وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

إلى بلاد السودان ، والتي يقول بشأنها إنه انتقل فيها من تومبكتو حتى مصر ما را ببلاد الهوسة ومملكة غاوغة في شرق التشاد ثم عاد إلى المغرب بحرا.

وقد أمضى معظم عامي ١٥١٤ ، ١٥١٥ م في المغرب (١٢) وكان يعمل حينئذ فى خدمة السلطان وبعض قواده. ومما لا ريب فيه أنه كلف بمهمات يحتمل أنها سياسية واقتصادية ، لأنه يبدو لنا مطلعا في صورة عميقة على بورصة الأسعار ؛ وتزايدت هذه البعثات أهمية مع الزمن لدرجة يظهر لنا فيها وسيطا في المفاوضات بين سلطان فاس محمد البرتغالي ، وسلطان مراكش الناصر بن يوسف الهنتاتي ، وأمير السوس وحاحه ، الشريف أحمد الأعرج ، مؤسس أسرة السعديين الذي يمكننا أن نفترض أنه كان رفيقه في الدراسة في بعض مدارس فاس. وفي آذار (مارس) من عام ١٥١٤ كانت له مقابلة مع حاكم بادية آسفي ، عامل ملك البرتغال ، واسمه يحيى أو تعفوفت. وفي عام ١٥١٥ وبمناسبة حملة دكالة التي قام بها سلطان فاس برزت شخصية محمد بن الحسن الوزان بروزا كبيرا وظهر أكبر نشاط له. ومنذ هذه الحملة نستطيع تتبع تاريخه في صورة أدق ، ومن المحتمل أن كفاءاته الخاصة وثقافته كانت تحظى بتقدير كبير لدى سلطان فاس ، حتى لقد عهد إليه بمهمة في المشرق ، فغادر فاس فجأة في شهر آب (أغسطس) ١٥١٥ م. وليس من المؤكد أنه كان مكلفا بسفارة لدى سليم الأول السلطان العثماني في القسطنطينية ، كما اعتقد. بعضهم ، إذ لا يتوقع أن يسافر إلى القسطنطينية بتجهيزات تافهة كحبال الخيام التي ذهب إلى شرائها بنفسه من سوق بسكرة بالجزائر. ويضعف من هذا الاحتمال أيضا أنه يذكر لنا أنه كان في مدينة رشيد بمصر في أثناء وجود السلطان سليم في هذه المدينة ، ولكن بدون ان يتحدث كثيرا عن هذا السلطان ، ولو أنه كان موفدا إليه وأتيح له في هذه المناسبة مقابلته لتحدث عنه بإسهاب.

ولكنه لم يكن بالتأكيد موظفا دبلوماسيا ضئيل الأهمية ، لأننا نراه في نفس الرحلة وهو يحرف طريقه كي يذهب للتحادث مع حاكم دبدو ، ثم يقصد بلاط ملك تلمسان أبي عبد الله محمد ، ثم يحل في مدينة الجزائر ضيفا على «وجيه» أندلسي الأصل ، سبق له أن أوفد من قبل سكان مدينة الجزائر كي يتفاوض في شأن عقد هدنة مع الحكومة الأسبانية ، ثم يقصد بجايه لمقابلة أمير البحر الشهير عروج بربروس ، الشقيق الأكبر لأمير البحر خير

__________________

(١٢) ٩٢٢ و ٩٢٣ ه‍.

٢١

الدين بربروس (١٣). وفي النصف الثاني من شهر أيلول (سبتمبر) اضطر عروج للالتجاء إلى مدينة جيجل الجزائرية ، وتابع الحسن رحلته باتجاه تونس مارا بمسيلة في منطقة الحضنة الجزائرية. ويقول لنا أنه بلغ تونس مع جوادين فقط وعانى صعوبة في الحصول على الشعير اللازم لهما ، وهذا يدل على ضعف تجهيزاته كسفير. وعند وصوله إلى تونس لم يجد السلطان فيها ، لأنه كان قد غادرها في رحلة إلى الجنوب ، واتصل بالقصر الملكي ولكن يبدو أنه لم يحظ بمقابلة الملك أبي عبد الله محمد ، لأنه لا يذكره بخير كثير ، ولكن من المؤكد أنه استطاع أن يجمع خلال وجوده في حاشية الملك كمية من المعلومات عن بلاد نوميديا التونسية ، والتي قدم عنها تفاسير غير واضحة. ومن المحتمل أن يكون قد تابع رحلته حتى مدينة قفصة وقابس ، وهما آخر مدينتين تونسيتين يظهر أنه رآهما رأي العين.

هذا ولا نعرف شيئا عن المكان الذي أبحر منه الحسن قاصدا القسطنطينية ، ولا تاريخ سفره ولا عن إقامته في المشرق ، اللهم إلا وجوده في مصر في شهر حزيران (يونيو) ١٥١٧ (١٤) ، في مدينة رشيد ، في نفس الوقت الذي كان فيه السلطان سليم العثماني في هذه المدينة. وقد أدى فريضة الحج في أثناء إقامته في المشرق ، وعاد من مصر إلى المغرب بحرا وتوقف في طرابلس سنة ١٥١٨ (١٥) (ونلاحظ أنه هنا قد استعمل التأريخ الميلادي لأول مرة). ويغلب على الظن أنه سقط في الأسر خلال توقف سفينته في جزيرة جربة على يد القرصان الصقلي بيتر وبوفا ديغليا واقتيد إلى إيطاليا ، حيث قدم هدية للبابا ليون العاشر (١٦) ؛ واسمه جان دوميديسيس ، وحظى بكرم الوفادة لدى هذا الحبر الشهير ،

__________________

(١٣) استشهد عروج هذا في معركة مع الأسبان قرب تلمسان سنة ١٥١٨ م ، أما خير الدين فكان قائد أسطول السلطان سليمان العثماني ، وقد حصن مدينة الجزائر ، وكسر أمير البحر الايطالي آندر يادوريا في خليج آمبراس على الساحل اليوناني ، وزار مرسيليا على رأس أسطوله كصديق للملك الفرنسي فرانسوا الأول ، وتوفي في القسطنطينية سنة ١٥٤٦ (المترجم).

(١٤) ٩٢٩ ه‍.

(١٥) ٩٢٦ ه‍.

(١٦) ولد هذا البابا في فلورنسا سنة ١٤٧٥ ومات في روما ، وهو ابن لوران الكبير وشغل منصب البابوية بين ١٥١٣ و ١٥٢١. وكان من المعجبين بالآثار القديمة وحاميا للفنون والآداب والعلوم. واستحق أن يمنح اسمه لأزهى العصور التاريخية. وقد حاول ، شأن البابا جول الثاني ، أن ينقذ إيطاليا من النير الأجنبي ، فتصدى لقوات البندقية وملك فرنسا وذلك عن طريق تحالفه تارة مع هذا وتارة مع أولئك. فوقع مع فرانسوا الأول اتفاق بولونية سنة ١٥١٦ وقد أدى بيعه لصكوك الغفران الجديدة ، التي كان ريعها مخصصا لإنجاز بناء كنيسة القديس بطرس ، إلى تمرد لوثر وبالتالي إلى حرمانه سنة ١٥٢١ ، ودفع لظهور حركات الإصلاح الديني وبالتالي لانتشار المذهب البروتستانتي (المترجم).

٢٢

حامي الفنون ، الذي حمله على اعتناق النصرانية على أيدي ثلاثة أساقفة في قصر سانتانج الذي أقام فيه إقامة جبرية سنة كاملة. وأخيرا تم تعميد الحسن بن محمد الوزان الزياتي ، على يد البابا نفسه في كنيسة القديس بطرس ، في روما بتاريخ السادس من كانون الثاني (يناير) عام ١٥٢٠ (١٧) ، وسمي جوهانيس ليود وميديسيس (١٨) ، أما هو فقد اتخذ لنفسه اسم جان ليون غراناتينو ، وبالعربية يوحنا الأسد الغرناطي. وقد عرف فيما بعد تحت اسم ليون الإفريقي ، وهو الاسم الذي أطلقه عليه راموزيو ، وذلك استنادا إلى ما اشتهر به بين معاصريه.

هذا ولا تزال تفاصّيل إقامته في إيطاليا غير معروفة. ونعرف أنه كان يدرّس العربية في مدينة بولونية الإيطالية ، وأنه كان يتردد على رجال الأدب. ولكن هل ختم حياته في إيطاليا قبل عدة أعوام سبقت تاريخ ١٥٥٠ (١٩) ، كما ورد في مقدمة الطبعة الرابعة التي أصدرها راموزيو عام ١٥٨٨؟ (٢٠) ، وهل قفل من إيطاليا عائدا إلى تونس كما عبر عن نيته صراحة في كتابه «وصف إفريقيا» ابتداء من عام ١٥٢٥ (٢١)؟ وهل عاد إلى حظيرة الإسلام كما تؤكد ذلك بعض النصوص؟ وهذا هو الأمر الأكثر احتمالا. ولم يكن عمره يتجاوز الأربعين عاما عندما دبج كتابه. فقد كان نشاطه الثقافي كبيرا جدا استنادا إلى مشاريعه في التأليف ، والذي يعرضه علينا في نهاية كتابه الثامن عن وصف أوربا ، ثم عن القسم الآسيوي الذي زاره ، وأخيرا عن إفريقيا. وفي الواقع لقد سبق له أن انتوى ، أو ربما كتب فعلا ، مختصرا في التاريخ الإسلامي ، الذي يتكلم عنه في أكثر من مكان ، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه أنجز فعلا هذا المؤلف ، بالإضافة إلى كتب تاريخ إفريقيا الحديث ، وكتاب البلاغة في اللغة العربية ، وكتاب في النحو الخ .. وحتى أيامنا هذه لم يمكن العثور إلا على الجزء العربي من مفردات بلغات متعددة ، صدر في بولونية بتاريخ كانون الثاني في (يناير) ١٥٢٤ (٢٢) والذي تحتفظ به مكتبة الاسكوريال في مدريد.

ومن الواضح أن كتابه «تاريخ إفريقيا الحديث» سيكون ثمينا للغاية بالنسبة

__________________

(١٧) ٩٢٨ ه‍.

(١٨) نقلا عن السيدة الأستاذة كودازى.

(١٩) ٩٥٧ ه‍.

(٢٠) ٩٦٦ ه‍.

(٢١) ٩٣٣ ه‍.

(٢٢) ٩٣٢ ه‍.

٢٣

لمؤرخي تلك الفترة الغامضة. ونحن نأمل أن تكون السيدة آنجيلا كودازى ، التي تتابع أبحاثها المتأنية منذ بضعة أعوام ، قد تمكنت من جمع الوفير من المعلومات وأن تصبح معارفنا بفضلها أكثر دقة في هذا التاريخ.

وقد ظل «الوصف» الذي قدمه ليون موضع ثقة في خلال أكثر من ثلاثة قرون ، إذ ثبت أن مخطوط ليون كان معروفا ويستفاد منه على نطاق واسع منذ ١٥٢٩ م. وقد كان هذا المؤلّف وثيقة جغرافية أساسية ، وخاصة بالنسبة لعلماء الخرائط الجغرافيين الذين يبدو أنهم استفادوا من مصادر أخرى لا يستهان بها. ولا تزال الدهشة تعترينا من صحة بعض التفاصيل التي قدمها ليون ، ومن صواب نظراته كباحث كان ، على الرغم من تكوينه العلمي القديم ، متمتعا بروح عصرية ، وكان تجرده كبيرا. فلم يكن لديه أية كراهية إلا «للأعراب» الذين نسب إليهم ، كما فعل ابن خلدون ، مسئولية تخريب بلاد الشمال الإفريقي (*). وفي هذا المجال نحرص على أن نوضح للقارىء غير المتمرس أن عرب القرن السادس عشر لم يكونوا سوى أحفاد قبائل عربية ، أو من افخاذ قبائل عربية فوضوية تخلص منهم خلفاء مصر الفاطميون بأن دفعوا بهم لكي يبحثوا عن معيشتهم في المغرب حوالي سنة ١٠٥٠ م. أما العرب الأصلاء الذين قاموا بفتح البلاد ، أو الذين حكموها بعدئذ ، فقد انصهروا منذ زمن طويل في السكان البربر ، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية النادرة. وحتى لو كان ليون نفسه ، وهذا محتمل جدا ، ينحدر من أصل عربي بعيد جدا ، فهو لن يرتاح اذا وصف بانه عربي ، وشبّه بأولئك الناس ، الذين كان بعضهم رجال أمن ، وبعضهم قطاع طرق والذين كان عدد كبير منهم يعيث فسادا في أرياف إفريقيا الشمالية.

وإذا كان لكتاب ليون مزايا رفيعة جدا ، ويقدم توثيقا يعتبر من أثمن المصادر ، فهو مع هذا يبدو حاويا على عدد ضخم من الأخطاء الناجمة عن أسباب عديدة. فقد كتب بدون شك كثيرا منه اعتمادا على الذاكرة التي كانت رائعة أكثر مما أشار إليه في مناسبات عديدة ، ولكنها لم تكن أمينة كل الأمانة ولا معصومة ؛ فقد ارتكب أخطاء بارزة جغرافية

__________________

(*) قصد ابن خلدون بكلمة «العرب» في جميع الفصول التي وردت فيها هذه الكلمة في «المقدمة» البدو الرحل ، وخاصة المشتغلين بمهنة الرعى (انظر كتابنا «عبقريات ابن خلدون» صفحات ٢٣٨ – ٢٤٤ ومقالنا في مجلة «الأصالة» الجزائرية عدد سبتمبر وأكتوبر ١٩٧٣ بعنوان» اتهام ابن خلدون بالتحامل على العرب» وتعليقنا رقم ٣٥٩ على مقدمة ابن خلدون ص ٥٧٩ «الجزء الثاني» الطبعة الثانية للجنة البيان ...(المراجع)

٢٤

وتاريخية. واعتمد أحيانا على روايات رحالة غير صحيحة ، أو مفسرة تفسيرا غير صحيح ، كما أنه لم يقرأ مذكراته مرة ثانية بدقة. وهكذا تتعذر قراءة نص ليون إلا في ضوء شرح مفصل.

وقد بذلنا جهدا لجعل الترجمة حرفية قدر الإمكان ، حتى لو كان ذلك على حساب اللغة الفرنسية ، التي فقدت هنا فتنتها الحقيقية التي عرفتها في ترجمة تامبورال ، والتي كانت متأنقة على حساب المعنى. وقد توسعنا في الشروح التاريخية لنمهد السبيل أمام القارىء كي يدرك الوقائع في الصورة المتسقة مع الحقيقة التي يسمونها التاريخ ، وهي لا تعدو أن تكون حقيقة نسبية غير مطلقة. ولن يفوت العلماء المختصين كشف أخطاء بارزة في هذه الشروح. ونحن نعتذر عنها مؤكدين بأنه لم تكن لدينا مطلقانيّة تقديم عمل علمي في ثوب جديد ، إذ لم نتصدر لدراسة «وصف» ليون إلا بناء على ما لدينا من معرفة لا بأس بها عن بلاد إفريقيا الشمالية ، ولا سيما المغرب بشكل خاص. ومن المسلم به مثلا أن مسألة النقود والأوزان والمقاييس بحاجة لمعالجة جديدة على أيدي المختصين. كما أن ليون نفسه لم يكن يرمي إلى إعطائنا أرقاما دقيقة ، وقد حاولنا أن نعطي ما يكافىء هذه الأرقام بصورة معقولة بالفرنسية الحديثة. وعند هذا الحد توقفت أبحاثنا التي لا تزال بدون شك في حاجة إلى كثير من التصحيح. وقد وجه المترجم السابق تامبورال في عبارة ودية نظر القارئ إلى هذه الحقيقة إذ يقول : «وهكذا سنلاحظ أن ليون ، مؤلف هذا التاريخ عن افريقيا ، والذي كتب مؤلفه في روما ، باللغة الإيطالية ، إنما استخدم أميالا معروفة محليا ، يعادل اثنان ونصف منها مرحلة فرنسية» ولكن الميل الإنجليزي ، الذي يعادل ١٦٠٩ أمتار هو الذي يقابل تقديرات ليون.

وقد سمحت لنا أبحاثنا الخاصة والتي أكملتها الملاحظات الثمينة التي أخذناها عن المهتمين بهذه الناحية ، أقول سمحت لنا بتشخيص عدد من الأمكنة الجديدة ، ولا يزال عدد منها يتطلب تحديد مكانه بشكل دقيق ، إذ يكون من اللازم ضبط كتابتها بصورة صحيحة.

هذا ولم يكن باستطاعتنا إنجاز هذه المهمة الكبيرة نسبيا لولا العون الكبير الذي تلقيناه في العديد من المجالات بفضل المساعدة الفعالة والتضلع اللذين وجدناهما لدى عدد كبير من الأشخاص الذين آسف كثيرا لعدم استطاعتي سرد أسمائهم جميعا هنا.

٢٥

ومن المؤكد أنه لولا التعاون النشيط من جهة السيد تيودور مونو الاستاذ في «الموزيوم» (*) ومدير المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء في دكار ، والذي التحق به بعدئذ السيد ريمون موني ، مساعده ، ولولا هنري لوت الملحق بمتحف الإنسان في باريس وجوّاب الصحراء الكبرى المشهور ، لما اقتصر الأمر على قصور مراجعنا قصورا كبيرا فيما يتعلق بالموضوعات ، المعروفة لديهم ، بل لما استطاع الكتاب نفسه أن يرى النور.

وندين بالشيء الكثير للسيد روبير ريكار ، الأستاذ في السربون ، والذي يعتبر اتساع معرفته عن قضايا إفريقيا ، في عصر ليون ، فريدا جدا. كما تفضل الأستاذ جاستون فييت ، مدير المتحف العربي في القاهرة ـ والذي يعتبر كتابه «تاريخ مصر» حجة ـ بمراجعة الجزء الخاص بمصر في هذا الكتاب. وقدم لنا كل من الأستاذ بوانسو في تونس وج. مارسيه في الجزائر معلومات ثمينة. ووضع الأساتذة : ليفي بروفنسال ، الأستاذ في السربون ، والسيد كولان الأستاذ في مدرسة اللغات الشرقية ، والسيد مارسي ، المختص المشهور بالدراسات البربرية ، أقول وضع هؤلاء كفاءتهم العالية في خدمتنا. وكذلك تفضل السيد رونيه جروسيه ، عضو الأكاديمية الفرنسية ، بإرشادنا في بعض الأبحاث التاريخية.

ولم نعمد إلى سرد أسمائهم لإعطاء ضمانة لهذا العمل ، لأن هذا سيكون نوعا من سوء الاستغلال. ولكننا سنستوحي من تواضع راموزيو في إهداء كتابه للعالم جيروم فراكاستور ، وهو الإهداء الذي سنرى ترجمته بعد قليل ، وسنؤكد لهم عرفاننا الصادق للفائدة التي قدموها لهذه المحاولة الرامية إلى نشر «وصف» ليون كائنة ما كانت نواقصها.

* * *

«الكسيس بولار»

__________________

(*) يقصد به متحف التاريخ الطبيعي في باريس (المراجع)

٢٦

لقد توقف نشر هذا المؤلف بغته ، بينما كان العمل يقارب نهايته ، بسبب الوفاة الفجائية للطبيب الجنرال ايبولار (١) الذي نحنيّي هنا ذكراه ، في أعقاب ظروف مؤلمة. فقد ظل المخطوط مفقودا خلال بضعة أعوام رغم بحث أهم معاونيه الذين كانوا حريصين كل الحرص على نشر الكتاب الذي أتمه صديقهم العظيم.

وأخيرا وبفضل عناية السيدة إيبولار (أرملة المأسوف عليه إيبولار) تم وضع المخطوط بين يدي الأستاذ ه. تيراس مدير معهد الدراسات العليا المغربية ، الذي اهتم بنشاط بنشر الكتاب ، ووصل الكتاب أخيرا ليدي السيد لوت ، الذي عهد إليه بشئون الطباعة بشكل خاص.

وقد أعيدت كتابة بعض التحقيقات أو أضيفت ولا سيما في الجزء المتعلق بالصحراء الكبرى والسودان ، والملاحظات التي تحمل الحروف الأولى من الأسماء هي التي تعكس بشكل خاص رأي أحد المحققين.

ونظرا لنفاذ ترجمة تامبورال لكتاب ليون ، وهي الترجمة التي قام بطبعها شيفر بين عامي ١٨٩٦ و ١٨٩٨ ، والتي لم تعد في متناول الجمهور ، بينما لا تزال ـ نظرا لنوعيتها والقدر العظيم من المعلومات التي تشتمل عليها ـ كتابا مفيدا لأبناء هذا العصر ، لذلك نأمل أن يقدر المختصون بالدراسات الإفريقية هذه الطبعة الجديدة حق قدرها والتي أنجزت لخدمتهم. ذلك أن النهضة التي تتخذها الدراسات التاريخية عن إفريقيا جعلت من الضروري وضع هذا الكتاب تحت تصرفهم ، والذي يظل معينا قيما لدراسة ماضي هذه القارة ، بعد أن كان أساس المعارف الجغرافية عن هذا الجزء من العالم خلال عدة قرون من الزمن.

ت. مونو ، ه. لوت ، ر. موني.

TH. MONODH. LHOTEet. RMAUNY

ملحوظة : لقد أخذت الخرائط التي حضرها ايبولار شكلها النهائي بجهود ه. لوت ، وتم رسمها في مكتب الرسم في متحف الإنسان في باريس. ونود هنا أن نشكر هذه الدائرة لتعاونها الثمين وأن نعبر عن عرفاننا للسيد الأستاذ فالوا للتسهيلات التي تكرم بها علينا لإنجاز هذا العمل.

__________________

(١) توفي الطبيب الجنرال ايبولار بتاريخ ٢٢ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٩

٢٧
٢٨

الى سعادة السيّد جيروم فراكاستور

من جان باتيست راموزيو

لقد كان من عادة القدامى ، والتي لا زالت معهودة حتى أيامنا ، أن يعمد الذين يرغبون في نشر تصانيفهم ، سواء المنثور منها أو المنظوم ، إلى إهدائها لرجال قادرين على الحكم عليها ، أو للأصدقاء الذين يودون قراءتها ، أو للذين يضفي بريق أسمائهم على المؤلفين مزيدا من الثقة والشهرة.

وأود أن أحافظ على هذا التقليد ، وذلك بمناسبة العمل الذي فرغت من إنجازه ، والذي يتمثل في تجميع بعض التصانيف عن شئون إفريقيا والهند. ولم أجد أية شخصية أخرى سوى سعادتكم أستطيع أن أقدم لها عملي ، فهي وحدها التي تستجيب أفضل استجابة للهدف الذي أقوم بعرضه. وفي الواقع لا أتصور أبدا أن هناك احدا ـ بفضل ما له من مكانة ـ يمكن أن يكون أحسن منكم حكما على مؤلفي ، أو أشد حفاوة به أو تقديرا له.

وهذا يعود أولا ان سعادتكم أرسخ من أعرفهم قدما في علم الجغرافية ، وإلى أنكم ارتأيتم أنني سأجلب بعض المسرة للناس بفضل هذا المؤلف ، وإلى أنكم منذ البداية شجعتموني على القيام بهذا المشروع ، ولأسباب كثيرة أيضا شددتم عزيمتي في عدة مناسبات ، وذلك بفضل المحادثات الحكيمة والمناقشات الودية التي كانت لي مع السيد الكريم الكونت ريموندو ديلّاتوره ، الذي سبق له أن أنصت بسرور لجنابكم وأنتم تتكلمون بعلم غزير عن كثير من الأمكنة والكثير من المواقع.

وأخيرا رغبت في أن أترك للخلف ، بعملي هذا ، نوعا من شاهد على صداقتنا الطويلة الطاهرة. ولن أستطيع أن أصنع خيرا من ذلك تجاه الاحترام الذي أدين به لجنابكم ، وللمودة التي تحملونها لشخصي ، وإنني لعلي يقين بأن هذا المؤلف سيكون عزيزا عليكم وستقرءونه عن طيب خاطر.

ولكنني إذا كنت أريد إتمام رغبتي في رؤية عملي هذا حيا بين الناس ، فلن أستطيع

٢٩

أن أعمل خيرا من أن أقدمه لاسمكم الشهير. إنني مقتنع بأنه بعد فناء الجسد ينبغي أن يظل هذا الاسم خالدا ، نظرا لأن جنابكم كان الوحيد ، في عصرنا ، الذي عمل على إحياء طريقة القدامى الجليلة في الكتابة في مجال العلوم. فأنتم لم تقلدوا ، ولم تحرفوا ، ولم تنقلوا كتابا عن كتاب ، كما لم تنسبوا لأنفسكم أشياء الآخرين كما فعل الكثيرون ؛ بل عملتم على تمحيص الوقائع بحذق ودراية. وقدمتم للعالم عددا من الطرق الجديدة التي لم يسمع أحد كلاما عنها من قبل بل التي لم يتصورها أحد. وهذا ما حدث في علم الفلك ، فقد اكتشف شخصكم الحركات السماوية مع يقين مطلق ، وأوجد نظرية غاية في احكامها عن وحيدات المركز. وفي الفلسفة ، فقد مهدتم للطريقة السرية التي تولد فينا الذكاء والطريقة التي كانت مجهولة للبحث عن أسباب ظاهرات غريبة ، أسباب ظلّت مخفية خلال العديد من القرون ، كأسباب التوافق والتنافر الطبيعية ، والتي نلاحظها في ظروف كثيرة. أما في مجال الطب فقد درستم لأسباب الأمراض السارية وأفضل الطرق وأسرعها في علاجها. وإني لأترك جانبا قصيدة مرض الزهري ، التي على الرغم من أنها كتبت بقلم جنابكم في سن الشباب ، والتي تبدو كأنها لعبة ، فهي مع ذلك مليئة بأفكار فلسفية وطبية وبديعة جدا ، وموشاة بحلة قشيبة من أفكار قدسية ، ومزدانة بأزهار شعرية متنوعة ، حتى أن رجال عصرنا لا يعتورهم ريب في أنها تعادل القصائد القديمة ، مما يضعها في عداد القصائد التي تستحق البقاء وأن تقرأ خلال قرون لا نهاية لها.

لقد اعتبرت الدول والإمارات والثروات والأشياء التي من هذا القبيل والتي يمنحها الحظ ، اعتبرت دائما أمورا غير مستقرة وقصيرة البقاء. وهي في الحقيقة كذلك. أما كنز العقل ، ولا سيما إذا كانت قيمته من مستوى عقل جنابكم ، فمن المعروف يقينا بأنه متين ، يقاوم أية إهانة ويصمد لكل صرف من صروف الدهر ، ويعمل جاهدا ، رغم أنف الزمن ، ليصبح سرمديا وخالدا. وما أقوله هو الحقيقة. وإن من يرغب في التكلم عن حياة عدد ضخم من كبار الأمراء أو الأشراف الذين عاشوا في إيطاليا أو في أجزاء أخرى من العالم ، بل من يرغب في التكلم عن المعاصرين أنفسهم ، فإنه بلا شك سيجد فيما يتعلق بكثير منهم ، إن لم نقل فيما يتعلق بأكبر عدد منهم ، أن اللحد الذي احتوى أجسادهم قد أسدل رداء النسيان على أسمائهم ، بينما نرى أن ذكرى العديد من العلماء والكتاب الذين ماتوا منذ عدة قرون ، لا تزال تعيش بين ظهرانينا ، وتنعم بنضارة نامية في كل ساعة تمضي.

٣٠

وهكذا أحسب إذن أنني قمت بأفضل اختيار ، باعتبار الهدف الذي كنت أرمي إليه قبل كل شيء. فقد جذبت إليه بنوع من غريزة محبة عفوية وتبجيل تجاه رجال الأدب الذين يهتمون خاصة بالعلوم الفلكية والطبيعية.

ويتراءى لي في الواقع أن العلوم المذكورة تحوي شيئا الاهيّا نوعا ما مما يجعلها مؤهلة للتشريف والإعجاب بين الناس. ولكن السبب الذي حدا بي لبذل الكثير من العناء ، عن طيب خاطر ، في هذا العمل بالذات ، هو التأكد الذي حصلت عليه من دراسة وتمحيص لوحات بطليموس الجغرافية ، فقد وجدت أن اللوحات التي تصف أفريقيا والهند تشكو من نقائص كثيرة تجاه المعرفة الواسعة التي لدينا حاليا عن هذه المناطق وقد قدرت أن جمع أقاصيص كتاب عصرنا ، الذين كانوا في هذين الجزأين من العالم والذين تكلموا عنها بصورة مفصلة سيكون عملا ثمينا وجزيل الفائدة. وإذا ضممنا إليه صورة عن الخرائط البحرية البرتغالية ، فسيكون صنع عدد مكافىء من اللوحات عملا ذا فائدة كبيرة لأولئك الذين يهتمون بهذه المسائل ، إذ سيصبحون على يقين من درجات العرض والطول ، وذلك على الأقل بالنسبة لسواحل كل هذه الأصقاع ، ومن أسماء الأمكنة ، والمدن والأمراء الذين يقطنون فيها حاليا ، وسيتمكنون من موازنة هذه اللوحات مع ما كتبه الأقدمون.

ترى كم كابدت روحي الكليلة والصغيرة من عناء في هذا العمل ، ولا سيما بسبب تنوع اللغات التي كتب بها هؤلاء المؤلفون ، ولا أريد أن أشير إلى ذلك الآن كيلا يظهر أنني أبالغ في الكلام عن متاعبي وسهدي. ولكن آمل من قرائي الكرام أن يلاحظوا ذلك ، في بعض الأمكنة ، عندما يفكرون في هذا الأمر. وإذا كنا قد ارتكبنا عددا كبيرا من الأخطاء ، وهذا ما أعترف به حقيقة ، فهذا لم يصدر عن قلة في العناية من جهتنا ، بل يعود ذلك بالأحرى إلى أن مستوى ذكائنا عجز عن مجاراة حماس إرادتنا الطيبة.

وفضلا عن ذلك فإن نسخ المؤلفات التي وصلت إلى يدي كانت مضطربة للغاية ومغلوطة ، وهذا ما كان يخيف أي نفس جلودة وجريئة إذا لم تكن مدعومة بفكرة الحبور الذي يستشعره هواة المسائل الجغرافية ، ولا سيما من معرفة ذلك الجزء من إفريقيا الذي كتبه جان ليون. وليس هناك ، كما نعرف ، أي مؤلف آخر في عصرنا أعطى مثل ذلك القدر من المعلومات عنه ، وبمثل تلك الغزارة وذلك اليقين.

٣١

ولكن ماذا أقول عن المتعة التي سيحصل عليها الأدباء والدارسون؟ ومن ذا الذي يرتاب في أن العديد من الأشراف والأمراء ستنشرح نفوسهم من هذه المطالعة؟ ومن حق هؤلاء أكثر من سواهم أن يعرفوا أسرار هذا الجزء من العالم وخصائصه ، وتفاصيل تلك المناطق وأقاليمها ومدنها ، والعلاقات المتبادلة بين الأشراف وبين الأقوام التي تسكنها ، حتى لو كانوا مطلعين ، أو عرفوا بعض الحقائق من أشخاص آخرين سبق لهم أن جابوا هذه الأقطار ، او قرأوا ما كتبه هؤلاء ، أو استمعوا إلى ما سردوه عليهم ، وكان لديهم بفضل ذلك فكرة مسبقة عن عدد هذه المواقع واتساعها ، فإني لعلي يقين أنهم عند مطالعة هذا الكتاب ، وبعد الإلمام بما يحتويه ، وما هو معروض فيه ، سيظهر لهم أن المعلومات التي لديهم تبدو بالمقارنة مع مكنونات هذا الكتاب ، معلومات مبتسرة وناقصة وقليلة القيمة ، تلك هي الثمرة التي سيجنيها القراء من هذا الكتاب والتي ستوفر لهم كل ما يحبون.

ولقد تردد مؤلّفنا (يقصد جان ليون) كثيرا على قصور أمراء بلاد المغرب ، كما اشترك معهم في عدة حملات حربية ، في عصرنا ، وسأروي عن حياته ما ورد عن أشخاص جديرين بالثقة من الذين عرفوه وترددوا عليه في روما.

لقد كان مغربيا مسلما ، ولد في غرناطة ، وعندما استولى الملك الكاثوليكي على هذه المملكة ، كان هذا في جملة الذين التجأوا إلى بلاد المغرب مع أسرته ، وأتمّ تحصيله بالعربية في مدينة فاس. وقد كتب في هذه اللغة عدة مؤلفات في علم التاريخ ولكنها لم تصل إلينا حتى الآن ، فضلا عن كتاب في علم النحو يقول الأستاذ يعقوب مانتينو أنه بحوزته. ولقد جاب كل أرجاء الشمال الإفريقي ، وبلاد السودان ، وجزيرة العرب ، وبلاد الشام ، مسجلا كل ما رآه وما سمعه. وفي آخر مرحلة سقط في الأسر ، في جزيرة جربه ، في عهد البابا ليون ، بواسطة أحد مراكب القرصان. وقد اقتيد إلى روما حيث قدم هدية لقداسته. ولما رآه البابا ، وأدرك أنه يهتم بقضايا الجغرافيا ، وأنه سبق أن ألف كتابا يحمله معه ، أكرم وفادته وأثنى عليه كثيرا ومنحه مرتبات طيبة كي لا يغادر البلاد. وبعدئذ ناشده أن يعتنق النصرانية وأوصله لذلك ومنحه اسميه جان وليون. وهكذا سكن ليون مدة طويلة في روما بعد ذلك. وتعلم فيها اللغة الإيطالية قراءة وكتابة وترجم كتابه من العربية قدر استطاعته. وهذا الكتاب الذي كتبه بيده وصل إلينا في أعقاب أحداث عديدة سيكون ذكرها نوعا من إسهاب. أما نحن فقد بذلنا أحسن عناية بإمكاننا وقد اجتهدنا في سبيل إخراجه للنور ، بكل أمانة ، على الصورة التي يقرأ فيها الآن.

٣٢

٣٣
٣٤

القسم الأوّل

منشأ إسم إفريقيا

تدعى أفريقيا بالعربية ، إفريقية ، من كلمة فرق التي تقابل معنى الكلمة اللاتينيةSepararit وهناك رأيان حول أصل هذه التسمية. فالأول يرتكز على أن هذا الجزء من العالم ينفصل عن أوربا وعن جزء من آسيا بواسطة البحر المتوسط. ويرى القول الثاني أن هذا الاسم مشتق من أفريقوس ملك بلاد العرب السعيدة ، (١) على اعتبار انه أول من جاء وسكنها ، فبعد أن هزم هذا الملك في معركة مع آشور وطرد من مملكته عجز عن العودة اليها ، فعبر النيل على عجل متابعا طريقه نحو الغرب ولم يتوقف قبل وصوله الى ضواحي قرطاج. ولهذا فان العرب لا يقصدون بإفريقية سوى ضواحي قرطاج ذاتها ، ويطلقون على مجموع افريقيا اسم المغرب. (٢)

حدود إفريقيا

يعتبر النيل ، وذلك استنادا الى العلماء الأفارقة والجغرافيين ، تخما شرقيا لافريقيا ، وهذا ابتداء من روافد بحيرة غاوغه جنوبا (٣) وحتى مصب هذا النهر في البحر الابيض المتوسط ، وتمتد غربا حتى اعمدة هرقل. وتذهب غربا من هذا المضيق حتى نون ، وهي

__________________

(١) اليمن.

(٢) الواقع كان الرومان يسمون آفرAfer وجمعها أفرى Afri ، المواطن البوني من اهل قرطاج وذلك عندما اجتاحوا قرطاج عام ١٤٦ ق. م ، وخربوا المدينة وانشأوا مقاطعة افريقياProvinciaAfrica أو اقليم الآفر اختصارا ، اما العرب فقد تحولت عندهم كلمة افريقيا الى إفريقيةIfrikiya وهو اسم كانوا يقصدون به تقريبا بلاد تونس الحالية ، في حين كانت كلمة مغرب أي بلاد المغرب ، تعني عندهم كل المنطقة المحصورة بين ضفة النيل اليسرى والمحيط الأطلنطي.

(٣) بحيرة غير محددة الموقع تماما ، لأن أعالي النيل لم تكن معروفة عند العرب في القرن السادس عشر.

٣٥

آخر موقع من ليبيا على المحيط. (٤) وتبدأ افريقيا في الجنوب من رأس نون وتمتد على طول المحيط الذي يطيف بها حتى صحراء غاوغه. (٥)

أقسام إفريقيا

تنقسم افريقيا ، كما يرى كتابنا الى أربعة اقسام وهي : بلاد البربر ، نوميديا ، ليبيا ، وبلاد السودان. وتبدأ بلاد البربر في الشرق من جبل معيز ، وهو آخر بروز من جبال الاطلس على مسافة ثلاثة آلاف ميل تقريبا من الاسكندرية. (٦)

ويعتبر البحر المتوسط حدا شماليا لها ابتداء من جبل معيز حتى اعمدة هرقل. وفي المغرب تبدأ حدودها من هذا المضيق وتحاذي ساحل المحيط حتى آخر بروز من جبال الاطلس ، أي عند النهاية الغربية لهذه الجبال ، على حافة المحيط ، عند المكان الذي تقوم فيه مدينة ماسّه. وتنتهي بلاد البربر جنوبا قرب جبال الاطلس. أي عند سفح هذه الجبال المطل على البحر الابيض المتوسط. وهنا نجد أشرف جزء من افريقيا حيث نجد أناسا من الجنس الابيض يسيرون وفق نظم منبثقة من التفكير السليم ومن القوانين الوضعية.

أما القسم الثاني فيسمية اللاتين نوميديا ، والعرب يدعونه بلاد الجريد وهي البلاد التي ينمو فيها النخيل ، (٧) وتبدأ نوميديا شرقا من الواحات ، وهي مدينة على مسافة مائة

__________________

(٤) يتخيل المؤلف واحة تحمل اسم نون تقع في الجنوب على الساحل في المنطقة الصحراوية ، أي في أراضي موريتانيا الحالية.

وقد اطلق قدامى الملاحين الأوربيين اسم رأس نون على بروز ساحلي كانوا يحاذون الساحل حتى بلوغه كي يتجهوا بعدئذ نحو جزر الخالدات (كناري) وظل هذا الرأس لمدة طويلة أبعد التقاط التي يترددون عليها جنوبا وغربا. ويجهل السكان المحليون اسم رأس نون الذي أطلقه البحارة الاوروبيون على هذه المنطقة ، كما يعتقد انهم كانوا يصلون من هذا الموقع الى وادي نون المأهول وذي الحركة التجارية النشيطة ، ويغلب على الظن أن هذا الرأس والوادي يقعان في جوار منطقة إيفني ، قرب ضريح سيدي ورزيك.

(٥) وهنا يجدر بنا ان نذكر ان الاوروبيين كانوا يعرفون حينئذ أن البرتغاليين قد داروا حول القارة الافريقية لبلوغ الهند وذلك عام ١٤٨٧ م / ٨٩٢ ه‍ ، في حين ظل الجغرافيون العرب على المفاهيم الجغرافية للقرون السابقة لهذا التاريخ «ويعود هذا لدمار أساطيلهم بفعل الحصار الذي ضربه البرتغاليون حول السواحل العربية سواء في المغرب او المحيط الهندي (المترجم).

(٦) كان الجغرافيون العرب يعتبرون جبال الاطلس سلسلة متواصلة ممتدة من ساحل المحيط الاطلنطى حتى العقبة جنوبى خليج السلوم ، أما جبل معيز الذي يحدده المؤلف على مسافة ٥٠٠٠ كم من الاسكندرية فلم يمكن التعرف عليه بشكل دقيق.

(٧) اطلق اللاتين بالفعل كلمة اقليم نوميديا ، على الكتلة الجبلية التي تؤلف تقريبا حوض نهر المجردة ، أي السهل الواقع الى الشرق في منطقة قرطاج ، فقد كان مأهولا بجماعات الآفري ، وهي أقوام كانت تعيش في الغرب ، منتشرة حتى ساحل المحيط وكانت مشمولة باسم مورى ، في حين كان كل السكان المحليين في الهضاب العليا وما وراءها ، ابتداء من الساحل التونسي حتى الساحل الأطلنطي ، كانوا معروفين تحت اسم الجتولي. أما تسمية نوميدية او النوميديين فقد كانت على الارجح اسما من ـ

٣٦

ميل من مصر. (٨) وتبدأ نوميديا غربا حتى نون الواقعة على ساحل المحيط. وتمتد شمالا حتى جبال الاطلس على السفح الجنوبي. وبذلك تتاخم رمال صحاري ليبيا من الجنوب ، ويطلق العرب (٩) نفس الاسم على كل هذه الاصقاع التي تنتج التمور لأن لها جميعا نفس الموقع.

ويدعى القسم الثالث ليبيا في اللاتينية ، ولكنه لا يحمل في العربية اسما آخر سوى الصحراء أي القفار (١٠). وتبدأ شرقا من تخوم الواحات كي تمتد غربا حتى المحيط. وتتاخم نوميديا من الشمال بلاد النخيل وتتاخم من الجنوب بلاد السودان ، ابتداء من مملكة ولّاته شرقا ، والتي تقع على المحيط. (١١)

ويبدأ القسم الرابع ، أي بلاد السودان ، من شرقي مملكة غاوغه ويستمر غربا حتى مملكة ولّاته (١٢) وتثاخم بلاد السودان من الشمال صحراء ليبيا. وتنتهي بلاد السودان جنوبا في أمكنة نجهلها ، ولكننا نملك عنها معلومات جديدة استقيناها من تجار يأتون من هذه المناطق الى مملكة تومبوكتو. ويمر من أواسط بلاد السودان نهر النيجر ، الذي يتولد في صحراء تدعى سو ، وحيث يخرج من بحيرة. (١٣) واستنادا الى ما يؤكده جغرافيونا فان نهر النيجر هو عبارة عن فرع من النيل يغور تحت الارض ، ومن ثم ينبثق منها كي يشكل هذه البحيرة. ويقول البعض ان هذا النهر ينشأ في الغرب ، في جبال ، وثم يجري

__________________

ـ أصل بربري ، ولكنه التبس منذ العصور القديمة مع عبارة نوماد الإغريقية ، ومعناها الرعاة ، او الرعاة المتنقلون ، حتى لقد اشتملت هذه التسمية المحلية للقبائل الجبلية المستقرة أقواما بدوية وكان هذا الاتساع في التسمية راجعا على الاخص الى المؤلفات الأدبية : هذا ولا توجد وثائق قديمة معروفة تتكلم على الخصوص عن الواحات وتعطيها اسما اجماليا ومعنى عبارة بلاد الجريد بلاد النخيل.

(٨) ويقصد بالواحات هنا البلدة الرئيسية في واحة الخارجه ، المرتبطة في أيامنا بنهر النيل بواسطة خط حديدي طوله ١٠٦ أميال أو ١٧٠ كم. أما في كتابه الرابع ، فيضع الحسن هذه الواحات في ليبيا.

(٩) أي البدو من بني هلال وسليم وسواهم.

(١٠) لم تكن ليبيا بالنسبة للإغريق أولا ، ثم بالنسبة الى اللاتين ، عبارة عن المناطق الصحراوية الحالية فحسب بل كل المنطقة المأهولة بالجنس الابيض بين نهر النيل والمحيط.

(١١) الواقع ان بلاد ولّاته ، التى لم تكن مملكة بحد ذاتها ؛ لم تمتد مطلقا حتى ساحل المحيط الاطلنطي.

(١٢) ان العبارة ايثيوبيا نفس معنى السودان باللغة اليونانية ، وسيستعمل المؤلف احيانا هذه التسمية كما سيقصد ايضا بكلمة اثيوبيا او بعبارة ايثيوبيا العليا الحبشة الحالية.

(١٣) الواقع كانت ضفاف بحيرة تشاد مأهولة سابقا بقوم من الزنوج يدعون ساءو. (انظر كتاب «حضارة التشاد» الصادر عام ١٩٥٠ في باريس عن دار بايو).

٣٧

نحو الشرق كي يتحول الى بحيرة. وهذا غير صحيح ، فقد ركبنا متن هذا النهر بالفعل منطلقين من تومبوكتو شرقا وسرنا مع تيار الماء حتى مملكة جنه ، وحتى مملكة مالى ، وكلاهما الى الغرب من تومبوكتو (١٤) وأجمل بلاد السودان هي تلك التي تمتد على طول نهر النيجر. وأوجه انتباهكم إلى انه نظرا الى ما يقوله الجغرافيون ، فان قسما من بلاد السودان التي يخترقها نهر النيل في قسمها الغربي ، تمتد شرقا حتى بحر الهند ويبلغ في بعض النقاط البحر الاحمر في اتجاه الشمال ، في جزء من هذا البحر يقع الى ما وراء المضيق الذي يفصل هذه البلاد عن بلاد العرب السعيدة ، (١٥) ولا يعتبر هذا الجزء من إفريقيا لأسباب عديدة وردت في مجلدات طويلة ويسمّي اللاتين هذا القسم أثيوبيا ، ومن هناك يأتي بعض الرهبان الذين تكون وجوههم موسومة بالنار ويمكن رؤية بعضهم في كل أوربا ، ولا سيما في روما. ويحكم هذه البلاد رئيس ، هو نوع من بطريق يسميه الطليان الكاهن حنا. والقسم الاكبر من هذه المنطقة يقطنة نصارى. وهناك زعيم مسلم يملك فيها مع ذلك ولاية كبيرة.

أقسام وممالك هذه الأجزاء الأربعة من إفريقيا

تقسم بلاد البربر الى أربع ممالك :

الأولى هي مملكة مراكش التي تقسم الى سبع مناطق هي : حاحه ، السوس ، مراكش ، جزولة ، دكالة ، هكسورة ، وتادلة. (١٦)

والثانية هي مملكة فاس وتضم عددا مماثلا من المناطق وهي : تامسنة ، إقليم فاس ، أزغار ، الهبط ، الريف ، غارت ، والحوز.

الثالثة هي مملكة تلمسان التي تشمل ثلاث مناطق هي : الجبال ، تينس ، والجزائر.

الرابعة وهي مملكة تونس التي تخضع لها أربع مناطق هي : بجاية ، قسنطينة ،

__________________

(١٤) تدل هذه الجملة بصورة جلية أن المؤلف لم يقم بهذه الرحلة.

(١٥) مضيق باب المندب واليمن.

(١٦) نلاحظ هنا ان المؤلف الذي يكتب بالايطالية كان يلاحظ قاعدة اللغة العربية التي لا تضع لام التعريف امام الأسماء البربرية.

٣٨

طرابلس والزاب. وتنتسب الأخيرة في معظمها الى نوميديا.

أما منطقة بجاية فقد كانت دوما منطقة متنازعا عليها. فأحيانا كان يملكها ملك تونس ، وتارات أخرى كانت تتبع ملك تلمسان. وقد تكونت منها في أيامنا مملكة مستقلة الى أن سقطت عاصمتها بيد الكونت بدرونا فارو باسم الملك فرديناند الاسباني. (١٧)

أقسام نوميديا

أي البلاد التي ينبت فيها النخيل

يعتبر هذا الجزء من افريقيا أقل شرفا من كل الاقسام الاخرى ، (١٨) ولهذا لم يمنحها جغرافيونا لقب مملكة. والأماكن المأهولة فيها متباعدة جدا بعضها عن بعض. وهكذا فان تيشيت (١٩) وهي مدينة من نوميديا ، تحوي ٤٠٠ أسرة ، ولكنها تقع على مسافة ٣٠٠ ميل ، (٢٠) من أية بقعة مأهولة في فيافي الصحارى الليبية. ولهذا لا تستحق إذن لقب مملكة. وسأقدم لكم ، مع هذا ، اسم هذه الاماكن المأهولة ، لأن بعض النواحي تكون مشابهة للمناطق الاخرى ، مثل دولة سجلماسة ، التي تنتسب الى موريتانيا ، ودولة الزاب التي تقع بمواجهة مملكة بجايه وبلاد الجريد التي تمتد في اتجاه مملكة تونس. (٢١)

أما بالنسبة لهذه الآونة فإني أترك امر الدراسة التفصيلية للقضايا المتعلقة بهذا الجزء من افريقيا لكتاب آخر من هذا المؤلّف. وسأكتفي بسرد الاسماء التالية ابتداء من

__________________

(١٧) والواقع ان بجاية انتزعت من أيدي سلاطين تلمسان الزيانيين لحساب الحفصيين ملوك تونس في عام ١٣٦٠ م وظلت بأيديهم الى أن سقطت بيد الاسبان في ٢٥ ايار (ماي) ١٥٠٩ م / ٩١٥ ه‍. ولكنها كانت في معظم الاوقات تحت حكم امراء حفصيين. ومع هذا تمتعت بنوع من استقلال انقلب أحيانا الى تمرد على سلطة تونس المركزية.

(١٨) يقصد الجغرافيون العرب بعبارة «منطقة شريفة» أي منطقة غنية كثيرة الخيرات (المترجم).

(١٩) في موريتانيا الحالية. وهكذا يذكر الحسن الوزان هذه المدينة في نوميديا ، وكذلك اعتبر توات وقوراره وطوقورت وورقلة وغدامس وفزان من مدن هذه المنطقة ، والتي هي في الواقع عبارة عن مواقع او مناطق صحراوية مما يبرهن على ان الوزان لم يكن لديه اكثر من معطيات تقريبية عن المعنى الجغرافي الصحيح للاسماء في نوميديا وليبيا ويرتكب عند كلامه عن المرابطين الذي اسسوا مدينة مراكش نفس الخطأ فيقول انهم قدموا من صحاري نوميديا. ومن جهة اخرى سنرى بعد قليل عند كلامه عن البرابيش وبلدة تيشيت كيف يضعها في ليبيا. ويأتى هذا التشويش والبلبلة يقينا من ان الوزان كان يعتبر الاقوا الصحراوية نوميديين مما يؤدي لصعوبة تحديد صحيح لما كان يسميه نوميديا وليبيا ـ ه. ل.H.LHOTE

(٢٠) حوالي ٤٨٠ كيلومتر.

(٢١) وهنا يحصر المؤلف هذه التسمية بمنطقة الجنوب التونسي الذي يدعى دوما الجريد.

٣٩

الغرب : نيشيت ، ودّان ، ايفران ، عكا ، الدرعة ، تابلباله ، تودغه ، سجلماسه ، بني قومي ، فيقيق ، تسابيت ، تيقورارين ، (٢٢) الزاب ، طوقورت ، ورقلة.

أما الزاب فهو اقليم بضم خمس مدن هي : بسكره ، البرج ، نفطه ، تولقه ، دوسن ، وتحتوي بلاد الجريد الحالية على نفس العدد من المدن هي : توزر ، قفصه ، نفزاوه ، الحامّة ، قابس. وتأتي بعد هذا الاقليم شرقا جزيرة جربه ، غريان ، مسلاته ، مصراته ، تاورغه ، غدامس ، فزّان ، أوجله ، بردوة (٢٣) والواحات (٢٤)

تقسيم الصّحارى الواقعة بين نوميديا وبلاد السودان

لا تحمل هذه الصحارى أي اسم دارج بيننا. بيد أنها تقسم الى خمسة اقسام اطلق على كل منها اسم القوم الذين يسكنون فيه ، ويجدون فيه وسائل معاشهم .. أولئك هم النوميديون الذين ينقسمون الى خمس مجموعات هي :

الزناقة ، (٢٥) الونزيقة ، الطارقة ، اللمتة والبرداوه. (٢٦) وتوجد في هذه المناطق بعض البقاع التي تتخذ اسماء فريدة بسبب نوعية البلاد من جودة أو رداءة ، مثل الأزواد ، التي عرفت بهذا الاسم بسبب عقمها وجفافها ، وآيير الذي هو عبارة عن صحراء بدوره ، والذي نال هذا الاسم بسبب عذوبة هوائه المعتدل. (٢٧)

تقسيم بلاد السودان إلى ممالك

هذا وتقسم بلاد السودان كذلك الى ممالك يكون بعضها مجهولا مع ذلك بالنسبة لنا

__________________

(٢٢) اسم بربري حل محله اليوم اسم عربي مكافىء هو قوراره.

(٢٣) واحات الكفرة التي يقطنها التدأ أو التبو ، وتذكرنا قرية برداي ، في تيبستي ، بهذا الاسم.

(٢٤) وهو اسم لا زال مستعملا في الواحة المصرية المسماة الخارجة ، ويضع المؤلف في الكتاب السادس ، هذه الواحة في ليبيا ، أي في الصحراء الكبرى ، وكذلك واحة الكفرة ، وواحة سيرت على ساحل البحر الابيض المتوسط.

(٢٥) لا تزال فئة من الزناقة تتكلم البربرية في شمالي مصب نهر السنعال في جمهورية موريتانيا الاسلامية.

(٢٦) هذا التقسيم مأخوذ جزئيا عن ابن خلدون الذي نقله بالتأكيد عن مؤلفين سابقين. اضف الى ذلك ان الحسن لا يعرف ان البرداوة لم يكونوا من البربر ، بل قوم متميزون من السود ، أما التدا فيسمون عادة التبو.

(٢٧) يبدو ان المؤلف ربط التسمية البربرية ازواد بالاصل العربي زود أو زاد أي مؤونة والذي يوحي بفكرة ضرورة تأمين زاد الرحلة ، أي ان هذه البلاد محرومة من الموارد ، كما خلط التسمية البربرية آيير مع الكلمة العربية هير أو خير وهو ريح الشمال.

٤٠