وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وقوية تملك الكثير من الخيل ، ولا تدفع أية ضريبة. وينمو في هذا الجبل كثير من القمح ، وتظهر فيه كمية من بساتين الأشجار المثمرة ومن كروم العنب الأسود ، ولكن لا تصنع منه خمر. ونساء هذا الجبل بيضاوات وبدينات ، ومن عادتهن التزيّن بكثير من الحلى الفضية لأن هؤلاء الناس أغنياء. والرجال هنا سريعو الغضب وعلى قدر كبير من الجرأة. والويل لمن يتحرش بنسائهم ، فكل إهانة أخرى تتضاءل أمام هذه الإهانة.

بني ورتناج (٥٢٨)

هذا الجبل مرتفع وعسير المرتقى بسبب الغابات والجروف الموجودة فيه. ويقع على مسافة ثلاثين ميلا (٥٢٩) تقريبا من تازه. وهنا ينمو القمح والكتان والزيتون والليمون والسفرجل البديع المعطر. وفيه ايضا الكثير من الحيوانات ، باستثناء الخيل والثيران التي هي بأعداد قليلة. وسكانه شجعان كرماء ، ويلبسون ثيابا لائقة كأبناء المدن ، وفيه حوالي خمس وثلاثون قرية تقدم ثلاثة آلاف محارب بواسل بتجهيز حسن (٥٣٠).

جبل وابلان (٥٣١)

وابلان جبل عال (٥٣٢) شديد البرودة وكثير الاتساع. ويبلغ طوله ستون ميلا تقريبا (٥٣٣) بعرض يبلغ خمسة عشر ميلا (٥٣٤). وهو يتاخم جبال دبدو ويتاخم من الغرب جبال بني يازغة. ويبعد مسافة خمسين ميلا عن تازه (٥٣٥). ويظهر الثلج على

__________________

(٥٢٨) ويسمون حاليا تسول.

(٥٢٩) ٤٨ كم.

(٥٣٠) لقد تغير اسم بني ورتناج المنتسبين الى مكناسه شمالي تازه ، وأستعيض عنه باسم تسول ، وهو اسم المنطقة التي يقطنون فيها.

(٥٣١) وبلان وحاليا بوايبلان.

(٥٣٢) ترتفع قمة وبلان (الذي تغير اسمه في ايامنا الى بوايبلان) الى ٣١٩٠ م.

(٥٣٣) ١٠٠ كم.

(٥٣٤) ٢٥ كم. ولا يقصد بهذا الجبل طبعا بوايبلان ذاته ، بل الكتلة الجبلية الواقعة بين نهر الملوية في الشرق ووادي مديز في الغرب.

(٥٣٥) ٨٠ كم.

٣٦١

قمته في جميع فصول العام (٥٣٦).

وقد كان في في الماضي مأهولا بقبيلة كبيرة العدد ، غنية وشجاعة ، كانت تعيش دوما في حرية ، إلى أن سقطت ضحية الطغيان. وذلك انه قد تجمعت قبائل الجبال المجاورة وتحالفت فيما بينها ، واجتاحت الجبل وقتلت الرجال وأحرقت القرى ، فجبل وابلان اليوم خال خاو.

غير أن أسرة من أهل هذا الجبل اعتزلت في قمته بعد أن رأت ظلم أقربائها الذين انضموا الى الآخرين لإرهاب البلاد ، وأقامت هناك مع أولادها والقليل من الأرزاق التي بحوزتها وعاشت حياة بسيطة زاهدة ، ومن أجل ذلك تركت وشأنها. ولا يزال نسل اولئك يعيشون في نفس المكان. وبما أنهم أناس مثقفون يعيشون عيشة شريفة فإن لهم مكانة كبيرة لدى ملك فاس. وفي أيامي كان هناك رجل هرم عالم جدا وعلى درجة من الشهرة جعلت الملك يستعين به وسيطا في جميع ما يبرمه من معاهدات الصلح وفي الاتفاقيات التي يعقدها مع القبائل العربية. وتعرض عليه المنازعات كما لو كانت تعرض على أطهر رجل. وكان هذا الرجل ممقوتا من اعماق قلوب رجال البلاط بسبب تلك المكانة.

بني يستيتن

يقع هذا الجبل تحت سلطة أمير دبدو. وتسكنه قبيلة ذات أوضاع رديئة جدا ، يمشون حفاة يلبسون الاسمال. ويسكن الناس في أخصاص من القصب. وعند ما يضطر أحدهم لقطع مسافة طويلة في هذه المنطقة يقوم بضفر نعلين من القصب (٥٣٧). وقبل ان يتم ضفر الزوج الثاني يكون الزوج الأول قد بلي من الاستعمال. ومن هنا نستشف ماهية معيشة هؤلاء الناس. فهم في غاية البؤس. ولا ينبت في جبلهم سوى الذرة البيضاء التي يصنع منها خبز ويصنع منها كذلك أطعمة أخرى ويوجد في سفح الجبل بعض بساتين لأشجار مثمرة تنتج العنب والتمور والدراق بكمية كبيرة. وتنزع من الدراق نواته ويقسم الى اربعة اجزاء ويجفف في الشمس. وبذلك يحتفظ بثماره طيلة

__________________

(٥٣٦) لا يختفي الثلج قط من قمة موسى أو صلاح التي تشرف على الجبل.

(٥٣٧) وربما من الحلفاء.

٣٦٢

السنة وتعتبر غذاء لذيذا جدا.

ويوجد على سفح الجبل عدة مناجم حديد. ويصنّع هذا الحديد وتعمل منه سبائك تحذى بها الخيل. وتستعمل نفس السبائك نقودا إذ لا توجد عملة في هذه البلاد ، أو لا يوجد منها سوى القليل. ومع هذا يجني هؤلاء الجبليون من هذا الحديد دخلا لا بأس به لأنهم يبيعون منه كمية كبيرة. كما يصنعون منه أيضا خناجر ، ولكنها لا تقطع شيئا. وتصنع النسوة خواتم من حديد ، وأقراطا منه في آذانهن. ولباسهن أردأ من لباس الرجال. وهن يقصدن الغابة باستمرار ليجمعن منها حطبا ويسمن فيها أنعامهن ، والتعليم معدوم فيما بينهم ؛ فليس ثمة شخص يعرف القراءة. وهم كالأنعام بل هم أضل. لا تفكير لديهم ولا ذكاء.

جبل سليليو

سليليو (٥٤٠) جبل مكسو بغابة من أشجار بلوط كبيرة. ويوجد فيه الكثير من العيون. وليس للسكان أي بيت من حجر ، فكل أكواخهم من قصب ويستطيعون نقلها من مكان لآخر ، ويضطرون الى مغادرة الجبل في الشتاء كي يعيشوا في السهل. وحينما يقترب الصيف في أواخر شهر أيار (مايو) يغادر العرب الصحراء كعادتهم. وحينئذ يرجع اهل سليليو الى جبلهم ، ويكون لعودتهم هذه فائدة مزدوجة لهم. فهم يبعدون بذلك عن العرب ، وهم من جهة اخرى يقضون الصيف في طقس بارد نوعا ما ، وهذا مفيد لهم ولأنعامهم ، لأن لديهم قطعانا كبيرة من الضأن والمعز ، وعند اقتراب الشتاء يرجع العرب الى الصحراء لانها اكثر دفئا ولأن ابلهم لا تعيش في المناطق الباردة. وفي هذا الجبل الكثير من الاسود ومن الفهود والقردة ، وتشبه هذه القردة عند رؤيتها جيشا تحت السلاح لكثرة اعدادها.

وهنا يقع نبع ضخم ينبجس منه الماء لدرجة بالغة من العنف حتى إن أحدهم رمى بحجر ثقيل يبلغ وزنه مائة رطل (٥٤١) في الفتحة التي يتدفق منها الماء فانقذف الحجر

__________________

(٥٤٠) سليليو. ويسميه احد المؤلفين البرتغاليين سيليغو ، ويطلق هذا الاسم على بلدة واقعة على نهر سبو. ولقد سألنا احد المواطنين هناك فقال مشيرا الى احدى الذرى التي تحاذي الضفة اليمنى لوادي المدز وهو أحد فروع نهر سبو العليا ، وتحمل اسم سيليليو.

(٥٤١) ٤٠ كجم

٣٦٣

جبل بني يازغه

تسكن هذا الجبل قبيلة غنية ، محترمة جدا لأخلاقها الكريمة وأسلوب حياتها. ويجاور هذا الجبل الجبل السابق حيث ينبغ نهر سبو ويجري هنا بين جروف عالية. وقد بنى اهل المنطقة جسرا بديعا للعبور من ضفة لأخرى. فغرسوا في كل جانب من النهر عمودا ضخما صلبا ، وثبتوا بكرة فوق كل من هذين العمودين ، ثم مددوا من جانب لآخر حبالا غليظة من الليف تنزلق في هاتين البكرتين. وقد ربطت بهذه الحبال قفة عميقة متسعة متينة تتسع لعشرة أشخاص يجلسون فيها بكل راحة ، وعلى من يرغب في عبور النهر ان يدخل في القفة وان يجر الحبلين من الطرفين المثبتين بها. فينزلق هذان الحبلان في البكرتين بسهولة ، وبهذه الطريقة تنطلق القفة نحو الضفة المقابلة وفي احدى المرات التي دخلت فيها هذه القفة حكى لي احدهم انه حدث منذ زمن طويل أن أراد عدد من الأشخاص يزيد عن طاقتها أن يركبوا في القفة ، فأدت زيادة الحمولة الى انهيار القفة المذكورة فسقط قسم من الناس في النهر بينما تشبث قسم آخر بالحبال ، وتم إنقاذ هؤلاء بمشقة ، ولم يظهر بعد ذلك اثر للذين سقطوا في النهر. وقد وقف شعر رأسي انزعاجا من سماع هذه القصة ، فقد نصبت هذه العبّارة في الحقيقة بين قمتي جبلين ، بحيث ترتفع عن مستوى النهر بنحو مائة وخمسين ذراعا (٥٤٢) حتى ليظهر الرجل الواقف عند ضفة النهر في نظر الجالس في هذه القفة كأن قامته شبر واحد (٥٤٣).

ولسكان جبل يازغه عدد كبير من الحيوانات لأن منطقتهم كثيرة الاحراش. والصوف الذي يحصلون عليه من أغنامهم شديد النعومة ، وتصنع منه نساؤهم أقمشة كالحرير ، ويصنعن من هذه الأقمشة ثيابا لهن وأغطية للسرر. ويباع الواحد من هذه الأغطية في فاس بثلاثة أو أربعة دنانير ، كما يستخرج هؤلاء الكثير من الزيت من زيتون جبلهم. ولكنهم يخضعون لملك فاس ، ويفيد سكان فاس القديمة من الإتاوة التى

__________________

(٥٤٢) ٧٠ م.

(٥٤٣) ٢٤ سم.

٣٦٤

يدفعها هؤلاء. وقد يصل مبلغ هذه الإتاوة الى ثمانية آلاف دينار تقريبا (٥٤٤).

أزغان (٥٤٥)

يتاخم هذا الجبل سليليو من الشرق ويتاخم من الغرب جبل صفرو. ويمتد من الجنوب حتى الجبال التي تحاذي نهر الملوية. وينتهي شمالا في سهول اقليم فاس. ويبلغ طوله حوالي أربعين ميلا في خمسة عشر ميلا (٥٤٦) عرضا. وهذا الجبل عال جدا وشديد البرودة حتى لا تمكن السكنى الا في المنحدر المطل على فاس. وهذا المنحدر مغطى بأشجار الزيتون وبالاشجار المثمرة الأخرى. وتنبع فيه عيون عديدة تجري في سهل به اراض صالحة لزراعة الشعير والكتان والقنب الذي ينمو بكمية كبيرة في هذه البقعة. وقد زرع ، في الأزمنة الاخيرة ، في هذا السهل الكثير منن أشجار التوت لتغذية ديدان القز. ويسكن الناس ، شتاء ، اكواخا في السهل وفي الصيف يكون الماء شديد البرودة حتى لا يتجرأ إنسان على أن يترك يده في الماء وقتا يكفي للعد من الواحد للعشرة (٥٤٧). وقد رأيت رجلا أقسم على أن يشرب طاسة من هذا الماء ، ولكنه ظل مريضا بالزحار ، بعد شربه ، مدة ثلاثة اشهر.

مدينة صفرو

صفرو مدينة صغيرة في سفح جبل الاطلس على مسافة خمسة عشر ميلا (٥٤٨) جنوبي فاس ، ويوجد بالقرب منها ممر يجتازه الناس للانتقال الى نوميديا. وقد بنيت هذه المدينة على أيدي الأفارقة بين نهرين يظهر حولهما الكثير من الأراضي المزورعة بالكروم وبالأشجار المثمرة الاخرى. وعلى مسافة خمسة أميال (٥٤٩) حول المدينة لا يرى سوى الزيتون لأن الأرض هزيلة في كل مكان. ولا تنجح هنا زراعة اي شيء فيما عدا

__________________

(٥٤٤) لا يزال بنويزغه في مكانهم على الضفة اليمنى لنهر السبو.

(٥٤٥) لم يعد هذا الاسم دارجا في الوقت الحاضر ولكن السكان المحليين يعرفونه ويطلقونه على القسم الشمالي من هذه الكتلة الجبلية.

(٥٤٦) ٦٤ كم من الشمال للجنوب. و ٢٣ كم من الشرق للغرب.

(٥٤٧) من نافلة القول الاشارة الى ان هذه مبالغة.

(٥٤٨) ٢٣ كم.

(٥٤٩) ٨ كم.

٣٦٥

الكتان والقنب والشعير. وأهل صفرو أغنياء ، ولكن هندامهم سيىء ، وثيابهم مليئة دوما ببقع الزيت إذ يصنعون الزيت على مدار العام وينقلونه الى فاس لبيعه.

ولا يوجد شيء جميل في المدينة باستثناء جامع يمر منه جدول ماء. ويرى أيضا مورد جميل قرب هذا الجامع. وتكاد تكون هذه المدينة خربة لسوء سلوك أميرها وهو احد اخوة الملك الحالي.

مزدغة

مزدغة (٥٥٠) بليدة صغيرة عند سفح جبال الأطلس واقعة على مسافة ثمانية أميال (٥٥١) تقريبا الى الغرب من صفرو. وهي محاطة بأسوار جميلة غير أنها لا تحوي سوى بيوت شنيعة لكل منها مورد ماء. وكل سكانها تقريبا خزافون لأن لديهم تربة صلصالية جيدة. ويصنعون عددا لا يحصى من الأواني التي يبيعونها في فاس ، لانهم لا يبتعدون اكثر من أثنى عشر ميلا من هذه المدينة. والأرياف المحيطة بها مؤائمة للشعير والكتان والقنب ، كما تنتج الكثير من الزيتون والثمار الاخرى. وتكثر الاسود في الأحراش المجاورة ، كما تكثر في الاحراش الموجوده بجوار المدينة السابقة. وليست هذه الاسود مخيفة. فهي تهرب اذا تقدم أحد لمواجهتها بأي سلاح كان.

بني بهليل

وهي مدينة صغيرة مبنيّة فوق سفح جبل الأطلس الذي يتجه نحو فاس على مسافة تقارب اثنين وسبعين ميلا (٥٥٢) من المدينة المذكورة. وبالقرب منها يوجد ممّر يجتازه الطريق الذاهب الى نوميديا. ويوجد في هذا الجبل الكثير من الجداول ، ويخترق المدينة أحدها. وتشبه المواقع المحيطة به المواقع المحيطة بالبلدان التي سبق لنا الكلام عليها باستثناء عدم وجود شيء سوى الغابة. والسكان حطّابون. فبعضهم

__________________

(٥٥٠) لا تزال هناك قريتان بهذا الاسم على نفس المسافة من صفرو تقريبا الى غرب منها ، وهي مزدغة السوق ومزدغة الجرف. ومن المحتمل انه يعني مزدغة السوق. والواقع ان هذه البليدة تقع على مسافة اثنى عشر ميلا أي ٢٥ كم عن فاس.

(٥٥١) ١٣ كم.

(٥٥٢) ١٢٠ كم.

٣٦٦

يقطع الحطب ، والآخرون ينقلونه إلى فاس. ويتعرض هؤلاء دائما لسوء المعاملة من الأمراء الذين يرهقونهم بالضرائب ، لأنهم ليسوا سوى أجلاف.

عين الأصنام

كانت عبارة عن مدينة بنيت في قديم الزمن من قبل الأفارقة في سهل بين جبلين على مسرى طريق الذاهب من صفرو الى نوميديا. واسمها يعني نبع الأوثان. وذلك أنه يروى أن الأفارقة لما كانوا عبدة أوثان ، كان لهم قرب هذه المدينة معبد كان يجتمع فيه النساء والرجال عند حلول الظلام في موسم معين من السنة. وبعد ان يفرغوا من تقديم قرابينهم كانوا يطفئون الأنوار ويستمتع كل واحد بالمرأة التي تجعلها الصدفة على مقربة منه. وعند ما يأتي الصباح يجب على المرأة الّا تقترب من زوجها خلال عام وكان الأولاد الذين يولدون لهؤلاء النسوة خلال تلك الفترة من السنة يربّون على يد كهنة المعبد. ويوجد في هذا المعبد نبع لا يزال مرئيا حتى الآن. ولكن المسلمين خربوا المعبد والمدينة ولم يبق منها أي أثر. ويؤلف النبع بحيرة صغيرة تجري مياهها من عدة قنوات تنتشر في هذه البقعة فتجعل أراضيها مستنقعات (٥٥٣).

المهدية

مدينة مبنية في جبال الأطلس في وسط الغابات بجوار عيون حتى لتكاد تبدو كأنها في السهل. وتقع على مسافة عشرة أميال تقريبا من المدينة السابقة. وقد تأسست هذه البلدة على يد داعية ، ولد في هذه الجبال في العصر الذي كانت فيه قبائل زناته تسيطر على مدينة فاس. ولكنها تخربت ونهبت بعد ان دخلت هذه المنطقة قبائل لمتونة بقيادة الملك يوسف. ولم يبق منها شيء سوى جامع جميل للغاية وما تبقى من السور. وقد ضربت على سكان هذا الجبل الذلة والمسكنة واصبحوا من رعايا ملك فاس. وحدث هذا في عام ٥٣٥ هجرية(٥٥٤).

__________________

(٥٥٣) لا تزال «عين الأصنام» على الوضع الذي كانت عليه قرب النواصر على مسافة عشرين كيلومترا جنوب صفرو.

(٥٥٤) أو بين ١٧ آب (اغسطس) ١١٤٠ وآب ١١٤١ م وهو التاريخ المحتمل لهذا التخريب على يد جماعة من فزاز الذين انحازوا الى الموحدين عند ما استقر الخليفة عبد المؤمن في آزرو. وفي ٤٦٦ ه‍ / او ١٠٧٣ م احتل مرابطو يوسف بن تاشفين فعلا هذه القلعة بعد تسعة اعوام من الحصار ، ولكنها ظلت عاصمة قبيلة الفزاز. وكانت تحمل اسم مؤسسها المهدي بن توالة ، وكانت تسمى قلعة المهدي ، او قلعة فزاز. ومن المحتمل انها كانت تقع بين النواصر وآزرو. ليس بعيدا عن «ضية آشلف» او عن إفران ، ولكنها كانت مدينة من خشب. اما بقايا ابنيتها من الحجر فلم يعثر عليها حتى الآن.

٣٦٧

سهب المرجة (٥٥٥)

يبلغ عرض هذا السهل حوالي ثلاثين ميلا بطول يقارب أربعين ميلا (٥٥٦) بين جبال الأطلس. وهذه الجبال مغطاة بغابات من أشجار ضخمة (٥٥٧). ويسكن الفحامون هناك أكواخا متباعدة بعضها عن بعض ، ولديهم عدد من المشاحر (*) ينتجون منها مائة حمل من الفحم. ويقيم الكثير من الناس في هذه الغابات كي يشتروا منها الفحم ويبيعونه في فاس ، ويوجد هنا الكثير من الأسود. وليس من النادر ان تفترس بعض الفحامين. وتنقل من هذا الجبل الى فاس أعمدة جميلة جدا من الخشب والواح متنوعة. وهذا السهل عقيم لا ينبت شيئا ومستور بحجارة سوداء رقيقة تشبه حجر الاردواز (٥٥٨).

أزغار ايغمارن

وهو سهل آخر محاط بجبال ذات أحراش. ويشبه مرجا ينمو فيه العشب طيلة العام ، ولهذا يقصده الكثيرون من الرعاة صيفا مع أغنامهم. ويحيطون حظائر قطعانهم بسياجات عالية جدا من الأشواك ويقومون بالحراسة اليقظة طيلة الليل خشية الأسود (٥٥٩).

__________________

(٥٥٥) اسم يعني سهل المرج. و «سهب» كلمة عربية اصيلة تعني سهلا لا تجود فيه سوى النباتات النجيلية دون أشجار ، بخلاف كلمة سهل التي تدل على منبسط من الأرض قد تنبت فيه كل النباتات التي يساعد المناخ المحلي على ازدهارها. وهنا نود لفت انظار بعض الجغرافيين العرب الذين لا يزالون على اصرارهم في استعمال الكملة الأجنبية «استبس» دون ترجمة. (المترجم).

(٥٥٦) ٤٨ كم في ٦٤ كم.

(٥٥٧) اي أشجار الأرز.

(*) مفردها مشحرة وهي فرن يتحول فيه الحطب الى فحم

(٥٥٨) تبرهن الابعاد المذكورة وصحة هذا الوصف على ان المقصود هو الجزء الغربي من هضبة عالية تقع بين صفرو في الشمال ونهر جيجو او غيغو من الجنوب. ومعنى كلمة سهب بالضبط السهل الفسيح. غير ان هناك سهولا صغيرة في هذه الهضبة تحمل اسم سهب متبوعا بمضاف اليه. ولم يمكن التعرف على سهب المرجة. اما الحجارة السوداء فهي لابة بركانية.

(٥٥٩) هذا السهل في الحقيقة مروي بشكل جيد نسبيا ، ويقع جنوب شرق النواصر ، ولا زال يحمل اسم أزغار ومعناه «سهل» في اللغة البربرية ، ومعنى أزغان ايغمارن سهل الخيل التي تحمل الاثقال.

٣٦٨

جبل المائة بير

وهذا الجبل أكثر ارتفاعا من الجبال الأخرى. وتوجد في قمته أطلال قديمة. والى جوار هذه الأبنية توجد بئر شديدة العمق لا يستطيع انسان رؤية قعرها. وينتج عن ذلك ان المجانين الذين يبحثون عن الكنوز (٥٦٠) يعمدون الى انزال رجال مزوّدين بفوانيس يهبطون إليه بواسطة حبال. ويقال ان لهذا البئر عدة أدوار. كما ان فيه قاعة كبيرة محفورة بالمعول ، ومبية بجدران على اطرافها في الطابق الأسفل. وفي هذه الجدران أربع فتحات واطئة تقود الى أربع قاعات صغيرة حيث توجد آبار المياه العذبة. ولا يعود العديد من الرجال أحياء من هذه المغامرة إذ تهب أحيانا في الأعماق ريح رهيبة تطفىء الأنوار بحيث لا يستطيعون العثور على طريق العودة الى الخارج فيموتون من الجوع في قعر البئر. وقد روى لي شخص وجيه من فاس كان يعجب بهذه الجهالة انه اتفق مع عشرة من رفاقه على محاولة القيام بمغامرة في هذا الأكتشاف. وعند وصولهم الى فوهة البئر اقترعوا على الثلاثة منهم الذين سيكون عليهم النزول ، وكان صديقي هذا احدهم. فأنزل هؤلاء بواسطة حبال حاملين فوانيس بأيديهم كما سبق ان قلنا. وعندما وصل المكتشفون الثلاثة الى فتحات القاعة الكبرى الأربع اتفقوا على ان يذهب كل واحد منهم في طرف. ولكن عندما ذهب الأول ، ذهب الإثنان الآخران ، وأحدهما صديقي ، سوية. وما كادا يقطعان مسافة ربع ميل (٥٦١) حتى وجدا نفسيهما محاطين بعديد من الخفافيش التي كانت تطير حول الفانوسين. فصدمت بأجنحتها الفانوسين فأطفأت أحدهما. وتابع الرجلان طريقهما حتى وصلا الى بئر الماء النقي ووجدا بقربها عظاما بشرية وقد ابيضّ لونها ، وعثر بجانبها على خمسة او ستة فوانيس ، بعضها قديم وبعضها جديد. ولكن بما أنهما لم يجدا في هذه الآبار شيئا آخر سوى الماء عادا أدراجهما. وما ان وصلا الى منتصف اطريق حتى هبت ريح عنيفة ثارت فجأة وأطفأت فانوسهما. وسارا بعض الوقت دون ان يريا شيئا وكانا يتلمسّان طريقهما في الظلمات ولم يعرفا كيف يستدّلان على طريق العودة. وأخيرا وبعد أن أصابهما الإعياء وفرط التعب واليأس ، ألقيا بنفسيهما على الأرض وهما ينتحبان ونذرا إلى الله الّا يعودا

__________________

(٥٦٠) اي الكنازون.

(٥٦١) أو ٤٠٠ م.

٣٦٩

مطلقا لهذا المكان إذا ما خرجا على قيد الحياة. أما الذين كانوا ينتظرونهما في الخارج فقد افترضوا ، بعد ان لاحظوا عدم عودة أي واحد منهم ، أن كارثة ما حدثت لهؤلاء. وهكذا نزل خمسة منهم مزودين بفوانيس جيدة وقدّاحات وراحوا يجوبون الأنفاق ويطلقون صرخات ينادون بها رفاقهم. وأخيرا عثروا على الرجلين في الحالة التي وصفنا ، ولكنهم لم يعرفوا ما حدث للثالث. فقد ضل الأخير سبيله كما حدث للرجلين. ولما لم يعرف إلى أين يتجه توقف في مكانه إلى ان سمع نباحا يشابه عواء جراء الكلاب. فتقدم في الاتجاه الذي كان يبدو له أن الصرخات كانت تصدر عنه ، فوجد أربعة حيوانات صغيرة يبدو عليها انها ولدت منذ عهد قريب جدا. وما ان وصل لهناك حتى جاءت الأم التي كانت تشبه ذئبة (٥٦٢). ولكنها كانت أكبر جسما وهذا الحيوان الذي يلد صغاره في الكهوف أو في جحور يدعى الضبع. وقد تسمّر هذا الشاب البائس في مكانه خوفا من أن يؤذيه هذا الحيوان. ولكنها راحت تلعق صغارها ، ثم ذهبت وشأنها ، يتبعها جراؤها خطوة فخطوة. وتابعها هو ، فأخذ يسير في إثر الحيوانات حتى وصل الى مخرج باطني عند حضيض الجبل. وإذا سألني أحد : كيف استطاع هذا أن يرى بصيص نور في هذا المكان؟ ، فإني سأجيبه بأن الوقت المتطاول الذي قضاه في دياجير الظلمة ساعده على رؤية القليل من النور ، كما يحدث هذا لأولئك الذين يمضون وقتا ما في الأماكن المظلمة.

والآن ومع توالي السنين امتلأ هذا البئر بالماء لأن الارض حفرت كثيرا حتى استوت وانبسطت (٥٦٣).

جبل خنيق الغربان

يجاور هذا الجبل الجبل السابق. وهو مكسو بغابات يعيش فيها الكثير من الأسود ، ولا توجد فيه أية مدينة او قرية ، وهو غير مأهول بسبب البرد. وينبع منه نهر صغير. وجروف هذا الجبل عالية جدا ويسكنه الكثير من الغربان ومن ثم جاء اسمه. وكثيرا ما تهب أحيانا في هذا الجبل ريح شمالية تقذف بكميات كبيرة من الثلج

__________________

(٥٦٢) لا يوجد الذئب في هذه الأنحاء.

(٥٦٣) لا تزال المائه بير معروفة حتى الآن وتقع على مسافة ١٠ كم غرب ممر آنجناس الذي يجتازه الطريق من فاس إلى تافيلالت وعلى مسافة ٦ كم تقريبا جنوب ضية إفران.

٣٧٠

حتى إن بعض الناس الذاهبين من نوميديا إلى فاس تباغتهم هذه الثلوج فيدفنون فيها ، كما أوردت ذلك سابقا عندما سردت قصة في هذا المعنى. ويقصده في الصيف عرب يسمّون بني حسين ، ويقصدونه في هذا الفصل بسبب برودة مياهه وظله الممتع الذي يجدونه فيه رغم وجود أسود وفهود رهيبة في هذه الأصقاع (٥٦٤).

تزرغه

تزرغه بلدة صغيرة ، من نوع القلاع التي بناها الأفارقة ، فوق نهر صغير يمر في واد من اسفل جبل الغربان. وبيوت هذه البلدة قبيحة وسكانها لا يقلون قبحا عن بيوتها. وهم يجهلون أي شكل من أشكال الحضارة ، ولا يلبسون ثيابا لائقة ولا تبدو عليهم أية زينة. والأرض الزارعية ضئيلة الرقعة ، ولا ينبت فيها سوى القليل من الشعير وبعض الدّراق. ويخضع السكان للعرب الذين يسمون دوى الحسين (٥٦٥).

أم جنيبة

هي مدينة قديمة خربها العرب. وتقع على مسافة اثنى عشر ميلا من المدينة السابقة (٥٦٦) قرب ممر في جبال الأطلس على السفح الجنوبي. وقد كان هذا الممر على الدوام مقطوعا على أيدي العرب ، إذ يوجد قرب المدينة سهل كبير في أيدي العرب الذين لا يخشون الملك. ويظهر بجانب البلدة ضلع يضطر أي شخص يصعد عليه أن يرقص عند اجتياز الممر مع القافلة. ويدّعى شيوخ المنطقة أن أي شخص يمر من فوق الضلع دون أي يرقص يصاب بالحمىّ الرباعية أو الراجعة (٥٦٧). وقد رأيت بنفسي

__________________

(٥٦٤) يسمى المؤلف هذه الممر خنيق الغربان ، أى خانق الغربان الصغير ، وربما هو الذي يسمى في أيامنا ممر أنجنانس على ارتفاع ١٧٠٠ م ، وكثيرا ما يكون غير سالك شتاء بسبب كثرة الثلوج. وتتولد بضعة جداول في هذه الكتلة الجبلية الصغيرة وتجف في الأوقات الغادية.

(٥٦٥) لقد تلاشت هذه المدينة وكانت بالتأكيد واقعة في وادي جيجو ، في جوار بلدة الميس.

(٥٦٦) ٢٠ كم.

(٥٦٧) «حمّى تعود للمصاب مرة كل أربعة أيام» (المترجم)

٣٧١

كيف كان كل الذين يمرون من هنا يمرون وهم يرقصون خشية الحمّى (٥٦٨).

جبل بني مراسن

هذا الجبل عال جدا ، شديد البرد ، ولكن يسكنه قوم لا يخشون القرّ ولدى هؤلاء السكان كمية كبيرة من الخيول والحمير يتوالد عنها الكثير من البغال. وتستخدم البغال هنا دون سروج ولا جلال كحيوانات الحمل. وتجهز فقط بنوع من برذعة خفيفة. وليس لسكان المنطقة بيوت ذات جدران ، بل يعيشون في خصاص من القصب ، لأنهم يهيمون باستمرار لرعى خيولهم وبغالهم. ولا يدفعون أيه ضريبة للملك لأن جبلهم منيع ولأنهم أغنياء جدا ، ويدافعون عن أنفسهم بصورة ناجعة (٥٦٩).

جبل مستاسة

يمتد هذا الجبل من الشرق للغرب على مسافة ثلاثين ميلا (٥٧٠) وعلى عرض يقارب عشرة أميال وهو يتاخم من الغرب سهل آدخسن ، الذي يتاخم نفسه إقليم تامسنه. وهو على مثل بزد الجبل السابق. وهو كذلك مأهول مثله. وسكانه أغنياء ووجهاء. ويملكون عددا كبيرا من الخيول والبغال. وينزع كثير من أدباء فاس إلى أصول من هذه المنطقة. وهناك عدد من رجال الجبل يكتبون بخط في غاية الاتقان. ولهذا ينسخون عددا كبيرا من الكتب ويبيعون مخطوطاتهم في فاس. ولا يدفعون شيئا للملك ضريبة

__________________

(٥٦٨) أم جنيبة ، أي سرطان الماء العذب ، لم تترك أي أثر ، ولكن ظل هذا الاسم يطلق على السهل الواقع حنوب سيفة والضلع الذي يجري بمحاذاته جدول لا يزال معروفا ولكن عادة التراقص التي يذكرها المؤلف أصبحت منسية. ومهما كانت هذه الظاهرة مستغربه فانه من الممكن تفسيرها. فالمنطقة هي بؤرة الحمّى الراجعة ، وهي نوع من الأمراض التي يخشاها أبناء المنطقة. فلربما لاحظوا انهم بمواكبة حوافي الجدول وهم يرقصون ، فان تعرضهم للعدوى سيكون أقل ممّا لو ساروا على مهل ، ولكنهم ما كانوا يعرفون السبب في ذلك ، وهو أن تراقصهم سيعرضهم بشكل أقل للسعات بعوض الأنوفيل التي تكثر بشدة في هذا الجدول.

(٥٦٩) لقد اختفى بنو مراسن من المنطقة ، ويسمح الترتيب الذي اتبعة المؤلف بان نفترض بأنها كانت غرب أم جنيبه في منطقة تمحديث.

(٥٧٠) ٤٨ كم في ١٦ كم.

٣٧٢

بل يقدمون له بعض الهدايا القليلة الثمن (٥٧١).

جبال الزيز

دعيت هذه الجبال زيز نسبة لاسم نهر يستمد منها منابعه. وتبدأ من شرق جبال مستاسة. وتتاخم من الغرب سهل تادلة وجبال دادس وتواجه من الجنوب قسما من نوميديا الذي يدعى سجلماسة. وتطل من الشمال على سهول آدخسن وتيغريغرة. وتمتد على طول قدره مائة ميل (٥٧٢) وعرض مقداره اربعون ميلا (٥٧٣) وتضم جبال الزيز هذه خمسة عشر جبلا ، وكلها باردة وموحشة ، تنبع منها أنهار عديدة (٥٧٤) ويسكنها قوم من قبيلة تدعى زناقة ، وهم رجال مخيفون وأقوياء الشكيمة ، لا يأبهون بالبرد ولا بالثلج. ويلبسون دراعة من الصوف يضعونها على جسدهم مباشرة ويضعون فوقها رداء ويغلفون سيقانهم بأقمشة ملفوفة تحل محل السراويل عندهم. ويتركون رؤوسهم حاسرة في كل الفصول.

ولدى هؤلاء الناس الكثير من الخيل والبغال والحمير اذ لا يوجد في جبلهم سوى القليل من الغابات. وهم أكبر اللصوص وأرادأ القتلة في العالم. وعداوتهم تجاه العرب عميقة جدا ويسلبونهم في الليل. وعندما لا يستطيعون فعل شيء آخر يستولون على إبلهم ويرمونها ، على مرأى منهم ، من فوق الجروف الصخرية ، إمعانا في ايذائهم.

ويرى في هذا الجبل شيء يكاد يكون أقرب للخوارق ، ذلك هو كثرة أعداد الأفاعي اللطيفة جدا والأليفة ، حتى أنها لتتجول في البيوت تماما كصغار الكلاب أو القطط الصغيرة وعندما يذهب أحد لتناول طعامه ، تتجمّع كل الثعابين الموجودة في

__________________

(٥٧١) لقد حدد المؤلف مكان حوضة تيغريغرة في إقليم فاس ، ونسب اليها بلدة المعدن العوام وتيغت في تامسئة. وحدّد سهل آدخسن وهو اليوم سهل خنفيرة ، في تادلة. اذن يجب وضع مستاسة بجوار منابع نهر أم الربيع. وقد اختفى هؤلاء من المنطقة ، وربما طردوا أو اندمجوا في قبائل بربرية قادمة من الجنوب.

(٥٧٢) ١٦٠ كم.

(٥٧٣) أو ٦٤ كم. وهنا يناقض المؤلف نفسه ، فمستاسة تفصل بالحقيقة جبال الزيز عن جبال تيغريغرة ، إذ كتب في الكتاب الثاني ، ان جبال دلوس تمتد حتى جبال آدخسن. ولعله يقصد جبل آدخسن وليس سهل آدخسن.

(٥٧٤) ذاك هو خزان ماء المملكة المغربية ، كما كان يقول الماريشال لبوطى ، المقيم العام الفرنسي سابقا.

٣٧٣

البيت حوله وتأكل بتآلف قطع الخبز والأغذية الأخرى التي تقدم لها. وهي لا تؤذي أبدا إنسانا إذا هو لم يؤذها (٥٧٥).

وسكان هذه المنطقة رعاع حقيقة ، وهم يسكنون بيوتا مبنية من أعمدة رفيعة مطلية بالطين اللزج ومغطّاة بسقف من قش. وبعض هؤلاء الجبليين الذين يملكون من الماشية أكثر من الآخرين يسكنون أكواخا صغيرة مسقوفة بعيدان القصب.

ويذهب هؤلاء أحيانا الى سجلماسة ، التي كما سبق أن قلنا ، تؤلف قسما من نوميديا. وينقلون هنالك صوفهم وسمنهم. ولكنهم لا يذهبون إليها الا في الفترة التي يكون العرب في أثنائها في الصحراء.

هذا ومع أن العرب هم الذين يهاجمونهم في الغالب ، وبأعداد كبيرة على الخيل ويسلبونهم سلعهم ويقتلونهم ، فان هؤلاء الجبليين لا يقلّون عنهم شجاعة وبسالة. وعندما يشتبكون في معركة لا يحبون ابدا أن يستسلموا وهم أحياء. وكل واحد منهم مسلح بحربتين او بثلاث ولا يخطىء هدفه اطلاقا ، فتارة يقتل الفارس ، وتارة اخرى يقتل فرسه ، لأنهم يناجزون أعداءهم وهم راجلون. وهم لم يغلبوا أبدا في مواجهة خصومهم إلا إذا اشتبكوا مع عدد ضخم من الخيالة. ويحملون أيضا سيوفا وخناجر. ويحصل هؤلاء الجبليون في العادة من العرب على ترخيص مرور ، ويعطون للعرب هذا الترخيص. وهكذا يستطيعون ممارسة التجارة بكل أمان. ويمنحون نفس التراخيص لقوافل التجار الذين يدفعون لكل قبيلة في هذه الجبال حق مرور خاص ، وإلّا تعرضوا للنهب.

مدينة غارسلوين

غار سلوين مدينة قديمة بناها الافارقة عند سفح هذه الجبال على نهر زيز. ولها أسوار قوية وجميلة بناها الملوك المرينيون. وعند النظر الى هذه المدينة من بعيد تبدو شيئا بديعا جدا ، ولكنها بائسة تماما من داخلها. فليس فيها سوى خرائب قبيحة والنادر من السكان ، وهذا بسبب العرب. وعندما انهارت اسرة المرينيين (٥٧٦) وضعت هذه المدينة

__________________

(٥٧٥) يبدو هذا الزعم خرافة لاننا لم نر مطلقا ثعابين تأكل فتات الخبز أو أليفة لدرجة أنها تأكل من يد الانسان. وهذا الأمر لا يمكن ان يكون محتملا إلا بالنسبة للجراذين ، والحرباوات وأشباهها.

(٥٧٦) في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.

٣٧٤

نفسها ، بمحض إرادتها ، تحت سلطة العرب واسمهم بنو حسين الذين أساءوا معاملة السكان. ولا يمكن الحصول على أي دخل من هذه المدينة ، فكل سكانها في فقر مدقع. وليس هناك سوى القليل من الأراضي الصالحة للزراعة. وفي الحقيقة اذا استثنينا الطرف الشمالي ، يكون كل ما حولها عبارة عن أراض عقيمة وحجرية. وتظهر على ضفاف النهر بعض الطواحين وعدد عظيم من البساتين المزروعة بالكرمة والدّراق. وتجفف هذه الثمار وتستهلك طيلة السنة ولا سيما الدّراق. وترفق هذه الثمار الجافة ببعض الأطعمة الأخرى وتصنع منها وجبات يتغذى الناس بها.

والحيوانات هنا قليلة العدد مما يجعل الناس يعيشون في أقصى البؤس. ولم تؤسس زناته هذه المدينة إلّا لتستخدم قلعة ، ولهدف وحيد وهو السيطرة على الممر الى نوميديا. فكانوا يخشون أن تنفذ لمتونه من هنا الى بلادهم. ومع هذا وصلت قبائل لمتونة هذه عن طريق آخر وخربوا المدينة وقوضوها. ويوجد هنا أيضا عدد كبير من الثعابين الأهلية المروّضة كالتي عرضنا للحديث عنها قبل قليل (٥٧٧).

__________________

(٥٧٧) لا يزال جدار سور غارسلوين ماثلا على ضفة النهر ذاتها. أي على الضفة اليمنى لنهر الزيز في كورة غرس. وقد اندثر اسم غارسلوين هذا وتحمل اليوم اسم دّوار. ولم يبق شيء من النبات فيما حولها. وضفة الزيز اليمنى في الشمال عالية تماما ، ولا يوجد فيها أثر للتربة الزراعية. وقد كانت غارسلوين في زمن فتح المرابطين مفتاح الطريق من سجلماسة الى فاس كما كانت المهدية بالنسبة لطريق أغمات ـ فاس مرورا بتادلة. ومن المحتمل أن يكون أول تخريب انتاب غارسلوين في بداية عام ١٠٦٢ م. وكان المرابطون حينئذ سادة سجلماسة والدرعة وذلك منذ ١٠٥٣ م والسوس ابتداء من عام ١٠٥٥ م ، وأغمات من عام ١٠٥٦ ووصلوا الى تادلة وتامسنة في عام ١٥٠٨ م. وفي كانون الاول (ديسمبر) عام ١٠٦١ انطلق ابراهيم ابو بكر بن عمر من سلجماسة الى الصحراء الكبرى مع نصف جيشه ، وعهد بقيادة الشمال الى ابن عمه يوسف بن تاشفين. ومات أبو بكر بن عمر في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٠٨٧ م على أثر اصابته بسهم في ممر جبل في تاغنت ، وفي موريتانيا الحالية ، بينما كان لا يزال هو المعترف به زعيما أعلى للمرابطين. وما أن أصبح يوسف بن تاشفين مطلق اليدين حتى راح يمركز جيوشه ، وعددها أربعون الف مقاتل ، في وادي الملّوية الأعلى. وكان لا بد ان يتحاشى فم زهبل ، وهو ممر خطر على الطريق المباشر بين سجلماسة والملوية وإلى فاس ، فاحتل غارسلوين من الخلف كي يتحاشى هذا الممر ويجعل الطريق حرة.

٣٧٥

٣٧٦

القسم الرابع

٣٧٧

٣٧٨

مملكة تلمسان

يحد مملكة تلمسان من الغرب نهرزا ونهر الملوية ، ومن الشرق نهر الواد الكبير (١) وصحراء نوميديا من الجنوب. وكانت هذه المملكة تدعى في القديم قيصرية (٢). وكانت في ذلك العصر تحت سلطة الرومان. وبعد أن غادر الرومان افريقيا ، عادت الى ملوكها القدامى الذين كانوا من بني عبد الواد ، وهو فرع من قوم مغراوة. واحتفظوا بإمارتها مده ثلاثمائة عام إلى أن استلم السلطة الملكية أمير كبير اسمه غمراسن بن زيّان ، وظلت في أيدي أحفاده. وقد بدّل هؤلاء الملوك اسم الأسرة وأصبحوا يدعون بني زيان ، أي أبناء زيان ، الذي كان والد غمراسن (٣).

واحتفظ بنو زيان بالسلطة مدة ثلاثمائة سنة ، ولكنهم تعرضوا لمضايقات ملوك فاس ، اي من بني مرين. واستنادا إلى ما يرويه التاريخ فإن مملكة تلمسان خضعت عشر مرات لهؤلاء الملوك فتحا. وفي ذلك العصر سقط بعض ملوك بني زيان قتلى ، كما وقع بعضهم أسرى ، في حين اضطر بعضهم إلى الالتجاء الى الصحارى عند جيرانهم

__________________

(١) ويسمى حاليا واد الصمّام.

(٢) موريتانيا القيصرية.

(٣) يبدو أنه على أثر الفتح العربي في بداية القرن السابع ميلادي كانت القبائل المستقرة في منطقة تلمسان تحت سلطة فرع من بني ايفرن ، وهي إحدى القبائل الرئيسية من زناته ، وهم من الرعاة والبدو. وكان فرع من مغراوة ، وهو أهم أقوام زناته ، يشغل المنطقة الواقعة إلى الشرق من ذلك. وفي ذلك الوقت كان بنو عبد الواد ، وهم فرع من بني واسين ، وهؤلاء قبيلة أخرى من زناتة ، كانوا في حالة بداوة ، يتجولون في الزاب وفي جبال الأوراس. وقد شكّل بنو عبد الواد فرقة من جيوش عقبة بن نافع الذين قادهم في مسيرته نحو الغرب عام ٦٨٢ ه‍ وأبلوا معه بلاء حسنا. وقد انهارت قوة بني ايفرن في أثر الفتح الفاطمي في القرن العاشر الميلادي أمام مغراوة الذين لم يفقدوا سلطتهم في تلمسان إلا على أثر فتح هذه المدينة على أيدي المرابطين عام ١٠٧٩ م. وفي هذا العصر تمت إزاحة بني عبد الواد عن الزاب في منطقة قسنطينة على يد العرب الهلاليين ، وجاءوا ليستقروا في جنوب منطقة وهران الحالية. ولم يظهروا على مسرح الأحداث في منطقة تلمسان إلا في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي ، كخصوم أولا ثم كحلفاء الفاتح الموحّدي عبد المؤمن. وفي عام ١٢٣٦ م أخذ أميرهم يغمراسن بن زيان ، وكان محاربا قديرا ، كل صفات الزعامة الملكية ، تحت رئاسة الخليفة الموحّدي في مراكش ، وكان هذا رد فعل ضد بني مرين ، وهم من زناته بني واسين ، الذين أصبحوا سادة في شمال المغرب.

٣٧٩

العرب. كما طرد ملوك تونس (٤) بعضهم. غير أنهم كانوا يستردون السلطة دائما. واستطاعوا أن يستمتعوا بها مدة مائة وثلاثين سنة تقريبا (٥) بدون أن يتعرضوا لأذى من أي ملك غريب ، إلا من أبي فارس ، ملك تونس ، ومن إبنه عثمان. فهذا الأخير فرض على تلمسان دفع الجزية لتونس مدة من الوقت استمرت حتى وفاته (٦).

وتمتد مملكة تلمسان على مسافة خمسمائة وثلاثين ميلا من الشرق للغرب (٧). ولكنها ضيقة جدا من الشمال الى الجنوب. فبين البحر المتوسط وبين تخوم صحراء نوميديا لا يوجد ، في بعض النقاط ، سوى مسافة لا تزيد عن خمسة وعشرين ميلا (٨). وهذا هو السبب الذي جعل هذه المملكة معرضة باستمرار لسوء المعاملة وللإذلال الخطير على أيدي العرب الذين يسكنون الجزء المجاور من الصحراء. وكان يضطر ملوك تلمسان دائما لكسب هدوئهم يدفع إتاوات ضخمة وتقديم الهدايا لهم. ولكنهم لم يتمكنوا ابدا من استرضائهم جميعا. وكان من النادر ان يتمكن احد من العثور على بعض الطرق الآمنة. ولكن مع هذا كانت هناك حركة كبيرة في تجارة السلع في مملكة تلمسان هذه لقربها من نوميديا ولأنها تؤلف محطة على الطريق المؤدية لبلاد السودان.

وفي هذه المملكة اثنان من المراسي المشهورة هما مدينة وهران والمرسى الكبير. وكان يقصد هذين الميناءين عادة الكثير من التجار الجنويين والبنادقة الذي كانوا يزاولون فيها التجارة الكبرى عن طريق المقايضة.

وقد سقط الميناء في يد الملك الكاثوليكي فرناندو (٩) وكان ذلك خسارة جسيمة على مملكة تلمسان حتى ان الشعب طرد الملك أبا حمّو ، وجيء بشخص يدعى أبا زيان ،

__________________

(٤) الحفصيون.

(٥) أي منذ انهيار سلطة المرينيين في نهاية القرن الرابع عشر.

(٦) لقد احتل ابو فارس عبد العزيز سلطان تونس الحفصي مدينة تلمسان بتاريخ آيار (مايو) ١٤٢٤ م واكتفى بقبول بني زيان أتباعا له. واندفع حفيده ابو عمرو عثمان حتى أسوار تلمسان سنة ١٤٦٢ م ، ثم فى ١٤٦٦ لتوطيد الأمن فيها وتوفى سنة ١٤٨٨ م.

(٧) أي ٩٣٠ كم وهي المسافة التقريبية بين نهر الملوية وواد الصمام

(٨) ٤٠ كم.

(٩) سقط المرسى الكبير في أيار (مايو) ١٥٠٦ ووهران في ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م.

٣٨٠