وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

يأتون بأبقارهم وبأغنامهم وبسواها من الماشية ، كما يجلبون السمن والصوف. وجميع هذه الأشياء تباع بثمن زهيد.

وقد منح الملك (٨٠) هذه المدينة في أيامنا للأمير (٨١) كي يكون قسم منها من إقطاعته. ويقدّر أن هذا الأمير يجبي من المدينة ومن كورتها دخلا يمثل تقريبا ثلث ما تغلّه مملكة فاس. ولكن فاس عانت كثيرا في الماضي من الحروب التي نشبت بين أمراء هذه المناطق. وقد كلفتها كل حرب خسارة تقدر بثلاثين إلى أربعين ألف دينار. وتعرضت المدينة في عدة مناسبات للحصار في أثناء فترة طويلة امتدت إلى ستة أو سبعة أعوام في كل مرة. وحدث في أيامي على إثر تنصيب ملك فاس الحالي (٨٢) أن قام أحد أبناء عمه بثورة عليه وتلقى عون سكان مكناس التي كان حاكما عليها في عهد الملك السابق. فجاء الملك إلى مكناس مع جيشه وحاصر المدينة مدة شهرين تقريبا. ولما كان سكانها غير راغبين في التسليم فقد عمد الملك إلى إتلاف ممتلكاتهم. وبلغت الخسائر عندئذ خمسة وعشرين ألف دينار. وأخيرا قام حزب مؤيد للملك بفتح أحد أبواب المدينة وصمد بشجاعة أمام هجوم المتمردين وسمح للملك بدخول مكناس. وهكذا استرد المدينة واقتيد الثائر سجينا إلى فاس ولكنه تمكن من الهرب فيما بعد (٨٣).

وإجمالا تبدو مكناس مدينة جميلة وذات موارد كبيرة ، ولها أسوار جيدة ، وتتوسط منطقة خصيبة جدا. وتتمتع بماء طيب يأتيها بواسطة قناة تجلب إليها من مسافة ثلاثة أميال خارج المدينة (٨٤). وتوفر هذه القناة الماء للقصبة وللمساجد وللحمامات. وتقع كل الطواحين خارج المدينة على مسافة ميلين تقريبا (٨٥). وأهالي مكناس شجعان كالجنود ، دمثو الأخلاق ، ولكن ذكاءهم غير مصقول. ويشتغل معظمهم بالتجارة والصناعة ، ومنهم الأشراف والسراة. ولا يستنكف أحد من أبناء هذه المدينة من أن يحمّل بنفسه دابته بالبذور وينقل حمولتها إلى عامله الذي يفلح الأرض.

__________________

(٨٠) أبو عبد الله محمد البرتغالي.

(٨١) أخوه الناصر الكداد.

(٨٢) في سنة ١٥٠٤ م.

(٨٣) وهو مولاي زيان ، الأمير الذي تمكن في ليلة ١٢ إلى ١٣ أيلول (سبتمبر) ١٥١٣ أن يهرب من آزمور بالتدلي من فوق ، جدار السور بالاستعانة بحبل ، والذي تصالح مع ابن عمه سنة ١٥١٤ أمام ضريح مولاي سيدي بو عزة.

(٨٤) ٥ كم إلى الجنوب.

(٨٥) في اتجاه الشمال.

٢٢١

ولا تخرج نساء الوجهاء من بيوتهن ، ويسترن وجوههن ولا يرغبن في أن يراهن أحد ، لا محجبات ولا سافرات ، لأن أزواجهن شديد والغيرة ، وربما كانوا خطرين عند ما يتعلق الأمر بنسائهم.

هذا ولا تروقني هذه المدينة لأن أرضها مبللة وموحلة في أثناء الشتاء.

جامع الحمّام

هي مدينة قديمة ، بنيت في السهل قرب حمام ، على مسافة خمسة عشر ميلا جنوب مكناس ، وعلى مسافة ثلاثين ميلا إلى الغرب من فاس وعشرة أميال من الأطلس (٨٦). وتقع على طريق المسافر الذاهب من فاس إلى تادلة (٨٧). وقد شغل العرب أراضيها الزراعية (٨٨). وتخربت هذه الأراضي بسبب حروب سعيد. ولا يزال باقيا من أطلالها جميع جدار السور تقريبا. وإذا كانت كل سقوف الجوامع والأبراج قد سقطت ، فإن الجدران لا تزال فيها قائمة.

خميس متغاره

خميس متغارة مدينة صغيرة بناها الأفارقة في أرياف زواغه على مسافة خمسة عشر ميلا إلى الغرب من فاس. وأرضها الزراعية خصيبة جدا. وعلى مسافة تقارب الميلين حول المدينة تقوم مزارع جميلة جدا من الكروم والتين. غير أنها جميعا أعيدت للزراعة من جديد لأن هذه المدينة تهدمت أثناء حرب سعيد وظلت كل أراضيها مهجورة في أثناء عشرين عاما تقريبا. ومنذ أن قدم قسم من أهل غرناطة منتقلين إلى موريتانيا وأقام بعضهم في هذه المدينة أخذت المدينة تعمر بالسكان من جديد ، وتمت زراعة كثير من أشجار التوت الأبيض (للانتفاع بها في تربية دود القز) لأن الغرناطيين هم من كبار تجار الحرير. كما

__________________

(٨٦) أي ٢٤ كم ، ٤٨ كم ، ١٦ كم.

(٨٧) لم يمكن حتى الآن العثور على موقع جامع الحمام ، أما مارمول الذي عرف بالتأكيد هذا الموقع فقد ذكر بأنه عبارة عن حمام ماء طبيعي ، أي نبع ساخن معدني ، وأنه كان يعقد فيه حينذاك سوق كبير ، هو سوق الأحد ، في قرية ترنه على مسافة نصف مرحلة من هذا المكان أو ما يعادل ٥ ، ٢ كم ، ويجب أن نفهم أن مسافة ١٦ كم من الأطلسى هي المسافة التي يغادر فيها طريق تادلة السهل ، والمسافات المذكورة صحيحا بالنسبة لعين سميسل.

(٨٨) ويقول مارمول إن هؤلاء كانوا من بني مالك ، وهم فخذ من عشيرة سفيان.

٢٢٢

زرعوا كذلك قصب السكر ، ولكن لم تحصل منه فوائد كبيرة مثل ما كانت تعطيه زراعته في بلاد الأندلس. وقد كان سكان هذه المدينة في الماضي يتميزون بشدة التهذيب ، ولكن الأمر ليس كذلك في أيامنا هذه لأن جل سكانها تقريبا أصبحوا من المزارعين (٨٩).

بني باسل

بني باسل مدينة صغيرة بنيت هي أيضا على أيدي الأفارقة على نهر صغير ، في وسط الطريق الذي يذهب من فاس إلى مكناس على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (٩٠) إلى الغرب من فاس (٩١). ولهذه المدينة أرياف واسعة جدا تجري فيها جداول عديدة وينابيع غزيرة. وهي مأهولة كلها بالعرب (٩٢) الذين يزرعون فيها الشعير والكتان. أما الزراعات الأخرى فلا يمكن أن تنجح تماما لأن أرضها حجرية ومغمورة دائما بالمياه (٩٣) ويوجد حول بلدة بني باسل الكثير من مزارع الأشجار ، كما يستدل على ذلك من أطلالها. ولكن الدينة تهدمت كما تهدمت المدن الأخرى في زمن حروب سعيد. وظلت مهجورة مدة تقارب مائة وعشرة أعوام. ولكن بعد عودة ملك فاس من دكالة (٩٤) أرسل لإعمارها قسما من السكان الذين أجلاهم عن هذه المنطقة. غير أن الناس الذين استوطنوا هذه البلدة هم أجلاف ولا يقيمون هنا إلا على مضض.

__________________

(٨٩) يذكر مارمول أن خميس متغاره واقعة على الطريق بين فاس ومراكش ، على نفس المسافة بين فاس وجامع الحمام ، أي حوالي خمس مراحل أو ٢٥ كم عن الأولى والثانية. ويذكر أن هذه البلدة كانت مأهولة بالمور يسكيين الذين غادروا مملكة غرناطة عام ١٤٩٦ م ، وهذا يصحح المعلومات الواردة في النص : فخميس متغاره خلت من السكان مدة تسعين عاما تقريبا وليس مائة وثلاثين عاما. ويشير أيضا إلى استمرار بقاء سوق الخميس ، الذي أخذت منه هذه البلدة اسمها. ويخبرنا أخيرا أن الشريف محمد جاء في عام ١٥٤٤؟ بعد أن أسر ملك فاس أحمد الوطاسي في معركة درنة ، جاء وضرب معسكره مع جيشه قريبا جدا من هذه البلدة وأتلف بستان زواغة ، وأمر بذبح القسم الأعظم من سكان خميس امام عينيه كي يرهب أهل فاس. ولم يمكن بعد تشخيص موقع هذه البلدة حتى الآن.

(٩٠) ٢٩ كم.

(٩١) يحدد مارمول ان بني باسل كانت على وادي نجا قريبا من منبعه.

(٩٢) يذكر مارمول أنهم كانوا من بني مالك.

(٩٣) أي شبه مستنقع.

(٩٤) صيف سنة ١٥١٥ م.

٢٢٣

المدينة الكبرى : فاس

عاصمة سائر موريتانيا

تأسست مدينة فاس على يد شيعي في عصر الخليفة هارون في عام ١٨٥ للهجرة(٩٥).

وتدعى هذه المدينة «فاس» لأنه من اليوم الأول الذي حفرت الارض فيها لإرساء الأساسات عثر على كمية كبيرة من الذهب الذي يحمل بالعربية اسم فاس (٩٦). وأرى أن هذا هو السبب الحقيقي لهذه التسمية. غير أن البعض يرون أن المكان الذي قامت فيه كان يدعى فاس بسبب النهر الذي يخترقها ، إذ كان اسم هذا النهر باللغة الافريقية «سف» وأن هذه الكلمة قد حرفت (٩٧).

ومهما كان الأمر فإن الذي بنى فاس كان يسمى ادريس. وقد كان من أقارب الخليفة هارون (٩٨). لأنه كان ابن حفيد علي (٩٩) ابن عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ، والذي تزوج من فاطمة (١٠٠)

__________________

(٩٥) من المسلم به عموما أن المدينتين المتميزتين ، اللتين تكونت منهما فاس ، تأسستا في عهد ادريس بن ادريس الأول على الضفة اليمنى ، شرقي النهر ، وذلك يوم الخميس ٣ ربيع الأول عام ١٩٢ ه‍ ، الموافق ٦ كانون الثاني (يناير) ٨٠٨ م ، والأخرى على الضفة اليسرى أي في الغرب ، وتأسست في أوائل أيام شهر ربيع الثاني عام ١٩٣ ه‍ / أو نهاية كانون الثاني (يناير) ٨٠٩ م. ولكن هناك إشارة إلى وجود درهم مسكوك في فاس وذلك بالتحديد في سنة ١٨٥ ه‍ / ٨٠١ م. وقد سمحت أبحاث جديدة بالبرهنة ، مع شيء من اليقين ، بأن فاس الاصلية ، أي مدينة الضفة اليمنى ، قد تأسست بعد شهرين من المناداة بادريس بن عبد الله إماما وأميرا على بربر منطقة زرهون ، والغالب على الظن أن هذا التأسيس كان لمراقبة تقاطع الطرق الهامة ، أي عند عقدة الطريقين الكبيرين الدائمي الحركة ، أي الشمالي الجنوبي والشرقي الغربي خلف ممرات نهر سبو. ومن الممكن أن يكون هذا التأسيس قد حدث في شهر ذي العقدة ١٧٢ ه‍ / الموافق نيسان (اكتوبر) ٧٨٩ م. وبعد عشرين عاما حاول ادريس بن ادريس ، الذي كان يرغب ، بلا شك ، في أن يقيم هو نفسه قرب ممرات سبو هذه مع قواته المعبئة ، أقول حاول أن يجد موقعا مناسا ، وبعد عدة محاولات فاشلة في أماكن أخرى قرر أن يستقر تجاه فاس ، على الضفة المقابلة ، ولكن حرص أن تكون له مدينة ملكية مفصولة تماما عن الاخرى. وهكذا تأسست سواء حسب التاريخ المذكور آنفا أي ١٩٢ ه‍ أو في ١٩٣ ه‍ ، أي ٨٠٨ أو ٨٠٩ م. وجعل اسمها الرسمي «المدينة العالية» وهو اسم احتفظت به اكثر من عشرين عاما. ولكن جاء الاندلسيون فعلا ليقيموا في المدينة القديمة ، في حين اختار القروانيون إقامتهم في المدينة الجديدة ، وأخذت هاتان المدينتان إسمي مدينة الاندلس ومدينة القرويين واحتفظتا بهذين الاسمين حتى بعد تلاحم المدينتين على اثر فتحها على أيدي المرابطين في آذار (مارس) ١٠٧٠ م.

(٩٦) خطأ لا يمكن تفسيره لأن كلمة فاس لها معنى بلطة أو آلة عزق الأرض.

(٩٧) يوافق علماء اللغة البربرية المعاصرون فعلا أن كلمة آسيف ، ومعناها نهر ، يمكن ان تعطي فيس ، وتحولت في اللغة العربية الى فاس.

(٩٨) أي هارون الرشيد الذي حكم من ١٥ ايلول (سبتمبر) ٧٨٦ م إلى ٢٤ آذار (مارس) ٨٠٩ م

(٩٩) أي علي بن أبي طالب.

(١٠٠) فاطمة بنت الرسول عليه السلام.

٢٢٤

فهو يتصل بالرسول من الناحيتين الأبوية والأموية معا. وذلك على خلاف هارون ، فإنه لا يتصل بالرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) إلا من فرع واحد : فهو ينحدر من العباس عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وعلينا أن نعرف أن هاتين الأسرتين كانتا محرومتين من السلطة لأسباب سبق أن عرضت في التواريخ القديمة. ولم تأت إلى هارون هذه السلطة إلا عن طريق الاغتصاب والخديعة. وذلك إن جد هارون ، وكان رجلا داهية ، وعلى مستوى عال من الذكاء ، تظاهر بأنه يؤيد أسرة عليّ كي يرفعها لسدة الخلافة. واستنادا إلى هذه الذريعة أرسل سفراء إلى العالم قاطبة. وهذا هو السبب الذي أدّى إلى ضياع الخلافة من بني أمية وإلى انتقالها إلى يدي أبي عبد الله السفاح (١٠١) وهو أول خليفة عباسي. وقد لاحظ هذا ، حقيقة ، أنه لن يستطيع ترك هذا المنصب للغير ، ودخل حالا في نزاع مع العلويين. وراح يضطهدهم علنا ، مما أدى لهرب أهم شخصيات هذه الأسرة. فمنهم من هرب إلى آسيا والبعض الآخر إلى الهند. وظل أحدهم في المدينة المنورة. ولما كان هذا رجلا فقيها لم يهتم به أبو عبد الله السفاح. ولكن نشأ اثنان من أبناء هذا الرجل وتزايدت مكانتهما مع تقدمهما في العمر والحظوة لدى المدنيين. وقد اضطر هذان البائسان إلى الهرب فى وقت كاد الخليفة يقبض عليهما فيه. وقد امكن توقيف احدهما ومات خنقا ، ولكن الثاني واسمه ادريس استطاع أن يفّر إلى موريتانيا (١٠٢). وحصل ادريس هذا على نفوذ كبير. فقد حاز ، في قليل من الوقت ، على السلطة الزمنية والسلطة الروحية معا بين سكان هذه البلاد (١٠٣). واستقر في جبل زرهون على مسافة ثلاثين ميلا (١٠٤) من فاس تقريبا ، وأصبحت موريتانيا ، برمتها ، تدفع له الضريبة. وقد توفي دون ولد (١٠٥) ، غير أنه ترك زوجته حاملا ، وكانت قوطية اعتنقت الدين الأسلامي. وقد انجبت هذه المرأة

__________________

(١٠١) أبو العباس عبد الله السفاح ، الذي حكم بين ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٧٤٩ م إلى ٩ حزيران (يونية) ٧٥٤ م.

(١٠٢) لقد حدث هذا ، في الحقيقة ، في عصر خلافة موسى الهادي ، إذ ثار في المدينة أحد أحفاد الخليفة علي بن أبي طالب ، واسمه الحسين. غير أن القوات العباسية الحقت بالتمردين هزيمة دامية يوم السبت ١٠ حزيران (يونية) ٧٨٦ م في موقع فخ قرب مكة. ومات الحسين في هذه المعركة. وكان من بين العلويين الذين نجوا قريبه ادريس بن عبد الله الذي أفلح في اللجوء إلى مصر ، ومنها إلى طنجة. ويبدو ان رئيس قبيلة أورابة البربرية التي كانت تحتل جبل زرهون استدعاه بعد قليل فوصل إلى وليلة ، وسميت بعدئذ وليلى ، وهو اليوم مولاي ادريس ، وكان وصوله في بداية ربيع الاول عام ١٧٢ ه‍ ، وبعد ٩ (أغسطس) ٧٨٨ م.

(١٠٣) وقد نودي به إماما وأميرا يوم الجمعة ٤ رمضان ١٧٢ ه‍ / شباط (فبراير) ٧٨٩ م.

(١٠٤) ٥٠ كم.

(١٠٥) ٧٩١ م.

٢٢٥

ولدا أطلقوا عليه اسم أبيه ، ادريس. (١٠٦) وقد اختاره الأهالي ملكا (١٠٧) ولهذا تمت تربيته تحت إشراف طيب ونال أكبر رعاية.

ولما أصبح يافعا تعلم وتثقف على يد قائد شجاع كان يعمل عند أبيه ، اسمه راشد.

ومنذ سن الخامسة عشرة أخذ هذا الغلام يحقق الأعمال الرائعة المجيدة ، ففتح عدة بلاد ، ونما نموا كبيرا عدد العائلات والقوات التي انضوت تحت حكمه. واستبان له أن المسكن الذي خلفه له والده لم يعد كافيا. وهكذا قرر أن يترك الجبل ويؤسس مدينة يستقر فيها. ولتحقيق ذلك جمع بضعة مهندسين قاموا بالكشف على كل السهول المجاورة للجبل. فنصحوه ببناء المدينة في المكان الذي تقوم فيه الآن. فهنا تظهر ينابيع عديدة ونهر كبير ، ينبع من سهل لا يبعد كثيرا عن هذه الينابيع ، ويمر بين تلال صغيرة ويهبط في شعاب فاتنة الجمال بعد أن يجتاز السهل ، ويجري ضمن واد لطيف هادىء على مسافة ثمانية أميال (١٠٨). كما كانت هناك غابة كبيرة في الجنوب ، وكانت ـ من جهة أخرى ـ مفيدة لسدّ حاجات المدينة من الأخشاب والحطب. ولهذا السبب بنيت على الحافة الشرقية للنهر مدينة صغيرة كانت تضم حوالي ثلاثمائة أسرة ، وكانت تشتمل على كل ما هو ضروري نظرا لأهميتها.

ولما وافى ادريس أجله (١٠٩) بنى أحد أبنائه مدينة أخرى إلى الغرب منها ، صغيرة الأبعاد ، واقعة هي أيضا على مجرى النهر (١١٠)

ومع الزمن نمت كل من المدينتين حتى أنه لم يعد يفصل بينهما سوى طريق. وقد عمل عدة قواد ، من الذين كانوا يحكمون كلا من هاتين المدينتين ، ما في مقدورهم فعلا ، كي يوسع كل واحد منهم مدينته. ولكن ما إن انصرم قرن من الزمن على تأسيس فاس حتى تشكلت أحزاب مختلفة ونشبت الخلافات بين سكان المدينتين. فكان لكل واحدة أميرها. واستمرت بينهما حروب عديدة ، وظل الأمر على هذا المنوال مائة عام (١١١).

__________________

(١٠٦) في آب (أغسطس) ٧٩١ م.

(١٠٧) نودي به يوم الجمعة ٢٣ شباط (فبراير) ٨٠٤ م.

(١٠٨) ١٣ كم. ينبع النهر الذي يسقي المدينة من موقع رأس الماء ، غربي مدينة فاس.

(١٠٩) في ١٨ آب (اغسطس) ٨٢٨ م ، ويجدر التنوية هنا ان كل هذا التأريخ غير مؤكد ، ويختلف باختلاف المصادر.

(١١٠) ونرى هنا أن المؤلف كان يعرف ، على الرغم من اتخاذه رأيا تقليديا ، أن المدينتين لم تؤسسا على يد شخص واحد.

(١١١) فترة الأمراء الزناتيين.

٢٢٦

وبعد ذلك حمل يوسف ، ملك لمتونة (١١٢) بجيش جرار على هذين الأميرين ، وقبض عليهما ، واذاقهما ميتة شنيعة (١١٣). وحينئذ فنيت أكثرية سكان المدينتين تقريبا ، وتخربتا ، وقتل من أهلهما ثلاثون ألف شخص. وقرر الملك يوسف ضم سكان المدينتين في واحدة وهدم السورين اللذين كانا يفصلان المدينتين احداهما عن الاخرى ، وبنى جسورا على النهر كي يمكن الانتقال بسهولة أكبر بين ضفة وأخرى. وهكذا لم تعد تؤلف المدينتان سوى واحدة مثلما قسمت هذه الأخيرة إلى عشرة أحياء ، أو بصورة أدق إلى عشر مناطق.

والآن وبعد أن اطلعتكم على أسباب بناء فاس ، وبيّنت لكم كيف بنيت ، سأقوم الآن بوصف حالتها الراهنة اليوم.

وصف دقيق ومتقن لفاس

مدينة فاس ، بكل تأكيد ، مدينة كبيرة جدا. فهذه المدينة محاطة بتلال وبأسوار عالية. وتكاد تكون ، جلها ، مشيّدة فوق تلال بحيث يكون قلب المدينة ، وحده ، هو القائم فوق منبسط من الأرض. ومن الأطراف الأربعة لا يوجد سوى منحدرات ، كما قلت ذلك. ويدخل الماء إلى المدينة من نقطتين ، فيمر أحد فرعي النهر من طرف فاس الجديد ، أي من الجنوب ، ويدخل الفرع الثاني ، إلى المدينة من الغرب.

وبعد دخول الماء إلى المدينة يتوزع بواسطة عديد من القنوات تسوق معظمه لبيوت سكان المدينة وإلى حاشية البلاط الملكي وكذلك إلى الأبنية الأخرى. ولكل جامع أو مسجد نصيبه من هذا الماء ، وكذلك الحال بالنسبة للفنادق والمستشفيات والمعاهد. ويوجد بجوار الجوامع مراحيض عامة ، وهي أبنية مربعة الشكل تحوي على طرفيها حجيرات ذات أبواب صغيرة. ويوجد في كل مرحاض حوض ، ويخرج الماء من الجدار ويجري في ميزاب من الرخام. ولما كان تيار الماء على قدر لا بأس به من السرعة ، فإن هذا الماء ينظف المراحيض ويكسح فضلاتها وأوساخ المدينة ويقذف بها في النهر. وفي وسط هذا البناء توجد بركة عمقها حوالي ثلاثة أذرع ، وعرضها أربعة ، وطولها اثنا عشر

__________________

(١١٢) يوسف بن تاشفين.

(١١٣) في ١٨ آذار (مارس) ١٠٧٠ م.

٢٢٧

ذراعا (١١٤). وقد صنعت مجار حول البركة تصرف الماء الجاري لأسفل المراحيض ، وفي هذه المدينة مائة وخمسون مرحاضا من هذا النوع (١١٥).

وبيوت فاس مبنية بالآجر وبحجارة جيدة النحت. وأكثر هذه الحجارة بديعة ومزدانة بفسيفساء جميلة. وصحون البيوت ودهاليزها مبلّطة ببلاط مربع قديم مختلف ألوانه ، على هيئة الأواني المايورقية (١١٦). والمألوف هنا أن تطلى السقوف بألوان زاهية وبهيّة ، من طلاء لازوردي وذهبي. والسقوف مصنوعة من خشب وهي أفقية ، بشكل يسمح بنشر الغسيل بسهولة فوق سطح البيت الذي يتحول كله إلى مصطبة ينام عليها الناس في ليالي الصيف. وتتألف كل البيوت تقريبا من طابقين وللكثير منها ثلاثة. ولكل الطوابق شرفات كثيرة الزخرف وتسمح بالتنقل تحت سقف من غرفة لأخرى ، لأن صحن البيت مكشوف ، وسائر الغرف تطل عليه. وأبواب الغرف عريضة جدا وعالية كثيرا. ويصنع الأشخاص الميسورون مصاريع هذه الأبواب من خشب جميل للغاية ومنقوش بشكل متقن. ومن عادتهم أن يستعملوا في غرفهم خزائن ظريفة جدا مزدانة بالدهان في امتداد عرض الغرفة. ويحتفظون فيها بأثمن أشيائهم. ويفضل بعضهم ألا يزيد ارتفاع هذه الخزائن عن ستة أشبار (١١٧) بحيث يتمكّنون من مد فرشهم فوقها. ودهاليز هذه البيوت قائمة فوق أعمدة من آجر مكسوّة حتى منتصف ارتفاعها بالمايورقي. ونرى في بعض البيوت أعمدة من رخام. والعادة أن يبنى بين كل عمود وآخر قنطرة مغطاة بالفسيفساء. وتصنع الدعائم المقوّسة ، الموضوعة بين الأعمدة والتي تحمل سقوف الطوابق العليا ، من الخشب ، وهي مزخرفة بنقوش جميلة ومزيّنة بذوق رفيع بأصباغ

__________________

(١١٤) بما ان الذراع الروماني يساوي ٦٧ سم فيكون العمق حوالي المترين والعرض ٧ ، ٢ م والطول ٧ م. ولا يزال يوزع الماء في فاس القديمة حتى الآن على هذه الصورة.

(١١٥) «تعطينا هذه الفقرة فكرة عن الرقي الصحي في المدن الاسلامية القديمة كما في دمشق داخل الاسوار وحلب وهو ما لا يتوافر مع الاسف في كثير من مدننا الحديثة ولا سيما في الاحياء الاوروبية الطراز. اما في روما فكان اول من اوجد هذه المراحيض العامة هو الامبراطور فسباسيان الذي حكم بين ٦٠ و ٧٩ م وفرض رسوما معينة على هذه المراحيض العامة تجبى من الذين يترددون عليها. ولما اعترض ابنه تيتوس على ذلك مد يده لولده وفيها قطعة نقود وقال له شمّها! «الدراهم ليس لها رائحة». ويروى أنه حاول النهوض من فراشه في مرضه الأخير وتحامل على نفسه قائلا : «الامبراطور يجب أن يموت واقفا» (المترجم).

(١١٦) نسبة إلى جزيرة مايورقة التي كان يحكمها أولاد غانية الذين سبق ذكرهم. وهم من المرابطين. وهي إحدى جزر الباليئار الاسبانية.

(١١٧) يعادل الشبر المراكشي ٢١٦ مليمتر ، فالستة أشبار تساوي ٣ ، ١ م.

٢٢٨

متنوعة الألوان. ونجد في كثير من المنازل أحواضا مستطيلة يتراوح عرضها بين ستة وسبعة أذرع (١١٨) وطولها بين عشرة واثني عشر ذراعا (١١٩) ويصل عمقها إلى ستة أو سبعة أشبار تقريبا (١٢٠) ، وكلها مكسوّة ببلاط مايورقي. وفي كل جانب من هذا الحوض ، في اتجاه الطول ، تثبت صنابير منخفضة مزدانة أيضا بالمايورقي. وبعض هذه النوافير مزدانة في وسطها بحوضة رخامية ، مثلما يرى من أمثالها في «فستقيات» أوربا. وعندما يمتلىء حوض كل حنفية يفيض منه الماء إلى برك كبيرة بواسطة مجار مغطاة تكون مبلّطة هي بدورها ، بصورة جميلة. وحينما تمتلىء الأحواض الكبرى بدورها ، يخرج الماء منها بواسطة مجار ، مصنوعة حولها ، وينصرف الماء نحو بواليع صغيرة. وهكذا يجري الماء من تحت المراحيض وينطلق نحو النهر. ويعتنى بالأحواض دوما كي تبقى صافية جدا ونظيفة للغاية ولا تستخدم إلا في فصل الصيف ، حيث يستحم فيها الرجال والنساء والأطفال. ومن المألوف أيضا بناء مقصورة فوق أسطح البيوت تضم عدة غرف صغيرة فسيحة وكثيرة الزخرف. وفي هذه المقصورة تجلس النسوة لأخذ راحتهن بعد أن ينتابهن التعب من عملهن ، إذ يستطعن من مكانهن أن يبصرن كل المدينة تقريبا. وفي فاس قرابة ستمائة جامع أو مسجد ، والمساجد تكون عبارة عن أبنية صغيرة للصلاة. ويوجد بين هذه الجوامع خمسون كبيرة ، جميلة البنيان ، مزدانة بأعمدة الرخام وبزخارف أخرى. ولكل منها صنابيره الجميلة جدا ، والمصنوعة من رخام ومن حجارة أخرى من التي لا يرى مثلها في إيطاليا. وتحمل كل الأعمدة عوارض مستورة بالفسيفساء أو بخشب منقوش بصورة أنيقة. وتكون سقوف الجوامع مصنوعة على الطريقة الأوروبية أي من ألواح خشب. أما الأرضية فتكون مبلّطة ومغطاة بحصر غاية في الجمال ومخيطة بمهارة لا تسمح برؤية شيء من البلاط. والجدران مغطاة بحصر كذلك ، ولكن على قدر قامة الانسان. ولكل من هذه الجوامع مئذنة يصعد إليها المكلفون بالأذان لإعلان الأوقات المعينة للصلوات العادية. ولا يوجد في الجامع أكثر من إمام تقع على عاتقه وظيفة إقامة الصلاة. ومن وظيفة هذا الإمام أيضا إدارة إيرادات جامعه ، إذ عليه أن يمسك حسابا دقيقا وأن يوزع الايرادات بين مستخدمي الجامع كأولئك الذين يتعهدون المصابيح التي توقد ليلا ، وكذلك الذين يقومون بحراسة الأبواب والمؤذنون الذين يؤذنون ليلا داعين إلى الصلاة من أعلى

__________________

(١١٨) ٤ م إلى ٧ ، ٤ م.

(١١٩) ٧ ، ٦ م إلى ٩ م.

(١٢٠) ٣ ، ١ م إلى ٥ ، ١ م.

٢٢٩

المئذنة. ولكن الذين يؤذنون في أوقات صلاة النهار لا ينالون أي أجر ، وإنما يعفون من ضريبة العشر ومن جميع الضرائب الأخرى.

وفي هذه المدينة جامع كبير يسمى «جامع القرويين» (١٢١) ، وهو كبير للغاية إذ يبلغ محيطه ميلا ونصف (١٢٢) وله واحد وثلاثون بابا ، وكلها كبيرة وعالية ، وتبلغ المساحة المسقوفة فيه حوالي ١٥٠ ذراعا توسكانيا (١٢٣) طولا ، واقل بقليل من ثمانين ذراعا عرضا (١٢٤). ومنارته ، التي يؤذن فيها للصلاة ، عالية جدا بدورها. ويدعم السقف ثمان وثلاثون قنطرة في الطول وعشرون قنطرة في العرض. وتوجد حول بناء الجامع ، أي على الواجهات الشرقية والغربية والشمالية ، رواقات ، عرض الواحد منها ثلاثون ذراعا (١٢٥) وطوله أربعون ذراعا (١٢٦). ونجد تحت هذه الأروقة المخازن التي يحفظ فيها الزيت والأشياء الأخرى الضرورية لحاجات الجامع. ويوقد فيه كل ليلة ستمائة سراج ، ولكل قنطرة مصباحها. ويتجهز صف أقواس الوسط ، وخاصة تلك التي تؤدي للمحراب ، يتجهّز هذا الصف وحده بمائة وخمسين مصباحا. وقد صنعت الثريات من برونز مأخوذ من أجراس بعض المدن النصرانية التي فتحها ملوك فاس. وتظهر في داخل الجامع ، وعلى طول الجدران ، كراسي من مختلف الأنواع وهي التي يلقى منها بضعة أساتذة دروسا على الشعب في أمور دينه وفي شريعته الروحية ، وتبدأ هذه الدروس بعد الفجر بقليل وتنتهي بعد شروق الشمس بساعة. أما في الصيف فلا تلقى الدروس إلا ابتداء من منتصف الليل حتى الساعة الواحدة والنصف صباحا. ويكون التدريس في مواد تتعلق بالعلوم الأخلاقية والروحية المتصلة بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويلقى الدروس الصيفية أشخاص عاديون. أما الدروس الأخرى فلا يعهد بها إلا لرجال أكفاء في هذه المواد. ويتقاضى كل منهم عن دروسه مرتبا طيبا ، وتقدم له الكتب والإضاءة. أما إمام الجامع فليس له من مهمة سوى إقامة الصلاة والإمامة بالمصلّين. وهو يمسك حسابا دقيقا ومتقنا عن الأموال والأملاك التي تقدّم للجامع لحساب الأولاد القاصرين ، كما يعتبر

__________________

(١٢١) نسبة إلى أهل القيروان.

(١٢٢) ٢٤٠٠ م.

(١٢٣) وهذا الذراع ٥٥١ مم أو ٥٥ سم فالمائة والخمسون ذراعا توسكانيا تساوي إذن ٨٣ مترا تقريبا.

(١٢٤) ٤٤ م.

(١٢٥) ٥ ، ١٦ م.

(١٢٦) ٢٢ م.

٢٣٠

موزع الإيرادات المخصصة للفقراء سواء أكانت من الدراهم أم من الحبوب ، كي يوزعها في كل عيد على فقراء المدينة ، بصورة تتفاوت حسب أعبائهم العائلية.

ويتقاضى الذي يجبي عائدات الجامع دينارا واحدا في اليوم تعويضا عن هذه الوظيفة الرفيعة. ويعمل معه ستة أمناء أجر كل واحد منهم ستة دنانير شهريا ، بالإضافة إلى ستة رجال يحصّلون أموال إيجارات البيوت والدكاكين والعائدات الأخرى. وينال كل من هؤلاء خمسة بالمائة من الجبايات لقاء أتعابه. وفضلا عن ذلك يعمل تحت إمرة الجابي مقدار عشرين موظفا مكلّفين بالذهاب للضواحي كي يقدموا للفلاحين ولأرباب الكروم والبساتنة ما هم بحاجة إليه. ويرتفع أجر هؤلاء الموظفين إلى ثلاثة دنانير بالشهر.

وفي خارج فاس ، وعلى مسافة ميل تقريبا ، يوجد حوالي عشرين فرنا لحرق الكلس ومثل عددها من الأفران لشيّ القرميد لسدّ حاجات بناء الجامع والأملاك التابعة له.

ولهذا الجامع دخل مقداره مائتا دينار يوميا ، ولكن ينفق أكثر من نصف هذا المبلغ على ما ذكرته. كما أن كل جامع أو مسجد لا إيراد له (١٢٧) يستمد من جامع القرويين الكثير من الأشياء التي يحتاج إليها. وفضلا عن ذلك يقدم هذا الجامع ما هو ضروري للصالح العام من المدينة ، إذ ليس «للعاملية» (١٢٨) أي دخل كان من أي نوع. وقد اعتاد ملوك فاس في أيامنا أن يقترضوا مبالغ ضخمة من إمام الجامع ، بدون أن يردوها مطلقا.

وفي فاس أحد عشر معهدا للتلاميذ ، حسنة البناء للغاية ، مع العديد من زخارف الفسيفساء والخشب المنقوشة. وبعضها مبلط بالرخام ، وبعضها الآخر بالمايورقي ويضم كل معهد عددا من الغرف ، فهذا المعهد يحوي مائة غرفة أو أكثر ، وذاك أقل من ذلك. وقد شيدت كلها على أيدي مختلف الملوك المرينيين. وأحد هذه المعاهد عجيب حقا من حيث أبعاده وجماله. وهذا المعهد هو الذي بناه الملك أبو عنان (١٢٩). ويرى الناظر إليه بركة فاخرة من رخام سعة فستقيتها بطتين من الماء (١٣٠). ويخترق هذا المعهد جدول ماء

__________________

(١٢٧) أي العوائد الناتجة عن الاحباس او العقارات الموقوفة.

(١٢٨) أي البلدية

(١٢٩) أبو عنان فارس ، وهي مدرسة بو عنانية المشهورة ، التي بنيت بين ١٣٥٠ و ١٣٥٥ م.

(١٣٠) البطة تعادل ٤ ، ٩٣٣ لترا ، أي أن سعة الفستقية كان حوالي ١٨٥٠ لترا.

٢٣١

يجري في قناة صغيرة قاعها وحوافيها مبلطة بالرخام وبالمايورقي. وفيه ثلاثة أروقة مسقوفة تتحلى بجمال لا يتصوره العقل تقوم حولها أعمدة مثمنة الأضلاع ومثبتة بالجدران ، أعمدة منمقة بألوان متباينة. والقناطر الواقعة بين الأعمدة مسكوّة بالفسيفساء وبالذهب الصافي وباللازورد. والسقف من خشب مجزع مصنوع صنعا منظما جميلا. وقد أقيم بين هذه الأروقة والصحن شبك من خشب على شكل ستائر خشبية ، بحيث لا يرى الذين هم في الصحن الأشخاص الموجودين في الغرف المطلة على هذه الأروقة. وجميع الجدران على ارتفاع قامة رجل وامتداد يديه ، مكسوّة أيضا بالبلاط المربع المايورقي. هذا وقد نقشت على كل كسوة هذه الجدران من البلاط في سائر المعهد كتابات شعرية تروي تاريخ تأسيس المعهد والعديد من المدائح في هذه البناية وبانيها الملك أبي عنان. وقد كتبت هذه فوق البلاطات المايورقية بحروف كبيرة سوداء فوق أرضية بيضاء مما يتيح قراءتها من مسافة بعيدة نوعا ما. وكل أبواب المعهد من البرونز المنقوش بدقة مع كثير من التزيينات ، كما أن أبواب الغرف من خشب منقوش. وفي القاعة الكبرى المخصصة للصلاة يوجد منبر ذو تسع درجات ، مصنوع برمته من خشب الأبنوس ومن العاج ، وكأنه قطعة من أثاث رائعة حقا.

ولقد سمعت من أفواه عدد من أساتذة هذا المعهد ، الذين يؤكدون أنهم سمعوا روايته من أساتذتهم ، أن الملك أبا عنان أراد ، عند الفراغ من بناء هذا المعهد ، رؤية سجل النفقات التي تكلفها هذا البناء. وما كاد يتصفح بضع وريقات حتى وجد مجموعا يقارب أربعين الف دينار ، فأخذته الدهشة ، وعمد دون أن يتابع القراءة ، إلى تمزيق السجل ، ورماه في القناة التي تخترق المدرسة وهو يردد بيتين من الشعر لأحد شعرائنا اللذين يعبران عن هذه الحكمة :

الشيء الغالي والجميل ليس غاليا ومهما دفع الانسان فيما يعجب ، فإن ما دفعه يقصر دائما عن قيمته.

وكان يمسك بحساب هذه النفقات خازن يدعى ابن الحاج ، ويروي أن مجموعها ارتفع إلى أربعمائة وثمانين ألف دينار. ولكل مدارس فاس الأخرى بعض الشبه مع هذه.

ويوجد في كل معهد أساتذة من مختلف العلوم. فهذا يعطي درس الصباح ، وذلك

٢٣٢

درس المساء. ولجميعهم مرتبات ممتازة أوصى بها مؤسس المعهد. وكان كل طالب ، في الماضي ، من طلاب هذه المدارس معفى من مصروفاته وكسائه خلال سبعة أعوام. أما الآن فليس له سوى السكن ، إذ قضي على الكثير من الأملاك والبساتين في خلال حروب سعيد والتي كانت عائداتها مخصصة لهذا الاستعمال. ولم يبق حاليا سوى دخل بسيط أمكن معه تسديد معاش الأساتذة الذين يتقاضى بعضهم مائتي دينار والبعض مائة وآخرون دون ذلك. ولربما كان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تدهور قيمة فاس الثقافية ، وكذلك كل مدن افريقيا.

ولا يقيم في هذه المعاهد سوى بعض التلامذة الغرباء عن المدينة ، والذين يتحقق معاشهم بفضل صدقات أهل فاس والمناطق المجاورة. وإذا تم قبول طالب من فاس فإنه لن يجد له رفيقا من مواطنيه. وعندما يريد أستاذ إلقاء درسه يقوم تلميذ في البدء بقراءة النص ، ثم يشرحه الأستاذ ويضيف إليه بعض آرائه ويشير للصعوبات المعترضة ، وأحيانا يتناقش التلاميذ فيما بينهم بحضور الأستاذ حسب موضوع الدرس.

المارستانات والحمّامات الموجودة في فاس

تحوي مدينة فاس بضعة مارستانات لا تقل جمالا عن المعاهد التي سبق ذكرها. وكان من عادة الغرباء في الماضي أن يجدوا فيها المأوى لمدة ثلاثة أيام. ويوجد كذلك عدة مارستانات في خارج الأبواب ، لا تقل بهاء عن تلك التي تقع في داخل المدينة. وقد كانت هذه المارستانات فيما مضى غنية جدا ، ولكن في زمن حرب سعيد ، نصح بعضهم الملك ببيع أوقافها وأملاكها لما أصبح بحاجة ماسة للمال. ولما رفض السكان قبول ذلك تقدم أحد نواب الملك وأفهمه أن هذه المارستانات كانت قد تأسست بفضل الصدقات التي كانت تمنح من أسلاف الملك الحالي ، ونظرا لتعرض الملك لخطر ضياع مملكته ، فمن الواجب بيع الأملاك العقارية لصدّ العدو ؛ وبمجرد انتهاء الحرب يمكن شراؤها بسهولة من جديد ، ولكن الملك توفي قبل أن يتمكن من شراء أي عقار جديد. وهكذا ظلت المارستانات محرومة تقريبا من أية وسائل مادية. ومع ذلك تمنح فيها الضيافة لبعض الأشراف الفقراء ، ولبعض العلماء الغرباء ، وهذا للحفاظ على الغرف بحالة حسنة. أما بالنسبة للمرضى الغرباء فليس لديهم في أيامنا أكثر من مارستان واحد. ولا تقدم لهم العناية اللازمة ولا الأطباء. وليس للمريض البائس سوى غرفته وطعامه وبعض الخدم

٢٣٣

إلى أن يبل من مرضه أو يموت. وفي هذا المارستان بضع غرف مخصصة للمجانين ، أي لأولئك المخبولين الذين يقذفون بالحجارة أو يرتكبون أشكالا أخرى من الأذى. وهنا يقيّدون فيه ويكبلون بالأغلال والسلاسل. وتكون حواجز هذه الغرف المطلّة على الممشى وعلى داخل البناية مسوّرة بعوارض خشبية متينة جدا. وعند ما يرى الشخص ، المكلف بتقديم الطعام لهؤلاء المجانين ، نوعا من هياج لدى أحدهم ، فإنه يكيل له عدة ضربات متوالية من عصى يحملها دوما لهذا الغرض. وقد يحدث أن يقترب أحيانا أحد الغرباء من هذه الغرف ، فيناديه المجانين ويشكون له استمرار احتجازهم في السجن رغم شفائهم من مرضهم ، وأنهم يتعرضون يوميا لألف معاملة سيئة من حراسهم. وإذا وثق المار بكلام أحدهم واتكأ على حافة نافذة مهجع أحدهم ، فإن المجنون يمد يده ويمسك بتلابيبه ويقوم باليد الأخرى بتمريغ وجهه بالبراز ، إذ على الرغم من وجود مرحاض لدى هؤلاء المجانين ، فإنهم ، في الغالب ، يقضون حاجتهم في وسط الحجرة وعلى الحراس تنظيف هذه الأقذار باستمرار. ولهذا يناشد الحراس الزوار الغرباء بأن يأخذوا حذرهم وألّا يقتربوا كثيرا من غرف المجانين. وأخيرا يحوي هذا المارستان جهازا للموظفين الذين يسدون حاجاتهم ، كالأمناء والممرضين والحراس والطباخين ، والذين يهتمون بالمرضى. ولكل من هؤلاء المستخدمين مرتب طيب. وقد عملت مدة عامين في هذا المارستان ، في سن الشباب ، وشغلت وظيفة كاتب ، وذلك حسب ما هو مألوف بين صغار الطلبة ، وكانت هذه الوظيفة تدرّ عليّ مبلغ ثلاثة دنانير في الشهر (١٣١).

وفي فاس مائة حمام جيدة البنيان ولا تنقصها العناية. وبعضها صغير والآخر كبير. ولجميعها نفس الطراز ، أي تتألف كل منها من ثلاث حجرات ، أو بالأحرى ثلاث قاعات. وتقع في خارج هذه الحجرات مقصورات صغيرة مرتفعة نوعا ما ، يصعد إليها بخمس أوست درجات. وهنا يخلع الناس ثيابهم ويتركونها فيها. وفي وسط الحجرات ، وضعت صنابير فوق أحواض ، ولكنها كبيرة جدا. وعند ما يريد أحدهم أن يستحم في إحدى هذه الحمامات ، فهو يدخل من أول باب ثم يلج في غرفة باردة ، وحيث توجد بركة صغيرة لتلطيف حرارة الماء عند ما يكون شديد السخونة. ومن هنا ينتقل عبر باب آخر إلى غرفة ثانية تكون أكثر سخونة بقليل ، وحيث يقوم الخدم بغسل جسمه وتنظيفه. ومن ثم يجتاز هذه الغرفة كي ينتقل إلى الثانية ، والتي تكون حارة كثيرا ، وحيث يفرز

__________________

(١٣١) لا يزال هذا المارستان باقيا حتى أيامنا ويعرف باسم مارستان سيدي فريج.

٢٣٤

المستحم العرق بعض الوقت (١٣٢). وهنا يوجد المرجل المشيّد بعناية بحجارة منحوتة ، وفيه يسخن الماء ويؤخذ الماء الساخن بسطول خشبية (١٣٣). ولكل زبون الحق بسطلين من الماء. ومن يرغب أكثر من ذلك عليه أن يدفع للخادم مكافأة قدرها بيوكشين أو على الأقل واحد فقط (١٣٤) ولكن لا أكثر من ربعيتين (١٣٥) لصاحب الحمام أو الحمّامي. ويسخن الماء بالزبل. ويعمل لدى الحمّامي عدة خدم وبغّالة من الذين يجوبون أرجاء المدينة ويشترون الروث من الزرائب. ومن ثم ينقلونه إلى خارج المدينة ويكدّسونه على شكل كومة ، ويتركونه ليجف مدة شهرين أو ثلاثة وبعدئذ يستخدم عوضا عن الحطب في تدفئة الغرف أو ماء الحمامات. وللنساء أيضا حماماتهن الخاصة بهن ، ولكن الكثير من الحمامات يعمل للرجال وللنساء ، فللرجال ساعات محدودة ، أي بين الساعة الثالثة والثانية بعد الظهر ، أو أكثر من ذلك أو أقل ، حسب الفصل. أما بقية اليوم فتخصص للنسوة. وعند ما تشغل تلك النسوة الحمامات يمدد حبل على عرض باب الحمام إشارة فلا يدخل رجل إليها. وإذا أراد أحدهم قول شيء لزوجته ، فعليه أن ينادي إحدى خادمات الحمام ، وهن زنجيات ، كي تقوم بتنفيذ الوصية.

هذا وللنساء كما للرجال عادة تناول الطعام في الحمام ، وفي أغلب الأحيان عادة التسلية فيها بمختلف الطرق كما يغنّون فيها بصوت عال. ويدخل كل الشبان تقريبا للحمام عراة ، دون أن يكون لدى الواحد أي حياء من الآخر. ولكن الرجال من علية القوم ومن مستويات اجتماعية معينة يأتزرون بمئزر ، ولا يجلسون في القاعات المشتركة ، بل ينفردون في غرف خاصة منمقة ومحفوظة دوما بحالة نظيفة جدا للشخصيات البارزة.

هذا وقد نسيت أن اذكر أنه حينما يغسّل خدم الحمام أحدهم (١٣٦) فإنه يطلب إليه أن

__________________

(١٣٢) هذه الحمامات التي يصفها الحسن الوزان هي نفسها ما نسميه بالحمامات التركية الموجودة حاليا في الأحياء القديمة من مدن المشرق العربي مثل حلب ودمشق وحماة وحمص ، ويطلق على الغرفة الباردة اسم البراني والوسطى الوسطاني والداخلية الجواني أو بيت النار (المترجم).

(١٣٣) هذه الطريقة غير معروفة في حمامات المشرق الأكثر إتقانا ، لأن المرجل يقع في غرفة في خارج الحمام تدعى القميم. وهناك شخص معين يدعى الوقاد يرمي بمقادير من الروث الجاف تدريجيا حسب الحاجة لتسخين الماء (المترجم).

(١٣٤) وحدة نقدية إيطالية تساوي نحو ٧ سنتيم ذهب.

(١٣٥) ٨ سنتيم ذهب.

(١٣٦) ويدعى في حمامات حلب «المكيّس» ، أي الذي ينظف الزبون بكيس صوفي خشن يكشط به الأجزاء التالفة من بشرة جسمه. (المترجم).

٢٣٥

يستلقي على ظهره أو بطنه ثم يقومون بتدليكه ، تارة بنوع من مراهم منشّطة ، وتارة بأدوات خاصة تنزع كل الأدران. ولكن عند ما يجري تغسيل أمير ، يعمد إلى بطحه فوق سجادة من لبّاد ، ويسند رأسه فوق نوع من وسادة خشبية مغطاة هي أيضا بلبّاد. ويوجد في كل حمام عدة حلاقين يدفعون مبلغا معينا للحمّامي كي يحتفظوا عنده بأدواتهم ولكي يمارسوا مهنتهم في حمامه.

ومعظم هذه الحمامات تخص الجوامع والمدارس وتدفع لها إجارات مرتفعة تصل بعضها إلى مائتي دينار ، والآخر مائة وخمسين ، أو أكثر من ذلك أو أقل حسب حجم هذه العقارات.

هذا ولا يجوز لنا أن نغفل عن ذكر عادة الفتيان ، الذين يعملون في هذه الحمامات ، في الاحتفال سنويا حسب الطريقة التالية : يدعو هؤلاء الفتية كل أصدقائهم ويذهبون إلى خارج المدينة ، مصحوبين بالموسيقيين الذين يعزفون بالناي ويقرعون الطبل. ثم يقتلعون بصلة زنبق يضعونها في إناء نحاسي جميل يسترونها بسماط مغسول قبل قليل. ثم يعودون إلى المدينة حيث يقصدون باب الحمام على أصوات العزف. وعندئذ يضعون البصلة في قفة يعلقونها على الباب قائلين : «سيكون هذا سبب ازدهار الحمام إذ سيكثر زبائنه». أما من وجهة نظري ، يبدو لي أن هذا يستحق أن نسميه بالأحرى «أضحية» ، من النوع الذي كان يمارسه قدامى الأفارقة في العصر الذي كانوا فيه وثنيين ، واستمرت هذه العادة حتى أيامنا.

ونجد كذلك بعض أسماء الأعياد التي اعتاد النصارى الاحتفال بها ، والتي لا يزال الناس يعملون بها اليوم ، ولكن لا يدري أحد شيئا عن سبب التمسك بهذه الأعياد. ففي كل مدينة يحتفل ببعض الأعياد والعادات التي خلّفها النصارى ، منذ الزمن الذي كانوا يحكمون فيه افريقيا. وسأشير إليها إذا سنحت لي الفرصة.

الفنادق

تحوي فاس مائتي فندق فخمة البنيان للغاية. فبعضها يكون فسيحا جدا ، مثل التي تقع بجوار الجامع الكبير ، وتتألف كلها من ثلاثة طوابق. ويحوي بعضها مائة وعشرين غرفة ، والبعض أكثر من ذلك. وتتجهز كلها ببرك ماء وبمراحيض مع بالوعاتها

٢٣٦

لتفريغ الأقذار. ولم أر مطلقا في إيطاليا أبنية مماثلة ، اللهم إلا في معهد الأسبان الموجود في مدينة بولونيا (١٣٧). وفي قصر الكاردينال في دير الخضر الواقع في روما. وتطل كل أبواب الغرف على ممشى.

ولكن على الرغم من بهاء هذه الفنادق واتساعها ، فهي تشكل مسكنا مقيتا ، لأنها تخلو من السرر والفرش. فصاحب الفندق لا يقدم للنزيل سوى الغطاء وحصيرا للنوم. وإذا أراد هذا أن يأكل فعليه أن يشتري أغذيته ويقدمها للطبخ.

هذا ولا يقطن الغرباء في هذه الفنادق ، بل يسكنها جميعا الرجال المترملون من أهل المدينة ، من الذين لا بيوت لهم ولا أقارب. فيشغلون غرفا مفردة ، أو ينزل اثنان في غرفة ويعدون بأنفسهم فراشهم ويصنعون طعامهم بيدهم.

وأسوأ ما في هذه القضية هو مساكنة بعض الأفراد الذين يؤلفون حثالة بشرية تدعى «حيوة». وهم ذكور يكتسون كالإناث ويتزينون كالنساء تماما ، فيحلقون لحاهم ويصل بهم الأمر إلى تقليد النساء في طريقة كلامهن. ولكن ماذا أقول في أسلوب كلامهم؟ فهم يرققون أصواتهم ويخضعون بالقول. ولكل من هذه الكائنات الدنيئة صاحب يتسرّاه ويعاشره كما يعاشر الرجل المرأة. ولهؤلاء الناس في الفنادق زوجات أخلاقهن هي أخلاق المومسات في بيوت الدعارة في أوروبا. ولدى هؤلاء ترخيص بيع الخمر وشرائه دون أن يعترضهم موظفو الحاشية.

وهذه الفنادق هي دائما مقصد أولئك الذين يحيون أكثر ضروب الحياة دناءة. فالبعض يذهب إليها ليثمل والآخر لكي يشبعوا شبقهم من نسوة مرتزقات ، والبعض الأخير كي يكون فيها بمنأى عن الحاشية بسبب تصرفاتهم غير الشرعية والمشينة والتي يجدر بنا أن نضرب عنها صفحا.

ولأرباب الفنادق أمين ، ويدفعون نوعا من أتاوة لنقيب المدينة وحاكمها. وفضلا عن ذلك فإن عليهم ، عند اللزوم ، أن يقدموا لجيش الملك أو الأمراء قسما هاما من مستخدميهم كي يطهوا طعام الجند ، لأنه لا يوجد كثيرون غيرهم قادرين على مثل هذه الخدمة.

__________________

(١٣٧) مدينة في شمالي إيطاليا شرق جنوة سبق للحسن الوزان أن درّس اللغة العربية في معاهدها.

٢٣٧

ولولا أن القانون الذي يلزم المؤرخ به نفسه يدفعني لقول الحقيقة لكان باستطاعتي بكل تأكيد أن أغفل بكل سرور هذا الجزء من وصفي ، ولرجحت السكوت عن اللوم الذي تستحقه هذه المدينة التي نشأت فيها وترعرعت. والحقيقة إذا استثنينا هذا العيب ، فإن مملكة فاس تضم أناسا على درجة عالية من الشرف تفوق كل ما هو في افريقيا. وليس لهؤلاء الأشخاص أية علاقة مع أرباب الفنادق الذين ذكرتهم. فهؤلاء لا يتردد عليهم سوى السفلة من أحقر الافرازات. ولا يبادلهم الكلام أي تاجر أو صانع مثقف. كما أن من المحظور عليهم دخول الفنادق القريبة من الجامع ، وكذلك الأسواق والحمامات وبيوت الناس. كما أنهم لا يستطيعون إدارة الفنادق المجاورة للجامع حيث يسكن التجار من طبقة سامية. وبتمنى لهم كل الناس الموت. ولكن نظرا لأن الأمراء يستخدمونهم لحاجات الجيش ، كما سبق ، فهم يتركونهم يعيشون تلك الحياة الوقحة البغيضة.

الطواحين

يوجد في داخل فاس قرابة أربعمائة طاحون ، وهي أبنية تحوي عددا من الرحيات ، إذ يقدّر عدد الرحيات بحوالي الالف. بمعنى أن الطاحون يتألف من قاعة كبيرة قد تحوي أحيانا أربعا أو خمسا أو ست رحيات. ويأتي قسم من سكان الضواحي لطحن قمحهم في المدينة ، كما يوجد بعض الباعة الذين يسمون الطحانة ، ولهؤلاء طواحين مستأجرة ، ويشترون الحب ، ويطحنونه ثم يبيعون الدقيق في دكاكين لهم مستأجرة هي أيضا. ويجنون من هذه المهنة ربحا طيبا لأن كل الصناع الذين لا تكفي مواردهم للتموّن بالحب يشنرون الطحين من هذه الدكاكين ويصنعون خبزهم في بيوتهم. ولكن الاشخاص المرموقين يشترون القمح ويطحنونه في بعض المطاحن الخاصة بأبناء المدينة ويدفعون بيوكشين (١٣٨) للكيل. وأكثرية هذه الطواحين أحباس (١٣٩) للجوامع وللمعاهد. والقليل منها أملاك فردية خاصة. وإجارتها مرتفعة تبلغ دينارين عن كل رحى.

__________________

(١٣٨) أي ١٥ سنتيم ذهب.

(١٣٩) أي أوقاف خيرية.

٢٣٨

الصّناع المتنوّعون ، الدكاكين ، الأسواق

تنفصل جماعات المهن في فاس بعضها عن بعض. وتقع أشرفها حول إطار الجامع وبالقرب منه.

وهكذا يشغل كتّاب العدل حوالي ثمانين دكانا بعضها ملتصق بجدار الجامع والبعض الآخر واقع في واجهته. وفي كل دكان كاتب عدل.

وإلى الغرب من ذلك توجد المكتبات التي تشغل ثلاثين دكانا. وإلى الجنوب يوجد باعة الأحذية الذين يتوزعون في مائة وخمسين دكانا. ويشتري هؤلاء الباعة الأحذية والخفوف من الحذائين بالجملة ويعيدون بيعها بالقطاعي (١٤٠). وإلى الشرق من الجامع يوجد باعة الأواني النحاسية ومن النحاس الأصفر. وفي مواجهة الباب الرئيسي للجامع ، في الغرب ، تقع دكاكين باعة الفواكه الذين يشغلون خمسين دكانا يبيعون فيها الثمار. ويأتي بعدهم باعة الشمع الذي يصنعون منه أبدع الاشكال التي رأيتها في حياتي. ثم يأتي باعة الخيطان ، ولكن لهؤلاء القليل من الدكاكين.

ونجد بعدئذ باعة الزهور الذين يبيعون بالإضافة لذلك الليمون بنوعيه. وعند ما يرى الانسان كل هذه الزهور الكثيرة الأنواع يخال نفسه في أبهى المروج وأكثرها نضرة في العالم ، أو يرى أمامه لوحة مرسومة بأكثر الألوان تنوعا. ونجد هنا حوالي عشرين دكانا لأن الذين اعتادوا شرب النبيذ يفضلون أن يروا بعض الزهور إلى جانبهم.

وبعد الزهّارين يأتي باعة الحليب الذين تزدان دكاكينهم بآنية من المايورقي (*). ويشترون الحليب من البقارة الذين يعلفون ابقارا لهذه التجارة. ويرسل هؤلاء البقارة في صبيحة كل يوم حليبهم في أوعية من خشب مطوقة بالحديد ، تكون ضيقة جدا عند فتحتها وعريضة في قعرها ، ثم يبيعونه في دكاكينهم. أما الحليب الذي يتبقى لدى هؤلاء الحلّابين ، في المساء وفي الصباح ، فيشتري بعض التجار الذين يصنعون زبدة من قسم منه ويتركون الباقي ليتحمض ويبيعونه للزبائن على شكل حليب حامض وفاتر. واعتقد أنه يباع في فاس يوميا مقدار خمسة وعشرين بطة (١٤١) ما بين حليب طازج وحامض.

__________________

(١٤٠) أو بالمفرّق كما يقال فى بلاد الشام.

(*) او المالقي كما يسمى في بلاد الشام.

(١٤١) كيل ايطالي يعادل ٩٣٨ لترا فالخمسة والعشرون من هذا الكيل تعادل اكثر من ٢٣٠٠ لترا واكثر من ٢٣ طن.

٢٣٩

وبعد الحلّابة تقع دكاكين باعة القطن التي يبلغ عددها ثلاثين دكانا. وإلى الشمال من ذلك توجد دكاكين باعة الاشياء المصنوعة من القنب وهم الذين يبيعون الحبال والخيوط والامراس وأرسان الخيل. وفي وراء أولئك تقع حوانيت صناع النطاقات الجلدية والأحذية وأرسان الخيول الجلدية المطرزة بالحرير. وإلى أبعد من ذلك نجد صناع أغماد السيوف والسكاكين وصداري الخيل. ويأتي بعدهم باعة الملح والجص الذين يشترون بالجملة ويبيعون بالمفرّق. ثم يأتي باعة الأواني الخزفية وخزفياتهم بديعة ذات ألوان جميلة ، وبعضها وحيدة اللون وبعضها مطلية بلونين. ولهؤلاء الباعة مائة دكان. ثم يأتي أولئك الذين يبيعون اللجامات والأعنّة والسروج وحزامات البطون والركابات ويشغلون حوالي ثمانين دكانا. ثم نصل إلى الموقع الذي يتواجد فيه الحمّالون ، ويبلغ عددهم ثلاثمائة ولهم أمين ، أي رئيس ، يختار كل أسبوع أولئك الذين عليهم أن يشتغلوا وأن يكونوا تحت تصرف الجمهور في أثناء الاسبوع. ويجمع هؤلاء الرجال دراهم أرباحهم في صندوق له عدة مفاتيح محفوظة لدى كل رئيس مجموعة. وبانتهاء الاسبوع تقسم الدراهم بين أولئك الذين اشتغلوا ويحب هؤلاء الحمالون بعضهم بعضا كأنهم اخوة. وإذا توفي أحدهم تاركا ولدا صغير السن ، اشتركوا سوية في تأمين معيشة الزوجة إلى أن تتزوج ثانية إذا رغبت ، ويبذلون عناية حنونة وسريعة تجاه الأولاد إلى أن يصبحوا في سن يتدربون فيه على مهنة ما. وعندما يتزوج أحدهم أو يرزق بمولود يدعو كل رفاقة لوليمة ويقدم كل واحد منهم هدية بالمقابل. ولا يستطيع أي شخص أن يمارس مهنة حمّال دون أن يدعو أولا كل رفاقه إلى وليمة. وإذا لم يقم بذلك فلن يتقاضى أكثر من نصف حصة الآخرين. وقد حصل هؤلاء الحمالّون من الملوك على امتياز ينص على اعفائهم من أية ضريبة أو رسم ، حتى أنهم لا يدفعون أجرا عن خبز عجينهم عند الخبازين. وإذا ارتكب احدهم جريمة ما عقابها الإعدام فلا ينفّذ فيه ذلك الحكم أمام الملأ. ويعمل هؤلاء الناس وهم لا بسون ثيابا قصيرة ذات لون وحيد. ويلبسون في خارج اوقات عملهم كما يرغبون. وهم أناس شرفاء على خلق كريم.

وتقع ساحة الأمناء (١٤٢) خلف موضع الحمّالين ، وكذلك القضاة الذين لهم سلطة على كل السلع الإستهلاكية. وتقوم في وسط هذه الساحة حظيرة من قصب مربعة الشكل يباع فيها الجزر واللفت. وهذه من أكثر الخضر رواجا في فاس ، بحيث لا يمكن شراؤها

__________________

(١٤٢) الأمناء أو نقباء المهن ورئيسهم المحتسب.

٢٤٠