وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

مباشرة من البساتنة باستثناء بعض الأشخاص المعينين الذين يدفعون رسما خاصا إلى الجمرك. ونجد هنا في كل يوم مقدار خمسمائة حمل من الجزر ومن اللفت ، وأحيانا أكثر من ذلك ، وتباع منها مقادير تجل عن الحصر ، ومع أن هذين النوعين من الخضر مرغوبان جدا ، فإن مبيعهما يكون بأسعار غاية في الانخفاض ، أي حوالي ثلاثين أو على الأقل عشرين رطلا (١٤٣) مقابل بيوكو واحد. (١٤٤) ويباع الفول الاخضر في موسمه بسعر رخيص جدا. وتقوم حول الساحة دكاكين تباع فيها «الشعيرية» ودكاكين أخرى تصنع كرات من اللحم المفروم تقلى بالزيت مع كمية من التوابل. ويبلغ حجم كل كرة حجم التينة العادية. ويباع الرطل منها بستة ربعيات (١٤٥) ، وتصنع من قطع اللحم البقرية غير المرغوبة.

ويأتي بعد هذه الساحة ، إلى الشمال ، سوق العشابين ، وفيه يباع القرنبيط واللفت وأنواع الخضر الأخرى التي تؤكل مع اللحم. ويضم هذا السوق أربعين دكانا. ثم يأتي سوق الدخان ، حيث تباع الزلابية المقلية بالزيت ، وهي شبيهة بذلك الخبز المعسول الذي يباع في روما. ولدى باعة الزلابية في دكاكينهم أدوات عديدة وبضعة غلمان ، لأنهم يصنعون هذه الزلابية بكثير من الحذق. ويبيعون منها كل يوم كمية كبيرة لانها تؤكل كطعام إفطار ، ولا سيما في أيام العيد وقبل ايام الصوم. وتؤكل عادة مع لحم مشوي أو مع العسل أو مع ذلك الحساء القبيح المحضرّ بالطريقة التالية : يسحق اللحم ثم يطبخ ثم يهرس من جديد ويصنع منه حساء سائل يلوّن بالتراب الأحمر.

هذا ويباع كذلك لحم مقلي وأسماك مقلية ونوع آخر من الخبز الخفيف ، مصنوع من أشرطة رقيقة عريضة ومتموجة ، معجون بالزبدة ويستهلك أيضا مع السمن والعسل. كما تباع كذلك كوارع مطبوخة (١٤٦).

ومن عادة الفلاحين أن يتناولوا في الدكاكين هذه الأطعمة الغليظة صباحا وفي ساعة مبكرة قبل أن ينصرفوا الى أشغالهم في الحقول.

__________________

(١٤٣) أي ١٠ كجم أو ٧ كجم.

(١٤٤) بيوكو عملة ايطالية كانت تعادل ٧ سنتات من الذهب.

(١٤٥) أو كواتريني ، عملة ايطالية قديمة تعادل ١٢ سنت ذهب.

(١٤٦) وهي كوارع الغنم والماعز وتدعى في دمشق ايادي وفي حلب مقادم.

٢٤١

وبعد هؤلاء الباعة يأتي أولئك الذين يبيعون الزيت ، والسمن المالح ، والعسل ، والجبن الطازج والزيتون والجزر والقبّار المصبّر (١٤٧). ولهؤلاء دكاكينهم المليئة بالأوعية المصنوعة من الخزف المايورقي ومن أدوات قيمتها أكبر من محتواها من البضاعة. وتباع جرار السمن والعسل بالمزاد ، والمنادون هم حمّالون مختصون يكيلون الزيت عندما يبيعونه بالجملة. واستيعاب هذه الجرار هو مائة وخمسون رطلا ، والخزافون ملتزمون بصنع أوعيتهم على قدر هذا المحتوى بالضبط. ويشتري رعاة المدينة منهم هذه الأوعية ويملئونها ثم يعيدون بيعها في فاس.

وعلى مسافة قريبة يوجد الجزارون الذين يشغلون أربعين دكانا مرتفعة نوعا ما ومبنية على هيأة دكاكين الحرف الأخرى. ويقومون هنا بتقطيع اللحم وبوزنه في الموازين. هذا ولا تذبح الحيوانات في دكاكين الجزارة ، بل في مسلخ يقع بجوار النهر ، حيث يتم سلخها ثم تحمل الى الدكاكين بواسطة حمّالين ملحقين بالمسلخ. ولكن قبل أن يتم نقلها يقتضي الأمر عرضها على رئيس الأمناء ، أي المحتسب ، الذي يتفحصها ويصدر نشرة يكتب عليها السعر الذي يجب ان يباع اللحم بموجبه ، وعلى الجزار أن يلصق هذه النشرة على اللحم بحيث يستطيع كل الناس ان يروها وأن يقرءوها.

ونجد بعد الجزارين سوق الأقمشة الصوفية الغليظة البلدية. ويتألف هذا السوق من مائة دكان. وإذا جلب أحدهم قطعة قماش بقصد بيعها ، عليه أن يعطيها للمنادي الذي يضعها على كتفه ويذهب من دكان لآخر مناديا على الثمن (*). وفي هذا السوق ستون من هؤلاء المنادين. ويبدأ هذا البيع العلني في الظهيرة وينتهي في ساعة متأخرة من المساء. ويتقاضى المنادي بيوكشين (١٤٨) عن كل دينار. ويجني باعة هذا الصنف أرباحا طيبة.

ثم يأتي شاحذو الاسلحة من سيوف وخناجر وحراب ... الخ ، ويقوم بعضهم بصقلها ثم بيعها.

وبعد هذا نجد الصيادين الذين يصطادون أسماكهم من نهر فاس ومن النهر الواقع في ضواحيها وهو نهر سبو وهم يبيعون اسماكا كبيرة وجيدة جدا بثمن متواضع ، أي ثلاثة

__________________

(١٤٧) «أي المحفوظ بالملح أو بالخل ويطلق على الأطعمة المحفوظة في المغرب عبارة الاطعمة المصبّرة» (المترجم).

(*) وهو ما يسمى في المشرق العربي الحراج أو المزاد.

(١٤٨) أي ١٤ سنت ذهب.

٢٤٢

ربعيات (١٤٩) للرطل. والمالوف أن يصاد هنا سمك ممتاز يدعى لكشيا (١٥٠) في روما. ويبدأ الصيد في مطلع تشرين الأول (اكتوبر) وينتهي في نيسان (ابريل) كما سنورده خاصة في معرض كلامنا عن الأنهار.

ويأتي بعد الصيادين صناع أقفاص الدجاج. وتصنع هذه الاقفاص من القصب ، وهنا نجد أربعين دكانا ، لأن كل واحد من سكان المدينة يقتني عددا كبيرا من الدجاج لتسمينها. وحرصا على النظافة لا تترك الدجاجات طليقة في البيت بل تحبس في أقفاص كبيرة.

وعلى مسافة أبعد من ذلك نجد باعة الصابون الذين يبيعون صابونا سائلا. ولا نجد سوى القليل من هذه الدكاكين متجمعة! إذ نجد منها في كل الأحياء. ولا يصنع هذا الصابون في المدينة بل في الجبال المجاورة وينقله الجبليون والبغّالة لبيعه من أصحاب هذه الدكاكين المذكورة.

ونجد بعدهم باعة الدقيق ، والقليل من هذه الدكاكين يكون بحالة تجمع لأننا نجدها مبعثرة في سائر الاحياء. ثم نجد باغة حبوب البذار ، وكذلك بذور الخضار ، ويبيع هؤلاء بعض حبوبهم للتغذية ولكن بكميات زهيدة ، إذ ليس من العادة ان يبيع أحد من أبناء المدينة قمحه. وفي هذا السوق عدد كبير من الذين يشحنون هذا الحب بواسطة بغال أو خيول الحمل. وينقلون عادة كيلين ونصف على ظهر كل حيوان ولكن في ثلاثة عدول الواحد فوق الآخر ، وعليهم ان يكيلوا هذا الحب.

ثم يأتي بعدهم باعة القش الذين يتوزعون في عشر دكاكين. وبعدها نجد السوق الذي تباع فيه خيوط الكتان وحيث يجري تمشيط أليافه. ويقوم هذا السوق في بناء كبير محاط بأربعة أروقة ، في احداها يوجد باعة الأقمشة الكتانية والمستخدمون الذين يزنون الخيوط ، وفي الرواقين الآخرين النسوة اللائي يبعن هذه الخيوط التي تتوافر هنا بمقادير كبيرة. هذا كما يباع الخيط أيضا بواسطة المنادين الذين يتجولون به في السوق. ويبدأ البيع ظهرا وينتهي عند العصر. وتباع كمية كبيرة من هذه الخيوط. وقد زرعت في وسط الساحة بضعة أشجار توت لنشر الظل. ويقصد الناس احيانا هذا السوق بغية التسلية ،

__________________

(١٤٩) أو كواتريني ويعادل ١٠ قروش أو سنتيم.

(١٥٠) أي الشبوط.

٢٤٣

ولا يمكن الخروج منه إلا بجهد جهيد بسبب كثرة النسوة اللواتي يذهبن إليه وكثيرا ما ينشب الخصام بين النسوة وينتقلن من تبادل السباب الى تبادل اللكمات ويتلفظن بأقبح الشتائم في الدنيا مما يثير الضحك لدى الحاضرين.

ولنعد الآن الى الجزء الغربي ، أي الى القسم الذي يمتد من جوار الجامع حتى الباب المؤدي لطريق مكناس.

وبعد سوق الدخان ، وذلك بالسير على خط مستقيم ، نجد صناع الدلاء الجلدية التي تستعمل في البيوت المحتوية على آبار ، ويشغلون قرابة أربعة عشر دكانا ، ثم يأتي أولئك الذين يصنعون الاوعية اللازمة لخزن الدقيق والقمح ، ولهم ثلاثون دكانا. وبعد ذلك نشاهد الاسكافيين وبعض الحذائين الذين يصنعون أحذية غليظة للفلاحين ولفقراء العامة ، ويشغل هؤلاء مائة وخمسين دكانا. ثم يأتي صناع التروس والمجنات الجلدية حسب الطراز الافريقي ، والتي نرى بعضها في أوروبا. ومن ثم يأتي الذين يغسلون الثياب وهم من فقراء الناس ، ولديهم دكاكين تثبت فيها أوعية كبيرة كالحلل أو الدسوت. ويفد اليهم الذين ليس لديهم خادمات في بيوتهم ، فيعطونهم القمصان والملاءات والألبسة الأخرى لغسلها ، ويقوم هؤلاء الرجال بتنظيفها بعناية كبيرة ثم ينشرونها على الحبال لتجفيفها ، كما هو مألوف في إيطاليا ، ثم يثنونها بمهارة. وبذلك يجعلون الغسيل نقيا جدا وناصع البياض بحيث لا يستطيع صاحبه التعرف عليه الا بصعوبة. وهكذا نجد هنا حوالي عشرين دكانا لهؤلاء ، ولكن يوجد بين كل الشوارع وبعض الاسواق الصغيرة اكثر من مائتين من دكاكينهم.

ونرى بعدئذ صناع هياكل سروج الخيل ولهؤلاء عدة دكاكين في الحي الواقع إلى الغرب ، باتجاه مدرسة الملك أبي عنان. ثم يأتي الحرفيون الذين يعملون في زخرفة الركابات والمهاميز والقطع المعدنية في اللجامات ويشغلون أربعين دكانا. وينجز هؤلاء أعمالا فنية مدهشة ، ولربما رأى أحدكم بعض هذه الأشياء في إيطاليا أو في أي بلد نصراني آخر. وبعدهم يأتي الحدادون الذين لا يصنعون سوى الركابات واللجامات والقطع المعدنية التي تدخل في كسوة الخيول وجهازها ، وبعد مسافة قصيرة نجد صناع جلود السروج الذين يصنعون لكل سرج ثلاث زوائد جلدية توضع بعضها فوق بعض ، وتكون الوسطى أكثرها رونقا ، والسفلى أقل جمالا ، والثلاث من الجلد القرطبي وصناعة هؤلاء السراجين دقيقة متقنة ، ولها نظائر في ايطاليا والبلاد المسيحية الاخرى. ولهؤلاء مائة

٢٤٤

دكان. ثم نجد صناع الرماح ومصانعهم فسيحة نوعا ما كي يمكن صنع رماح طويلة في داخلها.

وبعد ذلك تظهر القصبة التي تتميز بشارع بديع جدا يمتد من الباب الغربي حتى قصر كبير فسيح تقطن فيه أخت الملك أو احد أقاربه. ويلاحظ أن وصف الأسواق هذا يبدأ من الجامع الكبير. وقد تكلمت عن تلك التي تطيف به مرجئا الكلام عن سوق التجار لآخر الحديث كيلا أقطع ترتيب هذا الوصف.

سوق التّجّار

هذا السوق هو نوع من مدينة صغيرة محاطة بجدران تحتوي على اثني عشر بابا تنفتح فيها. ويعترض مدخل كل باب سلسلة كيلا تتمكن الخيول والحيوانات الأخرى من الدخول اليه. وينقسم هذا السوق الى خمسة عشر حيا منها اثنان مخصصان للحذائين الذين يصنعون أحذية الوجهاء. ولا يستطيع التجار ولا الجنود ولا رجال البلاط أن ينتعلوا من هذا النوع ومن هذا المستوى في جمال الصنعة. وهناك حيان آخران معدان لتجار الاقمشة الحريرية. ويبيع بعض هؤلاء الشرطان و «الشراريب» لكسوة الخيول والتزيينات الاخرى من هذا النوع ويشغل هؤلاء خمسين دكانا ويبيع الآخرون الحرير الملون لتطريز القمصان والوسائد ... الخ. ولهؤلاء تقريبا نفس العدد من الدكاكين.

ونجد بعد هؤلاء الباعة صناع النطاقات النسائية هذه النطاقات الصوفية الضخمة والقبيحة. ويعمل بعض الصناع نطاقات من حرير ، هي قبيحة كذلك ، لأنها مصنوعة من ضفائر ثخنية بحجم إصبعي اليد ويمكن استخدامها بسهولة لربط قارب.

وبعد هذه الاحياء يوجد حيان يشغلهما باعة الاقمشة الصوفية ، وهي أقمشة من صنع أوربي وكل هؤلاء الباعة من الغرناطيين. وتباع هنا ايضا اقمشة من الحرير وقلانس من حرير القز ايضا. وعلى مسافة أبعد نجد أولئك الذين يصنعون الفرش ، والوسائد الصيفية وبعض الزرابي الجلدية الصغيرة.

ثم يأتي مكتب المكاسين (الذين يتدخلون في بيع الاقمشة السابق ذكرها). وذلك ان هذه الاقمشة تباع بالمزاد العلني. ويحمل الاشخاص الذين يقومون بذلك هذه

٢٤٥

الاقمشة الى موظفي الضريبة (١٥١) كي يبصموها ، ثم يباشروا المناداة امام حوانيت الباعة. ويوجد حوالي ستين مناد ، والرسم هو بيوكشي على كل قطعة جوخ.

وعلى مسافة أبعد من ذلك نجد الخياطين الذين يشغلون ثلاثة أحياء ثم يأتي الحي الذي يعمل فيه العمال الذين يخيطون شريطا للقماش الذي يستخدم عمامة للرأس.

وبعد ذلك حيان آخران يعمل فيهما باعة الاقمشة الكتانية وباعة القمصان والاقمشة النسائية وهنا نجد أغنى تجار فاس لأن مبيعاتهم اكثر من الآخرين مجتمعين.

وفيما وراء ذلك ، وفي حي آخر ، يجري تفصيل ما يوضع على حواشي البرانس وأزرارها المضفورة من زخرف وزينة. ثم يأتي حي تباع فيه ألبسة مصنوعة من قماش صوفي مستورد من أوربا ، والعادة أن ينادى على هذه الألبسة الصوفية في كل أمسية. وأقصد هنا الألبسة المستعملة التي يأتي بها أهل المدينة ويبيعونها بعد أن تصبح رثة بالية أو لأي سبب آخر.

وأخيرا هناك حي يباع فيه أقمشة أخرى مستعملة من قمصان عتيقة كتانية وأغطية ومناشف ... وهلم جرا. وبالقرب من هذا المكان توجد بعض الدكاكين الصغيرة حيث يباع فيها بالمزاد الزرابي وأغطية السرر.

لحة عن إسم الشوارع الملقبة بالقيصريات والمسماة كذلك نسبة إلى قيصر

تدعى كل هذه الشوارع قيصريات ، وهو اسم مشتق من قيصر. وقد كان هذا أكبر ملك في عصره ، في أوربا. وكانت كل مدن الساحل الموريتاني تحت حكم الرومان ، ثم من قبل القوط. وفي كل مدينة من هذه المدن يوجد سوق يحمل اسمه. ويفسره المؤرخون الأفارقة على الصورة التالية : كان الموظفون الرومان والقوط يعمدون إلى بعثرة الفنادق والمخازن في المدينة ، هنا وهنالك ، حيث كانوا يخزنون فيها ما يجبونه من المدينة من ضرائب وعوائد. وكانت تتعرض هذه المخازن إلى النهب على أيدي السكان المحليين. وهكذا خطر ببال الامبراطور أن يقيم في داخل كل مدينة نوعا من مدينة صغيرة يجتمع فيها التجار ، الذين هم على قدر معين من الأهمية ، إلى جانب بضائعهم. ويقوم بجانبهم موظفو الجباية بتخزين كل ما جبوه. وبذلك يكونون على يقين من أن أهل المدينة إذا ما

__________________

(١٥١) أي الرسوم التجارية.

٢٤٦

أرادوا الذبّ عن ثرواثهم الخاصة فإن عليهم أيضا الدفاع عن ثروة الامبراطورية وصيانتها. فهم لن يغضوا النظر عن النهب إلا إذا كان على حسابهم هم أيضا (وذلك أن الناهبين لن يقتصروا على نهب ثروة الامبراطور فحسب ، بل سينهبون كذلك ثروات هؤلاء التجار). كما لوحظ ذلك في العديد من المرات في إيطاليا حيث كان الجنود الذين يحاربون لمصلحة حزب ما يقومون بنهب ممتلكات الخصم عند ما يدخلون مدينة مفتوحة ، ثم يعمدون لنهب بيوت أصدقائهم عند ما لا تكون الغنائم المأخوذة من العدو كافية لهم.

العطارون وأرباب المهن الأخرى

ويقوم إلى جانب تلك القيصرية ، وإلى الشمال منها ، سوق العطارين. ويشغل هؤلاء شارعا ضيقا حيث يوجد زهاء مائة وخمسين دكانا ، وينغلق هذا السوق ، من نهايته ، ببابين جميلين لا يقل جمالهما عن متانتهما. ويتعهد العطارون بنفقات حراس مسلحين يتجولون ليلا مع فوانيس وكلاب. وهنا يجري بيع منتجات العطارة والطب ، ولكن لا تستحضر هنا المواد الطبية من شراب أو مرهم أو لعوق. وذلك لأن الأطباء يعدون ذلك في بيوتهم ويرسلونها لدكاكينهم حيث يصرفها مستخدموهم بناء على وصفة طبية. وتتجاور أكثرية دكاكين الأطباء هذه مع دكاكين العطارين. ولكن غالبية السكان لا تعرف الطب ولا الأطباء. وللعطارين دكاكين غاية في الزينة مع سقوف جميلة جدا وخزائن ، ولا أعتقد أن في كل العالم قاطبة سوق عطارين مماثل لهذا. صحيح أنني قد رأيت سوقا كبيرة جدا للعطارين في طوريس ، وهي مدينة في فاس ، ولكن دكاكينها عبارة عن أروقة شبه مظلمة مع أنها مبنية بأناقة مع أعمدة من الرخام ، على حين أن سوق فاس قد اجتمع فيه الجمال والإنارة معا. وبعد سوق العطارين يأتي صناع الأمشاط المصنوعة من خشب البقص أو من خشب آخر سبق لنا الكلام عنه.

وإلى جانب سوق العطارين ، من الشرق ، تنتشر صناعة الإبر التي يعمل صناعها في خمسين دكانا. وبعدهم تأتي دكاكين الخراطين ، وهم قليلو العدد إذ ينتشر عدد منهم بين مختلف أهل المهن. ثم تأتي بضعة دكاكين أخرى للطحانين والصبانين وباعة المكانس والتي تتاخم سوق العقادين. ولا يزيد هؤلاء عن العشرين عددا لأن بعضهم في أمكنة أخرى ، كما سنذكره. ونجد بين باعة القطن وباعة الخضر أولئك الذين يصنعون أغطية السرر وكذلك زينات الخيام. وإلى القرب من هؤلاء يوجد باعة آخرون يبيعون الطيور

٢٤٧

الصالحة للأكل والعصافير المغردة ، ولكن لا يشغل هؤلاء سوى القليل من الدكاكين. ويطلق على هذا المكان سوق العصافيرية. ويباع حاليا في معظم هذه الدكاكين حبال القنب والخيوط ، ثم يجيء صناع «القباقيب» التي يحتذيها الأشراف عند ما تكون الطرق وحلية. وهذه القباقيب جيدة الصنعة جدا مع تزيينات ونعل من حديد فضلا عن سير جلدي مطرز بالحرير. ولا يستطيع أفقر وجيه أن يلبس زوجا منها تقل قيمته عن دينار ، ومنها ما يصل سعره إلى دينارين وبعضها يساوي عشرة وحتى خمسة وعشرين دينارا. وتصنع هذه القباقيب عادة من خشب التوت الأسود أو الأبيض ، ولكن يصنع بعضها من خشب الجوز ومن شجر البرتقال أو العناب. وتكون القباقيب المصنوعة من نوعي الخشب الأخيرين أكثر جمالا وأناقة ولكن قباقيب التوت تدوم مدة أطول.

ويأتي بعد ذلك صناع راشقات السهام وهم بعض مسلمي أسبانيا. ولا يتجاوز عدد دكاكينهم العشرة. وبعد ذلك تأتي خمسون دكانا لصناع المكانس الذين يصنعونها من سعف نخيل الدوم كتلك المكانس التي تصدر من صقلية إلى روما. ويحمل هؤلاء مكانسهم إلى المدينة في سلال كبيرة ويبادلونها بالنخالة ، أو بالرماد أو ببعض الأحذية القديمة المثقوبة. وتباع النخالة للبقّارة ، والرماد لقصّاري الخيوط ، أما الأحذية القديمة فيشتريها الإسكافيون. وخلف هؤلاء نجد الحدادين الذين لا يصنعون سوى المسامير ، ونجد بعدئذ العمال الذين يصنعون أوعية كبيرة خشبية لها شكل سطول ، ولكن سعتها برميل (١٥٢) ، ويصنعون أيضا مكاييل الحب ، والتي يتحقق منها الأمين مقابل ربعية (١٥٣) عن كل كيل.

وبعدئذ يأتي باعة الصوف الذين يشترون جلود الخراف من الجزارين ، ولهم عمال يغسلونها ويكشطون صوفها ويدبغونها. ولكنهم لا يعالجون سوى جلود الضأن. أما جلود الماعز والثيران فتدبغ في مكان آخر. تلك هي مهنة خاصة.

ثم يأتي بعد ذلك الصناع الذين يصنعون القفاف والقيود لربط قوائم الخيل حسب العادة في إفريقيا. وتتاخم دكاكين صناع النحاس. وإلى جوار صناع المكاييل نجد صناع آلات حلج الكتان والصوف. وفيما وراء ذلك يقع السوق الكبير حيث نجد أناسا من

__________________

(١٥٢) ٣٤ ، ٥٨ لتر.

(١٥٣) أو ثلاثة سنتات من الذهب.

٢٤٨

مختلف المهن. ومن بين هؤلاء يوجد بعض العاملين في برد الأشياء الحديدية ، كالركابات والمهاميز ، إذ ليس من عادة الحدادين برد مصنوعاتهم بالمبرد. ويتلوهم العمال الحرفيون الذين يشتغلون بالاخشاب ولكنهم لا يصنعون سوى أشياء كبيرة كالمحاريث وعرائش العربات ودواليب الطواحين وأدوات عادية أخرى.

ثم يأتي الصباغون الذين هم جميعا بجوار النهر. وفي سوقهم بركة كبيرة بديعة جدا يغسلون فيها غزل الحرير. ويجيء بعدهم البياطرة الذين يحذون الخيول والحيوانات الأخرى. وأبعد من ذلك نجد الصناع الذين يثبتون أقواس الفولاذ على راشقات السهام. وأخيرا نجد العمال الذين يصقلون الأقمشة الكتانية. وهنا تنتهي أسواق قسم من المدينة ، أي تلك التي تقع في الغرب. وكان هذا الجزء فيما مضى من الزمن ، كما سبق أن ذكرنا ، مدينة قائمة بذاتها ، أنشئت بعد الأخرى ، أي بعد تلك التي تقع على الجانب الآخر من النهر ، أي إلى الشرق (١٥٤).

القسم الثاني من مدينة فاس

هذا ويكون الجزء الشرقي من المدينة متحضرا جدا كذلك. ففيه أبنية جميلة ، ومدارس وجوامع. ولكنه لا يحتوي في الواقع مثل القسم السابق على مختلف طوائف المهن. فلا نجد فيه مثلا نجارين ولا خياطين ولا حذائين باستثناء بعض باعة القماش الصوفي والأشياء الغليظة. وفيه سوق صغيرة للعطارة لا تضم سوى ثلاثين دكانا. ويوجد بجوار سور المدينة صناع القرميد وأفران الخزافين (١٥٥) ، ونجد تحت هؤلاء سوقا كبيرة تباع فيها

__________________

(١٥٤) لقد تأسست الأولى ، التي تسمى اليوم المدينة ، في عهد ادريس بن ادريس في عام ١٩٣ ه‍ / ٨٠٩ م وكانت تدعى العالية ، والتي اتخذت اسم مدينة القرويين بسبب اعمارها بثلاثمائة اسرة من القيروان الذين قدموا اليها ليستوطنوها بعد تأسيسها بقليل. أما الثانية التي يظن ان ادريس بن عبد الله هو الذي أنشأها ، فقد بدأ إنشاؤها من خريف ١٧٣ ه‍ / ٧٩٨ م تحت اسم مدينة فاس ، فقد اشتهرت باسم عدوة الأندلسيين ، بعد أن وفد إليها واستقر فيها اربعمائة اسرة أجليت عن قرطبة بعد الثورة الدامية التي اطلق عليها «ثورة الربض Revolte du faubourg» والتي حدثت عام ٢٠٢ ه‍ / ٨١٧ ـ ٨١٨ م. وبعد ان تلاحمت المدينتان في مدينة واحدة على اثر فتح المرابطين لها في عام ١٠٧٠ م ، لم يعد هناك تمييز بين عدوة القرويين وعدوة الاندلسيين. ولكن منذ بضعة قرون احتفظت الاخيرة باسم العدوة ولا يزال جامعها الكبير يحمل اسم جامع الاندلسيين ، مثلما احتفظ جامع الضفة الاخرى باسم جامع القرويين : ذاك هو وصف العدوة الذي سيأتي بعد قليل.

(١٥٥) ولا يزال هؤلاء متجمعين فيه بجوار باب الفتوح.

٢٤٩

الفخاريات البيضاء ، أي غير المطلية ، كالقصعات والصحاف والقدور .. الخ. ونصادف بعد ذلك ساحة تقوم فيها مخازن لتجارة الحب (١٥٦) ، وهناك سوق أخرى تقع تماما في مواجهة باب الجامع الكبير (١٥٧) ، وهي مبلطة بالقرميد. تلك هي مختلف الأسواق المخصصة للمهن التي تكلمنا عنها ، ولكن توجد بعد ذلك دكاكين مبعثرة في هذا القسم من المدينة ، ومنفصل بعضها عن بعض ، باستثناء دكاكين باعة الأقمشة الصوفية والعطارين التي لا تكون إلا متجمعة في أمكنة متميزة.

* * *

ويوجد في فاس مائة وعشرون مؤسسة للنساجين. وهذه المصانع عبارة عن أبنية كبيرة مؤلفة من عدة أدوار مع قاعات فسيحة ، كقاعات القصور وتحوي كل قاعة عددا كبيرا من عمال نسج الكتان والقنب. وليس لدى مالكي هذه الابنية أي أدوات ، لأن معلمي النسيج هم الذين يملكونها ولا يدفعون سوى إجارة القاعات. تلك هي الصناعة الرئيسية في فاس. ويقال انها تكفل العمل لعشرين ألف عامل ومثل عددهم من الذين يعملون في الطواحين.

هذا ومن جهة أخرى يوجد مائة وخمسون مصنعا لقصاري الخيوط ويقوم معظمها قرب النهر وتتجهز هذه المصانع بالكثير من المراجل والخوابي المبنية لغلي الخيوط ولحاجات مهنية اخرى.

ونعثر في المدينة على بعض المستودعات الكبرى التي تنشر فيها الاخشاب المختلفة الأنواع ، ويقوم بهذا العمل رقيق النصارى الذين يقدم لهم مواليهم ما يعتاشون به بدلا عن الدراهم التي يستحقونها. ولا يمنحهم هؤلاء وقتا للراحة إلا نصف يوم الجمعة ، من الظهر حتى المساء ، فضلا عن ثمانية أيام موزعة على مختلف فترات السنة ، أي في أعياد المسلمين.

ويوجد أيضا بيوت عامة تمارس فيها البغايا مهنتهن بثمن بخس. وتستمد هؤلاء النسوة حمايتهن من قبل مفوض الشرطة أو من قبل حاكم المدينة.

__________________

(١٥٦) وتسمى الخانات في حلب ، والبوايك او البايكات في دمشق.

(١٥٧) أي جامع الاندلسيين.

٢٥٠

ويمارس بعض الرجال ، دون أن يخجل من ذلك بلاط الملك ، مهنة «التباغين» (نسبة الى التبغ). فلديهم نساء ساقطات في بيوتهم وخمر للبيع ويستطيع أي شخص أن يستمتع بذلك بكل طمأنينة (١٥٨).

وقد أحصي في فاس ستمائة نبع ، وهي عيون طبيعية أحيطت بسياجات من حجر مع أبواب تحفظها مغلقة. وتتوزع ماء هذه الينابيع في مختلف الحاجات ويساق إلى البيوت والى الجوامع والمدارس والفنادق. وهذا الماء مرغوب فيه اكثر من ماء النهر ، لأن ماء هذا النهر ينقطع احيانا ، ولا سيما في الصيف. أضف إلى ذلك انه عند ما يقتضي الأمر تنظيف القنوات يجب عندئذ تحويل مجرى النهر خارج المدينة. ولهذا اعتاد سائر الناس استعمال ماء العين. وعلى الرغم من توافر ماء النهر في بيوت الوجهاء فهم يجلبون الى منازلهم مياه العيون لأنها أكثر برودة وعذوبة ، ولكنهم يفعلون العكس في الشتاء. وتقع اكثرية هذه الينابيع في غرب المدينة وفي جنوبها ، لأن كل القسم الواقع في اتجاه الشمال هو في الجبل المؤلف من صخر كلسي. وهنا توجد جباب عميقة يحفظ فيها الحب لمدة بضع سنين ويعيش سكان هذه البقعة ، وهم من فقراء الناس ، من تأجير هذه العنابر ، وتقدر الأجرة

__________________

(١٥٨) من غير المحتمل انه يقصد بذلك امكنة تدخين التبغ. ولكن المؤلف استعار عبارة التبغ للاشارة الى مكان كان يدخل الناس فيه غالبا الكيف وهو الحشيش ، لا سيما وان التبغ لم يكن بالتأكيد قد شاع استعماله في المغرب في أيام الوزان. والتبغ الذي استوردته أوربا من أمريكا لم ينتشر تدخينه إلا بين أوائل الأوربيين الذين عاشوا في أمريكا ، وشاع في أوربا في النصف الثاني من القرن السادس عشر. أما بالنسبة للمغرب فلدينا نص يشير الى وصوله للمغرب ، وهو بقلم الأوفراني ، في كتابه «تاريخ الاسرة السعدية في المغرب» وذلك إذ يقول : «في شهر رمضان ١٠٠٧ ه‍ / آذار / نيسان (مارس ـ ابريل) ١٥٩٩ م ، وصل الفيل الى فاس ، وقد جيء به من السودان سنة ١٠٠١ ه‍ ، أو ٨ تشرين الأول (اكتوبر) ١٥٩٢ ـ ٢٧ أيلول (سبتمبر) ١٥٩٣ م ، ويدعى بعض المؤلفين انه على أثر وصول هذا الحيوان دخل استعمال هذا النبات الخبيث ، المسمى التبغ الى المغرب ، فالزنوج الذين كانوا يقودون الفيل جلبوا معهم التبغ الذي كانوا يتعاطون تدخينه ويدعون ان استعماله يجلب لهم الكثير من الفوائد. وشاعت عادة التدخين التي أدخلوها اولا في منطقة الدرعة ثم في مملكة مراكش واخيرا في سائر الغرب». ومن ناحية اخرى يقول محمود كاتي في كتابه «تاريخ الفتاش» elFettach (لعلها الفتح) (ترجمةM.Delafosse et O.Houdas باريس ـ الناشرLeroux سنة ١٩١٣ ص ٣٢٠ : «في عهد القائد المنصور أي في عام ١٥٩٤ ـ ١٥٩٦ م» ظهر التبغ في السودان حيث انتشرت عادة تعاطيه ومن المؤكد أن التبغ جاء الى المغرب عن طريق اسبانيا وعرفه سكان تومبكوتو عن طريق المغاربة ، من نصارى اعتنقوا الاسلام وسواهم. والتاريخ المتأخر الذي يشير إليه الافراني وهو ١٥٩٩ والذي لا يعتمد إلا على رأي غير مؤكد ، ويتناقض مع رأي محمود الكاتي ، يستبعد كذلك الفكرة القائلة بأن التبغ كان شائعا في المغرب في العصر الذي كان فيه الحسن الوزان.

(ولد الحسن الوزان حوالي سنة ١٤٨٩ أي قبل التاريخين اللذين يذكرهما الأوفراني ومحمود الكاتي بأكثر من مائة سنة) (المراجع).

٢٥١

السنوية بكيل واحد عن كل مائة كيل تحفظ في الصومعة.

وفي القسم الجنوبي من المدينة ، الذي يكاد يكون غير مسكون ، يقع الكثير من الحدائق ، المليئة بأشجار مثمرة متنوعة وممتازة ، مثل أشجار البرتقال والليمون والأترج وكذلك الزهور الجميلة ، من بينها الياسمين وورود دمشق والرتم المستورد من أوربا وهو مرغوب جدا لدى مسلمي الأندلس. وتحفل هذه البساتين بقصور جميلة وبرك ماء وحنفيات ، وتحاط البرك بالياسمين وبالورود وبأشجار البرتقال. وعند ما يمر الانسان ، في فصل الربيع ، من جوار هذه الرياض يشم أعطر شذى ينبعث من كل جانب ولا يكاد يشبع نظر الإنسان من متعة جمالها وملاحتها ، وتشبه كل روضة من هذه الرياض جنة أرضية. ولهذا كان من عادة الوجهاء الإقامة فيها ابتداء من مطلع شهر نيسان (ابريل) حتى آخر ايلول (سبتمبر).

ويظهر في القسم الغربي من المدينة التي يتاخم المدينة الملكية (١٥٩) الحصن الذي تم بناؤه في عهد ملوك لمتونة (١٦٠) ومساحته تكاد تكون مساحة مدينة. وكان هذا في الماضي مقر سكن حكام فاس وأمرائها قبل ان تصبح هذه المدينة عاصمة المملكة. ومنذ أن بنيت مدينة فاس الجديدة على يد ملوك بني مرين (١٦١) لم تعد القصبة أكثر من مسكن للحاكم. وفي القصبة جامع صغير شيد في العصر الذي كانت القصبة فيه كثيرة السكان (١٦٢). وفي أيامنا بادت كل القصور التي كانت فيها وتحولت أرضها إلى بساتين. ولم يبق منها سوى قصر واحد يسكنه الحاكم وبعض الابنية الاخرى لأسرته. وتضم ايضا سجنا شيد على شكل كهف ، وسقفه عبارة عن عقد مستند على أعمدة عديدة ، وهو فسيح جدا حتى إنه يستوعب ثلاثة آلاف شخص. وليس فيه أية حجرة منفصلة أو سرية ، إذ ليس من المألوف في فاس وضع إنسان في حجرة انفرادية أي «زنزانة». ويخترق القصبة جدول لحاجات الحاكم ومتعته (١٦٣).

__________________

(١٥٩) أي فاس الجديدة.

(١٦٠) أي قصبة المرابطين.

(١٦١) بناها أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المنصور سنة ١٢٧٦ م.

(١٦٢) وهو جامع ابن الجلود الحالي.

(١٦٣) كانت القصبة تشغل المكان الحالي لقصبة بوجلود ومدرسة مولاي إدريس وقسم من رياض بوجلود. واستنادا الى رواية دييجو دو طريش Diego de Torres لم يكن هناك أكثر من رمية سهم بين سورها وسور مدينة فاس الجديدة ، الذي لا تزال أطلاله باقية ، وأن فرع وادي فاس لا يزال يجتاز البساتين المذكورة.

٢٥٢

القضاة وأساليب إدارة العدالة والفصل فيها وطراز اللباس (*)

لا تحوي فاس سوى بعض صغار الضباط الوزاريين وبعض القضاة القائمين على شئون العدالة. وللحاكم صلاحية البت في القضايا المدنية والجنائية. وهناك قاض مكلف بتطبيق الأحكام الشرعية أي الأحكام المستمدة من الكتب الفقهية الإسلامية. وهناك قاض آخر ، وهو إلى حد ما عبارة عن نائب للقاضي ، يهتم بمسائل الزواج والطلاق وكذلك بالتثبت من أقوال الشهود ، غير أنه مؤهل أيضا للاطلاع على كل القضايا المتعلقة بهذه الأحكام ، ثم يأتي المحامي العمومي الذي يؤخذ رأيه في المسائل القانونية التي يجري استئنافها أمام القضاء ، وفي القضايا التي يكون القضاة قد أخطأوا في إصدار أحكامها ، أو يكونون قد أصدروا أحكامهم فيها بناء على رأي ضعيف منسوب لفقيه لا يرقى إلى مستوى كبار الفقهاء.

ويستفيد الحاكم من مبالغ هامة للغاية بسبب الغرامات التي تفرض في القضايا. وربما كانت أشد عقوبة مفروضة على المتهم هي الجلد بحضرة الحاكم ، وتتألف من مائة أو مائتي سوط أو أكثر. ويقوم السياف بعد الجلد بوضع سلسلة في عنق المجرم ويطوف به في المدينة عاريا إلا ما يستر عورته التي تكون مغطاة بسروال قصير. ويرافقه مفوض الشرطة ، في حين لا يكف الجلاد عن الإعلان عن نوع الذنب الذي اقترفه المجرم. ثم يعيد إليه ثيابه ويقوده للسجن. وقد يحدث أن يعرض عدة محكومين مصفوفين سوية على الجمهور في الشارع ، ويتقاضى الحاكم دينارا ونصف عن كل محكوم. وفضلا عن ذلك له الحق أن يتقاضى عن كل سجين رسما معينا يدفع له بشكل خاص من قبل بعض الباعة والصناع المعينين لهذه الغاية. ومن بين العوائد التي ينالها الحاكم إيراد جبل يستمد منه مبلغ ألف دينار في السنة ، ولكن عليه لقاء ذلك أن يقدم ثلاثمائة فارس للملك في حالة الحرب ، وعليه يقع عبء معيشة هؤلاء ما دامت الحرب قائمة.

أما حكام القضاء الشرعي فلا يتقاضون أي أجر او تعويض لأن هذا محظور في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يحق للقاضي ان ينال أي مرتب كان لقاء قيامه بهذا الواجب.

ولكنهم يعيشون من موارد أخرى ، فهم أساتذة أو أئمة في بعض الجوامع. وكذلك الحال بالنسبة للمحامين والوكلاء الذين هم أشخاص جهلة وتافهون. ولدى الحكام مكان

٢٥٣

يسجنون فيه المدنيين أو مرتكبي المخالفات الخفيفة القليلة الأهمية.

وفي فاس أربعة فقط من مفوضي شرطة ، ويقومون بدوريات بين منتصف الليل والساعة الثانية صباحا. ولا يتقاضى هؤلاء أي أجر سوى نتاج رسم يفرضونه على الأشخاص المقبوض عليهم ، وهو رسم محسوب على أساس مدة السجن وطبيعة العقاب المفروض عليهم. ولكن يستطيع هؤلاء المفوضون أن يديروا ماخورا ، وأن يمارسوا مهنة «التباغين» أو مهنة القوادين وحماة البغايا. هذا وليس لدى الحاكم قاض ولا كاتب ضبط ، بل يلفظ أحكامه بصوت عال كما يروق له.

ولا يوجد سوى موظف واحد يدير الجمرك ويجبي الرسوم التجارية ويؤدي ثلاثين دينارا في اليوم للخزينة الملكية. ويقوم هذا بوضع حراس وكتبة عند كل باب من أبواب المدينة ، ويتقاضى على كل السلع القليلة القيمة رسوما تجبى عند الأبواب ، أما السلع الأخرى فتساق إلى مكتب الجمرك مصحوبة بحارس. ويتقاضى الحراس والكتبة مرتبا يقدر بحسب مقادير البضائع. ويذهب هؤلاء الحراس أحيانا إلى خارج المدينة لملاقاة البغالة كيلا يعمد هؤلاء لتهريب بعض الأشياء من دفع الرسوم. وإذا أخفوا شيئا دفعوا ضريبة الجمرك مضاعفة. وتبلغ الرسوم العادية دينارين عن كل ما قيمته مائة دينار ، لكن فيما يتعلق بثمار الزعرور ، التي تجلب منها كميات كبيرة ، فيصل رسمها إلى ربع قيمتها. ولا يدفع أي رسم عن القمح والخشب والأبقار والدجاج. هذا كما لا يؤخذ شيء كرسم تجاري ، عند الأبواب ، عن الأغنام المجلوبة إلى فاس ، ولكن يدفع عن كل خروف ، في المسلخ ، رسما مقداره درهمان فضلا عن درهم واحد للحاكم (١٦٤) الذي هو رئيس الأمناء ، وكثيرا ما يتجول هذا الموظف في المدينة على ظهر جواده مخفورا باثني عشر من رجال الشرطة لمراقبة الخبز ووزن اللحوم وسائر ما يبيعه الجزارون. وإذا لم يجد الوزن المطلوب قام بتفتيته إلى قطع صغيرة ويلطم الخباز لكمة على قفاه تتركها متورمة موجعة ، وفي حالة تكرار المخالفة يجلد البائع على ملأ من الناس.

ويعهد الملك بهذه الوظيفة ، أي المحتسب ، للوجهاء الذين يرغبون فيها. وبعد أن كان يعهد بها في الماضي لرجال أكفاء من ذوي السمعة الطيبة ، أصبح الملوك في أيامنا يعهدون بها لأناس عاديين.

__________________

(١٦٤) أي المحتسب.

٢٥٤

وسكان فاس ، وأقصد بذلك النبلاء ، هم أناس محترمون حقا : ففي الشتاء يتسربلون بثياب من جوخ أوربية المنشأ. ويتألف لباسهم من سترة (١٦٥) ضيقة ملتصقة بالجسم ، لها نصف أكمام ، تمرر من فوق القميص ويلبسون فوق تلك السترة ثوبا عريضا مخاطا من الأمام ، يضعون البرنس فوقه. ويضعون على رءوسهم قلنسوة كالتي يلبسها بعض الناس في إيطاليا في الليل ، ولكن بدون ما يغطي الأذنين. ويلفون فوق تلك القلنسوة عمامة من قماش تطوى مرتين حول الجمجمة وتمر من تحت اللحية. ولا يلبسون جوارب في أقدامهم ولا يضعون غطاء فوق الحذاء ، بل يلبسون سروالا من الكتان. ويضعون في أقدامهم خفا عندما يمتطون جيادهم شتاء. أما عامة الشعب فيلبسون سترة وبرنسا ، ولكن بدون الثوب الذي تكلمنا عنه ولا يضعون فوق رءوسهم سوى تلك القلنسوة العديمة القيمة.

ومن عادة العلماء والأشراف المتقدمين في السن لبس سترات عريضة الأكمام ، كأشراف البندقية الذين يشغلون أسمى المناصب. وأخيرا فإن عامة الشعب الفقراء تكتسي بقماش أبيض ، منسوج من صوف بلدي خشن وبرانسهم من نفس القماش.

وللنساء هندام حسن جدا ، ولكن لا يلبسن في الطقس الحار سوى قميص يطوقنه بزنار قبيح نوعا ما. ويلبسن في الشتاء ثيابا عريضة الأكمام ، مخاطة من الأمام كأثواب الرجال. ويلبسن ، عندما يخرجن من بيوتهن ، سراويل طويلة جدا تغطي كل أرجلهن وخمارا من طراز نساء بلاد الشام يغطي الرأس وسائر الجسم. ويتغطّى الوجه بقطعة قماش كتاني بحيث لا يبقى منه مكشوفا سوى العينين. ويضعن في آذانهن حلقات ذهبية كبيرة مرصعة بحجارة كريمة بديعة جدا. ويضعن أساور ذهبية في معاصمهن ، يمكن أن تزن مائة دينار (١٦٦). أما النساء من غير النبلاء فيلبسن أساور من فضة ويضعن مثلها في أرجلهن.

العادات المتعلقة بالغذاء

من عادة سواد الشعب ، فيما يتعلق بغذائهم ، تناول اللحم الطازج مرتين في

__________________

(١٦٥) «أو جاكيت أو كوت» (المترجم).

(١٦٦) مائة مثقال أو ٣٥٠ جراما تقريبا.

٢٥٥

الأسبوع. ولكن الأشراف يتناولون اللحم مرتين في اليوم حسب شهيتهم. وهناك ثلاث وجبات يومية. فوجبة الصباح خفيفة جدا تتألف من الخبز والثمار ومن حساء من دقيق القمح مائع تقريبا. أما في الشتاء فيتناولون ، بدل الحساء ، شوربة القمح المطبوخة مع اللحم المملح. وعند الظهيرة تؤكل أيضا أطعمة خفيفة كالخبز والسلطة والجبن أو الزيتون. ولكن في الصيف تكون هذه الوجبة أكثر تغذية. وفي المساء ، يأكلون نفس الأشياء الخفيفة ، أي الخبز مع البطيخ أو مع العنب أو مع الحليب. ويتناولون في الشتاء اللحم المسلوق مع وجبة تدعى الكسكسي ، التي تصنع من عجينة تحول إلى حبيبات من حجم حبة الكزبرة ، ثم تطبخ هذه الحبيبات في قدر مثقوب يتلقى بخارا من قدر آخر في أسفله (١٦٧). ويضاف لهذه العجينة ، بعد نضجها ، السمن ثم تسقى بالمواد المغلية مع اللحم. وليس من عادتهم أكل اللحم المقلي. تلك هي طريقة معيشة عامة الشعب. أما كبار الشخصيات ، كالشرفاء المتقدمين في السن ، والتجار ورجال الحاشية ، فيعيشون بصورة أفضل من ذلك وأكثر ترفا. ولكن تبدو طريقة الأفارقة بائسة حقا ، بالموازنة مع أسلوب الحياة الدارجة بين نبلاء أوربا ، بل رديئة. وليس هذا عائدا لقلة كمية الأغذية فحسب بل للعادات الخشنة والخالية من النظام في تناول طعامهم. فهم يأكلون على الأرض ، أو فوق موائد واطئة ، بدون «فوطة» ، ولا أي سماط من أي نوع كان ، ولا يستخدمون أية أدوات إلا أيديهم. وعندما يأكلون الكسكسي ، يتناول كل الضيوف طعامهم من نفس الجفنة دون ملعقة. وكذلك الحال بالنسبة إلى اللحم والحساء ، أي من نفس القصعة ، ويأخذ كل واحد منهم قطعة اللحم التي تروق له ويضعها أمامه دون تقطيع. ولا تستخدم السكين بل يقطع اللحم بالأسنان قدر الاستطاعة مع احتفاظ الباقي باليد.

وهم يأكلون على عجل (١٦٨). ولا يشرب أحد قبل أن يشبع ، وعندها يرتوي من طاسة ماء سعتها بوكال (١٦٩). تلك هي العادة الدارجة. ولكن هناك بعض العلماء الذين يتمتعون ، بمستوى معيشة أفضل. ولكن نستطيع أن نخلص إلى القول بأن أدنى وجيه متوسط في إيطاليا يعيش بترف يفوق أكبر أمير إفريقي.

__________________

(١٦٧) وتدعى هذه القدر المزدوجة الكسكاسة في بلاد المغرب ، وتخصص السفلى لسلق اللحم والخضار والفلفل الأحمر» (المترجم).

(١٦٨) «أي حسب المثل الدارج : كل أكل الجمال وقم قبل الرجال» (المترجم).

(١٦٩) أي ٨٢٣ ، ١ لترا.

٢٥٦

العادات المتبعة في الزيجات

تلاحظ العادات التالية في الزواج : فعندما يرغب رجل ما في الاقتران بامرأة ، وبعد موافقة أبيها على تزويجها ، يدعو أبو الخاطب ـ إذا كان على قيد الحياة ـ أصدقاءه للاجتماع في المسجد ويصطحب معه كاتبا عدل يقومان بتسجيل العقد ويحددان شروط المهور بحضور الخاطب والمخطوبة. ويقدم أبناء المدن من متوسطي الحال ، ثلاثين دينارا نقدا ، وأمة سوداء قيمتها خمسة عشرة دينارا ، وقطعة قماش من نسيج الحرير والكتان ذات ألوان عدة متصالبة ، ومناديل صغيرة تلبس على الرأس. وتقضي العادة أيضا أن يقدم زوجا من أحذية مطرزة بصورة جميلة ، وزوجين من القباقيب المطرزة أيضا ، وقماشا مطرزا بديعا ، وبعض الحلى الفضية ، وبعض الأشياء الأخرى كالأمشاط والعطور والمراوح الظريفة. وعندما يتم تسجيل العقد حسب رغبة الطرفين يدعو الخاطب كل الحضور لتناول الغداء معه فيقدم لهم الزلابية واللحم المشوي والعسل. أما والد المخطوبة فيدعو أصدقاءه لوليمة. وإذا أراد الأب أن يقدم لابنته بعض الثياب الجميلة ، فيستطيع أن يفعل ذلك تلطفا منه ، إذ لا يلتزم بالقيام بدفع أي مصروف سوى النقود التي يدفعها للزوج (؟) ، ولكن من المعيب ألا يضيف شيئا إلى هذا المبلغ. وفي الوقت الحاضر ينفق الأب أو الذي يرغب في الزواج ، بالإضافة إلى المهر وهو ثلاثون دينارا ، ينفق عادة ما بين مائتي إلى ثلاثمائة دينار لكسوة الزوجة وأدوات بيت الزوجية. ولكنه لا يقدم أي عقار أو كروم أو عقارا مزروعا. وتقضي العادة أن تقدم هدية مؤلفة من ثلاثة أثواب من جوخ رفيع وثلاثة أثواب حريرية ، أو من التفتا ، أو من المخمل ، أو من الدمشقي ، عدا بضعة قمصان وبضعة ملاءات سرير مطرزة وموشاة الحواشي بالحرير ، ومخدات كبيرة مطرزة ووسائد. كما تقضي العادة أن يقدم ثماني «مراتب» منها أربع للزينة توضع فوق الخزائن في كل ركن من أركان الغرفة ، وأربعة أغطية من نسيح صوفي خشن تستخدم للنوم ، بالإضافة إلى فراشين مبطنين بالجلد يستخدمان لتزيين الغرفة. كما يقدم أيضا سجادة طويلة من الصوف طولها عشرون ذراعا (١٧٠) ، وثلاثة لحف (جمع لحاف) لأحدها وجه من جوخ والآخر من كتان ، ومحشو بالصوف بين الوجهين. وعند مد الفراش للنوم يطوى هذا اللحاف إلى قسمين بحيث يكون قسم منه بالأسفل والآخر بالأعلى ، لأن طوله يقل

__________________

(١٧٠) أي ١٢ م.

٢٥٧

قليلا عن ثماني أذرع (١٧١). وفيما عدا ذلك يقدم أيضا ثلاثة لحف منجدة ذات غلاف حريري جميل التطريز من جهة وأخرى مع بطانة داخلية محشوة بالقطن ، فضلا عن دثار أبيض محشو بالقطن ولكنه خفيف يستعمل في الصيف. ويقدم أخيرا بساطا صغيرا ذا أشرطة جلدية مذهبة تتدلى منه «شرابات» حريرية مختلفة الألوان. ويوضع زر من حرير مثبت فوق كل شرابة كي يمكن تعليق هذا البساط على الجدار. ذاك ما يضاف إلى المهر وأحيانا أكثر من ذلك. وهكذا تعرض الكثير من الأشراف للافتقار في سبيل مثل هذه الزيجات ، ويعتقد بعض الطليان أن الرجال في أفريقيا هم الذين يقدمون المهر للنساء ، والواقع لا يعرفون شيئا كبيرا في هذا المجال.

وحينما يذهب الرجل ليأتي بزوجته إلى منزله ، يقوم بإدخالها أولا في صندوق خشبي مثمن الأوجه مغطى بجميل الأقمشة من الحرير و «البروكار». ويحمل الحمالون هذا الصندوق فوق رءوسهم. ويتألف الموكب من أصدقاء والد الزوجة وأصدقاء الزوج ومن قارعي الطبول والمزامير والنافخين بالنايات وحملة المشاعل العديدة. ويسير أصدقاء العريس في مقدمة المواكب حاملين مشاعلهم ، أما أصدقاء والد الفتاة فيتبعون العروس.

والعادة أن يمر الموكب من السوق الكبير ثم من قرب الجامع. وما ان يصل الموكب إلى السوق حتى يودع الزوج والد العروس وأهلها ، ويدخل بيته على عجل كي ينتظر زوجته في غرفته. ويرافق العروس أبوها وأخوها وعمها حتى باب الغرفة ويسلمونها جميعا ليد أم الزوج. وما إن تدخل الزوجة الغرفة حتى يبادر الزوج بوضع قدمه فوق قدم زوجته. وبعد هذا يختلي الاثنان حالا في غرفتهما. وفي هذه الأثناء يكون أهل البيت منهمكين في إعداد طعام العرس ، بينما تقف امرأة على باب الغرفة ريثما يتم افتضاض بكارة الزوجة ، ويدفع العريس للمرأة بقماش مبلل بالدم. وعندها تنطلق المرأة لمواجهة المدعوين ولتعرفهم بصوت مرتفع أن العروس كانت عذراء. وهنا يقدم أهل الزوج الطعام لهذه المرأة التي تبادر بعدئذ بصحبة نسوة أخريات لمقابلة أم العروس حيث تستقبل بالتكّريم ويقدم لها الطعام أيضا.

ولكن إذا حدث وكانت الزوجة غير عذراء فإن الزوج يعيدها لأبيها ولأمها. وفي ذلك عار كبير عليهما لا سيما وأن المدعوين يخرجون جميعا دون أن يأكلوا.

__________________

(١٧١) ٥ م.

٢٥٨

وهناك ثلاث ولائم في العرس : الأولى تكون في ليلة دخول العريس بزوجته ، وتقع الثانية في ثاني ليلة ولا يدعى إليها إلا النساء ، والثالثة بعد أسبوع. وهذه يحضرها والد العروس وكل أقربائها. ومن المألوف في هذا اليوم أن يرسل والد العروس هدايا هامة لبيت الزوج وتتألف من علب من الحلوى ومن خراف كاملة. ويخرج العريس من بيته بعد سبعة أيام ويذهب مسرعا لشراء كمية معينة من السمك ويجلبها للبيت ويعطيها لأمه أو لسيدة أخرى كي ترمي بها على قدمي العروس. ويعتبر هذا فألا حسنا وهي عادة قديمة جدا.

وفضلا عن هذه الولائم الثلاث والتي تكون في بيت الزوج ، هناك أيضا وليمتان في منزل والد الزوجة. وتقع الأولى قبل يوم واحد من ميعاد العرس في المساء. ويدعو الأب إليها أصدقاء الأسرة. وتستمر الأفراح طيلة الليل ويرافقها الرقص. وفي اليوم التالي تأتي النسوة والمختصات بتجميل العرائس ، أي الماشطات ، ويمشطن شعرها ، ويطلين خدها بالأحمر ، واليدين والقدمين بالأسود مع رسوم جميلة ، أي بالحناء والنقش. ولكن لا تدوم هذه الأصبغة طويلا. وفي هذا اليوم تكون الوليمة الثانية. وتجلس العروس فوق دكة كي تكون على مرأى من الجميع. وعندئذ يقدم الطعام للسيدات اللواتي قمن بتزيين العروس وبتجميلها.

وعندما تصل العروس لبيت زوجها ، يرسل أصدقاء الزوج الحميمون أوعية كبيرة مليئة بالزلابية ، ومثلها أوعية مليئة بالعسل وبالخراف المشوية الكاملة. ويدعو العريس عددا من الأشخاص ويوزع الهدايا فيما بينهم. ويستمر الرقص طوال الليل على أنغام الموسيقيين والمطربين والأغاني التي تتناوب مع الموسيقى والعديد من الألحان العذبة للغاية. ويرقص راقص واحد في كل مرة ، وعندما يخرج من رقصه ، يستخرج من فمه قطعة نقود يقذفها فوق سجادة المطربين. وإذا أراد أحد الأصدقاء تكريم الراقص دعاه لأن يجثو أمامه على ركبتيه ويلصق على وجهه قطع نقود يرفعها المطربون بعد ذلك حالا. وترقص النساء بمعزل عن الرجال ، فلهن حفلاتهن الراقصة ومطرباتهن وموسيقاهن.

كل شيء يجري حسب هذه الصورة فيما إذا كانت العروس عذراء. ولكن إذا كان قد سبق لها الزواج تكون حفلة العرس أقل أبهة. وتقضي العادة في مثل هذه الحالة أن يقدم لحم ثور وخروف ودجاج مسلوق يضاف إليها أنواع من الخضر. ويوضع أمام

٢٥٩

المدعوين اثنتا عشر قصعة فوق مائدة خشبية مدورة ويقدم طعام يكفي لاثني عشر شخصا.

تلك هي العادات السائدة لدى الأشراف ولدى التجار. ولكن بين عامة الشعب يقدم حساء مصنوع من خبز خفيف يماثل «المكرونة» يغمس في مرق اللحم المقطع إلى قطع كبيرة. ويقدم الحساء في وعاء كبير تسبح فيه قطع اللحم ويأكل المدعوون دون ملعقة ، بالأيدي ، بمعدل عشرة أشخاص حول كل وعاء.

هذا وتقضي العادة أيضا أن تصنع وليمة عندما يتم ختان الولد الذكر ، والذي يتم عادة في سابع يوم بعد ولادته. ففي هذا اليوم يدعو الوالد الحلاق كما يدعو أصدقاءه ويعمل لهم وجبة. وعند إنتهاء الطعام يقدم كل من المدعويين هدية للحلاق. فبعضهم يقدم دينارا ، والبعض دينارين ، أو أكثر وأقل حسب مستواه. ويقوم أحدهم بلصق هذه الدراهم فوق وجه صبي الحلاق ، ويعلن الصبي اسم المعطي ويشكره. وبعدئذ يقوم الحلاق بختان الطفل. ولكن عند ولادة ابنة لا يبدي أهلها مثل هذه البهجة.

العادات الأخرى المعهودة في الأعياد

طريقة البكاء على الموتى

لا تزال في فاس رواسب من عادات خلفها النصارى. ففيها يتلفظون ببعض الأقوال التي لا يعرفون لها معنى. فمن عادتهم ليلة ميلاد عيسى عليه السلام أن يأكلوا نوعا من حساء مصنوع من خضر متنوعة كالقرنبيط واللفت والجزر وسواها. ويطبخون عدة أنواع من الخضر ، سوية على حالها ، كالفول والحمص وحبوب القمح ويأكلون هذه الأطعمة في تلك الليلة ، كما لو كانت حلوى لذيذة. ويضع الأطفال في أول يوم من العام الجديد أقنعة على وجوههم ويقصدون بيوت الأشراف يتسولون الفواكه وهم ينشدون أغانيهم الصبيانية.

ويوقد الناس في كل الأحياء في يوم القديس حنا نارا كبيرة وقودها القش (١٧٢).

__________________

(١٧٢) ويقع في ٢٤ حزيران (يونية).

٢٦٠