وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وعند ما تأخذ أسنان الطفل بالظهور يدعو أبواه أطفالا آخرين لوجبة طعام ، ويسمى هذا العيد دنتيلاDentilla ، وهي نفس الكلمة اللاتينية التي تعني التسنين.

هذا وتوجد أيضا عادات أخرى وطريقة لتفسير الفأل وضرب الرمل كالتي رأيت منها أيضا في روما وفي سائر المدن الإيطالية.

أما الأعياد التي نظمت وفرضت حسب شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما علينا إلا أن نقرأها فيما بعد ، في المؤلف الصغير ، حيث نجد كل ما قيل عن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعقيدته (١٧٣).

هذا وتجتمع النسوة على أثر وفاة الزوج ، أو الأب ، أو الأم ، أو أخ إحداهن ، وهن لا بسات ثيابا غليظة. ثم يلطخن وجوههن بالسخام الذي يحصلن عليه من قفا القدور ، ثم يستدعين أولئك الأفراد الأنذال الذين يتجولون وهم لا بسون ثياب النساء ، كي ينقروا على دفوف مربعة ، ويرتجلوا أشعارا حزينة تستدر الدمع مدحا في الفقيد. وعند خاتمة كل بيت تطلق النساء صرخات عويل حادة ويخدشن الخدود والصدور حتى ليجري الدم بسخاء ، هذا كما يقتلعن شعورهن وهن ينتحبن ويولولن. ويستمر الحال على هذا المنوال لمدة سبعة أيام. وبعد أربعين يوما يستأنفن هذا النحيب خلال ثلاثة أيام. تلك هي العادة الشائعة بين أفراد العامة. ويكون الحزن عند الأشراف أقل ضجة : إذ يبكي أهل الميت دون أي تعذيب ذاتي ، ويأتي أصدقاؤهم لتقديم تعازيهم مثلما يرسل الأقرباء هدية على شكل طعام ليأكله أهل الفقيد ، إذ لا يمكن طهي أي طعام كان ما دام المتوفي في البيت. وليس من عادة النساء السير خلف الجنازة حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيهن أو أخيهن.

أما الطريقة التي يغسل بها جسد الميت وطريقة دفنه ، وكذلك مراسم الجنازة وواجباتها ، فقد عرضت لذلك في المؤلف الصغير الذي سبق أن تكلمنا لكم عنه.

طيور الحمام

هناك الكثير من الأشخاص الذين يجدون متعة كبيرة في الاهتمام بالحمام واقتنائه إذ

__________________

(١٧٣) وكان هذا الكتاب يؤلف ، حسب تصور الحسن الوزان ، ملحقا لكتاب (الوصف) الذى بين أيدينا.

٢٦١

يربون منه في منازلهم كثيرا من الأزواج الجميلة المختلفة الألوان. وتعيش هذه الطيور فوق اسطحة المنازل في محاضن تماثل خزائن العطارين. ويفتح هواة الحمام هذه المحاضن مرتين في اليوم ، مرة في الصباح وأخرى في المساء. وينعمون بسرور لا حدود له من رؤية طيران الحمام ، والطير الذي يظل في الجو أطول فترة ممكنة هو الذي تكون له أكبر قيمة. ونظرا لاختلاط حمائم محضنة ما مع حمائم محضنة أخرى فكثيرا ما تقع منازعات بين الهواة قد تؤدي إلى الشجار. وهناك أشخاص يثبتون شبكا في نهاية عصا طويلة ويمسكونها بأيديهم متربصين فوق السطح وبذلك يمسكون بواسطة شبكتهم هذه بجميع الحمام الذي يمر في هذه الشبكة. وهناك سبعة أو ثمانية دكاكين تقوم في وسط سوق الفحامين مختصة ببيع هذا الحمام.

أساليب اللعب

لا يوجد بين الناس ذوي التربية الطيبة والبيئة الراقية سوى لعبة واحدة هي لعبة الشطرنج وذلك حسب ما كان يسير عليه سلفهم. وهناك لعب أخرى ، ولكنها مستقبحة ، لا تمارس إلا بين الدهماء.

ويجتمع الشباب في مواسم معينة من السنة من أهل شارع ما وهم مسلحون بالهراوات ويشنون حربا على سكان شارع آخر. وقد يحدث أن يحتدم نزاع الخصمين فيؤدي ذلك إلى امتشاق السلاح وتسفر المعركة عن قتل كثير من كلا الفريقين ، ولا سيما في فترة الأعياد حيث يجتمع الشبان في ظاهر المدينة. وبعد انتهاء المعمة يأخذون بالتراشق بالحجارة حتى لقد يعجز مفوض الشرطة عن تفريق بعضهم عن بعض ، ولكنه يعتقل عددا منهم ويودعهم السجن. وهؤلاء يعاقبون بالجلد ويطاف بهم في المدينة. وفي المساء يخرج الكثير من المتعجرفين سوية خارج المدينة مزودين بالسلاح ، ويتجولون في البساتين وفي الحقول ، فإذا التقوا مع متعجرفين من شارع آخر مخاصم ، تنشب بينهما معركة عنيفة ، لأنهم يكنون حقدا عميقا بعضهم ضد بعض. ولكن كثيرا ما يتعرضون في الغالب لعقاب وجزاء صارم.

٢٦٢

شعبراء العامية

هناك الكثير من الشعراء في فاس من الذين يقرضون الشعر باللغة العامية في مختلف الموضوعات ، ولا سيما في الحب. فبعضهم يصف الحب الذي يحسه تجاه النساء ، والآخرون يعبرون عن مشاعرهم تجاه الغلمان ويصرح الواحد منهم بدون أي خجل أو حياء باسم الغلام الذي يهواه.

وينظم هؤلاء شعرا بمناسبة عيد مولد محمد صلّى الله عليه وسلّم هو عبارة عن قصيدة في مدحه. ويدعى الشعراء في صبيحة ذلك العيد إلى ساحة رئيس الأمناء. ويصعدون فوق أريكة هذا الرئيس. ويأخذ كل واحد منهم في إلقاء قصيدته بحضور جمع غفير من الناس. وينادى بالشاعر ، الذي ترى لجنة التحكيم أنه الأفضل شعراء وإلقاء ، أميرا على الشعراء لذلك العام ، وينظر إليه على أنه أميرهم. وكان من عادة الذي يحكم فاس في أزهى أيام ملوك بني مرين أن يدعو لقصره العلماء وأهل الأدب في المدينة ، ويحتفل على شرف الشعراء الذين كانوا مجلين في هذه المناسبة ، فيلقي كل واحد منهم قصيدة في تمجيد الرسول بحضوره وأمام الجميع. وكان يقف المنشدون فوق مصطبة عالية. وفي نهاية الحفل ، واستنادا إلى حكم أشخاص من ذوي الخبرة ، كان يمنح الملك لأكثر الشعراء نبوغا مائة دينار ، وحصانا ، وأمة ، وكسوة ، ويعطي كل واحد من الآخرين خمسين دينارا فينصرف الجميع من عنده وقد حصل كل منهم على إجازة ومكافأة ، غير أن هذه العادة قد أنقرضت منذ مائة وثلاثين عاما بسبب إنحطاط هذه الأسرة (١٧٤).

مدارس الأطفال

يوجد قرابة مائتي مدرسة للأطفال الذين يرغبون في تعلم القراءة. وتحوي كل مدرسة قاعة كبيرة مع درجات تستخدم كمقاعد للأطفال. وهنا يعلمهم المعلم القراءة والكتابة ، وليس في كتاب معين ، بل بالاستعانة بألواح خشب كبيرة يكتب عليها التلاميذ. ويقتصر درس كل يوم على آية من القرآن. ويختم القرآن في سنتين أو ثلاث سنين ، ثم يستأنف ذلك ، عدة مرات ، إلى أن يجيد الطفل تعلمه بصورة متقنة جدا

__________________

(١٧٤) أي منذ العام ٨٠٠ ه‍ / ١٣٩٨ م ، أي من عهد السلطان أبي سعيد عثمان.

٢٦٣

ويحفظه عن ظهر قلب أو يدرك ذلك بعد انقضاء مدة سبع سنين. ومن ثم يعلم المعلم الأولاد قليلا من الخط.

بيد أن الخط والنحو يدرسان في معاهد خاصة وكذلك بقية العلوم ، وللمدرسين أجر زهيد ، ولكن حينما يصل الطفل إلى إجادة جزء لا بأس به من القرآن ، يجب على أبيه تقديم هدية معينة للمعلم. وحينما يختم الطفل حفظ القرآن يقوم الأب بصنع وليمة فخمة لكل التلامذة. وفي أثنائها يكسي الطفل وكأنه ابن أمير. ثم يذهب إليها على ظهر جواد أصيل مرتفع الثمن ، على صاحب قصر فاس أن يعيره إياه ويعيره اللباس كذلك. ويصطحبه بقية الأطفال على ظهور الجياد أيضا حتى قاعة السماط وهم ينشدون ألحانا في تمجيد الله والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم تكون الوليمة التي يحضرها أصدقاء الوالد. ويقدم كل واحد منهم شيئا للمعلم ، كما يقدم الطفل المحتفى به كسوة جديدة لأستاذه. تلك هي العادة المألوفة. ولهؤلاء الأولاد عيدهم في يوم المولد. وعندها يلتزم الآباء بإهداء شمعة للمدرسة وكذلك يأتي كل طفل بشمعته. ويأتي بعض الأولاد بشمعة زنتها ثلاثون رطلا (١٧٥) والبعض أكثر من ذلك والبعض الآخر أقل. وتزدان هذه الشموع الجميلة والكثيرة التنميق بفواكه من شمع من أطرافها. وتوقد في بداية الفجر وتطفأ مع بزوغ الشمس. ومن عادة المعلم أن يستخدم بعض المطربين الذين ينشدون مدائح في الرسول الكريم. وما إن تشرق الشمس حتى ينتهي الاحتفال. وفي هذا موارد لمعلمي المدرسة. ففي بعض الأحيان يبيعون فعلا ما قيمته مائة دينار من الشمع ، وأحيانا أكثر من ذلك ، وذلك حسب عدد التلامذة. ولا يدفع هؤلاء أجرا عن هذه المدارس لأنها مؤسسة بالهبات التي أعطاها أصحاب الوصايا زكاة عن أرواحهم. أما فواكه هذه الشموع وأزهارها فتقدم هدايا للأولاد وللمنشدين.

ولهؤلاء الأطفال شأن طلاب المعاهد يومان في الأسبوع للراحة ، لا يكون في أثنائها تعليم ولا دراسة.

__________________

(١٧٥) ١٠ كيلو جرامات تقريبا.

٢٦٤

العرّافون

لن أقول شيئا عن بعض الصناع ، كأولئك الدباغين الذين يحتلون موقعا محددا بجوار نهر كبير ، لهم على طوله عدد كبير من المصانع. ويدفعون رسما عن كل جلد يدبغونه مقداره درهمان (١٧٦) ، وهو رسم يحقق للدولة حصيلة قدرها ألفان من الدنانير (١٧٧). ولن أتكلم أيضا عن الحلاقين وسواهم من الصناع لأنني أشرت إلى ذلك في أثناء وصف القسم الأول من فاس ، مع أنهم ليسوا كثيري العدد كما ذكرت لكم في حينه. بل سأحدثكم عن العرافين وهم كثر. وينقسمون ثلاث مجموعات :

ـ تتألف الأولى من عرافين يمارسون فن الضرب بالرمل ، وذلك برسم أشكال فيه ، ويتقاضون عن كل رسم قدر الاستطاعة حسب موارد الشخص ، وطبقا للعادة.

ـ الثانية وهي مجموعة العرافين الذين يسكبون الماء في قصعة مطلية بالدهان ويسقطون في هذا الماء قطرة زيت. وبعد أن تصبح هذه شفافة يقول العرافون أنهم رأوا فيها ، كما يرون في المرآة ، عصابات من الشياطين قادمة بعضها خلف بعض ، كأنها كتائب جيش تعسكر وتضرب خيامها. ويأتي بعض هذه الشياطين عن طريق البحر والبعض الآخر عن طريق البر. وعند ما يرى العراف أنهم استراحوا يطلب منهم أشياء يود معرفتها ، فيجيبه الشياطين بإشارات يومئون بها باليد أو بالعين. فما أشد غباء الذين يعتقدون في مثل هذه الخرافات. ويضع هؤلاء العرافون القصعة أحيانا بين يدي ولد عمره ثمانية أو تسعة أعوام ويسألونه فيما إذا رأى الشيطان الفلاني أو غيره ويجيبهم الطفل الساذج «نعم» ، ولكنهم لا يتركونه يتكلم وحده. وللكثير من السفهاء ثقة بهؤلاء العرافين تجعلهم ينفقون عندهم بدرات اموالهم.

ـ وتضم الفئة الثالثة من العرافين نسوة يدخلن في روع العوام انهن يرتبطن بصداقة مع بعض الشياطين من اصناف مختلفة ، فيسميه بعضهم الشياطين الحمر ، والآخرين الشياطين البيض وعند ما يسألن عن التنبؤ عن اي شيء كان يتعطرن بعطور مختلفة الروائح. وسرعان ما يغيرن اصواتهن كي يجعلن. المستمع يتصور بان الشيطان يتكلم بصوته ذاته. والشخص الذي يقصدهن لمعرفة أمر يرغب فيه ، سواء أكان رجلا أم

__________________

(١٧٦) ١٥ سنت ذهب.

(١٧٧) وهذا يمثل ٠٠٠ ، ١٢٠ قطعة من الجلود.

٢٦٥

امرأة ، إنما يطلب ذلك من الروح بامتثال كبير وتواضع. وعند ما يحصل على الجواب المطلوب يترك هدية للشيطان وينطلق لشأنه. ولكن الناس الذين يجمعون إلى جانب الشرف بعض الثقافة والخبرة في أمور الحياة يسمون تلك النسوة السحاقات. وفي الحقيقة إنهن يتصفن بتلك العادة الملعونة لأنهن يستعملن المساحقة بعضهن مع بعض ، وهذا ما أعجز عن التعبير عنه بعبارة اكثر حشمة. وإذا وجدت امرأة جميلة بين اللواتي يأتين لاستشارتهن ، فإنهن يتولعن بها ، كما يعشق شاب فتاة فاتنة ، ويطلبن منها ـ متظاهرات بأن الشيطان هو الذي يتكلم ـ أن تقبلها العرافة قبلة عميقة في مقابل هذه الاستشارة. والمرأة التي تقبل أن تدخل السرور لنفس الشيطان تقبل ذلك غالبا. ويطلب من النساء اللواتي ينشرحن لهذه الممارسة من العرافات الدخول في حرفتهن. فيصطنعن المرض ويستدعين إحداهن ، وغالبا ما يقوم الزوج المخبول بهذه المهمة. وهنا تفصح المرأة عن رغبتها للعرافة التي تقول حينئذ للزوج بأن شيطانا تسلل إلى جسد زوجته ، وإذا كان يحرص على صحة زوجته فما عليه إلى أن يسمح لها بأن تنتسب إلى حرفة العرافات وأن تعمل معهن بحرية. ويصدق الزوج «الثور» ذلك ويرتضيه ، وإمعانا في حمقه يصنع وليمة فخمة لكل المحترفات في هذه المهنة. وبعد تناول الطعام تندفع كل واحدة منهن إلى الرقص ويحتفلن بذلك على أنغام جوقة من الزنوج ، وبعدئذ يترك الرجل زوجته لتفعل ما تشاء. ولكن هناك بعض الأزواج الذين يقومون بطرد الأرواح من نسائهن على قرع ضربات العصي الشديدة. وقد يتظاهر بعضهن بأن فيه هو نفسه مسا من الشيطان فيستولي على العرافة مثلما سبق لها أن استولت على زوجته.

السحرة

هذا وهناك نوع آخر من العرافين الذين يدعون بالمعزّمين ، أي السحرة ، الذين يعتبرون قادرين على إنقاذ الذين اعتراهم مس ، نظرا إلى أنهم يفلحون في ذلك أحيانا ، وإذا عجزوا عن ذلك ادعوا أن الشيطان كافر أو أن الأمر يتعلق بروح سماوية. ويمارس التعزيم بالطريقة التالية : يكتبون في البداية بعض الحروف ، ثم يرسمون دوائر فوق تنور أو فوق أي شيء آخر ، ثم يرسم على جبين الممسوس ، أو فوق يده بعض الإشارات ، ثم يعطرونه بمختلف الروائح. ويعمد بعد ذلك الساحر إلى صنع الرقية ويسأل الروح عن كيفية دخوله الجسد ، ومن أين جاء ، ومن هو ، وما اسمه. وأخيرا يطلب منه الذهاب. وهناك أيضا صنف آخر من الناس الذين يعملون حسب قاعدة تدعى الزيرجة ، أي

٢٦٦

الأتصال بالأرواح. وهم لا يربطون عملياتهم بنصوص بل يعتبرونها جزءا من العلوم الطبيعية.

والحقيقة يعرف هؤلاء الأشخاص كيف يعطون جوابا سديدا على كل ما يطلب منهم. بيد أن قواعد الزايرجة غاية في الصعوبة ويجب أن يكون الإنسان منجما ممتازا ورياضيا قديرا كي يعرف طريقة ممارستها. وقد رأيت مرارا بعض أشكال الزيرجة التي استغرقت من الصباح حتى المساء في الصيف. وإليكم كيف يعملون. ترسم دوائر متحدة المركز. ويرسم في الأولى صليب في النهايات الأربع وتسجل عليها الجهات الرئيسية أي الشرق والغرب والشمال والجنوب. وفي الوسط أي عند تقاطع الخطوط ، يكتب القطبان. وتكتب العناصر الأربعة في أواخر الدائرة. ثم تقسم أول دائرة إلى أربعة أقواس. وتقسم الدائرة التالية إلى أربع ، وبعد هذا يقسم كل قوس إلى سبعة أجزاء يكتب في كل منها حروف عربية كبيرة ، أي ثمانية وعشرون أو سبعة وعشرون حرفا في كل عنصر. وتسجل في الدائرة الأخرى الكواكب السبعة ، وفي الأخرى البروج الاثنا عشر ، وفي أخرى الشهور الاثنى عشر حسب التقويم اللاتيني ، وفي الاخرى منازل القمر الثمانية والعشرون ، وفي أخرى أيام السنة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون.

وبعد هذا يؤخذ حرف واحد من السؤال المطروح ، ويضرب ما يساويه من العدد في جميع الأشياء التي ورد ذكرها آنفا ، إلى أن يتوصل إلى العدد المطابق لهذا الرقم. ثم يقسم هذا الرقم حسب طريقة معينة ، ثم يوضع الحرف في أمكنة معينة من الزيارجة حسب طبيعة هذا الحرف ، وحسب العنصر الذي يقابله مع التثبت من ذلك بعملية ضرب وتقسيم وقياس ما إذا كان الحرف مناسبا للعدد الذي أمكن التوصل إليه ثم يوضع الحرف حسب نفس الطريقة التي دكرت ويستمر العمل على هذا المنوال إلى أن يتم تحديد ثمان وعشرين مرحلة ، أي ثمانية وعشرين حرفا. وحينئذ تركب الكلمات ، ومن هذه الكلمات تركب جملة تؤلف جواب السؤال المطروح. وتكون هذه الجملة وزنا على شكل بيت شعر من الشكل الأول في الشعر العربي أي البحر الطويل (*) ، وهو بحر ذو ثمانية أوتاد واثني عشر سببا (* *) ، حسب العروض الذي بيناه في الجزء الخاص بقواعد اللغة العربية وهو الذي يؤلف آخر جزء من هذا الكتاب الصغير. وهذا البيت المكون من الحروف المؤلفة بهذه

٢٦٧

الطريقة هو الذي يقدم الجواب الصحيح الشافي. فهو يعبر قبل كل شيء عن السؤال المطروح ثم عن حكم المجلس العلوي. ولا يحدث خطأ مطلقا في هاتين النقطتين. وفي الحقيقة تبدو هذه العملية التأويلية شيئا عجيبا. أما بالنسبة لي شخصيا فإني لم أرشيئا يعد غير طبيعي وتراءى لي على أنه خارق وإلهي كمثل هذه الزيرجة.

ولقد شهدت صنع زيرجة في باحة مدرسة أبي عنان في فاس. وهذه الباحة مبلطة بالرخام الأبيض الثمين المصقول. وطول كل طرف منها خمسون ذراعا (١٧٨). وقد استخدم ثلثا هذه الباحة من أجل ما اقتضى الأمر كتابته على رسم الزيرجة. وعمل ثلاثة أنفار في تخطيطها ، وعمل كل واحد منهم في قسم ، ولزم الأمر يوما كاملا لإنجازه. ورأيت صنع زيرجة أخرى في تونس على يد أستاذ قدير قام والده بشرح قواعد هذه العملية في ثلاث مجلدات. والرجال الذين يعرفون هذه القواعد نادرون للغاية. ولم أر منهم في كل حياتي سوى ثلاثة ، اثنان في فاس وواحد في تونس. وقرأت شرحين عن هذا الموضوع ، أحدهما من تأليف المرجاني ، وهو أبو المعلم الذي رأيته في تونس ، والآخر من تأليف ابن خلدون المؤرخ(١٧٩)(*).

وإذا كان لأحد رغبة في معرفة هذه القاعدة وشرحها ، فهذا سيكلفه مقدار خمسين دينارا ، لأنه إذا ذهب إلى تونس ، وهي قريبة من إيطاليا ، فإنه واجد هذا الكتاب. وقد عزفت عن تعلم قاعدة الزيرجة هذه كسلا منّي. إذ كان ذلك متيسرا لي ، فقد كان لدي متسع من الوقت ، كما كان المعلم سعيدا بتعليمي إياها بدون مقابل. ولكن رفضت على الخصوص لأن هذه القاعدة ، وكل علم يتعلق بالرجم بالغيب ، يعتبر في أعين رجال الشرع المسلمين عملا غير شريف ويكاد يعتبر مروقا. وبالفعل تبدو كل علوم الشرائع مفعمة بنصوص تقول بأن محاولة الاطلاع على الغيب هو عبث ، إذ لا يعلم أحد شيئا عن أمور المستقبل إلا الله وحده. ولهذا يرمي أولو الأمر المسلمون غالبا الذين يتعاطون أمثال هذه الممارسات في السجون أو لا يكفون عن اضطهادهم.

__________________

(١٧٨) أو ٥ ، ٣٣ م.

(١٧٩) يبدو عرض ابن خلدون عن الزيارجة في مقدمته غير مفهوم كما هو الحال في النص أعلاه.

(*) عرض ابن خلدون للزيرجة في الفصل السادس من الباب الأول من مقدمته وفي الفصل الثلاثين من الباب السادس ، وفي هذا الفصل الأخير فصل القول تفصيلا في الزيرجة ورسم زيرجة السبتي ، ووقف على ذلك زهاء أربعين صفحة.

(انظر مقدمة ابن خلدون تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي ، طبعة لجنة البيان ، الطبعة الثانية صفحات ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٥٤٣ ، ٥٤٨ ، ١٢٧١ ، ١٣٠٦).

٢٦٨

القواعد والخصائص التي يطبقها بعضهم تجاه شريعة محمد

يوجد في فاس بعض الأشخاص الذين يحملون اسم الصوفية ، أي علماء أو اساتذة الأخلاق. وهم يتبعون بعض النواميس التي لم يأمر بها محمد صلّى الله عليه وسلّم. فبعضهم يعتبرهم من الراشدين ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكنهم في نظر العامي من الأولياء. فمن الناحية الشرعية مثلا لا يجوز الغناء ولا تلحين أية قصيدة في الحب. ولكن هؤلاء يبيحون ذلك ، وتشمل طرائقهم عدة فروع ، ولكل منها قواعدها الخاصة ، ورئيسها الذي يدافع عنها ، وعلماؤها الذين يؤيدون مبادئها ، وكتبها العديدة عن الحياة الروحية.

وقد نشأت الصوفية بعد ثمانين عاما من وفاة محمد صلّى الله عليه وسلّم (١٨٠). ويدعي أكثر مؤسسيها شهرة الحسن بن أبي الحسن البصري (١٨١) ، من مدينة البصرة. وقد أخذ في البداية يسرّ بعض القواعد لتلاميذه لأنه لم يكتب شيئا. وبعد مائة عام ظهر رجل آخر ، عظيم القدر في هذا المضمار ، هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي (١٨٢) ، من مدينة بغداد ، وألف كتابا جيدا عرض فيه تفاصيل طريقته لكل مريديه. بيد أن الفقهاء أنكروا هذا المذهب فيما بعد ونصحوا الخلفاء بمناهضته وأعدم كل الذين كانوا يسلكون هذا المسلك. ولكن هذا المذهب تشكل من جديد بعد ثمانين عاما تحت إدارة رجل كبير القدر للغاية وتبعه كثير من المريدين ، ودعا علنا لطريقته مما جعل العلماء يتفقون مع الخليفة وحكم عليه بالإعدام مع أتباعه ، وتقرر ضرب أعناقهم جميعا. ولما علم هذا الرجل بذلك طلب إلى الخليفة بأن يتكرم عليه فيسمح له بمناظرة كل الفقهاء. وإذا خرج مغلوبا فإنه سيتقبل حكم الموت عن طيب خاطر ، ولكن إذا استطاع أن يبرهن بأن طريقته هي الأفضل ، فلن يكون من الإنصاف قتله مع هذا العدد الكبير من الأبرياء المساكين بسبب تهمة مفتراة وبدون أساس. وقد تراءى هذا الطلب للخليفة عادلا فمنحه العفو المطلوب. وهكذا ذهب هذا العالم إلى ذلك المؤتمر الغريب وتغلب على كل الفقهاء بأيسر شكل ، حتى أن الخليفة نفسه اعتنق مذهبهم وهو يبكي وانتسب إلى طريقتهم. وقد ظل

__________________

(١٨٠) أي حوالي العام ٩١ ه‍ / ٧١٠ م ، لأن الرسول توفي يوم ١٢ أو ١٣ ربيع الأول في العام الثاني عشر للهجرة أو ٧ ـ ٨ حزيران (يونية) ٦٣٢ م.

(١٨١) توفي سنة ٧٢٨ م.

(١٨٢) توفي عام ٨٥٧ م.

٢٦٩

هذا الخليفة يعاضدهم طيلة حياته ، وأسس للصوفيين زوايا ومدارس. وازدهرت الصوفية مدة مائة سنة أخرى ، إلى أن قدم من آسيا الكبرى امبراطور من السلاجقة ، وهو تركي الأصل (١٨٣) فأخذ يضطهد هذا المذهب وهرب الصوفيون ، فمنهم من قصد جزيرة العرب ، وبعضهم الآخر قصد القاهرة. وظلوا حوالي عشرين عاما في المنفى حتى عهد صاصلشاه (١٨٤) حفيد ملكشاه. فقد كان مستشار هذا الملك ، وهو رجل على درجة عالية من الذكاء ، يدعى نظام الملك ، كان من أتباع هذا المذهب (١٨٥) فأدخل بعض التجديد على هذا المذهب وسانده إلى أن توصل إلى تحقيق المصالحة بين الفقهاء والصوفية بفضل عالم كبير جدا يدعى الغزالي (١٨٦) الذي ألف في هذه المادة كتابا مطولا رائعا يقع في سبعة مجلدات. وقد نتج عن هذا الوفاق أن أخذ الفقهاء لقب علماء شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وحفظتها في حين سمي الصوفيون «شارحي الشريعة ومصلحيها».

وقد قضى التتر على هذا الاتحاد وذلك في عام ٦٥٦ ه‍ (١٨٧). غير أن هذا الانفصال الناجم عن ذلك لم يؤد ، مع هذا ، إلى إلحاق أي ضرر بالصوفية ، لأن آسيا وإفريقيا كانتا قد أصبحتا مليئتين بأتباعها. وفي هذه الآونة لم يدخل فيها سوى الرجال المثقفين في كل المواد ولا سيما الذين يعرفون القرآن الكريم معرفة جيدة كي يستطيعوا الدفاع عن هذه العقيدة وتفنيد العقائد المعادية.

ومنذ مائة عام أصبح كل جاهل يود أن يكون صوفيا ، بدعوى أن ليست هناك حاجة لدراسة العقيدة لأن روح القدس تمنح معرفة الحقيقة لكل من كان له قلب طاهر ، واستنادا لمزاعم أخرى ليس لها كبير قيمة. ولهذا السبب تخلى الصوفيون عن كل أحكام الإسلام وعن واجباته ونوافله. ولم يعودوا يتقيدون بغير الطقوس المعهودة عند شيوخهم. وراحوا يبيحون لانفسهم كل المتع التي تعتبرها طريقتهم مشروعة. ولهذا

__________________

(١٨٣) لقد وفد السلاجقة ببطه من منغوليا ، وفي عام ١٠٦٠ م اعترف خليفة بغداد بأميرهم طغرل بك سلطانا وملكا على المغرب والمشرق. وقد كان ملكشاه ، الذي حكم من عام ١٠٧٠ إلى ١٠٩٢ م أكبر سلطان سلجوقي.

(١٨٤)؟

(١٨٥) كان نظام الملك ، الذي اغتيل سنة ١٠٩٢ م ، كان في الحقيقة وزيرا لملكشاه.

(١٨٦) هو أبو حامد محمد الغزالي المتوفي سنة ١١١١ م.

(١٨٧) بتاريخ ٢ صفر ٦٥٦ ه‍ / ١١ شباط (فبراير) ١٢٥٨ م اجتاح خان المغول هولاكو مدينة بغداد وذبح الخليفة وسائر المسلمين ونهبت المدينة وأحرقت ، وهكذا تلاشت الخلافة العباسية.

«وقد سقطت قرطبة بيد الأسبان نهائيا في نفس السنة» (المترجم)

٢٧٠

يقيمون الكثير من المآدب حين ينشدون اغاني الحب ويرقصون بصورة مفرطة. ويصل الحال ببعضهم في هذه الحلقات الى تمزيق ثيابه ، بتأثير هياج الأغنية التي تلقى أو بسبب الأفكار الجنونية التي قد تخطر بدماغ أناس فقدوا كل اتزان. ويقول هؤلاء الناس عندئذ أنهم تسخنوا بلهيب الوجد الإلهي. ومن وجهة نظري أعتقد أنهم تسخنوا من فرط الطعام ، لأن الواحد منهم يأكل ثلاثة أضعاف ما يكفي الشخص الواحد. أو أنهم عندما يطلقون صرخات مصحوبة بنحيب ، وهذا ما يبدو محتملا جدا ، فذاك للحب الذي يحملونه لبعض الفتية المرد. وليس من النادر أن يدعو أحد الأشراف إلى حفلة عرسه أحد الأساتذة من أولئك الصوفيين البارزين مع سائر تلامذته. وعندما يصلون إلى مكان الوليمة يبدأون بإلقاء الأدعية وغناء الألحان. وبعد الفراغ من الطعام يأخذ كبار السن منهم بتمزيق ثيابهم ، وإذا اندفع واحد من هؤلاء الرجال المتقدمين بالسن إلى الرقص ، فإنه يترنح ، وسرعان ما يعيده لوقفته أحد الصوفيين الصغار الذي غالبا ما يمنحه قبلة شهوانية. ومن هذا جاء المثل السائر على كل أفواه أهل فاس : «هذا مثل وليمة النساك ، التي حولتنا من عشرين إلى عشرة» ، ومعنى ذلك ، أن كل تلميذ صغير يعرف ما ينتظره ، في الليلة التي تعقب هذا الاحتفال. (فيستحيل هو وشيخه إلى جسم واحد ، ويصبح العشرون عشرة).

ويسمى هؤلاء الصوفيون أحيانا النساك ؛ إذ ليس من عادتهم التزوج بالنساء ، ولا العمل ، ولا ممارسة أية مهنة كانت ، بل يعيشون كيفما اتفق وحسب الظروف.

وترد في شرح مقامات الحريري (١٨٨) حوالي ألف فريدة في هذا الموضوع ، ومن غير اللائق ذكرها هنا لأسباب متعددة.

مختلف الطرائق والمذاهب الأخرى

سرعة تصديق الجمهور للأباطيل

هناك بين هذه المذاهب ما تعتبر قواعده ، لدى علماء الشريعة أو الصوفية ، مروقا لأنها لا تختلف عن المذاهب الأخرى من وجهة نظر الشريعة الدينية فحسب بل حتى من ناحية العقيدة كذلك.

__________________

(١٨٨) أبو محمد القاسم الحريري ، ولد في البصرة سنة ١٠٥٤ م وتوفي سنة ١١٢٢ م. وهو مؤلف المقامات الشهيرة باسمه.

٢٧١

فمن ذلك مثلا أنه يوجد أناس يعتقدون جازمين أن باستطاعة الإنسان أن يكتسب طبيعة ملائكية عن طريق الأعمال الصالحات وبالصيام والتعفف ، ويقولون إنهم يطهرون الروح والقلب لدرجة تمنعهم من اقتراف الذنب ، حتى ولو أرادوا ذلك. ولكن لبلوغ ذلك يجب المرور بخمسين درجة في سلك التلمذة وحينما ينتهون من قطع هذه المراحل لن يحاسبهم الله على ما عسى أن يقترفوه من ذنوب وسيغفر لهم ما سبق أن اجترحوه قبل ارتقائهم الخمسين درجة. ويبدأ هؤلاء الناس بصوم يثير الإعجاب مما يجعل من المستحيل تقدير أيامه ، ثم ينغمسون في كل ملذات الدنيا. وهم يتبعون قاعدة صارمة عرضها كاتب وعالم لامع اسمه السهروردي ، من سهرورد ، وهي مدينة في خراسان (١٨٩). ويقع كتابه في أربعة مجلدات. وهناك مؤلف آخر هو ابن الفريد (١٩٠) شرح هذه العقيدة في قصيدة بديعة جدا ، ولكن قصيدته هذه تبدو مليئة بالاستعارات لدرجة تجعل القارىء يتصورها وكأنها تقتصر على الحب. وجاء المدعو الفرغاني (١٩١) وشرح هذا المؤلف واستخرج منه القاعدة التي يجب إتباعها مشيرا إلى الدرجات التي ينبغي اجتيازها. وقصائد ابن الفريد على درجة بالغة من الأناقة حتى أن مريدي هذا المذهب لا يتلون سواها في مآدبهم. ومنذ ثلاثمائة عام وحتى الآن لم تستعمل لغة أكثر نقاوة من تلك التي استخدمها ابن الفريد في قصيدته.

ويؤمن الناس الذين يذهبون إلى هذه المعتقدات بأن الكرات السماوية ، والفلك ، والعناصر ، والكواكب السيارة وكل النجوم ما هي إلا آلهة ، وأنه لا يمكن أن تكون ثم عقيدة دينية على خطأ ، لأن لكل الناس في نفوسهم غريزة تدفعهم إلى عبادة من يستحق أن يعبد. ويعتقدون أن معرفة الله تتمركز في رجل يسمونه «القطب» الذي هو المختار عند الله ، والذي يشترك معه في طبيعته ، والذي يوازي الله في المعرفة. ويعترفون بوجود أربعين رجلا بين ظهرانيهم يسمونهم الأوتاد ، وهؤلاء من مستوى أقل ارتفاعا وأقل معرفة من القطب. وعندما يموت قطب ، يعين هؤلاء الأربعون قطبا آخر يختارونه من بين سبعين. ولا يزال هناك سبعمائة وستة وخمسون من أهل المقامات الذين لم أعد أتذكر

__________________

(١٨٩) هناك عدة كتاب متصوفين يحملون هذه الكنية ، ولكن يبدو أن المقصود هنا شهاب الدين أبو حفص السهروردي.

(١١٤٤ ـ ١٢٣٤ م) ولا تقع سهرورد في خراسان بل في العراق العجمي أو الأهواز الحالية.

(١٩٠) أبو حفص عمر الفريد ، من القاهرة (١١٨١ ـ ١٢٣٥ م)

(١٩١)؟

٢٧٢

لقبهم ، وكل ما أعرفه أنه عندما يموت أحد هؤلاء السبعين يخلفه أحد أولئك. وتقضي قاعدة هذا المذهب أن يكون كل من هذه الشخصيات مجهولا من سائر الناس ، تحت مظهر مجنون أو على شكل عاص كبير ، أو تحت مظهر «التباغ» (١٩٢). وتحت هذه الذريعة يهيم في أفريقيا العديد من الخداعين الفسقة ، عراة لدرجة يكشفون فيها عن سوءاتهم. وهم على درجة منحطة من عدم الحشمة ، وانعدام الاحترام الإنساني حتى إنهم يضاجعون النساء في الساحات العامة تماما كما تفعل البهائم. ومع هذا فهم يعتبرون أولياء لدى العوام. وهناك كمية كبيرة من هؤلاء الأسافل في تونس ، ولكنهم يتكاثرون بشدة في مصر ولا سيما في القاهرة. وقد رأيت في القاهرة ، بعيني رأسي ، في ساحة ما بين القصرين ، أحد هؤلاء الأفراد وهو ينقض على امرأة شابة غاية في الجمال عند خروجها من الحمام ، ويضجعها في وسط الساحة العامة ويواقعها. وبعد أن قضى وطره من هذه المرأة هرع كل الناس ليلمسوا ثيابها كما لو كانت قد أصبحت قديسة حينما مسها هذا القديس. وكان الناس يتناقلون فيما بينهم أن هذا الولي تظاهر بأنه يضاجعها ولكن ليس هناك شيء من ذلك. وعندما بلغ الزوج نبأ ذلك اعتبره علامة نعمة وبركة وشكر الله على ما أنعم وأقام وليمة بسرور بالغ تقديرا للنعمة التي حلت به. وقد أراد القضاة وعلماء الدين بكل حماس أن يعاقبوا هذا الخليع ، ولكنهم كادوا يتعرضون للقتل من العوام لأنه ، كما قلت ، يتمتع باحترام كبير بين الدهماء وينال هبات وهدايا ذات قيمة لا تقدر.

ولقد رأيت أشياء أخرى من هذا النوع أستحي من سردها.

الباطنيّون والمذاهب الأخرى

وهناك مذهب آخر يتبعه بعضهم من الذين يسمون بالباطنيين. فلهؤلاء صوم مستغرب ولا يأكلون لحم أي حيوان. ولهم أطعمة خاصة بهم ويلبسون ثيابا معينة في كل ساعة من النهار والليل. ويؤدون صلوات فريدة حسب الأيام والأشهر ، وصلوات قائمة على نظام عددي. ومن عادتهم حمل تمائم ملونة ، مع حروف وأرقام منقوشة بداخلها. ويقولون إن أرواحا تتجلى لهم بعد ذلك ، وهي أرواح نافعة تخاطبهم وتمنحهم معرفة شمولية عن أمور هذا الكون. وقد كان من بين هؤلاء الباطنيين عالم لامع يدعى محيي

__________________

(١٩٢) لهذه الكلمة هنا معنى «رجل يمارس مهنة شنيعة أخلاقيا». (انظر كذلك تعليق رقم ١٥٨).

٢٧٣

الدين أبو العباس أحمد البوني (١٩٣) الذي أسس طريقتهم ، وحدد لهم صلواتهم ، وبين لهم الطريقة التي يجب أن يؤلفوا بموجبها تمائمهم ، وقد اطلعت على كتابه وأعتقد أن هذا العلم يقترب من فن السحر أكثر من الباطنية. ويبلغ عدد أهم المطولات في هذه المادة ثمانية. ويحمل أشهرها عنوان «اللّمع النورانية» للبوني ، وهو يحدد الصلوات وأشكال الصوم وتواريخه. وهناك كتاب آخر يدعى شمس المعارف ، يشير فيه لطريقة كتابة التمائم ويبين الفائدة التي تجنى منها. ويسمي الكتاب الآخر «سر الأسماء الحسنى» أي سر التسعة والتسعين اسما لله تعالى. وقد رأيت هذا الكتاب في روما في يد يهودي من البندقية.

ويوجد في هذا المذهب قاعدة أخرى هي طريقة «السواح» وهي التي يتبعها بعض الزهاد. ويعيش هؤلاء في عزلة ولا يتناولون طعاما غير الأعشاب والثمار البرية. ولا يعرف أحد تماما الحياة التي يعيشونها لأنهم يتحاشون أية علاقة بشرية.

وسأبتعد كثيرا عن هدف كتابي هذا لو أردت متابعة الدراسة الدقيقة لمختلف المذاهب الإسلامية. فالذي يرغب في معرفة المزيد عنها عليه أن يقرأ الكتاب المسمى «الأكفاني» (١٩٤) الذي يعرض بإسهاب لمختلف النحل المنشقة عن الديانة الإسلامية. ويبلغ عدد المذاهب الرئيسة منها السبعين. وتدعي كل طريقة أن تعاليمها هي الجيدة والصحيحة ، ويرى أتباعها أن الإنسان يبلغ عن طريقها سلامته ونجاته.

هذا ولا نجد في عصرنا سوى مذهبين للديانة الإسلامية. الأول هو المذهب الأشعري (١٩٥) الذي ينتشر في كل إفريقيا ومصر والشام وجزيرة العرب وسائر تركيا. والثاني هو عقيدة الإمامية (١٩٦) المنتشرة في بلاد فارس وفي بعض مدن خراسان. وهذا هو المذهب الذي يتبعه ملوك الأسرة الصفوية في إيران. وبسبب هذا المذهب الأخير تخربت آسيا كلها.

وقبل ذلك كان أهل هذه البلاد يتبعون المذهب الأشعري. وقد أراد ملك الفرس

__________________

(١٩٣) توفي سنة ١٢٢٥ م.

(١٩٤)؟.

(١٩٥) أبو الحسن علي الأشعري المتوفي حوالي سنة ٩٤١ م. (ويقصد المؤلف مذهب أهل السنة). (المراجع).

(١٩٦) أي الشيعة (ويقصد الشيعة الإمامية أو الجعفرية أو الاثني عشرية) (المراجع).

٢٧٤

في مناسبات عديدة جر الناس إلى مذهبه عن طريق القوة (١٩٧).

وفي الحق لا يوجد سوى مذهب واحد صحيح ينتظم جميع أنحاء العالم الإسلامي.

الباحثون عن الكنوز

هذا ويوجد أيضا في فاس رجال يدعون الكنازين الذين ينهمكون في البحث عن الكنوز المدفونة في أساسات الأبنية الأثرية القديمة. ويذهب هؤلاء الحمقى إلى خارج المدينة وينقبون في العديد من الكهوف وفي الأطلال كي يجدون فيها هذه الكنوز ، وذلك لاقتناعهم بأن الرومان ، حينما خسروا امبراطورية إفريقيا واضطروا للهرب إلى بلاد بيتيكا الأسبانية ، طمروا في ضواحي فاس عددا كبيرا من الأشياء الثمينة ذات القيمة مما لم يستطيعوا حمله معهم. وسحروها ، ولهذا السبب يعمل هؤلاء للبحث عن السحرة للكشف عن هذه الكنوز. وهم لا يعدمون أناسا يدعون أنهم رأوا في نفق ذهبا أو فضة ويقولون إنهم عجزوا عن أخذها لأنهم يجهلون الرقى المناسبة ولأنهم يفتقرون للعطور المختصة. واستنادا إلى هذا المعتقد الذي لا طائل من ورائه ينبشن الكنازون الأرض ويتلفون العمارات والمقابر أحيانا. وينتقلون أحيانا لمسافة عشرة أو اثني عشر يوما من فاس ، وتمادى بهم الأمر حتى أصبح لديهم كتب ترد فيها أسماء الجبال والمواقع التي دفنت فيها الكنوز الكثيرة. ويحتفظون بهذه الوثائق وكأنها النصوص المقدسة. وقبل مغادرتي فاس أقام هؤلاء الكنازون ، وهذا من جملة جنونهم ، أمينا لهم وقدموا لملاك الأراضي تعهدا بإصلاح الضرر الناجم عن قيامهم بالحفريات التي يرغبون في القيام بها.

الكيمائيّون

لا تتصوروا أن فاس يعوزها الكيمائيون! على العكس فأولئك ينصرفون إلى دراسة هذا الفن اللامعقول والباطل كثير والعدد جدا. وهم أكثر الناس قذارة وأشدهم نتنا في العالم بسبب الكبريت والمواد الأخرى الكريهة الرائحة التي يقومون بتركيبها. ويجتمعون

__________________

(١٩٧) «أي ملوك الأسرة الصفوية الذين شنوا حروبا مريرة على العثمانيين المنهمكين وقتئذ في فتح أوربا ومقارعة البرتغاليين في المحيط الهندي والبحر الأحمر والأسبان في ثغور بلاد المغرب العربي» (المترجم).

٢٧٥

في أمسية كل الأيام تقريبا ، في الجامع الكبير ، ويتناقشون في الاكتشافات المزعومة. ولديهم العديد من المؤلفات في هذا الفن ، وهي كتب دبجت بأقلام كتاب لا معين. وكتابهم الرئيسي هو كتاب «جابر» الذي عاش بعد وفاة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بمائة عام ، والذي كان ، كما يقال ، يونانيا اعتنق الإسلام (١٩٨) وقد كتب كتابه مقتصرا على بضعة رموز ، وذلك حتى بالنسبة للوصفات التي يقدمها. وهناك أيضا مؤلف آخر يدعى الطغرائي (١٩٩) الذي عمل كاتبا لدى أحد سلاطين بغداد (٢٠٠). ولقد تكلمنا عنه بإسهاب أكثر في كتابنا عن حياة الفلاسفة العرب (٢٠١). وقد ظهر مطول آخر في الكيمياء ، على شكل قصائد تتعرض لكل تفاصيل هذا الفن الذي ألفه أستاذ يدعى المغيربي (٢٠٢)(*) الذي كان من أصل أندلسي. وقد شرح هذا الكتاب مملوك من دمشق ، وهو رجل قدير جدا في هذا الفن ، ولكن الشرح يستعصي على الفهم أكثر من النص.

والكيمائيون على صنفين : فالبعض يتابعون البحث عن الإكسير ، اي عن المادة التي تمنح كل معدن لونه أو لكل فلز ، في حين ينقطع الآخرون إلى تجارب عن إكثار عدد المعادن عن طريق اللدائن.

ولكن لا حظت أن الهدف الذي يسعى إليه هؤلاء الناس يقودهم في أكثر الأحيان إلى صنع غملة مزيفة وهكذا يفتقر إلى المهارة معظم الذين نصادفهم من هذه الطوائف في فاس.

__________________

(١٩٨) أبو موسى جابر بن حيان الصوفي. وكان اسمه حنا جبر. ولد في طرسوس في كيليكيا في أواخر القرن الثامن الميلادي.

(١٩٩) أبو اسماعيل الحسن بن علي الطغرائي المتوفي سنة ١١٢٢ م.

(٢٠٠) السلطان سعود السلجوقي.

(٢٠١) لقد وصلنا النص اللاتيني لهذا العرض الذي كان كما يظهر ، معدا لأن يكون جزءا من كتاب شامل للمؤلف.

ويتعرض هذا الكتاب لذكر ثلاثين شخصية إسلامية ، منهم الطغرائي. وقد صدر عام ١٦٦٤ م.

(٢٠٢) لقد ورد ذكر المغيربي هذا في مقدمة ابن خلدون.

(*) عرض ابن خلدون للكيمياء في الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس من مقدمته ، وبين أساليب المشتغلين به وفساد مناهجهم وتكلم على أشهر المؤلفين فيه ومن بينهم مسلمة المجريطي وتلميذاه أبو بكر بن بشرون وأبو السمح ، وابن المغيربي الذي ورد ذكره في النص الذي نعلق عليه وقال في شأنه : «ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ، ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم» (انظر مقدمة ابن خلدون ، الطبعة الثانية للجنة البيان تحقيق الدكتور علي بن عبد الواحد وافي ، الجزء الرابع صفحات ١٣٠٦ ـ ١٣١٩) (المراجع).

٢٧٦

المشعوذون وسحرة الأفاعي

وأخيرا يوجد في فاس كمية من هؤلاء الحثالة من الناس الذين يطلق عليهم فى إيطاليا تسمية شيورماتوري ، أو المشعوذين. وهؤلاء الرجال هم أناس لا قيمة لهم ، ينشدون قصائد في الحدائق العامة ، وأغاني وترهات أخرى وهم يلعبون بالدفوف والرباب والعود وبآلات أخرى ، ويبيعون للجمهور الجاهل أوراقا صغيرة كتب عليها كلمات ووصفات ضد مختلف الأوجاع ، كما يزعمون.

ويضاف إلى هؤلاء المشعوذين نوع آخر هو أكثر الجميع خسة ، وكلهم من نفس الزمرة ، والذين يتجولون في المدينة ويعملون على ترقيص القردة ، ويحملون أفاعي حول عنقهم وفي أيديهم. هذا كما يقومون أيضا ببعض أشكال من ضرب الرمل ويقولون للنساء معلومات عن المستقبل. وأخيرا يجرون خلفهم بعض الفحول من الخيل لسفاد الأفراس التي تجلب إليهم مقابل أجر.

وفي مقدوري الآن متابعة هذا العرض المفصل للخصائص التي يتميز بها أهل فاس. ولكن يكفي أن أقول إنهم ، في معظمهم ، مكروهين لا يحبون الغرباء ، مع أن فاس لا تضم عددا كبيرا من الغرباء لأن هذه المدينة تقع على مسافة مائة ميل من البحر المتوسط ، كما لا توجد بين فاس والبحر سوى طريق رديئة عسيرة المسلك بالنسبة للغرباء.

وسأقول أيضا إن أفرادها متعجرفون جدا ، ويصل هذا إلى حد يجعل الذين يقصدونهم قلة من الناس وهناك أيضا علماء وقضاة لا يحبون ، نظرا لشهرتهم ، أن تكون لهم علاقات إلا مع بعض الأشخاص فقط.

والخلاصة ، ومهما كان الأمر ، فإن فاس مدينة جميلة ، هادئة وجيدة التنسيق.

وفي خلال الشتاء يكثر الوحل في فاس حتى ليضطر الإنسان أن يتجول في المدينة وهو لابسأ القبقاب المعهود في هذه البلاد. لكن توجد فوق قنوات الماء قساطل تسمح بشطف كل الشوارع ، وحينما لا تكون هناك مواسير للماء يجمع الوحل وينقل على ظهور الحمير ثم يرمى به في النهر.

٢٧٧

أرباض المدينة الخارجية

يقوم في خارج فاس من ناحية الغرب ، ربض يضم حوالي خمسمائة أسرة ، ولكن كل بيوته قبيحة. وهنا يقطن فقراء الناس ، كالعكامين والسقائين وحطابي القصر الملكي. بيد أن هذا الربض يضم العديد من الدكاكين وكل فئات الصناع. كما يقطن فيه كل المشعوذين والموسيقيين من الطبقة الدنيا. ويقيم فيه بنات الهوى الكثيرات العدد وهن قبيحات وخسيسات. وتظهر في الشارع. الرئيسي من هذا الربض الحفر العديدة المنقورة بالأزميل لأن أرضه من صخر كلسي. وكان قمح أمراء فارس في الماضي يحفظ في هذه الجباب ، ولم يكن الربض مأهولا في تلك الفترة ، بل كان لهم فيه حراس لحراسة حبوبهم. وما أن اندلعت الحروب حتى أصبحت الحبوب عرضة لنهب العدو ، وشيدت صوامع في فاس الجديدة وأهملت الصوامع التي كانت واقعة في خارج المدينة. ولبعض هذه الصوامع حجم مدهش ويتسع أصغرها لألف كيل من الحب. ونجد هنا مائة وخمسين جبا لخزن القمح ، وكلها مفتوحة الآن. وبما أنه يحدث أن يقع بعض الأشخاص في هذه الجباب ، فقد أحيطت فوهاتها بجدار صغير. وعند ما يريد حاكم فاس تنفيذ حكم إعدام سري فإنه يقذف بجثة المحكوم في أحد هذه الجباب. ولهذا الغرض يوجد في القصبة باب خاص يؤدي إلى هذا المكان. وتقوم في هذا الربض أمكنة لعب الميسر ، ولكن لا يلعب المقامرون فيها بغير النرد ، وهنا يمكن أيضا بيع الخمر ، وإقامة حانة ، أو بيت للدعارة. وهكذا يمكن القول بأن هذا الربض هو ملتقى كل أوضار المدينة. ولا يمكن رؤية أي شخص كان في الدكاكين بعد الساعة العشرين مساء (٢٠٣).

هذا ويوجد أيضا ربض آخر يسكنه المجذومون ويضم قرابة مائتي بيت ، ولهؤلاء المجذومين إمامهم ورئيسهم الذي يجمع عائدات بضعة عقارات موقوفة على المجذومين في سبيل الله حبسها عليهم بعض الأشراف وأشخاص آخرون. وتتوافر لهؤلاء المرضى كل الضروريات بحيث لا يحتاجون إلى شيء. ووظيفة أئمة المجذومين تتمثل في تخليص

__________________

(٢٠٣) كان هذا الربض يسمى المرسى ، ومعناها الأرض المحفورة بالجباب. ويوضح مارمول أن جباب القمح هذه كانت فوق ساحة تجاه باب الغدر. ونعرف أن معظم القصبات كان لها باب يحمل هذا الاسم. ويضيف مارمول أن البيوت كانت على ضفة النهر ذاتها ، حتى أن الأولاد الشريرين الذين كانت الشرطة تطاردهم كانوا يلقون بأنفسهم في النهر ويهربون باتجاه بساتين الضفة الأخرى.

٢٧٨

المدينة من كل شخص مصاب بالجذام. وهم مخولون إخراج أي شخص مصاب بالمرض المذكور من المدينة وإسكانه في هذا الربض. وإذا مات مجذوم دون وارث ، فإن نصف تركته يعود لبلدية الربض ، والنصف الثاني للشخص الذي أرشد لحالته عند إصابته. وإذا كان للمجذوم أبناء عادت التركة لأولاده. وعلينا أن نعرف أن المصابين ببقع بيضاء فوق أجسامهم يعتبرون في عداد المجذومين (٢٠٤) وكذلك المصابون بأمراض مستعصية على الشفاء (٢٠٥). وعلى مسافة ما من هذا الربض المذكور يقوم ربض آخر يسكنه العديد من البغالة والخزافين والبنائين والحطابين. وهذا الربض صغير يحوي حوالي مائة وخمسين أسرة (٢٠٦)

هذا ويوجد أيضا ربض كبير على الطريق الواقع إلى الغرب من فاس ، ربض يؤوي قرابة أربعمائة أسرة ، ولكنه لا يشتمل إلا على خرائب يسكنها فقراء الناس وفلاحون لا يريدون أو لا يستطيعون الإقامة في البوادي (٢٠٧).

ويقع بجوار هذا الربض سهل كبير يمتد من الربض حتى النهر على مسافة ميلين تقريبا (٢٠٨). ويمتد هذا السهل على طول ثلاثة أميال (٢٠٩) في اتجاه الغرب. ويقام فيه سوق كل يوم خميس. ويجتمع فيه الناس بأعداد كبيرة ، ويأتون إليه بماشيتهم والتجار بسلعهم (٢١٠)

__________________

(٢٠٤) أي المصابون بالسهق.

(٢٠٥) لا يعطي الرحالة الفرنسي مارمول اسم هذا الربض ، بل يكتفي بالقول بأنه يوجد فيه مارستان ، أي مستشفى وكانت مراكز العزل هذه تدعى في المغرب حارة ، غالبا ، أي الحي المخصص للمجذومين ، ويحدد مارمول مكان هذا الحي في غرب المدينة ، ولكن من المحتمل جدا أنه كان يقع في غرب باب الغصة ، قرب الكهوف وحيث أقام السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق هذا المركز سنة ١٢٦٠ م.

(٢٠٦) سمي مارمول هذا الحي ربض الكيفان ، جمع كف ، ومعناه الجرف الجبلي المثقب بالكهوف ـ ويذكر أن هؤلاء الفقراء يسكنون الكهوف. وتدعى الأرض الواقعة غرب قبور المرينيين إلى الشرق من البرج الشمالي ، وشمالي الطريق الدائري حول مدينة فاس ، بإسم كف المصابيح. أما الأراضي الواقعة إلى الجنوب منه فتدعى كف المليك مما يدفعنا للافتراض بأن «الكيفان» كان يقع في هذه الأنحاء.

(٢٠٧) يسمي مارمول هذا الربض باسم سوق الخميس ، ويحدد مكانه في غربي الربض السابق على طريق مكناس والقصر الكبير ويجب أن يفهم من ذلك أن هذا الطريق كان ينطلق من باب العقبة ، وينطبق تقريبا على الطريق الدائري الحالي في فاس. وكان يقع هذا الربض على الأغلب ، على حافة المحاجر القديمة الواقعة شمالي قصبة الشراردة التي شيدت سنة ١٦٧٠ م.

(٢٠٨) لا تخلو هذه المسافة من مبالغة شديدة ، إذ لا يمكن أن تتجاوز المسافة نصف ميل أو ٨٠٠ م من الربض حتى النهر.

(٢٠٩) أي قرابة ٥ كم ، وهذه مسافة لا تخلو من مبالغة أيضا.

(٢١٠) أي الرسم التجاري على المبيعات.

٢٧٩

الواردة من الخارج وينصب فيه كل واحد خيمته. وتقضي العادة أن يجتمع فيه الأشراف في جماعات صغيرة ويعهدون لجزار بذبح خروف ، ثم يقتسمون اللحم فيما بينهم ويعطون الرأس والكوارع للجزار أجرا له ، ويبيعون الجلد لتاجر الصوف. ولا يدفع هنا سوى رسم زهيد على المنتجات التي تباع في هذا السوق. ومن نافلة القول تحديد مقدارها. ولكن الشيء الذي لا أريد أن أغفل ذكره ، هو أنني لم أر في أي مكان آخر ، لا في أفريقيا ، ولا في آسيا ، ولا في إيطاليا سوقا توجد فيه بضائع بالقدر الذي يحتويه هذا السوق ؛ وأما قيمة ما يحتويه من بضائع فهذا شيء يستحيل تقديره (٢١١).

ويوجد في خارج المدينة جروف صخرية عالية تطيف بحفرة طولها ميلان ، ومنها يستخرج الحجر الذي يصنع منه الكلس (٢١٢) ، وفي الحفرة المذكورة تقوم أفران عديدة يحرق فيها الصخر الكلسي. وهذه الأفران كبيرة لدرجة أن بعضها يحتوي على ستة آلاف كيل من الكلس. والأشراف هم الذين يهتمون بهذه الصنعة ولكنهم من صغار النبلاء (٢١٣).

والى الغرب من فاس ، وفي خارج المدينة ايضا ، يوجد حوالي مائة مسكن من الأخصاص (٢١٤) القائمة على ضفة النهر. ويقطن هذه قصار والقماش (٢١٥). ويتم تبييض القماش على الصورة التالية : في كل فصل صيف يعمد كل قصار الى نقع أقمشته ثم ينشرها على المرج المجاور لكوخه. وعند ما تجف هذه يملأ من ماء النهر أو من السواقي قربة ماء مصنوعة من الجلد وذات مقبض خشبي ويرشه فوق أقمشته. وفي كل مساء يجمع أقمشته ويحملها لبيته أو للدكاكين المخصصة لبيعها. وهكذا تحتفظ المروج التي تنشر عليها الأقمشة بروائها الأخضر النضير على مدار العام. وعند النظر إليها من ساحة ما

__________________

(٢١١) لقد فقد سوق الخميس الكثير من الأهمية التي ذكرها المؤلف ، كما أنقرضت عادة الإشراف التي يشير إليها. وقد أدى بناء قصبة الشراردة إلى شطر هذا السوق إلى قسمين ، سوق صغار التجار قرب باب محروق ، وسوق الدواب في شمال وغرب القصبة المذكورة.

(٢١٢) ويسمى النورة في جزيرة العرب ، والجير في مصر وبلاد المغرب ، والشيد في فلسطين. ومن الكلس ظهرت عبارة كلسيوم في اللغات الأوربية.

(٢١٣) ويسمي مارمول حفرة أفران الكلس هذه افريغان ، ولا تزال قائمة قرب البرج الثاني الذي شيد بين ١٥٨٠ و ١٥٩٠ م.

(٢١٤) «لا تزال هذه الأحياء من الأكواخ تمثل ما يشبه العاهة في وجه كثير من المدن العربية ، وتدعى العشش في مصر ، والصرايف في العراق ، والصنادق في مدن الجزيرة العربية ، وأحياء القصدير من مدن المغرب» (المترجم).

(٢١٥) ومن هذا جاء اسم هذا الحي الذي يذكره مارمول باسم القصابين.

٢٨٠