وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وهو عم ابي حمّو ووالده عبد الله ، بعد ان اطلق سراحه من السجن ، ووضع على العرش ، ولكنه لم يتمنع بذلك كثيرا ، لأن هذا العرش كان مطمع التركي باربروس ، الذي قتل أبا زيان غدرا وأصبح ملكا على المملكة. ولكن عند ما طرد الشعب أبا حمّو ، ذهب فورا إلى وهران وسافر منها الى أسبانيا لمقابلة صاحب الجلالة الامبراطور شارل. وناشده بكل تواضع وتضرّع ان ينجده ويساعده ضد أهالي تلمسان وضد التركي باربروس ، وقد برهن الامبراطور الكبير على رحمة وشفقة ندر أن بدا مثلهما من أسلافه ، حتى إنه عفا عن الملك وأرسل معه جيشا طيبا وعظيما دخل أبو حمّو بواسطته إلى مملكته وقتل باربروس مع عدد من جماعته (١٠).

وبعد هذه الأحداث كافأ أبو حمّو القوات الاسبانية ، ورغبة منه في الطمأنينة ، ظل وفيا لتعهداته التي قطعها على نفسه تجاه الامبراطور وذلك بأن راح يرسل له كل عام الجزية المحددة (١١). وقد تمسك بهذه المعاهدة مدة حياته. وبعد موته (١٢) ، آلت المملكة إلى اخيه عبد الله الذي رفض طاعة الامبراطور وتنفيذ بنود المعاهدة التي وقّع عليها أخوه. وذلك بسبب الثقة التي كانت له في قوة سليمان ، امبراطور الأتراك. ولكن السلطان هذا لم يقدم له سوى القليل من العون. ولا يزال عبد الله حيا حتى الساعة الحالية ويعمل على تدعيم سلطته(١٣).

__________________

(١٠) لقد أدى تشابه الاسماء إلى جعل تاريخ سلاطين تلك الفترة غامضا إلى حد ما. وإليكم بعض التوضيحات حول النص يقدمه لنا المؤلف. فقد سقط المرسى الكبير ووهران تحت سلطة الأسبان في عهد الملك أبي عبد الله الذي ارتقى العرش سنة ١٥٠٥ م ، أما أخوا هذا الملك اللذان تأمرا ضده فهما أبو زيان الذي أودع السجن ، والثاني يحيى الذي هزم والتجأ إلى فاس. وعلى أثر موت أبي عبد الله سنة ١٥١٦ م ، نودى بابنه «ابو حموّ» ملكا وترك عمه أبو زيان في السجن. ولكن عند ما أتهم أبو حمو بالتواطؤ مع الأسبان اضطر للهرب إلى وهران والذهاب في طلب العون من شارل الأول ملك اسبانيا ، والذي لم يتوج امبراطورا على المانيا إلا في ٢٨ حزيران (يونيه) ١٥١٩ م. وأمدّه شارل الأول بألفي رجل فنزلوا في رشفون في أواخر عام ١٥١٧ م ولم يحاربوا بحماس كبير. وبعد هرب أبي حموّ ، نودى بعمه أبي زيان ملكا على تلمسان. ولما توجّس خيفة من التطلعات الأسبانية ارتكب الغفلة بطلب العون من عروج باربروس ، الذي وصل مع جنوده الأتراك الى تلمسان وقتل الملك وذبح أسرته واستولى على السلطة. وأخيرا دخلت القوات الأسبانية الى تلمسان فهرب باربروس الذي طاردته فصيلة أسبانية إلى أن أدركته عند بني سناسن وقتلته مع حرسه ، ويعتقد ان ذلك حدث في عام ١٥١٨ م وعندئذ استرد أبو حموّ سلطته على تلمسان.

(١١) وهي ١٢٠٠٠ دينار من الذهب ، و ١٢ حصانا ، وستة من إناث الصقور.

(١٢) في ١٥٢٨ م.

(١٣) أبو محمد عبد الله نودى به عام ١٥١٨ ، والذي يعتقد أنه حكم حتى ١٥٤٠ م وأرسل خطاب وفاء وطاعة لخير الدين ـ

٣٨١

والقسم الأعظم من مملكة تلمسان عبارة عن مقاطعة جافة عقيمة ، ولا سيما في قسمها الجنوبي. ولكن السهول القريبة من السواحل منتجة جدا بسبب خصوبتها. وكل النطاق المجاور لتلمسان يقع في السهل مع وجود بعض الصحارى. وهناك جبال قرب الساحل إلى الغرب منها ، وكذلك في دولة تنيس وفوق منطقة الجزائر حيث يوجد عدد كبير من الجبال ، وجميع هذه الجبال خصيبة منتجة.

ولا يوجد سوى القليل من المدن والقصور في هذه المملكة. غير أن هذه البلدان تكون مزدهرة في المنطقة الخصيبة ، كما سنذكر ذلك عند الكلام على كل منها على حدة.

صحراء أنجاد

تبدأ مملكة تلمسان من الغرب بسهل خاو ، موحش ، وجاف ، حيث لا ماء فيه ولا شجر. ويمتد على طول مقداره حوالي ثمانين ميلا وعلى عرض يقارب الخمسين من الأميال (١٤) ، ويعيش فيه عدد كبير من الغزلان ، ومن الوعول والنعام. وهو بؤرة عصابة من اللصوص من العرب (١٥) قطاع الطريق الذين يغتالون الناس بلا رحمة نظرا لأن الطريق من فاس الى مكناس يمر من هذه البقعة. ويندر ان يفلت التجار من أيديهم ، ولا سيما في الشتاء ، لأن العرب الذين تدفع لهم إتاوة لحماية هذه البلاد يكونون حينئذ قد غادروها إلى نوميديا. اما الذين لا يدفع لهم الملك إتاوة فهم يمكثون كي يعتاشوا من قطع الطريق على السابلة. ويقضي الكثير من الرعاة أيضا فصل الشتاء في هذه الصحراء ، ولكن الأسود تفترس أو تشوّه عددا كبيرا من أغنامهم ، وحتى من الرجال إذا وجدت الى ذلك سبيلا.

__________________

ـ بربروس بعد أن استولى هذا على ميناء الجزائر في ٢٧ أيار (مايو) ١٥٢٩ م. وورود عبارة «لا يزال حيا حتى الساعة الحالية» وكذلك لقب «جلالته» الممنوح للامبراطور الكبير شارل الذي توج امبراطورا في بولونية بتاريخ ٢٤ شباط (فبراير) ١٥٣٠ م. كل ذلك يدل على أن هذه الفقرة قد كتبت بعد هذا التاريخ ، في حين أن كتاب الحسن الوزان يحمل تاريخ ١٠ آذار (مارس) ١٥٢٦ م.

(ويقودنا هذا الى الشك ببعض التعابير والجمل الواردة في النص كألقاب التفخيم لملوك اسبانيا أو الإشادة بمظاهر التمدن في ايطاليا عند مقارنتها بالأوضاع في افريقيا ، والتي ربما دسّها النسّاخون الطليان بعد مغادرة الحسن ايطاليا وعودته لدار الاسلام في تونس حيث توفي كما يرد ذلك لدى العديد من المستشرقين) (المترجم).

(١٤) ١٣٤ كم في ٨٠ كم.

(١٥) من قبيلتي حدج وجعوان.

٣٨٢

قصر تيمزيزدغت

تيمزيزدغت قصر يقع على التخوم الفاصلة بين الصحراء وكورة تلمسان. وقد شيّد في الماضي فوق جرف. وكان ملوك فاس يجعلونه في وضع دفاعي لحراسة نقاط المرور التي تسلكها قوات ملوك فاس. ويجري نهر التافنه عند سفح هذا القصر ، وتحيط به أراض طيبة حيث يزرع الضروري للسكان. وقد ظل هذا القصر مدة طويلة تحت سلطة ملك تلمسان ، وكان موضع عنايته. ولكن بعد أن آل لأيدي العرب تحول إلى نوع من زريبة لا يتركون فيه سوى حنطتهم وبراذع جمالهم. وقد هرب سكانه على أثر سوء معاملة العرب لهم (١٦).

قصر إيسلي

إيسلي قصر قديم بناه الأفارقة في سهل يتاخم الصحراء السابقة. وتوجد حوله بعض الأراضي التي تزرع بالشعير والذرة. وقد كان فيما مضى من الزمن مأهولا بصورة جيدة ومحاطا بأسوار قوية تهدمت في أثناء الحروب وظل القصر مهجورا بعض الوقت. ثم أعيد استيطانه على أيدي رجال يعيشون فيه على طريقة الرهبان ، ويتمتعون باحترام كبير من ملك تلمسان ومن العرب. ويقدم هؤلاء الطعام والشراب لكل المسافرين بكل بشاشة ، وذلك بالمجان في اغلب الأوقات. ولا يوجد في هذا القصر سوى خرائب بائسة ذات جدران من الطين وسقوف من القش. ويمر قريبا منه جدول يستخدم لري المزروعات لأن المنطقة على درجة من الجفاف لا تسمح بنمو شيء من المزروعات بدون ري (١٧).

__________________

(١٦) تيمز يزدغت ومعناها بالبربرية «المصفاة». وهم اسم لا يزال القبائليون يطلقونه على تكلات ، وهي أطلال مستعمرة رومانية قديمة اسمها توبوسكوتر قرب بجاية. وقد أعطى هذا الإسم ألى تكلات سنة ١٣٢٦ م على اثر بناء قلعة تعيد للاذهان ذكرى قلعة بني عبد الواد في الغرب ، وهي التي تخربت في تلك الفترة. وقد ظلت الأبحاث التي جرت للتعرف على موقع هذه الأخيرة بدون طائل. ونحن نفترض وجودها فوق تل المحصر الذي يشرف على ممر التافنة ، وهو الذي أستغل حاليا لمرور الخط الحديدي بين تلمسان وفاس ، وكانت تكلات تسيطر من موضعها على ممرّ الصمّام الذي تسلكه السكة الحديدية بين بجاية وبني منصور ، وربما أعتبرت الأطلال التي تتوج هذا التل خطأ انها رومانية.

(١٧) لقد أصبح هذا الأسم شهيرا على أثر انتصار الماريشال بوجو ، الذي منح لقب دوق ايسلي ، على القوات المغربية عام ١٨٤٤ م ، وهي التي جاءت لنجدة الجزائريين بقيادة الأمير عبد القادر ، الذين كانوا يناهضون الأحتلال الفرنسي ـ

٣٨٣

مدينة وجدة

وجدة مدينة قديمة أسسها الأفارقة (١٨) في سهل فسيح جدا على مسافة تقارب الأربعين ميلا (١٩) جنوب البحر المتوسط وعلى نفس المسافة تقريبا من تلمسان. وتتاخم من الشرق صحراء أنجاد. وكل أراضيها الزراعية غزيرة الانتاج. وينتشر حول المدينة العديد من مزارع الأشجار ، المزروعة في معظمها بالتين والكروم ، ويخترق المدينة نهر يستخدمه الناس للشرب وللحاجات الأخرى. وقد كانت أسوارها في الماضي قوية جدا وعالية ، كما أن بيوتها ودكاكينها كانت حسنة البناء جدا وكان سكانها أغنياء مهذبين وشجعانا. ولكن نتيجة للحروب التي تعاقبت بين ملوك فاس وملوك تلمسان انحازت المدينة لجانب ملوك تلمسان وتعرضت للنهب والتخريب (٢٠). وبعد أن خمد أوار الحروب أخذت المدينة تعمر بسكانها من جديد وتجدد بناء كثير من مساكنها (٢١). ولكن لم تعد إلى حالتها الأولى. وليس فيها الآن أكثر من خمسمائة بيت مسكون. وسكانها فقراء لأنهم يدفعون إتاوة لملك تلمسان وللعرب جيرانهم في صحراء أنجاد ، ويلبسون زي الفلاحين مع ألبسة قصيرة من قماش غليظ. ويربون عددا كبيرا من حمير جميلة ضخمة تنتج بغالا بديعة كبيرة القامة تباع بسعر مرتفع في تلمسان. ويتكلمون اللغة الافريقية القديمة. والقليل منهم من يعرف العربية المحرّفة التي يتحدث بها أبناء المدن

مدينة ندرومه

بنيت هذه المدينة في العصور القديمة على يد الرومان عند ما كانوا يحكمون المنطقة. وقد شيّدوها فوق رقعة كبيرة ، في سهل ، على مسافة ميلين من الجبل واثنى عشر ميلا من البحر المتوسط. ويمر بجوارها نهر هزيل. ويقول مؤرخونا أن الرومان

__________________

ـ الضاري. ولكننا نعتقد أن من المحتمل أن يكون قصر ايسلي في موقع الأطلال المعروفة حالية بإسم قصر العجا ، في منطقة قبيلة زكار ، على مسافة ١٨ كم تقريبا جنوب غرب وجدة.

(١٨) في عام ٣٨٤ ه‍ / ٩٩٤ م.

(١٩) ٦٤ كم.

(٢٠) في شباط (فبراير) ١٢٧٢ م على يد السلطان يعقوب المنصور المريني.

(٢١) في عام ١٢٩٧ م على يد السلطان المريني يوسف بن يعقوب.

٣٨٤

بنوها في نفس الموقع وحسب نفس مخطط مدينة روما. ومن هذا جاء اسمها. لأن «ند» في اللغة الافريقية له نفس معنى كلمة سيميليس من اللاتينية (٢٢).

ولا تزال أسوارها على حالها ، ولكن بيوتها تهدمت فيي الماضي والآن أعيد بناؤها بصورة غاية في القبح. ولا يزال حول المدينة بعض الآثار من الأطلال القديمة (٢٣) وأريافها منتجة للغاية ، وتظهر حول ندرومه بساتين عديدة وأراض مزروعة بالخروب الذي يأكل الناس كثيرا منه ، سواء في المدن او في بقية المنطقة. كما يستعمل العسل في الغذاء وينتج هنا منه كمية كبيرة. وتبدو ندورومة الآن مزدهرة لأن الصنّاع كثيرون فيها. وتصنع فيها على الخصوص أقمشه القطن الذي ينبت بكثرة في المنطقة.

ويستطيع أهلها أن يعتبروا أنفسهم أحرارا ، لأنهم يتمتعون في الواقع بحماية جيرانهم الجبليين (٢٤) ولا يستطيع الملك الحصول على أية إتاوة من هذه المدينة ويرسل اليها حكاما يتوقف بقاؤهم على قبول اهل المدينة لهم ، فإذا لم يعجبوهم ردّوهم من حيث أتوا. غير أن سكان ندرومة يرسلون للملك أحيانا هدية صغيرة كي يتيسر لهم بذلك تصدير سلعهم إلى تلمسان.

مدينة تبحريت

تبحريت مدينة صغيرة من بناء الأفارقة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فوق جرف ، على مسافة اثنى عشر ميلا من ندرومه (٢٥) ، والجبال بجوارها عالية ووعرة (٢٦) ، ولكنها كثيفة السكان. وكل سكان تبحريت تقريبا من الحاكة. ولديهم الكثير من الحقول المزروعة بالخروب وينتجون كمية كبيرة من العسل. والواقع أنهم يعيشون في خوف مستمر من هجوم النصارى خلال الليل ، ولهذا يقيمون حراسة يقظة

__________________

(٢٢) ند لها معنى كلمة «مماثلة» في العربية وليس في البربرية. ولم يعثر على أي اثر روماني في ندرومه. وليس في موقعها ما يشبه موقع روما ، أما إسمها فهو اسم فخذ من قبيلة كومية القديمة التي استوطنت المنطقة.

(٢٣) وقد اختفت في أيامنا.

(٢٤) رجال قبيلة متغارة.

(٢٥) لقد اختفت تبحريت ، ولكن اسمها بقي على مسافة ٣٠ كم شمال غرب ندرومه. ومن المحتمل ان المدينة كانت فوق رأس قلعة تشرف على البحر من ارتفاع ١٢٥ م.

(٢٦) يقع جبل زندل على مسافة ٤ كم إلى الجنوب منها ، ولا يتجاوز ارتفاعه ٦١٣ م.

٣٨٥

في كل ليلة لأن فقرهم لا يسمح لهم بأن يدفعوا مرتبات العساكر. والأراضي الواقعة بالقرب منها حصوية وهزيلة ، ولا ينبت فيها سوى القليل من الشعير والذرة ، ولباس سكانها رث ، وهم أجلاف تعوزهم التربية.

مدينة حنين

حنين مدينة صغيرة قديمة أقام بنيانها الأفارقة. وهي لطيفة جدا وتتمتع بصيانة كبيرة. وتملك مرسى صغيرا محميا ببرجين ، كل واحد من طرف. وهي محاطة بأسوار عالية وحصينة ولا سيما من طرف البحر. وتأتي سفن البنادقة كل سنة. ويحصل هؤلاء في كل سنة على أرباح طائلة بالمتاجرة مع تجار تلمسان التي لا تبعد عن حنين بأكثر من أربعة وثلاثين ميلا (٢٧). وعند ما سقطت وهران بيد الأسبان لم يعد البنادقة كعادتهم يقصدون المدينة المذكورة المليئة بالجنود الأسبان. وكان سكان حنين في الماضي أناسا نبلاء ومتميزين. وكانوا جميعا يعملون في صناعة القطن والمنسوجات. وكانت بيوتها جميلة جدا منمّقة. وكان لكل بيت بئره من الماء العذب وصحنه المزين بحاملات الكروم ، وكانت المنازل مبلطة ببلاط ملوّن. كما كانت سطوح الغرف أيضا مبلّطة بنفس البلاط كذلك ، وكانت الجدران مكسوّة برمتها بالفسيفساء الفنّي. ولكن عند ما بلغهم نبأ سقوط وهران (٢٨) تركوا جميعا المدينة وظلت مهجورة. ويرسل اليها ملك تلمسان ، أمير قصر يشغل القلعة مع بعض الجنود المشاة ، وذلك لكي يخبر الملك عن وصول السفن التجارية.

ولا تزال المزارع التي تجاورها تنتج حتى الوقت الحاضر كميات من الثمار كالكرز والمشمش والتفاح والكمثرى والدّراق ، ومقادير لا تحصى من التين والزيتون. ولكن ليس هناك من يقطفها في البساتين الواقعة على حافة النهر القريب من المدينة وحيث شيّدت الطواحين. وعند ما مررت من هنالك ، تألمت من شدة التأثر بعد أن لا حظت الحالة البائسة التي انحدرت اليها المدينة. وقد كنت بصحبة حاجب تلمسان الذي جاء لجباية الرسوم من سفينة جنوية ، جلبت بضائع لتموين تلمسان لمدة خمسة أعوام.

__________________

(٢٧) ٥٤ كم.

(٢٨) في ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م.

٣٨٦

وكانت الضرائب التي يحصل عليها الملك تبلغ مجموعا قدره خمسة عشر ألف دينار ، من الذهب المسكوك ، وقد أراني الحاجب إياها.

رشغون

رشغون مدينة كبيرة قديمة بناها الأفارقة فوق جرف يحيط به البحر من كل جانب باستثناء الجنوب حيث يوجد درب يهبط من الجرف نحو البحر. وتقع على مسافة أربعة وثلاثين ميلا (٢٩) من تلمسان. وقد كانت مدينة مأهولة كثيرا وآمنة جدا. وهنا كان يحكم سليمان عم إدريس (الثاني) الذي أسس فاس. وقد اختاره الشعب واحتفظت أسرته بالسلطة فيها مدة مائة عام. وبعدئذ قدم ملك القيروان ـ وكان كذلك رئيسها الديني ـ ودمّر المدينة. وظلت مهجورة مدة تقارب مائة وعشرين سنة. ثم أعمرها من جديد أناس قدموا من مملكة غرناطة مع جيش المنصور ، حاجب قرطبة (٣٠). وقام المنصور بترميم المدينة كي تكون مفيدة له في الحالة التي يرسل فيها قوات الى افريقيا. ولكن بعد وفاة المنصور (٣١) وابنه المظفر (٣٢) طردت كل جنودهما من البلاد أو قتلها رجال صنهاجة ومغراوة. وقد تخربت المدينة في مناسبات عدة ، كما حدث في عام ٤١٠ هجرية (٣٣).

__________________

(٢٩) ٥٤ كم.

(٣٠) المنصور بن ابي عامر ، حاجب الخليفة الأموي هشام في قرطبة.

(٣١) في آب (اغسطس) ١٠٠٢ م.

(٣٢) توفي في شهر تشرين الأول (اكتوبر) ١٠٠٨ م.

(٣٣) كانت ارشغول أو رشغول في القرن التاسع الميلادي ، اهم مدينة على الساحل بين نكور وتينس ، لأن وهران لم تكن موجودة حينذاك. وكانت قائمة في منحنى على نهر التافنة ، وربما قرب أطلال سيغا التي تحمل في أيامنا اسم تاكمبريت ، والتي كانت إحدى عواصم المملكة البربرية الكبرى ، اي مملكة الماسايل. وكانت المراكب الصغيرة وحدها هي التي تستطيع بلوغ المدينة ، وكان ميناؤها الحقيقى واقعا في جون في جزيرة تدعى في أيامنا رشغون. وهنا تم اللقاء العرضي ، في أرض محايدة ، في عام ٢٠٦ قبل الميلاد ، بين الجنرال الروماني بوبليوس سيبون وبين عدوه ، الجنرال اسد روبال القرطاجي ، اللذين اتفق أن كانا ضيفين على الملك سيفاكس أو صوفاك. وبعد ان أسسّ ادريس بن عبد الله في وليلي أول إمارة علوية في المغرب ، في أواخر القرن الثامن الميلادي ، أمر اخوه كي يستقر في تلمسان ، وبعدئذ قام أبناؤه وأحفاده بتكوين إمارات بين تلمسان والمنطقة الغربية من «حضنه» التي كانت حينئذ على تخوم أراضي أمراء القيروان الأغالبة الذين كانوا يعترفون بسلطة خليفة بغداد العباسي.

وأول أمير من نسل سليمان في ارشغول كان عيسى بن محمد بن سليمان المتوفي سنة ٩٠٧ م. وفي ٩٢٩ م قام خليفة ـ

٣٨٧

المدينة الكبرى تلمسان

تلمسان (٣٤) مدينة كبيرة وعاصمة المملكة. ولا يذكر التاريخ اسم مؤسسها (٣٥) ويقال أنها كانت مدينة صغيرة أخذت في الامتداد في اعقاب خراب رشغون ، وخاصة بعد أن طردت قوات الحاجب المنصور من المنطقة. وعندما حكمت أسرة عيد الواد (٣٦) توسعت تلمسان حتى أنها أصبحت تحوي ست عشرة ألف أسرة في عهد الملك تاشفين (٣٧) وبلغت حقا درجة سامية من الأزدهار.

ولكن تلمسان قاست كثيرا لأن يوسف ، وهو ثاني ملك من بني مرين ، ضرب الحصار عليها ، وبنى مدينة أخرى الى الشرق منها ، وظل محاصرا تلمسان مدة سبعة أعوام (٣٨). وبلغ الغلاء درجة جعلت كيل القمح يصل إلى سعر قدره ثلاثون دينارا وكيل

__________________

ـ القيروان الفاطمي عبيد الله بالاستيلاء على بلاد البربر الغربية ابتداء من تاهرت التي دانت له بالطاعة عندئذ حتى البحر ، وذلك بواسطة أمير زناتي هو موسى بن أبي العافية ، أمير قبيلة مكناسه شمالي تازة. وقد اعترف أمير ارشغول بسلطة خليفة القيروان. ولكن في شهر آب (أغسطس) ٩٣٢ م تخلّى موسى المذكور عن ولائه للفاطميين كي ينحاز لسلطة الخلفاء الأمويين في قرطبة وكادت القوات الأندلسية أن تستولي على جزيرة ارشغول في شهر أيلول (سمبتمبر). واضطر الأمير السليماني إلى الاستسلام بعدئذ ، لأن الخليفة الفاطمي ابا القاسم محمدا القائم عمد بعد أن تسلّم زمام الحكم إلى إرسال قائده الأعلى ، منصور الخصّي ، كي يفتح المغرب من جديد وقام هذا ، في عام ٩٣٥ م ، بنفي أمير ارشغول السليماني الى المهدية. ويسود الصمت بعدئذ على تاريخ ارشغول التي ظلت مع ذلك مدينة مزدهرة. ولا نعرف شيئا عن العمليات الأموية التي ربما حدثت فوق هذه المنطقة ، ولا عن احداث عام ٤١٠ ه‍ / ١٠١٩ م. وقد تخربت مدينة ارشغول شأن عدد كبير من امثالها بين تلمسان وسوق حمرة ، التي تدعى اليوم بويره ، على أثر التمرد الزناتي الكبير الذي حرض عليه الدعىّ المرابطي يحيى بن غانية بعد عام ١٢٠٨ م ، وهو التمرد الذي قوضّ سلطة الموحدين في المنطقة لأن كل الجيش الموحدي أبيد تقريبا بعد هزيمة لا نافاس دوتولوزا أو حصن العقاب بتاريخ ٦١٠ ه‍ / ١٢١٣ م لا في عام ٤٠٠ ه‍ كما يذكر المؤلف. وقد عمل سكان ارشغول الذين التجأو الى تلمسان على ازدهار هذه المدينة الأخيرة التي اصبحت في عام ١٢٣٦ م عاصمة السلطنة الزناتية أو بني عبد الواد ، ولكن ظلت جزيرة ارشغول مع ذلك ميناء تتردد عليه المراكب.

(٣٤) جاء اسم تلمسان من كلمة بصيغة الجمع بالبربرية ، وتنسب الى تلماس ، وتيلمس ، ومعناها المكان الذي يستقر فيه الماء.

(٣٥) كانت تدعى بوماريا في العصر الروماني ، أي مزرعة الأشجار المثمرة.

(٣٦) والصحيح أسرة بني زيان من قبيلة بني عبد الواد.

(٣٧) أبو تاشفين عبد الرحمن وحكم بين تموز (يوليه) ١٣١٨ م و ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م.

(٣٨) استمر حصار تلمسان من قبل ابي يعقوب يوسف الناصر ثمانية اعوام ، أي من ١٢٢٩ الى ١٠ أيار (مايو) ١٣٠٧ م وقد قامت المدينة المرينية ، المنصورة ، الى الغرب من تلمسان وليس في شرقها كما ورد اعلاه.

٣٨٨

الملح (٣٩) ثلاثة دنانير ورطل اللحم (٤٠) ثلث دينار (٤١). ولما عجز الشعب عن احتمال هذه المجاعة اشتكى الى الملك. وأجاب هذا بأنه سيقدم عن طيب خاطر لحم جسده إذا كان ذلك كافيا لإطعامهم جميعا ، معتبرا لحمه قليل القيمة في مقابل وفائهم. واستدعى خمسة أو ستة من سراة المدينة وأرسلهم الى مطبخه كي يروا وجبة طعامه لذلك اليوم ، وكانت تتألف من خليط من لحم حصان وحبات شعير سليمة ، وأوراق برتقال وزيتون واشجار اخرى كي يكبر حجمها في بادىء النظر اليها. وبذلك عرف الشعب أن الشدّة التي يعانيها الملك كانت أكبر من ضيق أي واحد من المواطنين. وحينئذ استدعى الملك (٤٢) أولاده وأخوته وحفدته وتوجه اليهم بكلام مؤثر وخلص من كلامه الى انه مستعد للموت بشجاعة أمام العدو عوضا عن الاستمرار في حياة مهينة وبائسة. وشعر هؤلاء بنفس الشجاعة التي كانت لديه وانه ليس أمامهم إلا اللحاق به غدا. وقد عبّر الشعب قاطبة عن رضاه. ولكن شاء الحظ السعيد أن حدث في نفس الصباح الذي تحدّد فيه موعد خروجهم أن قتل الملك يوسف بيد أحد خصيانه في اثناء نوبة جنون اعترته. وقد فت الخبر في عضد المحاصرين ، ولما انتقل الخبر الى تلمسان ، زاد من جرأة السكان الشجعان ، فنفروا جميعا لقتال أعدائهم وفي مقدمتهم الملك نفسه ، وأحرزوا انتصارا لم يكن في حسبان الملك في بادىء الأمر. وقد قتل عدد كبير من الأعداء ولاذ كثير منهم بالفرار بدون نظام. واستولى الجيش المنتصر على كثير من الماشية التي اضطر العدو الى التخلي عنها. ونعمت المدينة بعد مجاعتها برخاء كبير حتى إن كيل القمح (٤٣) الذي كان سعره في الصباح ثلاثة دنانير اصبح بدرهمين عند الظهيرة (٤٤) ، غير ان كلّا منهم كان يعاني الكثير من الألم بسبب طول الحصار الذي خضع له.

وبعد أربعين عاما من ذلك بنى أبو الحسن ـ وهو رابع ملك في فاس من الأسرة المرينية ـ مدينة على مسافة ميلين غربي تلمسان وحاصر تلمسان بالعديد من الجيوش.

__________________

(٣٩) ٧ ، ١٣ لتر.

(٤٠) أي ٣٤٠ غرام.

(٤١) لا نعرف قيمة الدينار الزياني في ذلك العصر ، ولعله كان يعادل ١٤ غرام ذهب.

(٤٢) هو أبو زيّان محمد.

(٤٣) ١٧ ، ١٣ لتر.

(٤٤) أو ١٣ سنت ذهب.

٣٨٩

واستمر هذا الحصار ثلاثين شهر. وكانت الهجمات يومية. ففي كل مساء كانت تبنى زاوية محصّنة لجلب الجنود بأمان حتى أسفل السور. ودخل ملك فاس الى تلمسان بقوة السلاح ، ونهبها ، ثم اقتاد ملك تلمسان إلى فاس أسيرا حيث ضرب رأسه ورمى بجسده فوق قاذورات المدينة (٤٥) وبعدئذ عمل الملك على تخفيف بعض الأضرار التي لحقت بمواطني تلمسان وقصد مملكة تونس بعد أن ترك فيها إبنه عثمان (٤٦) نائبا على مملكة تلمسان ، وكانت تلك هي الكارثة الثانية لتي حاقت بمدينة تلمسان (٤٧)

وفي المرحلة التي ضعفت فيها سلطة المرينيين ، كان سكان تلمسان قد تكاثر عددهم حتى لقد أصبح عدد بيوتها المسكونة يضم ثلاثة عشر ألف أسرة.

وتتوزع في تلمسان كل المهن وكل أصناف التجارة بين مختلف الأمكنة والشوارع ، على غرار ما سبق ان فصلناه فيما يتعلق بفاس. ولكن المنازل فيها كانت أقل بهاء مما كانت عليه في فاس. ويوجد في هذه المدينة بضعة جوامع جميلة معتنى بها بصورة حسنة ولها أئمة وخطباء. كما تحوي أيضا خمس مدارس بديعة حسنة البنيان جدا ومزدانة بالبلاط الملون وسواه من الأعمال الفنية. وقد شيّد بعضها ملوك تلمسان ، والبعض الآخر ملوك فاس. كما أن فيها بضع حمامات كبيرة من كل المستويات ، ولكن لا نجد فيها نفس الوفرة بالماء كما في حمامات فاس. وتوجد فيها بضعة فنادق حسب الطراز الأفريقي من بينها إثنان لسكنى التجار البنادقة والجنويين. وفيها حي كبير يضم قرابة خمسمائة بيت لليهود ، وكانوا كلهم أغنياء تقريبا في وقت ما ، قبل أن تنهب ارزاقهم بعد موت الملك ابي عبد الله ، في سنة ٩٢٣ هجرية ، حتى أنهم أصبحوا بعد ذلك شبه متسولين (٤٨).

__________________

(٤٥) في شهر آب (أغسطس) ١٣٣٥ م جاء سادس سلطان مريني وهو أبو الحسن علي كي يحكم الحصار على تلمسان التي كان يحكمها آنئذ السلطان الزياني أبو تاشفين عبد الرحمن. فرمم المنصورة واحتلها. وسقطت تلمسان بهجوم خاطف في ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م.

(٤٦) ابو عنان فارس

(٤٧) لقد اراد ابو الحسن على بعد احتلال تلمسان ان يزور ابن عمه ، والد زوجته ، وهو سلطان تونس الحفصي ، أبو يحيى ، في نفس الوقت الذي يطوف فيه بالمقاطعات التي انضوت تحت سلطته ، ولكنه سقط مريضا في معسكره في سهل المتيجة واضطر للعودة الى فاس.

(٤٨) توفي السلطان ابو عبد الله محمد عام ٩٢١ ه‍ / ١٥١٦ م.

٣٩٠

ويوجد في المدينة موارد عديدة للماء ، ولكن العيون تقع خارج المدينة بحيث يستطيع العدو أن يقطع عنها الماء بدون صعوبة. وأسوارها عالية جدا ومتينة للغاية ، ولها خمسة أبواب شديدة الاتساع ، وذات مصاريع مصفحة بالحديد. وقد أقيمت في جوف هذه الأبواب السميكة حجرات صغيرة يقيم فيها الموظفون والحرس والمكّاسون. ويقع القصر الملكي في جنوب المدينة وتطيف به أسوار غاية في الارتفاع ، على غرار القلاع ، وهو يحوي قصورا أخرى مع حدائقها وقساطلها. وكلها متقنة البناء جدا مع هندسة رائعة. ولهذا القصر بابان ، الأول ينفتح على البادية ، في مواجهة الجبل ، والثاني نحو داخل المدينة ، حيث يقيم قائد الحرس. وتوجد في خارج تلمسان عدة كور بديعة بها منازل غاية في الأناقة ، ومن عادة سكان المدينة قضاء الصيف فيها حيث ينعمون بأكبر متعة. فلهم فيها بساتين فاخرة تنتج أعنابا من كل الألوان وذات نكهة رائعة ، وكرزا من كل نوع تبلغ وفرته حدا لم ار له مثيلا في أي مكان آخر ، وتينا شديد الحلاوة اسود اللون كبير الحجم طويلا جدا يجفف ليؤكل في الشتاء ، ودرّاقا وجوزا ولوزا وبطيخا وخيارا وثمارا أخرى مختلفة ... وعلى مسافة ثلاثة أميال (٤٩) تقريبا من المدينة ، في الشرق ، يظهر العديد من طواحين القمح على نهر يدعى سفسيف. وتوجد طواحين أخرى أقرب منها على سفوح جبل القلعة ، باتجاه الجنوب.

ولنعد لكلامنا عن المدينة ، التي نجد فيها قضاة ومحامين والعديد من كتاب العدل الذين يتدخلون في الدعاوى ، ونرى فيها أيضا الكثير من الطلبة والأساتذة في مختلف المواد ، سواء في الشرع أو في العلوم الطبيعية وتكفل المدارس الخمس أمر معيشتهم بانتظام.

وينقسم سائر سكان تلمسان إلى اربع طبقات : صناع وتجار وطلبة وجنود. وتجارها رجال مستقيمون ، ومخلصون جدا وشرفاء في معاملتهم التجارية. ويعملون جاهدين لجعل مدينتهم جيدة التموين. وسفرهم الرئيسي بقصد التجارة هي الرحلة التي يقومون بها نحو بلاد السودان. وهم أغنياء جدا فيما يملكونه من عقار ومتاع ونقود. والصناع أناس أشداء يحيون حياة هادئة ممتعة : وينعمون بأوقات لراحتهم. اما عساكر الملك فهم رجال مختارون ويتقاضون اجورا مرتفعة ، فينال أصغر واحد منهم في الشهر ثلاثة دنانير من عملتهم وهو يعادل ثلاثة دنانير ونصف من النقود الايطالية.

__________________

(٤٩) ٥ كم.

٣٩١

ويدفع هذا المبلغ عن الرجل وعن راحلته ، لأن المتعارف عليه في افريقيا ان كل جندي هو فارس. والطلاب هم أفقر الناس لأنهم يعيشون في مدارسهم بصورة بائسة. ولكنهم بعد أن يحصل أحدهم على الشهادة النهائية ، يعينّ أستاذا أو كاتب عدل أو إماما. وتجار تلمسان وأهلها ذو وهندام جيد ، وأحيانا أفضل من أهل فاس ، لأنهم في الحقيقة أكثر ظرفا وأكثر كرما. ويلبس الصناع كذلك ثيابا لائقة ، ولكنهم يضعون ثوبا قصيرا ، وقليل منهم الذين يضعون عمامة على الرأس ، فيستخدمون قلنسوة دون ثنيات ، ويلبسون أحذية تصعد حتى أواسط سيقانهم. والجنود هم أردأ السكان لباسا. فهم يضعون على ظهورهم صدرية ذات أكمام عريضة ، وفي الشتاء يستبدلون بها كساء من جلد بدون فرو مصنوع على هيئتها ويضعون فوق الصدرية أو الكساء وشاحا كبيرا من قماش القطن يلفونه ويلتحفون به شتاء أو صيفا. أما العسكريون من ذوي الرتب العالية فيلبسون فوق الصدرية كساء آخر ، ويضعون فوق المعطف قبعة كتلك التي كانت متصلة بالمعاطف التي كان الناس يلبسونها سابقا في ايطاليا خلال اسفارهم ، وكانوا يسترون رؤوسهم بهذه القبعة في حالة تساقط المطر. ويكتسي الطلاب حسب حالتهم المادية. وفي الواقع يلبس ابن الجبل لباس امثاله من أهل الجبال ويلبس العربي لباسا عربيا. ولكن افضل الناس كساءهم الأساتذة والقضاة والأئمة والموظفون.

عادات ومصالح البلاط الملكي

يعيش ملك تلمسان ضمن مراسم دقيقة فهو لا يظهر إلا بالنسبة للكبار ولشخصيات بلاطه الرئيسية ، ولا يستقبل أحدا سواهم. وهم الذين يصرّفون الأمور حسب النظام السائد. وفي هذا البلاط مناصب ودوائر عديدة. والشخصية الأولى في البلاط هو القائد (٥٠) الذي يحدّد المعاشات حسب قدر كل واحد وكفاءته. وهو الذي يقود الجيوش ويكون أحيانا على رأسها ضد العدو مع نفس سلطة الملك.

والشخصية الثانية هو الكاتب الأول الذي يكتب ويجيب بإسم الملك.

والشخصية الثالثة هو الخازن الذي يستلم مال الملك ويحتفظ به وبالعائدات الملكية

__________________

(٥٠) المزوار.

٣٩٢

والرابع هو الصراف الذي يوقّع الحوالات على الخزينة الملكية كي بسدّد موظفو بيت الملك ما يحتاج إليه هذا البيت وتحتاج إليه الاسطبلات.

والخامس هو قائد الباب ومهمته حراسة القصر والذات الملكية في حالة الاستقبال.

وهناك وظائف أقل أهمية ، كوظيفة رئيس الاسطبلات ، وقائد الحرس ، ورئيس التشريفات ، ولا يظهر لهذا الأخير عمل إلّا في حالة استقبال الملك زوّاره. ويخدم الملك في داخل القصر إماء نصرانيات والعديد من الخصيان الذين تقتصر مهمتهم على حراسة الحريم.

ولباس الملك جيد ، ومضبوط ، ويمتطي حصانا رائعا مسرجا في صورة فخمة بديعة. وعندما يركب الملك جواده ، لا يكون هناك احتفال كبير في العادة ولا فخامة ، لأنه ليس لديه في القصر أكثر من ألف فارس. ولكن في حالة الحرب ، أي عندما يسير نحو عدوه ، يجمع العرب والفلاحين من مختلف القبائل ويدفع لهم مرتبات في أثناء فترة العمليات العسكرية. وعندما يتجول في أرجاء مملكته لا يصطحب معه قافلة كبيرة ، ولا معدّات معسكرات مترفة ، ولا يكاد يختلف في شئون ملبسه ومظاهر إقامته عن قائد بسيط. وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الجنود في حرسه فهو لا ينفق سوى القليل من المصروفات.

ويسكّ الملك نقودا ذهبية ضئيلة العيار كالدنانير التي تدعى بسلاكشي (٥١) في إيطاليا ، ولما كانت هذه القطع كبيرة جدا ، فإن كل قطعة تساوي دينارا وربعا إيطاليا ، كما يسكّ عملة فضية خفيفة العيار وقطعا نحاسية ذات قيم وأنواع مختلفة.

وتنتج هذه المملكة القليل ، وبالتالي فهي قليلة السكان. ولكن نظرا إلى أنها تؤلف محطة بين أوروبا والحبشة (٥٢) ، فإن الملك يحصل على كسب كبير من دخول البضائع وخروجها ، وخاصة منذ ان احتل النصارى وهران (٥٣) وارتأى الملك (٥٤) ، منذ

__________________

(٥١) أي الخفيفة.

(٥٢) أي السودان.

(٥٣) في أيار (مايو) ١٥٠٩ م.

(٥٤) أبو عبد الله محمد.

٣٩٣

تلك الفترة ، أن من المناسب فرض رسوم وضرائب تجارية على مدينة تلمسان التي كانت معفاة في عهد الملوك السابقين. وأدّى ذلك لحنق الشعب ، وعند ما رأى ابنه (٥٥) الذي خلفه (٥٦) الإبقاء على هذه العوائد ، بدوره ، طرد من تلمسان وخسر مكانته (٥٧) ، واضطر في سبيل استرداد مملكته إلى أن يلقي بنفسه على أقدام الامبراطور شارل (٥٨) الذي أعاده كما رأينا ، إلى عرشه. وظلت مملكة تلمسان ، خلال العديد من السنين ، أي عند ما كانت وهران تابعة لها ، ظلت تحقق دخلا يبلغ ثلاثمائة ألف ، وحتى أربعمائة ألف دينار. ولكن يدفع نصف هذا المبلغ تقريبا للعرب على شكل إتاوات لهم ولحراس المملكة. ثم تأتي معاشات القوات العسكرية وقوادها ، ومرتبات كبار موظفي البلاط. وكان الملك (٥٩) ينفق هو أيضا بسخاء على بيته ونفقات التمثيل ، لأنه كان ملكا كريما جدا ومضيافا مقصودا. وقد قضيت بضعة شهور في بلاطه في مرات مختلفة وأقمت فيه ، وسأضرب صفحا عن عدة تفاصيل تتعلق بعادات وتنظيم هذا البلاط لأنها مماثلة لتلك التي تكلمت لكم عنها في بلاط فاس ، وحتى لا أبعث فيكم الملل بسبب الوصف المسهب.

مدينة عبّاد

عبّاد (٦٠) مدينة صغيرة ، هي نوع من ربض ، على مسافة ميل تقريبا من تلمسان ، في اتجاه الجنوب ، أي في الجبل (٦١). وهذه البلدة مزدهرة جدا ومأهولة بالسكان بشكل طيب. وتضم العديد من الصناع ، ومعظمهم من الصبّاغين. وفيها دفن وليّ كبير واسع الشهرة. ويقع ضريحه في جامع ، ويزار بعد نزول سلّم متعدد الدرجات. ويكرّم سكان تلمسان والمناطق المجاورة لها مباشرة هذا الولي كثيرا ويتضرعون إليه ويقدمون العديد من الصدقات لوجه الله. ويدعى سيدي مدين (٦٢).

__________________

(٥٥) أبو حمّو.

(٥٦) في ١٥١٦ م.

(٥٧) في ١٥١٧ م.

(٥٨) وهو الملك شارل الأول ملك اسبانيا والذي لم يصبح بعد الامبراطور شارل الخامس ، أو شارلكان.

(٥٩) أبو عبد الله محمد.

(٦٠) «العبّاد» جمع عابد معناها النسّاك ، وتدعى المدينة اليوم «بومدين».

(٦١) على مسافة ٢ كم إلى الشرق على السفح الجبلي وعند حضيضه تقريبا.

(٦٢) أبو مدين شعيب بن الحسن الغوط ، ولد في اشبيلية حوالي العام ١١٢٦ ومات قرب تلمسان في ١١٩٨ م.

٣٩٤

وفيها أيضا مدرسة بديعة جدا وفندق لسكنى الأغراب ، وهما بنايتان شيّدهما بعض ملوك فاس من بني مرين ، كما يمكن قراءة ذلك فوق اللوحات الرخامية التي نقشت عليها أسماؤهم.

تفسرة

تفسرة (٦٣) بلدة صغيرة في سهل على مسافة سبعة عشر ميلا من تلمسان (٦٤). وتحوي العديد من الحدّادين ، نظرا لوجود بضعة مناجم للحديد قرب هذه المدينة. والأراضي المحيطة بها ممتازة لزراعة القمح. وليس لسكان تفسرة حظ كبير من الحضارة إذ ليس لهم من عمل سوى تصنيع الحديد ونقله إلى تلمسان.

تسّاله

كانت تسّالة مدينة قديمة جدا بناها الأفارقة في سهل فسيح يمتد على مسافة عشرين ميلا (٦٥). وينمو في هذا السهل قمح ممتاز ، في حجم حباته وفي لونه. ويستطيع هذا السهل وحده أن يموّن جميع أهل تلمسان تقريبا بالقمح. ويعيش الناس فيها تحت الخيام لأن المدينة تهدمت ، ولكن اسمها لا زال يطلق على السهل ، ويدفع هؤلاء أيضا للملك ضريبة ثقيلة.

ولاية بني راشد

تمتد هذه الولاية على طول يبلغ خمسين ميلا (٦٦) في عرض يبلغ حوالي خمسة وعشرين ميلا. ويقع قسم منها في السهل ، وهو الجنوبي ، أما الآخر ، أي الشمالي ، فيكاد يكون كله عبارة عن تلال. وفي كلا القسمين أراض زراعية طيبة. وينقسم

__________________

(٦٣) تفسره أو تفسّيرة وكانت تدعى في الماضي تفسرت مديونة.

(٦٤) أي ٢٧ كم إلى الجنوب منها.

(٦٥) ٣٢ كم ويقصد به سهل سيدي بلعباس. ولكن القرية المسماة تسّالة حاليا والتي تقع على مسافة ١٨ كم شمال شرق سيدي بلعباس ، عند اقدام جبل تسّالة ، لا يظهر عليها أنها فوق موقع المدينة القديمة. وتكثر الآثار الرومانية فعلا في هذه المنطقة.

(٦٦) ٨٠ كم على ٤٠ كم.

٣٩٥

السكان فريقين ، فالذين يسكنون هذه التلال لهم بيوت مناسبة جدا مبنيّة بجدران ويزرعون الحقول والكروم ويهتمون بأشياء أخرى ضرورية لحاجات المعيشة. ويقيم الفريق الثاني ، وهو أكثر شرفا من أهل الفريق الأول ، في البادية تحت الخيام وينصرف لتربية الماشية. ولهؤلاء عدد كبير من الإبل والخيول وهم ميسورون جدا ، ولذلك يدفعون بعض الاتاوات لملك تلمسان.

ولأهل التلال الكثير من القرى ، ولكن لقريتين منها أهمية أكبر من سائر القرى الأخرى.

فالأولى تدعى قرية هوارة ، وتضم أربعين بيتا من الصناع والباعة. وقد بنيت على هيئة حصن على سفح جبل بين واديين. وتسمى الثانية المعسكر. وفيها يسكن وكيل الملك مع فرسانه. ويعقد سوق في هذه القرية كل يوم خميس وتباع فيه كميات من الماشية والحبوب والزبيب والعسل ، والكثير من الأقمشة البلدية وأشياء أخرى أقل قيمة كالحبال والسروج والأعنّة وأجهزة الخيل. وفي الفترة التي كنت فيها في هذه المنطقة ، حدث أن قصدت السوق لشراء بعض الحاجات الضرورية للرحلة التي كنت أقوم بها عندئذ للذهاب إلى تونس. ووصلت إلى السوق على ظهر الجواد واشتريت منه أولا حبال الخيام. وبعد أن فرغت من صفقتي وضعت الرجل اليسرى فوق عنق الحصان كي استطيع تعداد نقودي فوق ركبتي. وتركت المقود وأدرت رأسي لدفع ثمن ما اشتريت. وبعد ان سدّدت ما استحق عليّ ادرت رأسي لنفس الجهة ووضعت رجلي في الركاب. ولكن عند ما أردت استلام العنان لم أجده. ونظرت إلى هنا وهناك ثم ناديت الخادم كي يقود راحلتي إلى البيت. وبعد هنيهة وصل خادمان لوكيل الملك اللذين قالا لي : «سيدي ، لقد سرق عنان جوادك اثنان من البغالة التابعين للوكيل وكانا لا يعرفان أنك ضيفنا. وقد رأيناه واسترددناه بالقوة ، وانظر فيه إذا كانا قد سرق منك شيء آخر». ثم اشتريت ما كنت لا أزال بحاجة إليه وعدت إلى البيت. وقد رويت هذه القصة لوكيل الملك في أثناء تناول الغداء فانفجر ضاحكا وقال لي : لا تندهش إذا ما قلت لك إننا نعاني الكثير من المصاعب كي نجد أناسا يرتضون مهنة بغّال ، وهي مهنة حقيرة وشاقة. ومن ناحية أخرى نحن ندفع لهم أجرا زهيدا لا يكفيهم أبدا. وهم لذلك يضطرون ، من أجل أن يربحوا شيئا ضئيلا إضافة لدخلهم ، سواء كانوا

٣٩٦

مستخدمين عندي أو عند سواي ، إلى أن يسرقوا باستمرار ، وكل بغّالي بلادنا قد اعتادوا ذلك منذ نعومة اظفارهم. ولهذا نتغاضى عن سرقاتهم. وليحتمل نتائج غفلته من يجهل طرائقهم!.

وتقدم هذه الولاية لملك تلمسان حوالي خمسة وعشرين ألف دينار ، وتقدم له العدد نفسه من المحاربين ، بين فرسان ومشاة.

مدينة البطحة

كانت البطحة مدينة كبيرة عريقة الحضارة وكثيرة السكان. وقد بناها الأفارقة في أيامنا(٦٨).

وتقع هذه المدينة في سهل فسيح ينمو فيه القمح بوفرة وتقدم للملك إتاوة تبلغ حوالي عشرين ألف دينار. ولكنها تخربت في الحروب التي وقعت بين ملوك تلمسان وبعض أقاربهم الذين كانوا يسكنون جبل الونشريس. وبما أن الأخيرين كانوا يتلقون معونة ملك فاس ، فقد استطاعوا أن يحتلوا رقعة كبيرة من مملكة تلمسان وأحرقوا وخربوا البلدان التي لم يستطيعوا الاحتفاظ بها (٦٩). ونتج عن ذلك أنه لا يرى اليوم شيء من البطحة سوى أساسات البيوت. وهناك نهر صغير ضئيل الأهمية (٧٠) يجري قرب المكان

__________________

(٦٨) تعني كلمة بطحة دلتا نهر عريضة فوق قاع من الحصباء. وكانت المدينة المذكورة موجودة عند ما توقف فيها محمد بن تومرت حوالي العام ١١١٩ م بصحبة تلامذته ، ومنهم الشاب عبد المؤمن ، وقد توقف فيها لمدة ثلاثة أيام لدى مضيف كريم وهذا في أثناء رحلته من ملالة قرب بجاية إلى فاس. وفي عام ١١٦٠ م عند ما أصبح عبد المؤمن خليفة وسّع هذه المدينة وعمرها بالسكان في أثناء عودته من حملة على افريقيا ، أي شمالي تونس وإذا كان موقع البطحة مجهولا فإنه بالتأكيد يقع على الطريق الكبيرة بين تلمسان ومدينة الجزائر وعلى الأرجح فوق الضفة اليسرى لنهر المينا ، بجوار ايغيل ايزّان ، أو تل الذباب بالبربرية. ومن هذا جاء اسم مدينة روليزان الحالية ، وهي مدينة مبنية في أسفل تل ، غير بعيد عن ضفة النهر اليسرى. وقد اعتبرت بعض الأطلال ، على الضفة اليسرى ، قرب الطريق والخط الحديدي ، كأنها رومانية. وربما كانت هذه تنسب لبقايا آثار البطحة.

(٦٩) وهم بنو توجين ، وهي قبيلة زناتية معادية لبني عبد الواد في تلمسان ، وبالتالي حليفة لبني مرين في فاس ، وقد احتلوا سفح جبل الونشريس الذي يدعى اليوم الورسنيس واحتلوا الجبل نفسه حتى بلدة الميدية. ولا نعرف تاريخ تخريب البطحة ولكن من المحتمل أن ذلك حدّث في بداية القرن الرابع عشر عند ما أصبح السلطان المريني أبو الحسن سيد مملكة تلمسان بعد استيلائه على العاصمة وموت السلطان الزياني أبي تاشفين عبد الرحمن بتاريخ ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م ، حيث تذكر البطحة في قائمة المواقع المفتوحة ولكنها لا تذكر على أنها مدينة. وظل اسمها يتردد حتى نهاية القرن الرابع عشر في معرض الكلام عن الحملات العسكرية.

(٧٠) وادي المينا.

٣٩٧

الذي كانت تشغله. وتقوم على ضفاف هذا النهر بساتين عديدة وحقول غاية في خصوبتها.

وقد ظل هذا السهل مهجورا تماما إلى أن جاء ناسك حسب عادة تلك البلاد واستقر فيها مع عدد من تلامذته الذين يرون فيه تقريبا واحدا من أولياء الله. وقام هذا الرجل بزراعة الأراضي كما تزايد عدد ثيرانه وخيوله وأغنامه لدرجة أصبح هو ذاته لا يعرف عددها ، ولم يكن هو ولا اتباعه يدفعون أية عوائد للملك ، ولا للعرب ، لأنه كان يعتبر وليا كما سبق أن قلنا. وقد روى لي عدد من تلامذته أن عشور أراضيه كانت تبلغ ثمانية آلاف كيل من القمح في العام ، وأنه كان يملك حوالي خمسمائة رأس من ذكور الخيل وإناثها ، وعشرة آلاف رأس من الأغنام وألفي ثور ، كما كان يتلقّى سنويا من مختلف أنحاء العالم ما بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف دينار ، على شكل هدايا وصدقات مرسلة من أناس مختلفين لأن شهرته امتدت في كل آسيا وفي كل افريقيا. وزاد عدد مريديه بنفس النسبة العالية حتى إن متوسط عدد الذين كانوا يبيتون عنده يوميا كان يبلغ حوالي خمسمائة شخص. ولهذا السبب يهرع إليه جمهور لا يحصى من الأشخاص. ويأكل جميعهم على حسابه ، ولكنهم يساعدونه جميعا في عمل شيء ما في زاويته. ويوجد له اتباع منتشرون في كل أنحاء العالم الاسلامي. وهو لا يفرض عليهم أية تعاليم وليس عليهم أن يؤدوا غير الصلوات الاعتيادية. لكنه يحدّد لهم بعض اسماء الله ويطلب منهم ذكر هذه الأسماء في صلواتهم عدة مرات في اليوم (٧١). وعند ما يتعلم تلامذته منه ما فيه الكفاية يعودون لبلادهم. ولديه ثلاثمائة خيمة ، بعضها لسكنى الغرباء ، وبعضها لرعاته ، وبعضها لعائلته. ولهذا الناسك ، الطيب والعالم ، أربع زوجات والكثير من الإماء السرّيات اللاتي أعطينه عددا من الأولاد بين ذكور وإناث ، ولهم جميعا هندام طيب ، ولأولاده أيضا نساؤهم وأولادهم ، حتى ليبلغ عدد افراد اسرته وأسر ابنائه قرابة خمسمائة.

ويتمتع هذا الرجل بتبجيل العرب وهو محترم بشكل عظيم حتى إن الملك يخشاه. ولقد وددت أن أعرف من هو وذهبت لأمضي عنده ثلاثة أيام وكنت أتناول طعام العشاء معه كل مساء ، في غرفة خاصة ، ليس معنا أحد. وقد أراني هنا فيما

__________________

(٧١) وربما كان هذا ما يسمى بالذكر الخاص بكل طريقة صوفية اسلامية ، ونظام ورادها الخاصة ، جمع ورد.

٣٩٨

أرانى بعض كتب السحر والكيمياء. وقد كان يريد أن يبرهن لي أن السحر هو علم ، حتى لقد كدت أحسبه ساحرا وسبب هذا هو كثرة ما رأيت من أمر تبجيله وتشريفه دون أن يفعل أو يقول أو يبتكر شيئا سوى الابتهال إلى الله بالاسماء التي أشار إليها (٧٢).

مدينة وهران

وهران مدينة كبيرة تضم حوالي ستة آلاف أسرة. وقد أسسها قدماء الأفارقة (٧٣) على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة واربعين ميلا من تلمسان (٧٤). وهي مجهزة بكل العمارات والمؤسسات التي تميز مدينة حضرية كالجوامع والمدارس والمارستانات والحمامات والفنادق. وهي محاطة بأسوار عالية وجميلة. ويقع قسم من هذه المدينة في السهل ، والقسم الآخر فوق موقع جبلي مرتفع كثيرا. وكانت أكثرية سكانها من الصنّاع والحاكة. وكان كثير من أهلها يعتاشون من مواردهم ، ولكنها لم تكن مدينة يسود فيها الرخاء لأن الناس لا يأكلون فيها غير خبز الشعير. ومهما كان عليه الأمر فإن أهلها كانوا لطفاء ، مرحّبين بالغرباء وبأصدقائهم. وكانت وهران مقصودة كثيرا من التجار القطالونيين والجنويين. ولا زال فيها بيت يدعى بيت الجنويين لأن هؤلاء كانوا يسكنون فيه. وقد كان أهل وهران أعداء ملك تلمسان على الدوام. ولم يحبوا مطلقا أن يتحملوا وجود أي من حكامه فيها. فلم يقبلوا وجود أحد منهم غير خازن مال ومكّاس لتحصيل عوائد الميناء. وكان السكان ينتخبون رئيس مجلس يهتم بالقضايا المدنية والجنائية. وكان التجار في الماضي يجهزون دائما مراكب وسفنا صغيرة مسلّحة يمارسون عليها القرصنة فكانوا يغزون سواحل قطالونيا وجزر ايبيزا ، مينورقة ومايورقة ؛ حتى لقد كانت المدينة تغص برقيق النصارى.

ولكن فرنان ملك أسبانيا ارسل أسطولا كبيرا لشن حرب على سكان وهران لاستخلاص النصارى من بلاء شديد الخطورة يتكرر بكثرة. ولكن هذا الأسطول هزم بسبب عدة أخطاء في المناورة.

__________________

(٧٢) كتب مارمول أن هذا الشيخ كان يدعى سيدي سنا (لعله سناء) ، وأن أراضيه كانت تدعى سهول سنا ، حتى إن المجرى الأدنى لوادي المينا كانت يحمل اسم واد سنا ، ولم يبق أثر لهذا الشيخ ولا لطريقته في المنطقة.

(٧٣) أسست عام ٩٠٣ م على أيدي الاندلسيين.

(٧٤) أي ٢٢٤ كم والحقيقة هي ١٧٤ كم على الطريق الحالي.

٣٩٩

وبعد عدة أشهر جمع الملك أسطولا أكبر حجما بالاستعانة ببعض المطارنة وبكار دينال أسبانيا (٧٥). فاحتل هذه المدينة في يوم واحد لأن السكان خرجوا بلا نظام كي يذهبوا لساحة المعركة ، تاركين المدينة خالية. وعرف الأسبان ذلك فأرسلوا قسما من قواتهم إلى الجانب الآخر من وهران. ولم يجدوا من خصومهم سوى النساء اللواتي صعدن على الأسوار. فدخلوا المدينة بسهولة بينما كانت المعركة على أشدها في الخارج. وخرجوا منها بغتة ليرموا بأنفسهم على ظهر عدوهم أي اهل المدينة. وما أن أخذ المسلمون بالتقهقر باتجاه المدينة ليطردوا من تسلل اليها من الأسبان حتى رأوا فوق أسوارها الرايات النصرانية وهي ترفرف فوقها. وهكذا وقعوا محاصرين بين فرقتين من الأسبان فلم ينج منهم سوى القليل على قيد الحياة. واحتل الأسبان وهران ، عام ٩١٦ هجرية (٧٦).

المرسى الكبير

وهي مدينة صغيرة أسسها ملوك تلمسان في زمننا على شاطىء البحر المتوسط على مسافة بضعة أميال من وهران. ومعنى اسمها الميناء الكبير ، إذ يوجد هناك ميناء لا اعتقد أن له مثيلا في العالم قاطبة ، إذ تستطيع مائة سفينة ومركب أن ترسو فيه بكل راحة ، في مأمن من كل عاصفة ، أو أية زوبعة. وكان من عادة سفن البندقية التي تلجأ إليه في حالة هياج البحر أن ترسل بضائعها إلى وهران بواسطة القوارب. وعند ما يكون الطقس صحوا كانت تذهب بالفعل مباشرة إلى ساحل وهران. وقد سقطت هذه المدينة بقوة السلاح بأيدي الأسبان قبل سقوط وهران ببضعة أشهر (٧٧).

مازاغران

مازاغران مدينة صغيرة بناها الأفارقة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبالقرب منها يصب نهر الشلف في البحر (٧٨). وهي مدينة كثيرة السكان ومعتنى بها.

__________________

(٧٥) هو فرنسيسكو كسيمينس المحرض الأول على محاكم التفتيش الشهيرة ببطشها وبإرهابها ضد المسلمين» (المترجم)

(٧٦) سقطت وهران غداة عيد الصعود عند النصارى ، أي يوم الجمعة ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م / محرم ٩١٥ ه‍.

(٧٧) تم الاستيلاء على المرسى الكبير بواسطة أسطول قشتالي يقوده الدون دييغو دو قرطبة في عام ١٥٠٦ م في تاريخ غير متفق عليه ، والمرجح أنه كان في شهر أيار (مايو).

(٧٨) الحقيقة تقع مازاغران على مسافة ٢ كم شرقي الساحل وعلى مسافة ١٨ كم من مصب نهر الشلف.

٤٠٠