وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وتنبع من السهلين عيون بديعة وجداول رائعة المياه وتقوم فيها كذلك غابات تعيش فيها أسود هادئة ووديعة لدرجة أن أي شخص كان ، رجلا كان أو أمرأة ، يستطيع أن يطردها بضربات العصي وهي لا تؤذي أي إنسان.

وسنتابع الآن وصفنا ابتداء من منطقة أزغار

أزغار : منطقة من مملكة فاس

تنتهي منطقة أزغار ، في اتجاه الشمال ، على المحيط ، وتنتهي غربا عند نهر سبو ، وتختتم في الشرق عند جبال غمارة كما ينتهي قسم منها عند الزرهون وعند قدم جبل زلاغ. وتنتهي جنوبا بجوار نهر بونصر (٢٧٨). وهذا الإقليم عبارة عن سهل ذي أرض ممتازة. ولهذا كان يقطنه كثير من السكان وكانت تقوم فيه مدن وقرى. بيد أن هذه الأمكنة قد تخربت بسبب حرب نشبت في الأزمنة القديمة ، ولا يرى فيها الآن أي آثار باستثناء بعض المدن الصغرى النادرة والتي لا تزال قائمة ومأهولة ، وتنتشر منطقة أزغار على طول يبلغ ثمانين ميلا (٢٧٩) وعلى عرض مقداره ستون ميلا (٢٨٠) ، وكل سكانها من عرب الخلوط وأصلهم من قبيلة المنتفق (٢٨١). ويخضع هؤلاء العرب لملك فاس ويدفعون له ضريبة مرتفعة. ولكنهم أغنياء وتجهيزهم الحربي جيد جدا. وهم يؤلفون زهرة جيش الملك ، وهو لا يستخدمهم إلا في الحملات الشاقة والبالغة الأهمية.

وتوفر هذه المنطقة المؤن لجبال غمارة ومدينة فاس من أقوات وماشية وخيل ، ومن عادة الملك أن يقيم فيها في أثناء الشتاء والربيع ، لأن هذه المنطقة لطيفة وصحية وتوجد فيها دوما أعداد كبيرة من الغزلان والأرانب. غير أن أحراشها مع هذا نادرة.

__________________

(٢٧٨) وهو وادي مكّس الحالي.

(٢٧٩) ١٣٠ كم.

(٢٨٠) ٩٥ كم.

(٢٨١) يصنف المؤلف الخلوط ، وهم قدامى المنتفق ، من جملة أثبج وهذا في كتابه الحادي عشر. «ولا تزال قبائل المنتفق معروفة الآن في جنوبي بغداد في العراق» (المترجم).

٣٠١

الجمعة : مدينة من أزغار

الجمعة مدينة صغيرة بناها الأفارقة في زمننا فوق نهر صغير ، في سهل ، في نهاية هذا الإقليم أو المنطقة ويمر بها المسافر الذاهب من فاس إلى الأعراش. وتقع على مسافة ثلاثين ميلا من فاس. وقد كانت هذه المدينة كثيرة السكان متحضرة ، ولكن حرب سعيد ، الذي كثيرا ما تكلمنا عنه ، خربتها. ولا نجد فيها اليوم سوى صوامع يخزن فيها العرب المجاورون غلالهم ، ويقيمون إلى القرب منها بضع خيام لحراستها. وتظهر في خارجها طواحين لطحن الحبوب (٢٨٢).

مدينة العرائش

العرائش (٢٨٣) مدينة أسسها قدامى الأفارقة على ضفة المحيط في المكان الذي يصب فيه نهر لقّس في البحر. ويقع قسم منها على ضفة النهر والجزء الأخر على ساحل المحيط.

وفي الزمن الذي كانت فيه مدينتا أصيلا وطنجة تابعتين للمسلمين ، كانت هذه المدينة كثيرة السكان. ولكن بعد سقوط هاتين المدينتين في أيدي النصارى (٢٨٤) ظلت مهجورة حتى قرابة عشرين عاما من أيامنا هذه (٢٨٥). وفي هذه الفترة قرر أبن ملك فاس الحالي إعادة تعميرها ، وحصنها بشكل حسن للغاية ، ووضع فيها حامية مقيمة زودها بالأقوات لأنه كان يرتاب دوما في البرتغاليين (٢٨٦). ولهذه المدينة ميناء يصعب جدا الوصول

__________________

(٢٨٢) يسمى مارمول هذا الموقع جمعة الكروش ، أي سوق جمعة البلوط الجلو. ويقول إن يعقوب ، ملك بني مرين هو مؤسسها. ويحدد مكانها على نهر الورغة في أراضي عرب بني مالك سفيان ، ويقوم سوق جمعة بني مالك على الضفة اليمنى لنهر الورغة. وتقع على مسافة ٥٠ ميلا أو ٨٠ كم من فاس. ومن المحتمل أنه يقصد هذه البليدة. وهي تنطبق على سوق جمعة تافرتاست ، حيث دفن بعض أمراء بني مرين ، وخاصة أبو محمد عبد الحق بن مايو وولده أبو العلاء ، اللذين قتلا بتاريخ ٢٤ أيلول (سبتمبر) ١٢١٧ م في معركة ايجرهان ضد عرب رياح. وفي ١٢٨٥ م قام أول سلطان مريني وهو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ، وذلك قبيل وفاته ، ببناء زاوية فيها ، وبعد ١٣٣١ م قام سادس سلطان مريني وهو أبو الحسن علي بترميم الأضرحة.

(٢٨٣) العرائش أو الدوالي.

(٢٨٤) أي في آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

(٢٨٥) أي حتى حوالي العام ١٥٠٦ م. غير أن هذا الميناء كان يؤوي حامية وكان ملجأ للقراصنة. وفي ١٤ تموز (يونيو) ١٥٠٤ م قام البرتغاليون بغارة مفاجئة جريئة ضد العرايش.

(٢٨٦) بسبب تلك الغارة بلا شك.

٣٠٢

إليه لمن يرغب الدخول في مصب النهر. كما شيد ابن الملك فيها أيضا قصبة يرابط فيها قائد بصورة مستمرة مع مائتي راشق سهام ، ومائة من رماة البنادق وثلاثمائة من الخيالة الخفيفة.

هذا ويوجد في ضواحي العرايش الكثير من الغيضات والمروج ، حيث يصاد الكثير من سمك الحنكليس والطيور المائية. كما توجد على ضفتي النهر غابات كثيفة يعيش فيها العديد من الأسود والحيوانات المفترسة الأخرى. ومن عادة سكان هذه المدينة ، منذ زمن طويل ، صنع فحم الخشب الذي ينقلونه بحرا إلى أصيلا وإلى طنجة. حتى إن المثل الدارج عند أهل موريتانيا والذي يقال عند ما يكون المظهر غير المخبر : «هذا مثل سفينة العرائش شراعها من قطن وحمولتها من فحم». وتجود أرياف هذه المدينة بكميات كبيرة من القطن.

القصر الكبير

وهي مدينة كبيرة بنيت في عهد المنصور ، ملك وخليفة مراكش وبأمر منه (٢٨٧).

وتروى الواقعة التالية على أنها واقعة تاريخية صحيحة. في يوم ما بوغت هذا الملك ، بينما كان يمارس الصيد في الأرياف المجاورة ، بمطر وابل عنيف ، وبريح صرصر وظلام دامس ، حتى إنه ضل مكان حرسه ، وتوقف في مكان ما بدون أن يدري أين هو ، واضطر أن يقضي الليل في العراء.

وبينما كان على هذه الحالة عديم الحركة خوفا من الغوص في المستنقعات ، رأى نورا وحالفه الحظ بأن وجد أمامه صيادا كان من عادته أن يخرج ليصطاد بضع سمكات حنكليس في هذه المستنقعات. فسأله المنصور هل تستطيع أن تدلني على مخيم الملك؟ فأجابه الصياد بأن هذا المعسكر يقع الى مسافة عشرة أميال من هنا. ولما رجاه الملك أن

__________________

(٢٨٧) تشهد الكتابات والآثار القديمة ، وكذلك كل الأدب التاريخي على أن القصر مدينة قديمة جدا ، وعاصمة كتامة في هذه المنطقة ، عند نقطة مرور كثيرة الحركة في كل الأزمنة. ولكن من المحتمل جدا أن الخليفة الموحدي يعقوب المنصور ، الذي قام بثلاث حملات كبيرة أثناء مدة حكمه ، من ١١٨٤ إلى ١١٩٩ م في إسبانيا ، والذي وسع الرباط وبني شلا ، أقول من المحتمل أن يكون الخليفة المذكور قد شيد أبنية هامة في هذه المدينة الواقعة على خط مراحل الطريق إلى الأندلس.

٣٠٣

يصطحبه إليه قال له : «لو كنت المنصور بشخصه لما أوصلتك لهناك ، لأنني أخشى أن تغرق في المستنقع»

فقال له الملك ـ وماذا تهمك حياة المنصور؟

ـ فاجاب الصياد : وي ، يبدو لي أن الملك جدير بكل حب وتقدير.

ـ فقال الملك : يظهر أنك حصلت منه على إحسان كبير؟

ـ فرد الصياد : «ما هو أكبر معروف يمكن أن يناله الإنسان من ملك أكثر من العدل ، والصلاح الكامل ، والمودة التي يبرهن عليها في حكم شعبه؟ وبفضل هذا أصبحت ، أنا الصياد الفقير ، أتمتع بسلام ، على الرغم من فقري مع زوجتي وأسرتي الصغيرة. فأنا أخرج من كوخي في منتصف الليل ، وأعود إليه عند ما أحب فلا أجد أي إنسان ينالني بأقل أذى في هذا الوادي وفي هذه الأمكنة المهجورة. ولكنك ، أنت أيها السيد ، أرجوك أن تأتي لتقضي هذه الليلة عندي ، وغدا في الصباح ، سأكون في خدمتك وأصحبك إلى حيث تريد».

وقبل الملك الدعوة وذهب مع هذا الرجل الشهم حتى كوخه ، وعند ما بلغاه ، فك سراج جواد الملك ، وقدم له طعاما وفيرا. فقلى له من سمكات الحنكليس ، وقدمها للملك ، وفي هذه الأثناء عمل قدر استطاعته على تجفيف ثيابه قرب نار طيبة متوهجة ، ولما كان الملك لا يستسيغ أكل السمك طلب من الصياد عما إذا كان عنده قليل من اللحم. فأجابه هذا الرجل الفقير :

ـ أيها السيد إن ثروتي تتألف من عنزة وجدي لا يزال رضيعا وسيكون من حسن حظ هذا الجدي أن يتشرف لحمه بشخص مثلك. وإذا كانت شواهد مظهرك صحيحة فإنه ليبدو لي أنك أمير كبير». ولم يلبث بأن طلب إلى زوجته بأن تشوي لحم الجدي بعد أن قام بذبحه. فتناول الملك عشاءه ثم استراح حتى الصباح. وانطلق من الكوخ في ساعة مبكرة مع مضيفه الذي قام بدور الدليل على أحسن ما يكون مجاملة وأدبا. وما كادا يخرجان من المستنقع حتى صادفا جمهرة من الخيالة والقناصة الذين استنفروا للبحث عن الملك ، وكانوا يطلقون صرخات النداء. وقد فرح كل منهم برؤية الملك. وعندئذ التفت المنصور إلى الصياد وقال له إنه كان سعيدا بصحبته وأنه سيذكر دوما كرمه ولطفه. وفي أثناء توقف الملك في المنطقة شيد قصورا هامة وجميلة وبضعة منازل. وقد قدمها

٣٠٤

للصياد مكافأة ورجاه بأن يحيط هذه القصور والبيوت بسور ، وسيكون هذا شاهدا آخر من جانبه ، على كرمه ولطفه. وقد تم كل ذلك ، وأصبح الصياد أميرا على المدينة الصغيرة الجديدة ، والتي راحت تنمو يوما بعد يوم حتى غدت في قليل من الوقت ، بسبب خصوبة المنطقة ، مدينة تضم أربعمائة أسرة. وكان من عادة الملك أن يمضي كل الصيف في هذه الأنحاء ، وكان هذا أيضا سببا في ازدهار المدينة.

ويمر من جوار السور نهر لقّس الذي يفيض أحيانا حتى ليتدفق الماء من باب المدينة. وفي هذا القصر عدد كبير من الصناع والباعة. كما يضم عدة جوامع ومدرسة ومارستانات. وليس في البلدة عين ولا آبار ولكن تستخدم هنا الصهاريج. وأهلها كرماء ولكنهم أقرب للبساطة في النفس. وهندامهم جيد ويكتسون عادة بقطع كبيرة من قماش القطن التي تشبه ملاءة السرير ، ويلفونها حول أجسامهم.

وتنتشر في خارج القصر مزارع كثيرة من الأشجار المثمرة ، وأرض بها أنواع من الفواكه الممتازة. ولكن للعنب أحيانا طعم رديء بسبب رطوبة الأرض. ويعقد في يوم الأثنين ، في الفلاة ، سوق يقصده عرب المناطق المجاورة. ومن عادة أهل المدينة أن يذهبوا في شهر أيار (مايو) لاصطياد الطيور بالفخ في أطراف المدينة ، ويصطادون بذلك كميات كبيرة من اليمام. وأراضي المنطقة خصيبة ويكون محصولها في أغلب الأوقات ثلاثين ضعفا لما وضع فيها من بذور. ولكن الأهلين لا يستطيعون أن يزرعوا سوى نطاق يقارب ستة أميال (٢٨٨) لأن البرتغاليين الذين يستوطنون أصيلا ينكدون عليهم معيشتهم ، إذ أن المدينتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى بأكثر من ثمانية عشر ميلا (٢٨٩). ويعاني قائد القصر الكثير من المتاعب بسبب البرتغاليين ، وتحت تصرفه ثلاثمائة فارس ، ويقوم في كثير من الأحيان مع هؤلاء بغارات تصل حتى أبواب أصيلا.

منطقة الهبط

تبدأ هذه المنطقة من جنوبي نهر الورغة ، وتنتهي شمالا على المحيط ، وتتاخم من الغرب مستنقعات أزغار (٢٩٠) ، ومن الشرق الجبال التي تطل على مضيق أعمدة

__________________

(٢٨٨) ١٠ كم.

(٢٨٩) ٢٩ كم.

(٢٩٠) أي مستنقعات نهر لقّس.

٣٠٥

هرقل (٢٩١). ويبلغ عرضها ثمانين ميلا وطولها حوالي مائة ميل (٢٩٢).

وهذه المنطقة بهيجة لخصوبتها ووفرة إنتاجها. ويقع معظمها في السهل حيث العديد من المجاري المائية. وقد كانت في العصور الغابرة أكثر شرفا وشهرة مما هي في أيامنا. ففيها توجد مدن قديمة جدا ، بعضها من بناء الرومان ، والأخرى من آثار القوط. واعتقد ان هذه المنطقة كانت تسمى موريتانيا لدى القوط. ولكن منذ تأسيس فاس أخذت هذه المنطقة في التدهور. ويضاف إلى هذا أنه بعد وفاة إدريس ، مؤسس فاس ، آلت المملكة إلى عشرة من أبنائه الذين اقتسموها إلى مناطق بعد دهم. وآلت منطقتنا هذه إلى أكبر الإخوة (٢٩٣). وبعدئذ ثار عدد من الشيعة ومن الأمراء المحليين. فبعضهم استعان بملوك غرناطة في أسبانيا ، والآخرون بملوك القيروان. وقد هزموا جميعا وطردهم أحد خلفاء القيروان الذي كان شيعيا كذلك (٢٩٤) وخلف في المنطقة بعض قواده وحكامه وعاد إلى بلاده. وحينئذ أرسل حاجب قرطبة الكبير (٢٩٥) إلى موريتانيا جيشا ضخما إجتاح كل الكورة (٢٩٦) وبلغ منطقة الزاب (٢٩٧) وأخيرا ظلت منطقة الهبط تحت سلطة ملوك فاس.

آرجن

آزجن (٢٩٨) مدينة بناها قدامى الأفارقة على جبل يقع على مسافة عشرة أميال (٢٩٩) من نهر لقّس. وهذه الأميال العشرة في السهل ، حيث تقع الحقول المزروعة وبساتين هذه البلدة ، ولكن معظم الأراضي الزراعية تقع في الجبل. وتبعد هذه المدينة عن فاس حوالي سبعين ميلا (٣٠٠). وتضم أربعمائة أسرة تقريبا. وتعطي هذه الكورة عوائد مقدارها عشرة

__________________

(٢٩١) وهو الذي يحدده المؤلف تجاه سبتة.

(٢٩٢) ١٣٠ كم في ١٦٠ كم.

(٢٩٣) وهذا غير صحيح استنادا إلى ما نعرفه عن هذه القسمة.

(٢٩٤) تحقق هذا الفتح على يد جوهر ، سنة ٩٥٧ م ، باسم الخليفة الفاطمي أبي تميم معد المعز.

(٢٩٥) المنصور بن أبي عامر ، حاجب الخليفة الأموي في قرطبة ، هشام المؤيد ، وهو الحاكم الحقيقي في أسبانيا المسلمة.

(٢٩٦) في عام ٩٩٧ م.

(٢٩٧) منطقة المرابطين سنة ١٠٦٨ م؟؟.

(٢٩٨) آزاجن ، ويكتبها الإدريسي زجان ، وتدعى اليوم آزجن قرب بلدة وزان.

(٢٩٩) ١٦ كم.

(٣٠٠) ١١٢ كم والحقيقة ١٦٠ كم.

٣٠٦

آلاف دينار ، ولكن على المنتفع أن يتعهد لملك فاس بتقديم أربعمائة فارس مهيئين للدفاع عن البلاد ، لأن البرتغاليين يقومون ضدها بغارات كثيرة ويتوغلون حتى مسافة أربعين أو خمسين ميلا في الداخل.

وآزجن مدينة جيدة الحكم وآمنة ، تحوي صناعا لكل الأشياء الضرورية. وهي جميلة كثيرا وفيها العديد من العيون. والسكان أغنياء لكن القليل منهم هم الذين يكتسون مثل أبناء المدن. ولهم امتياز منحهم إياه الملوك القدامى وهو الترخيص لهم جميعا بشرب النبيذ ، لأن النبيذ محرم في شرع محمد ، ولا يوجد فيها شخص لا يعاقره.

بني توده (٣٠١)

وهي مدينة قديمة جدا بناها الأفارقة في سهل غاية في جماله على نهر الورغة على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٣٠٢) من فاس. وكان فيها فيما سبق من الزمن ثمانية آلاف عائلة ، ولكنها تخربت كليا ، باستثناء أسوارها ، في حرب خلفاء القيروان (٣٠٣). وقد ذهبت إليها ورأيت كثيرا من قبور الأشراف وبعض قساطل الماء المبنية بالحجر ، وكانت فعلا رائعة. وتقع بالقرب من جبال غمارة التي تبعد عنها بحوالي أربعة أميال (٣٠٤) وتعتبر أراضيها خصبة جدا ومنتجة للغاية.

آمرغو

تقع آمرغو على قمة جبل على مسافة عشرة أميال من البلدة السالفة الذكر.

ويقال إن الرومان هم الذين بنوها. والواقع توجد هنا بعض الجدران القديمة التي

__________________

(٣٠١) هي اليوم «فاس البالي».

(٣٠٢) ٦٠ كم.

(٣٠٣) تحمل أطلال بني توده اليوم اسم فاس البالي وليس لهذه التسمية سبب معقول. ويقول لنا أول مؤلف أورد ذكر بني تودة أنه في عام ١١٢٠ م سكنها سلطان الغرب ، وربما كان حاكم المنطقة المرابطي. والإدريسي الذي ألف كتابه حوالي العام ١١٥٠ م يؤكد أن المدينة بنيت من قبل أمير بناء على أمر تلقاه من الأمير المرابطي ، كي تؤلف حاجزا أمام غارات قطاع الطرق من قبيلة غمارة ويذكر أنها كانت أول مدينة خربها الموحدون. ويبدو أنها اجتثت تماما في حدود العام ١١٤٢ م عند مرور عبد المؤمن بها ، في وقت كانت فيه مزدهرة.

(٣٠٤) ٥ ، ٦ كم.

٣٠٧

يقرأ فوقها كتابات لاتينية. وهي مدينة مهجورة اليوم ، ولكن تقوم فوق سفح الجبل مدينة أخرى صغيرة مأهولة نوعا ما ، وفيها عدد من نساجي القماش الكتاني العادي (٣٠٥).

وأراضي الأرياف المحيطة بها طيبة للزراعة ، ويرى الناظر من أعلى المدينة نهرين كبيرين هما نهر سبو ونهر الورغة في اتجاه الشمال. ويبعد كل منهما مسافة خمسة أميال (٣٠٦) ويزعم سكان آمرغو أنهم من الأشراف ولكنهم بخلاء وجهلة وليس لهم أي وزن.

تنصور

تنصور مدينة واقعة على مسافة عشرة أميال من آمرغو ، فوق تل (٣٠٧) وتضم ثلاثمائة بيت ، والقليل من الصناع. ولسكانها نفسية غليظة وليس لديهم كرمة ولا أشجار مثمرة ولا يزرعون سوى الحبوب. كما يملكون عددا طيبا من الماشية. وتقع هذه المدينة في منتصف الطريق الذاهب من فاس إلى جبال غمارة. ولهذا سكانها أشحّة للغاية وممقوتين لأقصى الحدود.

آغله

آغلة مدينة قديمة بناها الأفارقة على نهر الورغة. وهي محاطة بأراض طيبة يزرعها العرب. وقد سبق أن تخربت هذه المدينة في الحروب الماضية. غير أن أسوارها لا تزال باقية على حالها ويوجد بعض الآبار في داخلها. ويقام في ريفها ، أسبوعيا ، سوق ممتع جدا يقصده العديد من العرب ومن فلاحي المنطقة ، ويقصده كذلك الكثير من تجار فاس كي يشتروا جلود الثيران والصوف والشمع ، لأن هذه المنتجات وفيرة جدا في هذه الكورة (٣٠٨).

__________________

(٣٠٥) لا يبعد جبل آمرغو عن فاس البالي إلا بمقدار ٦ كم. وقد اتخذت هذه القرية اسم مولاي بوشتا نسبة إلى ولي يدعى أبو الشتا ، أي أبو المطر ، والذي كان يشرف على زاوية. وتوفي فيها عام ٩٩٧ ه‍ أي في تاريخ يقع بين ٢٠ / ١١ / ١٥٨٨ و ٩ / ١١ / ١٥٨٩ م.

(٣٠٦) في الحقيقة يبعد نهر سبو مقدار ٢٠ كم (٥ ، ١٢ ميلا).

(٣٠٧) مدينة غير معروفة. ويعطي مارمول هذه المدينة اسم «تنزرت» ، ومعناه بالبربرية تل أو جرف. ويحتمل أنها كانت تقع على ضفة نهر سبو اليمني.

(٣٠٨) يوضح مارمول أن هذا السوق كان يحمل اسم سبت الآغلة. أما الآن فلا يوجد إلّا سوق سبت واحد هام على ضفاف الورغة وفي هذه المنطقة بالضبط ، وهو سوق كلّيئين ، لأن كل آثار آغلة قد اندثرت.

٣٠٨

ويوجد الكثير من الأسود في هذا المكان ، ولكنها خوارة في طبيعتها حتى أن الأطفال يخيفونها بصراخهم ويطاردونها. ومن هذا جاء المثل الذي يطلقه أهل فاس على كل رجل رعديد ولكنه مدّع في كلامه : «أنت شجاع مثل أسود آغلة التي تأكل العجول أذنابها».

نارنجة

نارنجة (٣٠٩) قصر بناه الأفارقة فوق جبل صغير يمر من جواره نهر لقّس. ويقع هذا القصر على مسافة عشرة أميال من الغيرة (٣١٠) وأراضيه المجاورة ممتازة. ولكنها لا تقع في السهل. وتوجد على ضفاف النهر غابات كثيفة بها فواكه بكميات كبيرة ، ولا سيما الكرز البحري أو الافريقي (٣١١). وقد سقط هذا القصر بيد البرتغاليين وخربوه ، ولا زال حتى الآن مهجورا وغير مأهول وهذا منذ العام ٨٩٥ للهجرة (٣١٢).

الجزيرة

الجزيرة هي جزيرة في مصب نهر لقّس على مسافة عشرة أميال من المحيط (٣١٣) وتبعد مسافة مائة ميل عن فاس (٣١٤) وكان يوجد في هذه الجزيرة مدينة صغيرة قديمة هجرت في بداية الحروب مع البرتغاليين. ولا يوجد على ضفاف النهر سوى غابة والقليل من أراضي الحراثة. وفي عام ٨٩٤ للهجرة (٣١٥) أرسل إليها ملك البرتغال أسطولا عظيما ولج في

__________________

(٣٠٩) موقع غير معروف وقد سماه مارمول فريكسة أي فريشة أو فريجة.

(٣١٠) تقع الغيرة في منعطف على ضفة نهر لقّس اليسرى وتنطبق على الوصف الوارد في النص.

(٣١١) أو القراصياء وهو نوع من خوخ أسود متطاول بحجم اللوزة.

(٣١٢) توافق ١٤٩٠ م. هذا ولا يوجد أي نص برتغالي معروف يؤيد الخبر المذكور في النص.

(٣١٣) لم تحمل هذه الجزيرة ولا تحمل الآن اسما غير «الجزيرة». ولكن البرتغاليين دعوها غراسيوزة. وهي ليست سوى تلك التي يذكرها بلين Pline القديم ، وهو المؤرخ الروماني الشهير ، ويروي أن فيها تقع جنات هسبريدس Hesperides. وفي عصره كانت تفاحات الذهب قد اختفت ، ولم يبق فيها سوى أشجار الزيتون البري «العتم» ، ومذبح منذور بإسم هرقل Hercule (إله القوة عند اليونان والرومان). وهي مزروعة في أيامنا بالزيتون ، ولا تتحول إلى جزيرة حقيقية إلا عند ما يكون نهر لقس في حالة فيضان أو عند المد الأعظم. أما في الأوقات العادية فتكون متصلة بالبر.

(٣١٤) في الحقيقة حوالي ١٤٠ ميل.

(٣١٥) في ربيع الأول أو شباط (فبراير) ١٤٨٩ م.

٣٠٩

النهر. وأخذ القبطان البرتغالي ببناء حصن في الجزيرة زاعما أن بإمكانه الدفاع عنه واحتلال كل المنطقة المجاورة. وقد توقّع ملك فاس (٣١٦) ، وهو والد الملك الحالي ، توقّع الخطر الذي سيتعرض له بسهولة لو تركه يتم بناء الحصن. فأرسل قوات كبيرة لمنع البرتغاليين من انجاز مشروعهم. ولكن قواته لم تتمكن من الاقتراب أكثر من ميلين من الجزيرة بسبب الرمي المتواصل من المدفعية البرتغالية العديدة والرهيبة. وهكذا أصبح الملك في نهاية القنوط. ولكنه عمد بناء على نصيحة بعض الأشخاص لبناء تحصينات من الخشب في وسط النهر على مسافة ميلين تقريبا في سافلة الجزيرة أي باتجاه البحر. واقتطعت أخشاب الغابة المجاورة تحت حماية هذه التحصينات ، وبعد وقت قليل جدا ، رأى البرتغاليون أن مدخل النهر قد أصبح مسدودا بجذوع خشب ضخمة حتى إنه لم يعد في استطاعتهم الخروج إلى عرض البحر مع أسطولهم. وفكر الملك ، الذي رأى النصر المؤكد قد أصبح في يده ، أن يباشر المعركة ، ثم تراءى له أنه سيخسر أرواح عدد ضخم من بني قومه ، لأن هذا النصر قد يكلفه خسائر ضخمة. فدخل في مفاوضات مع قائد الأسطول وتم الاتفاق على أن يدفع هذا غرامة حربية وان يتدخل لدى ملك البرتغال كي يرد إليه بنات قائد ملك فاس اللواتي يحتفظ بهن في السجن في عاصمته. وعلى هذه الشروط انسحب القبطان البرتغالي مع قواته دون أن يمسه أي إزعاج كان. وبعد ذلك عاد الأسطول إلى البرتغال (٣١٧).

بصرة

بصرة مدينة تمتد على رقعة صغيرة وتحوي قرابة الفي أسرة. وقد بنيت في سهل ، بين تلّين ، على يد محمد ، إبن ادريس الثاني ، مؤسس فاس ، على مسافة ثمانين ميلا من فاس جنوب القصر (٣١٨). وقد سميت «البصرة» تخليدا للبصرة وهي مدينة في بلاد العرب

__________________

(٣١٦) وهو محمد الشيخ.

(٣١٧) لقد وقّعت هذه المعاهدة بتاريخ ٢٧ آب (أغسطس) ١٤٨٩ م في تشميش. ومن المحتمل أن تكون المدينة القديمة المهجورة والتي يحددها المؤلف في الجزيرة هي ، في الحقيقة ، تشميش ، والتي لا تزال أطلالها قائمة بجوار الجزيرة على ضفة نهر لقّس اليمنى. وتشميش هي تحريف بربري لكلمة شمس أي شمس باللغة البونية (اللغة الفينيقية القرطاجنية) ، والتي يعثر عليها فوق النقود التي تحمل الدمغة البونية ، وكذلك مقوم شمش ، أي مدينة الشمس ، والتي كانت لقب مدينة ليكسوس الشهيرة ، التي رسمت في نقود أخرى باسم ليكس Liks في اللغة البونية وليكس Lixs في اللاتينية.

(٣١٨) لا تزال بصرة ماثلة شمال طريق وزّان ، وعلى مسافة ٢٠ كم جنوبي القصر. وقد شيّدت المدينة بجهود محمد ، الولد البكر ، لإدريس بن ادريس سنة ٢١٨ ه‍ أو ٨٣٣ م.

٣١٠

السعيدة ، حيث قتل علىّ ، رابع خليفة ، وهو الجد الأعلى لإدريس (٣١٩). وقد كانت هذه المدينة مجهزة بأسوار عالية وجميلة. وكانت متحضرّة جدا وآمنة طيلة حكم الأسرة الإدريسية. وكان من عادة الأدارسة أن يجعلوا منها مقرهم الصيفي لأن ضواحيها جميلة جدا سواء في الجبل أو في السهل. وكان فيها ، في الماضي ، الكثير من مزارع الأشجار المثمرة وحقولها ممتازة لزراعة القمح ، وقريبة من المدينة. ويخترق نهر لقّس سهولها. وكانت البصرة مأهولة كثيرا بالسكان ، وكان بها مساجد ، وكان سكانها أناسا محترمين. ولكن على أثر انحطاط الأدارسة قام أعداؤهم بتخريب المدينة وبتقويض بنيانها. ولم يبق منها قائما غير الأسوار. ولا يزال باقيا منها بعض مزارع الأشجار التي أصبحت أشجارها بريّة شعثاء لا تنتج ثمارا لأن الأرض غير مهيأة للزراعة.

الحمر

الحمر مدينة بناها المدعو عليّ بن محمد الذي تكلمنا عنه قبل قليل (٣٢٠) وتقع على نهر صغير (٣٢١) على مسافة أربعة عشر ميلا (٣٢٢) من العرايش وعلى مسافة ستة أميال (٣٢٣) جنوب أصيلا. ولم تكن قط مدينة كبيرة ، ولكنها كانت جميلة وحصينة وكانت الأرياف فيما حولها فاخرة ، ولكنها عبارة عن اراض ممتازة سهلية. وكانت محاطة بالعديد من مزارع الأشجار المثمرة وبالكروم التي كانت تنتج كثيرا من لذيذ الثمار. وكان اغلبية سكانها يشتغلون بمهنة نسج الكتان ، لانهم كانوا يجنون الكثير من الكتان. واصبحت المدينة خاوية منذ ان سقطت «اصيلا» بأيدي البرتغاليين (٣٢٤).

__________________

(٣١٩) لا تقع البصرة الحالية في بلاد العرب السعيدة ، أي في اليمن ، ولكن في العراق. وقد اغتيل أبو الحسن علي بن أبي طالب ، رابع خليفة ، في الكوفة في العراق على أيدي ثلاثة متآمرين من الخوارج في يوم الجمعة صبيحة ١٥ رمضان سنة ٣٢٠ ه‍ أو ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٦٦١ م وتوفي في ١٧ رمضان الأحد ٢٤ كانون الثاني (يناير). وكان الامام علي ، وهو ابن عم الرسول وصهره ، جد ادريس الثاني في الجيل الخامس ، وعلى هذا يكون نسبه : ادريس بن ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي.

(٣٢٠) علي بن محمد بن ادريس ، وحكم بين ٨٣٨ و ٨٤٨ م.

(٣٢١) الحمر معناها العصفور الدوري ، وكانت تقع على وادي الريحان ، حسب نص مارمول ، وهو وادي الحمر الحالي.

(٣٢٢) ٥ ، ٢٢ كم.

(٣٢٣) أي ٨ كم.

(٣٢٤) بتاريخ ٢٤ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

٣١١

أرزيلا

ارزيلا (٣٢٥) ويسميها الأفارقة آزيللا ، كانت مدينة كبيرة بناها الرومان على ساحل المحيط على مسافة سبعين ميلا تقريبا من مضيق أعمدة هرقل وعلى مسافة مائة وأربعين ميلا من فاس (٣٢٦). وكانت هذه المدينة خاضعة لأمير سبتة الذي كان تابعا للرومان. ثم استولى عليها القوط الذين أقروا هذا الأمير في حكمه بالفعل. وقد احتلها المسلمون عام ٩٤ ه‍ (٣٢٧) واحتفظوا بها مدة مائتين وعشرين عاما إلى أن هاجمها الانكليز بأسطول كبير بتحريض من القوط. وكان بين الانكليز والقوط عداوة ، لأن القوط كانوا نصارى والانكليز كانوا عبدة أوثان. ولكن القوط تصرفوا على هذا النحوكي يطردوا المسلمين من أوروبا. وقد نجحت عملية الانكليز. فاحتلوا المدينة وأضرموا فيها النار بعد أن ذبحوا أهلها (٣٢٨). ولكن عندما حكم ملوك وخلفاء قرطبة بلاد موريتانيا (٣٢٩) أعادوا بناءها وجعلوها في أحسن حالة وأمنع تحصينا من السابق. وهكذا أصبح سكان أرزيلا واسعي الثراء ومثقفين ورجال حرب ، وتنتج كورتها الكثير من الحبوب والثمار. ولكن لما كانت المدينة على مسافة عشرة أميال من الجبل فهي تفتقر كثيرا للحطب ، ومن عادة أهلها استعمال الفحم الذي يستوردونه بكميات كبيرة من العرايش كما سبق أن ذكرنا ذلك آنفا.

وفي عام ٨٨٢ هجرية (٣٣٠) هاجم البرتغاليون هذه المدينة على حين غرة وسقطت

__________________

(٣٢٥) وتكتب أزيلا وأصيلا وأرزيلا.

(٣٢٦) ان هذه المدينة التي تحمل اليوم اسما أسبانيا هو أرزيلا ، كانت تعود ، لأصل فينيقي. ثم أصبحت مستعمرة رومانية باسم يوليا قسطنطينة زيليس. أما العرب فسموها أزيلا أو أصيلا. والمسافة المذكورة حتى أعمدة هرقل تبرهن على أن المؤلف كان يأخذ في حسابه المضيق بين سبتة وجبل طارق ويحسب المسافة مرورا بطنجة ، وهي مسافة مبالغ فيها بالفعل ، كما أن المسافة المذكورة بين أصيلا وفاس أقل كثيرا من الحقيقة.

(٣٢٧) أو ٧١٣ م.

(٣٢٨) لقد وقع هذا الحادث بعد ١٣٥ عاما من الفتح الاسلامي لأرزيلا ، أي في أواخر العام ٢٢٩ ه‍ ، في صيف عام ٨٤٤ م. ولم يكن هؤلاء طبعا من الانكليز بل من المجوس الذين كانوا يسمّون «الروس» كما يقول اليعقوبي ، الذي كتب عن ذلك بعد خمسة وأربعين عاما ، وقد أعقب الغارة على أرزيلا إنزال في لشبونة ، ثم عملية إنزال في أشبيلية في أول شهر تشرين الاول (اكتوبر) ٨٤٤ م. وقد حوصرت أشبيلية وسقطت وتخربت. وليس من المستبعد أن يكون ملوك اسبانيا النصارى الذين يعتبرون أنفسهم أحفادا شرعيين لملوك القوط قد حرّضوا النورمان أو الفايكنغ ضد المسلمين.

(٣٢٩) أي بعد انتصار عام ٩٩٧ م.

(٣٣٠) ٧ ربيع الأول ٨٧٦ ه‍ الموافق لعام ١٤٧١ م.

٣١٢

بأيديهم. وأخذوا كل سكانها الموجودين أسرى الى البرتغال. وكان من بين هؤلاء محمد الذي هو اليوم ملك فاس. وكان حينئذ طفلا سنه سبعة أعوام (٣٣١) وقد أسر مع إحدى أخواته التي كانت لها نفس السن. ومن تلك الفترة كان أبوه يسكن أرزيلا ، وهو الذي حرّض أهل إقليم الهبط على العصيان (٣٣٢).

وبعد أن قتل عبد الحق ، وهو آخر ملك من أسرة بني مرين ، على يد الشريف الذي كان شخصية كبيرة في فاس ، وكان ذلك بمعاضدة الشعب ، نصّب الشعب نفسه الشريف ملكا (٣٣٣). وظهر بعدئذ شخص يدعى شيخ هبره ، الذي حاول الدخول الى فاس والمناداة بنفسه ملكا (٣٣٤).

ولكن الشريف الذي تأثر برأي مستشاره الأول وبحججه (وكان هذا المستشار ابن عم الشيخ) ، طرد هذا الشيخ بصورة مخزية من فاس. وبعدئذ أرسل الشريف مستشاره هذا إلى تامسنة لإخضاع سكان هذا الأقليم. وفي غضون ذلك عاد الشيخ هبره مع نجدة تقدر بحوالي ثمانية آلاف فارس من العرب وحاصر فاس الجديد ، وتمكّن بعد مضى عام كامل من اقتحام المدينة بسهولة بفضل خيانة أناس من أهلها لاعتقادهم بأنهم لن يتمكنوا من الحصول على ضروريات حياتهم في حالة حصار متطاول. وهرب الشريف من مملكة فاس مع كل أسرته (٣٣٥). وفي الوقت الذي كان فيه الشيخ هبرة يحاصر فاس أرسل ملك البرتغال أسطولا احتل ارزيلا ، كما ذكرنا ذلك من قبل.

وقد سقط الملك الحالي وأخته في الأسر واقتيدا أسيرين إلى البرتغال. ومكثا فيها

__________________

(٣٣١) هو أبو عبد الله محمد. ومعنى هذا أنه ولد عام ٨٦٩ ه‍ أو ما بين ٣ / ٩ / ١٤٦٤ و ٣٢ / ٨ / ١٤٦٥ م. وهو الملقب بمحمد البرتغالي.

(٣٣٢) كانت أسرة الشيخ بن يحيى في أرزيلا ، ولكنه كان يحاصر فاس في تلك الآونة

(٣٣٣) في ٢٣ ايار (مايو) ١٤٦٥ م ذبح السلطان عبد الحق بن عثمان في جامع من جوامع فاس. والغالب على الظن ان الشريف الادريسي ابا عبد الله محمد بن علي الجوتي ، النقيب ، اي نقيب اشراف فاس ، لم يكن هو القاتل ، ولكنه استرد لقب «ملك» عن اجداده الأدارسة. وقد نودي به إماما مع الصلاحيات الملوكية.

(٣٣٤) لا نزال نجهل تفسير اسم هبرة. والحقيقة هي أنه يدعي أبو زكريا محمد الشيخ ، من أسرة بني وطّاس ، وهي أسرة قوية جدا قام السلطان عبد الحق بقتل أهم أفرادها في ايلول (سبتمبر) ١٤٥٩ م ، ونجا صدفة من هذه المذبحة محمد الشيخ الذي لجأ مع أقربائه إلى أزريلا ، وبعد هذا أثار هذه المنطقة على السلطان.

(٣٣٥) وقع هذا الحادث حوالي شهر آب (أغسطس) ١٤٦٧ م ، أو بعد ذلك التاريخ بقليل ، ولكن بني وطّاس تنازعوا فيما بينهم على السلطة خلال فترة من الزمن مما جعل تاريخ تنصيب محمد الشيخ غير معروف.

٣١٣

سبعة أعوام (٣٣٦) ، تعلم في أثنائها اللغة البرتغالية بشكل جيد. وأخيرا تمكن والده من افتدائه مقابل مبلغ كبير. ونظرا لإقامته في البرتغال مدة طويلة سميّ محمد البرتغالي عندما تسلّم زمام سلطة الملك. وقد حاول في كثير من المرات أن يثأر من البرتغاليين محاولا استرداد ارزيلا.

ففي المرة الأولى اقتحم (٣٣٧) المدينة مع كل جيشه (٣٣٨) فدمر قسما كبيرا من أسوارها ، وأطلق سراح كل العبيد المسلمين الموجودين فيها ، ولكن البرتغاليين لاذوا بالحصن وظلوا فيه مدة يومين إلى أن ظهر في نهايتهما بغتة بيارا نافار ومع بضع سفن حربية ، واستعان بمدفعيته التي لم تقسر الملك على مغادرة المدينة مرغما فحسب ، بل اضطرته كذلك إلى الانسحاب مع جيشة ، وحينئذ أخذ البرتغاليون يحصنونها.

وجاء بعد ذلك ملك فاس مرتين أو ثلاثة مرات (٣٣٩) ليحاصر أصيلا مع جيوشه. ولكن اعتبره الناس مجنونا لتماديه في هذا المشروع ، إذ لم يكن من المستطاع احتلال هذه المدينة بقوة السلاح.

وقد كنت حاضرا في كل مرة حاول فيها الملك مهاجة ارزيلا ، وبتقديري أننا تركنا في كل مرة حوالي خمسمائة قتيل أو أكثر. وقد حدثت هذه الحروب بين ٩١٤ و ٩٢١ للهجرة (٣٤٠)

طنجة

ويدعوها البرتغاليون طنجر. وقد أسست هذه المدينة في العصور القديمة. واستنادا إلى رأي خاطيء لدى بعض المؤرخين ، فإن هذه المدينة من بناء ملك اسمه شدّاد بن عاد ، الذي كانت له السيادة على العالم قاطبة ، وأنه أراد أن يبني مدينة شبيهة بالفردوس الأرضي. وعلى هذا يقال أنه بني سورها من البرونز وجعل سقوف بيوتها من

__________________

(٣٣٦) أي في عام ٨٨٣ ه‍ / ١٤٧٨ م ، وهناك مصدر آخر يقول أنه بقي في الأسر ١٢ سنة ، حتى عام ٨٨٨ ه‍ / ١٤٨٣ م.

(٣٣٧) في ١٩ تشرين الأول (اكتوبر) ١٥٠٨ م.

(٣٣٨) أي ٢٠٠٠ فارس و ١٢٠٠٠ من المشاة.

(٣٣٩) ولا سيما في ١٥١١ و ١٥١٢ م.

(٣٤٠) أي بين ١٥٠٩ و ١٥١٥ م.

٣١٤

الفضة والذهب. وأرسل مندوبيه لسائر أنحاء العالم لجمع الضرائب ، وكانت طنجة إحدى المدن التي تدفع له الضرائب في ذلك العصر. ولكن المؤرخين الثقاة يقولون أن الرومان هم الذين بنوا طنجة على ساحل المحيط في العصر الذي كانوا يحكمون فيه غرناطة أسبانيا ، على مسافة ثلاثين ميلا (٣٤١) من اعمدة هرقل (٣٤٢) وعلى مسافة مائة وخمسين ميلا من فاس.

وحينما كان القوط يحكمون غرناطة أسبانيا ، كانت طنجة ملحقة بسبتة إلى أن سقطت بيد المسلمين ، وذلك عندما احتلوا مدينة أرزيلا (٣٤٣).

وقد كانت طنجة على الدوام مدينة مطمئنة ، شريفة ، ومأهولة جيدا بالسكان. وكانت تضم قصورا منها القديم ومنها الحديث.

هذا والأراضي المحيطة بها ملائمة لزراعة الحبوب ، ولكن يوجد بجوار المدينة واد ترويه مياه عين حيث تنتج المزارع العديدة فيه البرتقال والليمون وثمارا أخرى. كما تظهر بعض الكروم في خارج المدينة ولكن التربة هنا رملية.

وقد عاش سكانها في بحبوحة من العيش إلى أن سقطت أرزيلا (٣٤٤) ، وعندما وصلهم نبأ هذا الحادث احتمل كل من سكانها أثمن ما يملكه من أشياء ، وهرب من المدينة ملتجئا إلى فاس. وحينئذ أرسل قبطان ملك البرتغال ضابطا احتلها باسم ملك البرتغال إلى أن أرسل الملك اليها أحد أقربائه (٣٤٥). ولهذه المدينة في الواقع مكانة هامة بسبب قربها من جبال غمارة ، التي يسكنها أعداء النصارى.

ولكن قبل سقوطها تحت سلطة البرتغاليين بخمس وعشرين سنة ، كان ملك البرتغال قد أرسل إليها أسطولا كبيرا ، وقد تصوّر ان المدينة لن تستطيع الحصول على أية نجدة لأن ملك فاس كان منهمكا حينئذ في حرب ضد متمرد انتزع منه مكناس. ولكن

__________________

(٣٤١) ٤٨ كم تقريبا.

(٣٤٢) أي سبتة.

(٣٤٣) يظهر أن الواقع كان على خلاف ذلك عند الاحتلال الاسلامي لمدينة طنجة إذ كانت ملحقة بملكة الويز يقوط في أسبانيا ، أو كانت على الأقل الباب المفتوح لهذه المملكة على افريقيا. اما سبتة التي كان اسمها سبتيون فقد كانت قلعة تابعة لأمبراطورية القسطنطينية الرومانية.

(٣٤٤) بتاريخ ٢٤ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

(٣٤٥) الحقيقة أن الملك الفونس الخامس قد اشترك بنفسه في الحملة ، وأرسل إلى طنجة دون جاءو ، ابن دون براغانس الذي استولى على المدينة بتاريخ ٢٨ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

٣١٥

على خلاف توقعات ملك البرتغال ، استطاع ملك فاس ان يعقد هدنة مع المتمرد المذكور وأرسل أحد مستشاريه للدفاع عن طنجة على رأس جيوش كبيرة. فاستطاع هذا أن يلحق الهزيمة بالبرتغاليين وقتل القسم الأكبر منهم ، وكان في عداد هؤلاء قائد الجيش الذي نقلت جثته ضمن تابوت إلى فاس حيث عرض على الجمهور في مكان عال كي يراه كل الناس(٣٤٦).

ولقد حشد ملك البرتغال ، الذي سخط من هذه الهزيمة ، حشد بعد قليل اسطولا آخر انهزم بدوره كسابقه بعد أن تعرض لخسائر جسيمة ولأضرار فادحة ، علما بأن البرتغاليين اقتحموا المدينة في اثناء الليل وعلى حين غرة (٣٤٧). ولكن ما غجز عنه ملك البرتغال عن طريق القوة ، ناله في نهاية المطاف حينما أراد له الحظ ذلك ، وذلك بالاتسعانة ببعض الجنود وبدون اراقة للدماء ، كما ذكرنا ذلك آنفا.

والحقيقة هي أن محمد ملك فاس كان مصما على استرداد هذه المدينة ، ولكنه لم يفلح في ذلك ، لأن البرتغاليين كانوا يذودون عنها دوما بنشاط وحيوية وحماس. وقد ذهبت إلى طنجة ضمن هذه الحملة في عام ٩١٧ هجرية (٣٤٨).

__________________

(٣٤٦) في شهر آب (أغسطس) ١٤٣٧ م أرسل الملك ادوار الأول ولده دوم فرناندو على رأس حملة ضد طنجة. وتذكر بعض النصوص أن ولي عهد المملكة ، وهو أبو زكريا يحيى الوطّاسي ، الذي كان الملك الفعلي في بداية عهد السلطان عبد الحق ، كان حينئذ على رأس جيش كبير كان يقوده في اتجاه تافيلالت. وبعد أن قطع مسافة ثلاثة أيام مبتعدا عن فاس ، انكفأ راجعا واندفع نحو طنجة حيث أذاق البرتغاليين هزيمة دموية واضطروا للتسليم. وقد احتفظ بدوم فرناندو رهينة ، ولما رفض الملك ادوار تسليم سبتة والتصديق على التسليم ، اقتاد ابن الملك أسيرا إلى فاس. ثم وضع في صندوق من خشب عرض فوق أعالي سور فاس الجديد ، ثم اخضع لأنواع من التعذيب الى ان مات في ٥ حزيران (يونية) ١٤٤٣ م. وقد ادمج تابوته في سور المدينة القديمة بعد عرضه على الناس. ولكن بعد سقوط اصيلا في عام ١٤٧١ ، جاء ابن ابو ذكريا يحيى ، وهو محمد الشيخ ليتفاوض مع البرتغاليين في شأن بعض افراد من اسرته سقطوا اسرى في اصيلا ، والشروط التي يتفق عليها لاطلاق سراحهم ، فاحتفظ البرتغاليون بولده محمد ، ولكنهم ردوا له زوجته وابنته مقابل جثمان دوم فرناندو : «الولد المقدس».

(٣٤٧) ذهب الملك الفونس الخامس بنفسه في شهر كانون الأول (ديسمبر) ١٤٦٣ م في حملة على طنجة. وقد كانت هذه الحملة كارثة. فقد أدى الهجوم على طنجة في ٢٠ كانون الثاني (يناير) ١٤٦٤ م وهبوب عاصفة في أثناء ذلك الهجوم ، أدى هذا وذاك إلى وقوع خسائر جسيمة. كما ان محاولته بعد ذلك الدخول في عراك في الأرياف وهو منطلق من سبتة لم تكن أكثر نجاحا. وهكذا اضطر الفونس الخامس للعودة إلى البرتغال.

(٣٤٨) لقد سرد مارمول تفاصيل تلك المحاولة ضد طنجة في عام ١٥١١ (١٦٦٧ م ، ج ٢ ، ص ٢٣٠) ولكن تامبررال (طبعة ليون ١٥٥٦ م ، ص ١٩٨) لا يتعرض لوجود الحسن الوزان في هذه الحملة.

٣١٦

القصر الصغير

بنيت هذه المدينة الصغيرة على يد المنصور ، ملك مراكش وخليفتها ، على ضفة المحيط على مسافة اثنى عشر ميلا (٣٤٩) من طنجة وثمانية عشر ميلا من سبتة (٣٥٠). وقد أسسها نظرا لحاجته للذهاب إلى غرناطة في كل عام مع جيشه ، وكان من العسير اجتياز بعض الجبال المجاورة لسبته والتي يمر منها الطريق المؤدي الى البحر (٣٥١). وتقع هذه المدينة في موقع سهلي بديع. ومن هذا الموقع تمكن رؤية ساحل بلاد غرناطة الذي يواجه هذا الجزء من افريقيا. وكان القصر مدينة حسنة التنظيم. وكان كل سكانها تقريبا بحارة يحمون العبور بين بلاد البربر واوروبا. ولكن كان فيها بعض الناس يشتغلون بالنسيج. وكان فيها تجار اغنياء ومحاربون بواسل.

وقد قام ملك البرتغال بمهاجمة المدينة على حين غرة واحتلها (٣٥٢). وحينئذ أرسل ملك فاس عبد الحق جيشا قويا انضم إليه كل سكان فاس تقريبا. وحاصر المدينة واستغرق الحصار شهرين تقريبا. ولكنه كان بدون نتيجة لأن الوقت كان شتاء ، كما كان الثلج يتساقط فوق مخيمات الجيش الذي عجز عن فعل شيء يذكر ، ورفع الحصار يوم الثلاثاء الثاني من شهر كانون الثاني ١٤٥٩ م.

سبتة : مدينة كبيرة

سبتة مدينة كبيرة جدا. وكان الرومان يسمونها سيفيتاس (٣٥٣). ويسميها

__________________

(٣٤٩) ٢٠ كم.

(٣٥٠) ٢٩ كم.

(٣٥١) من الممكن أن يكون يعقوب المنصور ، قد نظم هذا القصر ، كما فعل في بقية المدن الواقعة في طريق المراحل بين الرباط وأسبانيا. ولكن طارق بن زياد أبحر من هذا الموقع نفسه في عام ٧١١ م ، وأن هذا القصر كان يدعى منذ زمن طويل قصر المجاز ، أي العبور ، أو قصر مصمودة.

(٣٥٢) لقد جهز الملك الفونس الخامس أسطولا للاستيلاء على الأماكن المقدسة عند النصارى في فلسطين بتحريض من البابا كاليكتس الثالث. ولكن الخلاف بين أمراء النصارى جعله يتخلى عن هذا المشروع فأبحر مع ١٨٠ مركب شراعي وجاء لمهاجمة القصر في ١٨ تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٥٨ م ، وكان السكان قد أخلوا المدينة فدخلها الملك في ٢٠ تشرين الأول (اكتوبر).

(٣٥٣) من المفترض ، بدون يقين ، أن المدينة التي تحمل اليوم الاسم الأسباني سوتة ، كانت فوق موقع آد آبيلم المذكور في ـ

٣١٧

البرتغاليون سوبتة. وقد تأسست حسب رأي يعتبر صحيحا ، في أيام الرومان ، عند مدخل مضيق أعمدة هرقل. وقد كانت عاصمة كل بلاد موريتانيا لأنها كانت مقر الحكومة الرومانية. ولهذا منحها الرومان لقب الشرف ، وكانت مدينة متحضرة تماما. تضم الكثير من السكان.

وقد احتلها بعدئذ القوط الذين عيّنوا عليها أميرا. وظلت السلطة في أيديهم إلي أن قدم المسلمون إلى موريتانيا واحتلوا سبتة ، لأن يوليان ، أمير سبتة ، كان قد تلقى إهانة خطيرة من لذريق ملك القوط وسائر أسبانيا. ومن أجل ذلك اتفق يوليان مع المسلمين وأدخلهم الى مملكة غرناطة ، وكان ذلك سببا في هلاك لذريق وضياع مملكته. وهكذا احتل المسلمون سبتة واحتفظوا بها باسم خليفتهم الوليد بن عبد الملك ، الذي كان مقره دمشق في ذلك العصر (٣٥٤).

وراحت سبتة تنمو منذ ذلك العصر ، وحتى السنوات الأخيرة ، سواء فيما يتعلق بعمرانها او فيما يتعلق بعدد سكانها ، حتى لقد اصبحت اجمل مدن موريتانيا وأحفلها بالسكان. وكانت تحوي عدة جوامع ومدارس ، والكثير من الصناع ومن الأدباء ومن الناس المثقفين. وكان فيها عمال مهرة جدا في صناعة النحاس ، كصنع

__________________

ـ كتاب الدرب الانطوني. أما الكتلة الجبلية المجاورة فكان اسمها سبتم فراترس. ويفترض أن الاسم العربي «سبتة» قد اشتق من الاسم اللاتيني ، الذي أصبح في الاغريقية سبتيون. ومن المحتمل جدا أن اسم ستة كان كذلك اسمها المحلي. وفضلا عن ذلك فإن الرأي الذي يفترض أن اسمها قد تحرّف من الكلمة اللاتينية سيفيتاس ، ليس رأيا غير معقول ، فقد تحرفت هذه الكلمة الى سيوتات Ciotat في لهجة اهل البروفانس الفرنسي. «ومن المؤسف ان ترد في عدد من الكتب الجغرافية الجامعية العربية حاليا بإسم كويتا (المترجم).

(٣٥٤) يبدو أن سبتة ظلت ، حتى الفتح الإسلامي ، حوالي العام ٧٠٨ م ، آخر مكان حصين بيزنطي في الغرب ، وأنها لم تكن أبدا تخص الويز يغوط في اسبانيا ، الذين كانوا إلى حدّ ما سادة الساحل الافريقي من المضيق وكذلك الساحل الاطلنطي. ويطلق المؤلفون العرب اسم يوليان على الكونت الذي كان يحكم سبتة عند حملة عقبة بن نافع عام ٦٦٢ ـ ٦٦٣ م ، وعلى الكونت زعيم غمارة الذي كان يحكمها عند وصول جيوش موسى بن نصير. ويبدو أن الحاكم في أيام عقبة كان هو الكونت سمليسيوس. ونلاحظ أن المؤرخ ابن القوطية يذهب إلى أن يوليان الذي يسرّ مرور العرب إلى أسبانيا ليس هو يوليان حاكم سبتة ، بل هو تاجر أسباني غني ، كان يستورد الصقور والخيول الأصيلة ، وكان أرملا ، ولذلك عهد بابنته إلى لذريق ملك طليطلة كي تعيش في بلاطه. ولكن لذريق هذا اعتدى على عفاف الشابة ، التي أطلق عليها المؤلفون العرب لقب القحبة ؛ أي المومس وأن يوليان قدم إلى طنجة متذرعا برحلة تجارية واقنع طارق بن زياد ، زعيم مصمودة ، والذي كان يحكم باسم العرب ، بأن يلتمس من موسى بن نصير السماح له بالنزول في أسبانيا. وقد حدث هذا النزول في رجب عام ٩٢ ه‍ / نيسان (ابريل) ٧١١ م في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك.

٣١٨

الشمعدانات ، والصحاف والمحابر والأشياء الأخرى. وكانت تباع هذه الأشياء كما لو كانت من فضة. وقد رأيت منها في ايطاليا ، وكان الكثير من الطليان يعتقدون انها من صنع دمشق ، ولكن مصنوعات دمشق تكون في الحقيقة أكثر جمالا واتقن صنعا.

وتظهر في خارج المدينة أملاك خاصة بديعة جدا مع منازل غاية في الجمال ، ولا سيما في ناحية سميت «الكرمة» بسبب كثرة الكروم التي زرعت فيها. ولكن أريافها هزيلة وكالحة. ولهذا السبب كانت هذه المدينة تشكو دائما شح الحبوب.

ويمكن رؤية ساحل غرناطة المطل على المضيق من داخل سبتة أو من خارجها. ويمكن تمييز الحيوانات فيه لأن المسافة على طرفي المضيق لا تزيد عن اثنى عشر ميلا (٣٥٥).

ولكن هذه المدينة البائسة تعرضت لتدمير شديد ، منذ وقت طويل ، على يد عبد المؤمن ، الخليفة والملك (٣٥٦) ، لأنها وقفت موقفا معاديا ، فاحتلها وهدم منازلها وحكم على عدد كبير من أعيانها بالنفي الدائم لمناطق مختلفة (٣٥٧) ، وتعرضت لنفس المصير من جانب ملك غرناطة (٣٥٨) ، الذي احتلها والذي لم يقنع بتخريبها بل اجلى اعيانها واغنياءها الى غرناطة. (٣٥٩)

وفي عام ٨١٨ ه‍ (٣٦٠) استولى عليها اسطول ملك البرتغال وهرب الذين كانوا فيها. ودخل النصارى بدون عناء وظلوا فيها متوجّسين خوفا مدة ثلاثة أسابيع ، إذ توقعوا قدوم ملك فاس لنجدتها. ولكن أبا سعيد (٣٦١) الذي كان وقتذاك ملكا على فاس لم يكترث باستعادتها ، تخاذلا منه ، حتى أنه كان في وليمة راقصة عند ما نقل إليه النبأ فلم يقطع الاحتفال. وقد قضت مشيئة الله أن يقتل هذا الملك فيما بعد بصورة بائسة ، على يد أحد كتابه (٣٦٢) الذي كان يثق به ثقة مطلقة. وقتل مع سبعة من أبنائه لأنه حاول إغراء زوجة هذا الكاتب. وقد وقع هذا الحادث عام ٨٢٤ للهجرة (٣٦٣). وظلت ممكلة فاس

__________________

(٣٥٥) ٢٠ كم.

(٣٥٦) الحيفة الموحّدي عمد المؤمن

(٣٥٧) فى صيف عام ١١٤٨.

(٣٥٨) محمد الثالث من بني الأحمر.

(٣٥٩) فى ١٢ آيار (مايو) ١٣٠٦ م.

(٣٦٠) ٢٤ آب (أغسطس) ١٤١٥ م.

(٣٦١) أبو سعيد عثمان.

(٣٦٢) أبو فارس عبد العزيز الكناني.

(٣٦٣) عام ١٤٢١ م.

٣١٩

بعدئذ بدون ملك لمدة ثمانية أعوام ، أمكن في نهايتها التعرف على ولد صغير لابي سعيد ، مولود من نصرانية هربت إلى تونس وقت المذبحة. وكان اسم هذا الولد عبد الحق ، وهو آخر ملك من أسرة المرينيين. وقد قتل هو أيضا على يد الشعب ، كما أوردنا ذلك سابقا (٣٦٤).

تطوان

تطوان مدينة صغيرة بناها قدامى الأفارقة على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (٣٦٥) من المضيق (٣٦٦) وعلى مسافة ستة أميال من المحيط. وقد احتلها المسلمون على اثر انتزاع سبتة من القوط. ويقال أنه عند ما أصبح هؤلاء ، أي القوط ، سادة المدينة عهدوا بقيادتها لزعيمة عوراء كانت تأتي كل أسبوع إلى المدينة لاستلام عوائدها. ولما كانت ذات عين واحدة فقد سمّوا مدينتهم تيتاوين ، ومعناها العين الواحدة في اللسان الافريقي (٣٦٧).

وقبل فترة من الزمن هاجم البرتغاليون هذه المدينة واستولوا عليها (٣٦٨) ، وظلت قرابة ثمانين عاما خاوية إلى أن وفد عليها قائد غرناطي أعاد بناءها. وكان هذا القائد قد قدم إلى فاس من غرناطة بصحبة ملكها بعد أن سقطت بيد فرناندو ملك أسبانيا. وكان هذا القائد محاربا باسلا قام بأعمال بطولية خلال حروب غرناطة. وكان يسميه البرتغاليون المندري (٣٦٩). وقد حصل على الترخيص بترميم المدينة والتمتع بحكمها. فأعاد بناء كل

__________________

(٣٦٤) لا نزال نجهل تاريخ تنصيب عبد الحق. والواقع هو أن سلاطين غرناطة وتلمسان وتونس راحوا يدعمون بعض الطامعين المرينيين ، بعد موت أبي سعيد عثمان ، وكان هؤلاء يتنازعون على الحكم فاقتسموا البلاد التي تخربت بتأثير هذه الاضطرابات. وعلى أثر ذلك تدخل حاكم سلا النشيط ، وهو أبو زكريا يحيى الوطّاسي ، الذي كان يتمتع بتأييد سلطان تونس على الأرجح ، ونادى بعبد الحق سلطانا ، (وعبد الحق هذا ولد عام ١٤٢٠ م). وظل أبو زكريا وزيرا وملكا فعليا حتى وفاته عام ١٤٤٨ م. وقد اغتيل عبد الحق على اثر فتنة خطيرة في فاس بتاريخ ٢٣ أيار (مايور) ١٤٦٥ م بعد ثلاثين عاما من الحكم كانت هادئة نسبيا ومزدهرة.

(٣٦٥) ٢٩ كم.

(٣٦٦) والصحيح ١٠ كم من البحر المتوسط وليس من المحيط.

(٣٦٧) إن كلمة تتاوين هي ، على العكس ، جمع كلمة تيت وهي مشترك لفظي يطلق على العين الباصرة وعلى الينبوع. وهذا هو المعنى الحقيقي. وتحولت باللغة الأسبانية إلى تتوان.

(٣٦٨) وقع هذا الحادث سنة ١٣٩٩ او ١٤٠٠ م ولكن القشتاليين من اتباع الملك هنري الثالث هم الذين احتلوا المدينة.

(٣٦٩) لا يبدو أن أبا الحسن علي المندري قد وفد إلى فاس عام ١٤٩٢ مع الملك المخلوع أبي عبد الله محمد بعد سقوط عاصمته غرناطة. والصحيح أنه نزل في وادي مارتيل قرب تطوان مع جمع من اللاجئين الغرناطيين عام ١٤٨٧ م.

٣٢٠