيا فأصبحت عندهم اربص التي اعتقد المؤلف أنها أوريس أي المدينة ، باللاتينية ، ولم يبق شيء من هذه المدينة الواقعة على مسافة ٣٠ كم غرب الكاف.

(٦١) ويقول في مكان آخر ٥٠ والحقيقة ٩٠ ميلا أو ١٤٤ كم بين الأربص وتونس.

٤٣٦

المدينة بيد القوط (٦٢) وأغراهم باحتلالها أن نبلاء الرومان الذين كانوا يستوطنون أفريقيا التجأوا إليها وجمعوا فيها ثرواتهم. وظلت حينا من الدهر مهجورة ، ثم عمرها الناس ، ولكنها ظلت قرية.

ويمر بين قلعة تقع فيها (٦٣) وبين حيين من أحيائها جدول ذو ماء صالح للشرب يجري في قناة حجارتها ناصعة البياض حتى لكأنها من الفضة. ويحرك هذا الجدول طواحين قمح ، وينبع من تل واقع على مسافة ميل ونصف من المدينة تقريبا (٦٤) ، والأربص مدينة غير مطمئنة كثيرا لأن سكانها مرهقون بالضرائب من ملك تونس ، وينقسمون الى طائفتين : طائفة الحاكة ؛ وطائفة الفلاحين ، ولو عرف ملوك تونس خصوبة هذه المنطقة ، وما يمكن أن تنتجه سواء من الحب أو من الماشية ، ووفرة مائها ، ونقاوة هوائها ، لهجروا تونس وسكنوها. ويعرف العرب كل ذلك ، ولهذا يأتون كل سنة إلى أرياف الأربص حيث يملئون أكياسهم من القمح دون أن يدفعوا شيئا ثم يعودون للصحراء.

مدينة باجة

باجة مدينة قديمة بناها الرومان على مسافة خمسة وعشرين ميلا تقريبا (٦٥) من البحر المتوسط وعلى مسافة ثمانين ميلا ، أو أكثر قليلا ، من تونس (٦٦). وقد بناها الرومان فوق موقع مدينة أخرى ، ولهذا دعيت فكّشيا : وبعدئذ أبدلت الفاء باء ، وتحولت الكاف المشددة إلى ج فأصبحت باجه (٦٧). ولكنني أظن أن الاسم الأول الذي أعطاها إياه الرومان قد حرف بسبب كثرة تقلب الأمراء على المدينة واختلاف لهجاتهم وبسبب تبدلات الديانة ، لأننا نلاحظ أن هذه الكلمة ليس عربية. وقد احتفظت باجه

__________________

(٦٢) المقصود الفندال.

(٦٣) وربما كانت خرائب حصن روماني.

(٦٤) لقد أصبحت الجداول التي كانت تنبع من الكدية الغربية في الغرب ومن جبل الأربص من الشرق ، أصبحت جافة.

(٦٥) ٤٠ كم.

(٦٦) وهي لا تبعد في الواقع أكثر من ٦٥ ميلا أو ١٠٥ كم عن تونس.

(٦٧) كانت المدينة الرومانية تدعى فاجا ، وباجة هي التحريف العربي ، أما فكشيا أي العتيقة فهي كلمة إيطالية لم يعرفها اللاتين.

٤٣٧

حتى اليوم بأسوارها القديمة البدائية.

وسكانها منظمون ويحرصون على أن تظل مدينتهم على حالة جيدة. وفيها جميع أنواع الحرف ولا سيما الحياكة. ويرى فيها عدد كبير من المزارعين لأن ريف باجه متسع جدا وغزير الإنتاج. ولكن عدد السكان لا يكفي لزراعة الحقول ، ولهذا فهم يقومون باستزراع قسم كبير منها بواسطة العرب ، ورغم هذا ، لا يزال الكثير من الأراضى بحالة بور. ومع ذلك يباع في كل عام مقدار عشرين ألف كيل من الحب (٦٨).

ولأهل مدينة تونس عادة القول أنه لو كان هناك اثنتان مثل باجه لتجاوز عدد حبات القمح حبات الرمل. ويثقل ملك تونس كاهل سكان هذه المدينة بالضرائب حتى إنهم راحوا ينحطون شيئا فشيئا وفقد هؤلاء المعدمون الكثير من أخلاقهم الحميدة (٦٩).

عين زمّيت

أنشئت هذه المدينة في أيامنا على أيدي ملوك تونس ، على مسافة ثلاثين ميلا من مدينة باجة (٧٠). وقد أسسوها كيلا يخسروا ذلك القسم من الأرض الخصيبة التي لم تكن مزروعة. ولكنها تخربت على أيدي العرب في بضعة أيام مع موافقة ملك تونس. ومع ذلك لا تزال مآذنها قائمة في الساحة الحالية ، وكذلك لا ينقص بيوتها سوى السقوف ، كما رأيت ذلك بنفسي.

القصبات

هي مدينة قديمة بناها الرومان وسط سهل كبير جدا ربما كان يمتد على مسافة اثني عشر ميلا (٧١) حول المدينة.

__________________

(٦٨) ويعادل هذا كما يبدو ١٥٠٠ طن.

(٦٩) ملاحظة طيبة من المؤلف إذ يربط بين تدهور الاقتصاد وتدهور القيم الخلقية. وهناك قول مأثور : «ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر» (المترجم).

(٧٠) بني السلطان أبو عمرو عثمان (حكم بين ١٤٣٥ ـ ١٤٨٨ م) زاوية عين الزمّيت. ولا يزال الموقع الذي يعطيه المؤلف على مسافة ٤٨ كم تقريبا من باجه ، وربما إلى الشرق منها ، ويعتقد أنها في حوض وادي الطين ، أقول لا يزال هذا الموقع غير معروف.

(٧١) ١٩ كم.

٤٣٨

وتقع على مسافة أربع وثلاثين ميلا من تونس (٧٢). ولا تزال أسوارها قائمة ، وهي مبنية بحجارة كبيرة منحوتة. ولكن المدينة تخربت على أيدي العرب ، وأريافها غير مزروعة ، بسبب عجز ملوك تونس من ناحية وبسبب كسل السكان الذين يملكون اراض بمثل هذه الخصوبة ، وفي متناول أيديهم ، ويستسلمون للموت جوعا من ناحية أخرى.

قصر خيرس

هو قصر شيد في العصر الحديث على نهر المجردة ، على مسافة ثمانية أميال من تونس. وتحيط بهذا القصر أراض زراعية ممتازة وتوجد بجواره غابة كبيرة من الزيتون. وقد تحول إلى خرائب بفعل بعض العرب الذين يسمون بني علي ، وهم في حالة تمرد دائم ضد ملك تونس ، ولا يعيشون إلا من السلب والاغتيال والابتزاز من الفلاحين البؤساء الذين تزيد ضرائبهم الباهظة زيادة كبيرة عن الضرائب المألوفة (٧٣).

بنزرت

بنسرت أو بنزرت ، كما نقول ، هي مدينة قديمة بناها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة خمسة وثلاثين ميلا من تونس (٧٤). وهي صغيرة يسكنها أناس فقراء ويدخل البحر بالقرب من المدينة إلى داخل الأراضي من خلال ممر ضيق وقصير ويزداد عرضا في الجنوب فيشكل نوعا من بحيرة كبيرة تقوم حولها قرى عديدة يسكنها العديد من الصيادين والفلاحين ، إذ يمتد غرب البحيرة سهل كبير يدعى سهل ماطر. وهذا السهل خصيب للغاية ، ولكنه ينوء تحت وطأة ضرائب ثقيلة يفرضها ملك تونس وكذلك العرب. وتصاد من البحيرة كمية كبيرة من الأسماك ولا سيما أسماك المرجان

__________________

(٧٢) ٥٤ كم ، وهي مسافة تكاد تكون صحيحة بين تونس وهنشير القصبات ، وفيها أطلال ثوبور بوماجوس ، قرب جسر الفحص.

(٧٣) لم يمكن تشخيص هذا الموقع ، كما يستحيل تحديد اسمه. وهناك مذكرة أسبانية كتبت في عام ١٥٣٦ م عن قبائل عرب المنطقة تقول إن أولاد علي ، وهم فخذ من خمسمائة مقاتل من قبيلة أولاد شيفة ، كانوا يسكنون بين باجه والأربص ، وهي أرض كبيرة فيها ٢٠٠٠ بيت جنوبي باجة.

(٧٤) في الحقيقة ٦٤ كم.

٤٣٩

الكبيرة التي تزن الواحدة منها ما بين خمسة وستة أرطال (٧٥). وبعد أنقضاء شهر تشرين الأول (أكتوبر) يصاد نوع من سمك يسميه الأفارقة الزرافة ، وأظن أن هذا هو ما يسمى في روما بإسم سمك لكشيا (٧٦). ويعود هذا إلى أن مياه البحيرة تصبح بفضل الأمطار أقل ملوحة ، فيدخل السمك عندئذ إلى البحيرة ، أضف إلى ذلك أن البحيرة ليست عميقة. ويستمر الصيد حتى بداية شهر أيار (مايو) ، ثم يهاجر السمك ، كما يهاجر السمك الذي يصاد من النهر الذي يمر قرب فاس.

المدينة الكبيرة : قرطاجين (٧٧)

وهي ، كما هو مشهور ، مدينة قديمة. يذهب بعضهم إلى أن مؤسسها هو شعب قدم من سورية ، ويؤكد آخرون أن بناتها جاءوا من أرمينيا ، وأنهم اجتازوا بحر الموره ، وأنهم توقفوا في هذه المنطقة ، وبنوا فيها هذه المدينة. ويقول المؤرخ ابن رقيق أنها تأسست على يد قوم جاءوا من برقه ، وكان قد سبق أن أجلاهم ملك مصر عن مملكته ٤١٣ لخلاصة لا يعرف أي مؤلف من الأفارقة ولا يجزم بحقيقة هذا الموضوع. ومن جهة أخرى لم يقم مؤرخو الأفارقة ولا جغرافيوهم مثل ابن فشيد (٧٨) والشريف (٧٩) بإعطاء أية إشارة عن هذه المدينة ، اللهم إلا بعد سقوط الامبراطورية الرومانية. وفي ذلك العصر كان كل الحكام ونواب الامبراطور الذين كانوا في إفريقيا ، كانوا فيها عبارة عن أشباه ملوك مستقلين في مناطقهم المختلفة. ولكن القوط (٨٠) انتزعوا منهم السلطة. وعندما قدم المسلمون إلى أفريقيا واحتلوا طرابلس وبلاد البربر وقابس ، خرج سكان هاتين المدينتين وجاءوا ليسكنوا قرطاج التي اجتمع فيها نبلاء الرومان والقوط. وتحالفوا للدفاع عن أنفسهم ضد الجيوش الإسلامية. ولكن هرب الرومان إلى عنابة بعد معارك عديدة وهجر القوط قرطاج التي نهبت وأحرقت (٨١).

__________________

(٧٥) من ٢ إلى ٥ ، ٢ كجم.

(٧٦) ويسمى بالفرنسية سمك آلوزAlose.

(٧٧) قرطاجنة ، قرطاج ، قرطاجة.

(٧٨) وربما ابن رقيق نفسه.

(٧٩) الشريف الإدريسي الشهير (١١٥٤ م).

(٨٠) الفندال.

(٨١) حوالي العام ٦٩٤ م.

٤٤٠