وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

وفي خلال الأشهر الثمانية التي جاس فيها خلال البلاد عمل على تخريبها حتى لم يبق فيها سوى بعض أطلال من المدن التي كانت قائمة فيها. أضف إلى ذلك أن ملك فاس ، الذي بلغه نبأ قصد أهل تامسنه عبور أبي الرقراق زاحفين باتجاه فاس ، عقد هدنة مع قبائل زناتة واتجه نحو النهر المذكور على رأس جيش لجب. وهناك واجه ملك تامسنه البائس الذي كانت قواته منهوكة القوى تماما بسبب الجوع والبؤس. ولما حاول ملك تامسنة عبور النهر وجد الممر مسدودا في وجهه بتأثير قوات ملك فاس. وهكذا اضطر هؤلاء البؤساء بعد أن أصبحوا مطاردين ويئسوا من قضيتهم إلى التشتت في الغابات وبين الصخور التي يعسر اجتيازها. وبعد أن طوقوا وحوصروا من قبل الجيوش الملكية ، أبيدوا بثلاث طرائق : فبعضهم غرقوا فعلا في مياه النهر ، وبعضهم الآخر طوردوا في مناطق الجروف الصخرية فدقت أعناقهم بعد سقوطهم في القراغ ، وحتى الذين استطاعوا أن يخرجوا من الماء سقطوا في أيدي رجال الملك حيث قطعت رءوسهم بالسيف. وهكذا راح سكان تامسنه يتناقصون ثم أبيدوا قاطبة في مدة عشرة أشهر. ويقدر أن عدد الضحايا بلغ المليون بين رجال ونساء وأطفال. وعاد يوسف ملك لمتونة إلى مراكش كي يعيد تنظيم جيشه ضد ملك فاس وترك تامسنه مأوى للأسود والذئاب والبوم (١٠).

وظل إقليم تامسنه مهجورا مدة مائة وثمانين عاما حتى الزمن الذي عاد فيه المنصور من مملكة تونس (١١) وكان متبوعا ببعض أفخاذ قبائل عربية مع شيوخهم ومنحهم تامسنة مقرا

__________________

(١٠) يبدو هنا العرض ، الذي لا نجد أية وثيقة تاريخية تؤيده ، يبدو كأنه عبارة عن سرد مسجل نقلا عن وثيقة ما مجهولة أو ربما كان استنادا إلى حديث شفوي يعطينا عنه الكاتب البرتغالي المجهول الاسم ، في آخر القرن السادس عشر ، رواية مماثلة تقريبا. ومن المقبول أن نفترض بأن هذا النص يتعلق بالحملة التي تابعها أمير لمتونة أبو بكر بن عمر قائدها العسكري ضد قبيلة برغواطة المارقة عن الإسلام ، وذلك بتحريض الزعيم الديني للمرابطين عبد الله بن ياسين. وقد كان المرابطون سادة أغمات منذ عام ١٠٥٧ م وجعلوا من هذه البلدة قاعدة لعملياتهم. وبعد غارة على تادلة هاجموا تامسنة. وقد قتل في هذه المعركة عبد الله ياسين في ١٩ تموز ١٠٥٨ م على ضفاف وادي كريفله. وبعد عام تقريبا تعرض خلفه لنفس المصير. وبعد أن قام أبو بكر بتخريب أقليم تامسنة كليا عاد إلى أغمات التي غادرها في آذار (مارس) ١٠٦٠ م ليقوم بغارة بلغت ضواحي فاس. ومهما كانت صحة هذه القصة فليس من المحتمل إطلاقا أن يكون الأمير حاكم فاس قد تدخل في هذه المعركة ضد برغواطة. وفي عام ١٠٥٨ م كان أميرها يدعى دوناس ، من عشيرة بني خازر ، من فرع مغوارة ، وهي فخذ من زناتة ، وكانت فترة حكمه فترة ازدهار. وعلى أثر وفاته عام ١٠٥٩ م حل مكانه ابنه الفتوح الذي كانت له منازعات خطيرة مع أخيه أجيزا. ولم تكن إمارة فارس مهددة. وعلى خلاف ذلك فإن من الممكن أن يكون المرابطون قد تلقوا دعما ضد برغواطة المارقين عن الإسلام من أمير شلة (سلا الحالية) ، يوسف بن حماد ، وهو أيضا من زنانة ولكن من عشيرة بني إيفران. وهذا يفسر معركة أبو الرقراق بشكل أفضل.

(١١) في عام ١١٨٨ م أو ٥٨٠ ه‍ أي بعد مائة وثلاثين عاما بعد الحملة المرابطية على قبيلة برغواطة.

٢٠١

لهم. فظلوا فيها مدة خمسين سنة إلى أن فقدت عائلة المنصور مملكتها. وقد كان سقوط هذه الأسرة مصيبة كبرى بالنسبة لهؤلاء العرب ، فوقعوا في بؤس شديد إلى أن تم طردهم على يد اللوك المرينيين (١٢).

وقد أقطع المرينيون هذا الإقليم إلى قبائل من زنانة وهوارة مكافأة لهم على الدعم الذي تلقوه منهم ، لأن هؤلاء وأولئك كانوا دوما يؤيدونهم ضد الملوك الخلفء في مراكش (١٣). وهكذا حصلت قبائل الزناتة وهوارة على حق التمتع بهذا الإقليم. وقد تكاثروا فيه وأصبحوا منذ مائة عام تقريبا ، عامل حال خوف لملوك فاس. ويقدر بعضهم أنهم يعدون ستين ألف فارس ومائتي ألف من المشاة.

لقد ترددت كثيرا على هذا الإقليم وسأتكلم لكم عنه بتفصيل.

أنفة : مدينة في تامسنه

أنفة مدينة كبيرة أسسها الرومان (١٤) على ساحل المحيط على مسافة ٦٠ ستين ميلا (١٥) شمال الأطلس وعلى مسافة ستين ميلا تقريبا شرقي آزمور (١٦). وكانت مدينة آمنة جدا ومزدهرة كثيرا لأن الأراضي المجاورة كانت خصبة صالحة لكل أنواع الحبوب. وتتمتع بأجمل موقع في إفريقيا ، فهي محاطة من كل الاتجاهات ، ما عدا الطرف الشمالي وساحل البحر ، بسهل يمتد على مسافة ثمانين ميلا (١٧). وفي داخل أنفة العديد من المساجد ، والدكاكين البديعة جدا ، والقصور العالية وما إلى ذلك من العمائر التي يقدر مبلغ عظمتها مما تخلف عنها من أطلال مهدمة. وكان منها أيضا الكثير من البساتين وكروم العنب.

__________________

(١٢) لقد تم نفي العرب من إفريقية (شمال تونس ومنطقة قسنطينة تقريبا) على يد الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن المنصور. ووصلوا حوالي شهر رجب ٥٨٤ ه‍ / ايلول (سبتمبر) ١١٨ م. وقد كان للخليفة الموحدي أبو حفص عمر المرتضي ، الذي حكم بين ٢٤ / ٦ / ١٢٤٨ و ٢٢ / ١٠ / ١٢٦٦ م خصومات شديدة مع عرب تلمسان ابتداء من سنة ٦٥١ ه‍ / ١٢٥٣ ـ ١٢٥٤ م. وقد عمد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ، الملقب هو أيضا بالمنصور ، إلى احتلال تامسنه بعد شوال ٦٥٨ ه‍ / حوالي تشرين الأول وتشرين الثاني ١٢٦٠ م ، بعد أن طرد النصارى من سلا ، الذين احتلوها. أما آخر خليفة موحدي ، وهو أبو العلا إدريس ، الملقب أبو دبوس ، والذي نودي به في ٢٣ / ١٠ / ١٢٦٦ م فقد قتل بتاريخ. ٢٩ آب (أغسطس) ١٢٦٩ م.

(١٣) أي الموحدين.

(١٤) أنفة. موقع الدار البيضاء الحالية ، وليست من تأسيس الرومان.

(١٥) ١٠٠ كم.

(١٦) في الحقيقة على مسافة ٩٠ كم شمال شرقي آزمور.

(١٧) ١٣٠ كم.

٢٠٢

وحتى أيامنا ، لا تزال تجنى منها كمية كبيرة من الثمار ، لا سيما ثمار «الشمام» والخيار التي يبدأ نضجها في أواسط نيسان (ابريل). ومن عادة الناس نقل هذه الثمار إلى فاس لأن خضر فاس تتأخر عنها زمنيا.

وكان سكان أنفة غاية في حسن الهندام بسبب علاقاتهم الوثيقة مع التجار البرتغاليين والإنجليز. وكان بين ظهرانيهم رجال مثقفون جدا. ولكن كان هناك سببان أديا إلى تعاسة سكانها وخرابهم : الأول هو أنهم أرادوا أن يعيشوا بحرية دون أن تكون لديهم الوسائل ، والثاني أنهم جهزوا في مرساهم الصغير سفنا صغيرة قامت بإحداث تخريبات شديدة في شبه جزيرة قادس وعلى كل ساحل البرتغال. وكان من جراء ذلك أن أمر ملك البرتغال بتخريب أنفة. ولهذا الغرض أرسل أسطولا مؤلفا من خمسين سفينة مع قوات محاربة ومدفعية هامة. وعندما رأى السكان وصول الأسطول ، جمعوا أغلى ما يملكونه ، وهربوا إلى الرباط وإلى سلا تاركين مدينتهم. ولما كان قائد الأسطول لا يعرف شيئا عن الوضع في المدينة ، فقد خطط للمعركة وأخذ يطبق تخطيطه. ولكن لما لم يظهر أمامه أحد ، أدرك ما حدث وأنزل قواته إلى البر. ودخل هؤلاء إلى أنفة بعنفوان شديد أدى إلى نهب المدينة وتخريبها تماما في خلال نهار واحد ، فأحرقوا البيوت وقوضوا الأسوار في عدة نقاط (١٨). وظلت أنفة حتى الآن مهجورة. وعندما ذهبت إليها لم أستطع أن أتمالك دموعي لأن معظم البيوت والدكاكين والجوامع لا زالت قائمة وتقدم خرائبها للعين منظرا جديرا حقا بالرثاء. ولا تزال ترى مزارع أشجار عامرة لا تزال تنتج بعض الثمار. وهكذا أدى عجز ملوك فاس وعيوبهم إلى وصول أنفة لمثل هذه الحالة حتى أنه لا أمل في أن تعود مأهولة (١٩).

مدينة المنصورة

المنصورة بلدة صغيرة بناها المنصور ملك مراكش في سهل جميل جدا ، وتقع على مسافة ميلين من المحيط ، أو على مسافة خمسة وعشرين ميلا من الرباط ونفس المسافة تقريبا عن أنفة. وكان فيها حوالي أربعمائة أسرة. ويمر من قرب المدينة نهر صغير يدعى

__________________

(١٨) حدث ذلك سنة ١٤٦٨ م. وبعد ذلك غادر البرتغاليون أنفة.

(١٩) لقد خاب تنبؤ الحسن الوزان امام هذا الثراء الهائل الذي احرزته الدار البيضاء في القرن العشرين.

٢٠٣

غير (٢٠). وتقوم على هذا النهر عدة بساتين والكثير من الكروم ، ولكنها اليوم خاوية مهجورة. وذلك أنه عندما تخربت أنفة غادر أهل المنصورة فورا مدينتهم أيضا ، وهربوا إلى الرباط خشية البرتغاليين وتركوا مدينتهم فارغة. ولا تزال الجدران فيها سليمة ، ما عدا بعض النقاط التي خربها عرب تامسنه. وقد مررت بهذه المدينة وانتابني الحزن عليها. ويمكن إعادة اعمارها بسهولة ، فليس هناك سوى تشييد البيوت. ولكن تلك الحيوانات الرديئة ، وهم عرب تامسنه ، لا يريدون أن تعود المنصورة مأهولة ما داموا أشرارا وطغاة (٢١).

مدينة نخيلة

نخيلة (٢٢) بلدة صغيرة مبنية وسط تامسنة. وقد كانت في الماضي آهلة جدا بالسكان في أيام المارقين (٢٣) ، ويقوم فيها سوق مرة في كل عام يسعى إليه كل سكان تامسنة. وكان السكان أغنياء لأن أراضي منطقتهم كانت واسعة جدا : فكانت تضم خمسين ميلا (٢٤) من كل جانب في السهل. وتذكر كتب التاريخ أنه في عهد المارقين بلغت وفرة القمح درجة جعلت الناس يقايضون حمل بعير منه مقابل زوج من الأحذية. وقد تخربت هذه المدينة

__________________

(٢٠) لا يمكن أن يكون موقع المنصورة مطابقا لموقع قصبة منصورية الحالية القريب من البحر ، عند مصب واد تامده. أي هذه البلدة يجب أن تكون أبعد من ذلك في داخل الأرض قرب واد نفيفيخ الذي لا زال يحمل حتى اليوم في مجراه الأعلى اسم دير ، وربما كان ذلك تحريفا محتملا لكلمة غير.

(٢١) المقصود بالعرب هنا الأعراب كما هو الحال في سائر نصوص هذا الكتاب وفي مقدمة ابن خلدون. والواقع لا تزال الزراعة في العالم العربي تعاني الكثير من جور البدو وأنصاف البدو من أهل الشاة حتى عهد قريب جدا ، وحتى الآن ، في كثير من الأماكن المتطرفة ، وهم المسئولون إلى حد كبير عن المنظر الكالح الذي يسود معظم أريافنا وندرة الشجر فيها ، فقد كانوا يشتركون مع الجراد والماعز في القضاء على الأشجار المثمرة ولا سيما الغراس الصغيرة منها ، وهذا ما حدا ببعض أعداء الأمة العربية إلى التشهير بالعرب في عشرات المؤلفات والمجلات كقول أول مندوب سام على فلسطين ، وهو يهودي بريطاني اسمه هربرت صموئيل : أخطأ من قال إن العرب أبناء الصحراء بل هم آباؤها ، وتستغل الدعاية الصهيونية إلى أقصى حد منظر البوار الذي كان سائدا في فلسطين إلى حد ما عند بدء هجرتهم والمناظر الخضراء التي تظهر على أيديهم بعد اقامة المستعمرات الزراعية وبذلك استدزوا عطف شطر كبير من دول العالم. وقد صرح في أوائل الخمسينات أول وزير خارجية الإسرائيل وهو : موشى شرتوك ، أو شاريت قائلا : لدى العرب ثلاثة ارباع صحاري العالم فلا هم يستفيدون منها ولا يسمحون لأحد بأن يستفيد منها ، وقال رئيس وزرائهم بن جوريون عن فلسطين : أرض بلا شعب لشعب بلا أرض (المترجم).

(٢٢) لا تزال مدينة نخيلة معروفة على مسافة ١٨ كم جنوب فضالة.

(٢٣) أي أهل برغواطة السابق ذكرها.

(٢٤) ٨٠ كم.

٢٠٤

شأن المدن الأخرى عند قدوم يوسف إلى تامسنة. ومع هذا لا نزال نشاهد بعض الآثار ، كبعض شقق الأسوار ، ومنارة كانت في وسط الجامع. ولا نزال نرى فيها أيضا بساتين وأماكن الكروم ، وقد بلغت الأشجار درجة من الهرم لا تسمح لها بإعطاء ثمار. ويترك عرب تامسنة أدواتهم الفلاحية قرب هذه المنارة عند ما يفرغون من عمليات الحراثة : ويقولون إن وليا مدفونا هنا ، ولهذا السبب ، لا يجرؤ أحد على أن يأخذ أدوات الآخر ، خوفا من غضب هذا الولي.

وقد مررت من نخيلة مرات لا تحصى لأنها واقعة على الطريق من رباط إلى مراكش.

آدندون

آدندون (٢٥) بليدة مبنية فوق تلال على مسافة خمسة عشر ميلا فوق جبال الأطلس (٢٦) وخمسة وعشرين ميلا عن المدينة السابقة (٢٧). وجميع تلالها صالحة لزراعة الحنطة. وتنبع عين ذات مياه لذيذة قرب سورها. ويوجد حولها الكثير من أشجار النخل الصغيرة التي لا تعطي ثمرا. ويمر ماء العين بين الصخور ويجري في واد يقال بأن فيه مناجم كانت تستغل لاستخراج الحديد ، ويظهر هذا من طعم الماء. ولم يبق من هذه المدينة سوى بعض الآثار الضئيلة كأركان الجدران وبعض الأعمدة المتمددة على الأرض ، وقد تخربت بالفعل أثناء حروب المارقين عن الإسلام كسائر المدن الأخرى.

تغّت

تغت بليدة بناها الأفارقة على ضفة نهر أم الربيع (٢٨) عند ممر طريق تادلة إلى فاس. وكانت هذه البلدة كثيرة السكان. منظمة ، وغنية جدا. إذ كان يوجد بالقرب منها طريق

__________________

(٢٥) آدندون ومعناها أرض صالحة للزراعة ، ولكن هذا الاسم غير مستعمل. والمستعمل كثيرا هو آدندن. وكانت هناك بلدة تدعى دندون في جنوب بلاد زعير. ولم يمكن تشخيص هذا المكان.

(٢٦) ٢٤ كم.

(٢٧) ٤٠ كم.

(٢٨) يصب وادي تغّت في نهر أم الربيع عند بلدة البرج. ومن الممكن أن تكون تغّت قد احتلت موقع البرج ، على مسافة ١٢ كم شمالي خنيفرة.

٢٠٥

كان يجتاز جبل الأطلس كي يؤدي إلى الصحراء.

وكان كل أهالي تخوم هذا القسم من الصحراء يأتون إلى تغّت لشراء حنطتهم. وقد تهدمت هذه المدينة أيضا أثناء حرب المارقين عن الإسلام. وبعد ذلك بفترة قصييرة عمرت من جديد. ولكنها لم تعد أكثر من قرية يخزن فيها بعض العرب حبوبهم ، وسكانها هم حراس على هذه الحبوب. فلا نجد فيها دكاكين ، ولا صناع ، ما عدا الحدادين الذين يصلحون الأدوات الزراعية ويحذون الخيل.

وقد تلقى هؤلاء الناس من سادتهم العرب أمرا بحسن استقبال كل الغرباء الذين يمرون بهذا المكان. ويدفع التجار رسم مرور ، قيمته غيوليو (٢٩) مقابل كل حمل من الجوخ أو من القماش الكتاني الذي ينقلونه ، ولكن لا يدفعون شيئا عن المواشي ولا عن الخيل.

وقد مررت عدة مرات بهذه البلدة ولم ترق لي ، ولكن أرضها ممتازة فعلا وتزخر بالحبوب والمواشي.

عين حلوف (٣٠)

وهي مدينة صغيرة لا تبعد كثيرا عن المنصورة ، مبنية في سهل تظهر فيه بعض أحراش الزعرور وبعض الأشجار الشوكية الأخرى التي تنتج ثمارا مستديرة تماثل العنّاب ، ولكنها صفراء اللون ، مع نواة أكبر حجما من نواة الزيتون ، وطعم شحم هذه الثمرة غير جيد (٣١) ، وتوجد حول هذه المدينة مستنقعات تعيش فيها أعداد كبيرة من سلاحف الأرض وسلاحف الماء ، وكذلك ضفادع كبيرة جدا ، وهي غير سامة كما سمعت من بعضهم. ولم يشر أي مؤلف إفريقي إلى هذه المدينة ، وهذا بلا ريب بسبب قلة أهميتها ، وربما لأنها هدمت منذ زمن قديم جدا. ولا يبدو أنها قد أنشئت على أيدي الأفارقة ، ويظهر أنها بنيت في عهد الرومان ، أو من قبل قوم ينتسبون لأمة غريبة عن إفريقيا (٣٢).

__________________

(٢٩) عملة إيطالية كانت تعادل ٧٥ فرنك ذهبي.

(٣٠) الحلوف هو الخنزير البري في لغة أهل المغرب ، أو الخنزير بشكل عام.

(٣١) ربما كان يقصد بذلك العناب البري Zizyphus Lotus

(٣٢) لا توجد اليوم أبدا آثار تدل على ضاية حلوف ، الواقعة على مسافة ١٥ كم جنوب المنصورية

٢٠٦

الرّباط

الرباط (٣٣) مدينة كبيرة بنيت في الأزمنة الحديثة من قبل المنصور ، ملك وخليفة مراكش. ويمر على طولها ، من الشرق نهر أبو الرقراق. وهو يصب في البحر. وبنيت قلعة المدينة عند مصبه ، فهي على النهر من جهة وعلى البحر من جهة أخرى.

وتشبه هذه المدينة في أسوارها وأبنيتها مدينة مراكش لأنها بنيت من قبل المنصور لنفس الغرض ، ولكنها تبدو صغيرة جدا بالموازنة مع مراكش. وإليك سبب تأسيس الرباط : لقد كان المنصور يحكم حينذاك على كل إقليم غرناطة وعلى جزء من أسبانيا. ولما كانت هذه البلاد نائية جدا عن مراكش ، فقد خطر ببال الملك أن هذه المدينة إذا ما تعرضت لهجوم من طرف النصارى ، فلن يتمكن أن يهب لنجدتها بسهولة. وهكذا فكر في أن يشيد مدينة على سيف البحر ذاته حيث يستطيع أن يبقى طيلة الصيف مع قواته. وقد نصحه بعضهم بالإقامة في سبتة التي هي مدينة واقعة على مضيق جبل طارق. ولكن الملك لاحظ ان هذه ليست بالمدينة التي تستطيع أن تكفي لمرابطة جيش في أثناء مدة ثلاثة أو أربعة شهور ، بسبب عقم الأرض في هذه المنطقة. كما فكر أيضا في ان هذا لن يمردون أن يسبب امتعاضات لدى أهل سبتة بسبب سكنى العسكريين وموظفي البلاط الملكي. ولهذا عمل على بناء مدينة الرباط في بضعة أشهر. وزودها بالمساجد والمدارس وكل أنواع القصور والبيوت والدكاكين والحمامات ومخازن الأدوية. وشيد في خارج الباب الذي يتجه نحو الجنوب منارة مماثلة لمنارة مراكش ، ولكن مع مطلع أكثر عرضا بكثير ، وفي الواقع يستطيع ثلاثة فرسان أن يصعدوا إليها جنبا إلى جنب. ويقال أنه من الممكن من أعلاها رؤية سفينة في عرض البحر على مسافة كبيرة جدا. وأعتقد أنها تعتبر ، نظرا لارتفاعها ، من أجمل الأبنية المشيدة في العالم (٣٤).

وأراد الملك أيضا أن يستوطن في المدينة العديد من الصناع والمثقفين والتجار. وأعطى الملك أمرا بأن كل مواطن فيها ينال مكافأة علاوة على الربح الذي تدره عليه مهنته. وقد أدى ذلك إلى اجتذاب أناس إلى هذه المدينة من كل الأصناف ومن كل المهن ، حتى لقد غدت الرباط ، خلال وقت قليل ، من أشرف المدن في كل إفريقيا وأغناها ، إذ كان لسكانها دخل مزدوج ، أولا المكافأة المقررة وثانيا ربح التجارة مع العسكريين ومع

__________________

(٣٣) عاصمة المملكة المغربية الحالية.

(٣٤) الواقع أن برج حسان يرتفع لأكثر من ٤٤ م ولكن موقعه يمنحه بروزا بديعا جدا ، وعرض مطلعه متران.

٢٠٧

رجال الحاشية الملكية. وكان المنصور يسكن هذه المدينة من بداية شهر نيسان (أبريل) إلى شهر ايلول (سبتمبر). ولما كانت المدينة قائمة في موقع يفتقر للماء الجيد ، لأن ماء البحر يختلط عندها بماء النهر ، ولما كانت موجة المد تصعد لمسافة اثني عشر ميلا في النهر ، ونظرا لأن مياه الآبار مالحة ، فقد جرّ المنصور إليها ماء عين واقعة على مسافة اثني عشر ميلا من المدينة بواسطة قناة بديعة البناء ، قائمة فوق حنايا تماثل تلك التي ترى في كل إيطاليا ، لا سيما بجوار روما. وتنقسم هذه القناة إلى عدة فروع تقود إحداها الماء إلى المساجد والمعاهد والقصور الملكية والأحواض العامة التي أقيمت في كل الأنحاء (٣٥).

وبعد وفاة المنصور أخذت هذه المدينة في التدهور حتى إنه لم يبق منها سوى العشر. فقد تقطعت القناة وتخربت أثناء حروب المرينيين ضد أسرة المنصور. والرباط الآن في أسوأ حالة عرفتها وأعتقد أنه لا يمكن العثور فيها ، إلا بصعوبة ، على أربعمائة بيت مسكون قرب القلعة ، مع بعض الدكاكين الصغيرة. وفضلا عن ذلك فهي مهددة باحتلال البرتغاليين لها. والحقيقة أن كل ملوك البرتغال السابقين خططوا المشاريع لاحتلالها على اعتبار أنهم إذا ما استولوا على الرباط فإنهم سيتمكنون بسهولة من احتلال

__________________

(٣٥) لقد كانت كلمة الرباط تعني عند العرب المسلمين الثغر المتقدم لإقامة الفرسان ، وحيث كانت تربط الخيول فيه ، فالكلمة مأخوذة من ربط الخيل ومن رابط بمعنى أقام بانتظار الجهاد. وهكذا تجهزت كل الجبهة الأرضية والبحرية لجيوش الفتح الإسلامي بهذه المراكز العسكرية التي تمنح منعة للمجاهدين في سبيل الله وتدعم إيمانهم. وقد أنشىء رباط الضفة اليسرى لمصب نهر أبو الرقراق ، أي رباط سلا ، كرأس جسر ضد المارقين من قبيلة برغواطة. وفي أواسط القرن التاسع كان يتواجد أحيانا في هذه الرباطات كما في الرباطات المجاورة حوالي مائة ألف من المرابطين مجتمعين ، وظل اسم بلد المجاهدين معروفا بجوار البحر ، جنوبي الرباط. ويعود إنشاء مدينة في هذه المنطقة ، في الغالب ، للخليفة عبد المؤمن الذي كان عليه ان يقمع في سنة ١١٤٩ م آخر تمرد قامت به برغواطة ، الذين عجز المرابطون عن إبادتهم جميعا في عامي ١٠٥٩ ـ ١٠٦٠ م. وقد بنى المدينة في مكان قصر كان يخص بني كنانة ، وسماه المهدية ، تخليدا لذكرى المهدي بن تومرت. ولكن الاستعمال الدارج عمل على تفوق اسم رباط الفتح ، وهذا بلا شك بسبب نجاح تلك الحملة ضد برغواطة. وفي سنة ١١٥٠ م عمل عبد المؤمن على جر مياه عين غابولة ، وهو نبع يقع على مسافة ٢٠ كم نحو الجنوب. وبعد ثلاثين عاما عمل حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور الذي حقق بتاريخ ١٩ تموز (يونيو) ١١٩٥ م الظفر المؤزر في معركة الأركوس في الأندلس ، أقول عمل على تنفيذ مشروع التنظيم الذي يلخصه هنا المؤلف : أي جعل من الرباط قاعدة لتمركز الجيوش على أن يمتد تمركزها هذا على البلاد الهامة الواقعة على ساحل المحيط من الرباط حتى القصر الصغير شمالا. وقد شيد في الرباط ، على الخصوص ، حصن الفرح الذي لا يزال بابه البديع ماثلا. والمسمى حاليا باب الأوداية ، وكذلك الجامع الكبير الذي كان برج حسان منارته. كما أعاد بناء سور شلا (سلا) حيث أقام فيها مدينة ملكية ودينية وعسكرية ، لأن الرباط كانت مدينة تجارية وعمالية. وقد سمحت له الغنائم المذهلة التي تحققت من وراء حملته في أسبانيا في فترة ١١٩٥ إلى ١١٩٨ م بتمويل هذه الإنجازات وكثير غيرها في امبراطوريته. ويعتبر عام ١١٩٧ تاريخ تأسيس الرباط ولكن تحقيق هذه المشاريع استدعى بالتأكيد زمنا طويلا نوعا ما.

٢٠٨

المملكة. ولكن ملك فاس زود هذه المدينة بمخازن أقوات كبيرة وهو يدعمها قدر استطاعته.

وقد ذهبت إليها وتملكتني الشفقة تأسيّا عند ما فكرت بما كانت عليه في الماضي وما آل إليه حالها اليوم.

سلا

سلا (٣٦) مدينة صغيرة بناها الرومان قرب نهر أبي الرقراق على مسافة ميلين تقريبا من المحيط وعلى ميل واحد من الرباط ، بحيث إن الذي يريد الذهاب من سلا إلى البحر يضطر أن يمر من الرباط (٣٧). ولكن هذه المدينة تخربت في أيام حرب المارقين عن الإسلام (برغواطه). وبعدئذ أعاد المنصور بناء أسوارها ، وبنى فيها مرستانا فخما وقصرا لسكنى الجند. وبنى فيها كذلك جامعا بديعا مع قاعة للصلاة مزينة بأبهة ؛ بالمرمر المجزع ، وبالفسيفساء ، والنوافذ ذات الزجاج الملون. وعند دنو أجله عبر بوصيته عن رغبته في أن يدفن فيها. وبعد وفاته (٣٨) نقل جثمانه من مراكش ، وتم فيها دفنه. وقد وضعت فوق قبره شاهدتان من الرخام ، إحداهما فوق رأسه ، والثانية عند قدميه ، ونقشت فوقهما أبيات شعر أنيقة عبرت عن لواعج الأسى التي نجمت عن موت هذا الملك ، وهي أبيات من نظم عدة شعراء. واحتفظ كل أمراء هذه الأسرة بعادة دفنهم في هذه القاعة. وسار ملوك بني مرين على نفس المنوال ، في أزهى أيام أسرتهم. وقد دخلت إلى هذه القاعة حيث أحصيت ثلاثين ضريحا لهؤلاء الأمراء ، وقد سجلت كل كتاباتها ، وكان هذا في عام ٩١٥ للهجرة (٣٩).

المعدن العوام

وهذه مدينة بناها في أيامنا خازن الخليفة عبد المؤمن على ضفة نهر أبي الرقراق ،

__________________

(٣٦) أو شلا

(٣٧) تم في سلا الكشف عن قسم من أطلال المدينة الرومانية سلا كولونيا التي قامت على أنقاض مدينة كانت تابعة لقرطاجة وربما كانت تابعة للفينيقيين.

(٣٨) في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م.

(٣٩) بين ٢ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.

٢٠٩

وذلك لأنه لاحظ أن منجم حديد يقع في هذا الموقع وكان يتردد عليه الناس بكثرة (٤٠). وتقع على مسافة عشرة أميال من الأطلس ، ويوجد بينها وبين الجبل غابة كثيفة جدا تكثر فيها الأسود والنمور (٤١) ، وكانت هذه المدينة آمنة جدا وكثيفة السكان طيلة أيام أسرة مؤسسها (٤٢). وكانت مزدانة بمنازل جميلة وبجوامع وفنادق. ولكن هذا لم يستمر سوى وقت قصير لأن حروب الملوك المرينيين أدت إلى خرابها ، وراح سكانها ما بين قتلى وأسرى. ولجأ قسم منهم إلى سلا. وقد حصل هذا الحادث لأن السكان وضعوا أنفسهم تحت تصرف أحد ملوك بني مرين في نفس الوقت الذي وصل فيه قائد ملك مراكش للدفاع عن أولئك الذين ثاروا حينئذ ضد الأمير الذي كان يحكم المدينة ، حتى لقد اضطر للهرب. وبعد عدة أشهر قدم الملك المريني شخصيا على رأس جيش لجب ، ومر بالمدينة في أثناء زحفه على مراكش ، فهرب قائد المدينة حالا واضطرت المدينة أن تستسلم بعد أن طلبت الأمان ، وحينئذ عمل الملك فيها تخريبا وقتل سكانها (٤٣). ومنذ ذلك العصر حتى الوقت الحاضر لم تعد مدينة المعدن العوام صالحة للاستيطان ، ولكن جدار سورها ومنارات مساجدها لا تزال قائمة. وقد رأيتها في الوقت الذي تصالح فيه ملك فاس مع ابن عمه. وعند ما جاءا سوية إلى تاغية لأداء القسم على ضريح أحد أوليائهم المدعو سيدي بوعزة ، وكان هذا سنة ٩٢٠ ه‍ (٤٤).

__________________

(٤٠) المعدن يعني المنجم. وكانت كل أبنية هذه المدينة تقريبا من الخشب لذا لم تخلف أثرا ، ولكن المنجم الواقع على الخاصرة الشمالية لجبل العوام يقع على مسافة ٢٥ كم شمال خنيفرة ، قرب فرع من رأس وادي البهت ، بعيدا عن نهر أبي الرقراق.

(٤١) تبدو هضبة مريرت اليوم عارية ، ولكن يبدو أن هذه المناطق المستورة بالغابات وشبه المهجورة كانت ملجأ للبقية الباقية من الأسود في عصر قريب منا ، ولا يزال فيها بعض الفهود.

(٤٢) أي الموحدون المنحدرون من أسرة عبد المؤمن.

(٤٣) وقع هذا الحادث بين ١٢٦١ و ١٢٦٩ م في أثناء إحدى الحملات التي قام بها أول سلطان مريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ضد أبي دبوس خليفة مراكش الموحدي.

(٤٤) في عام ١٥٠٤ وعلى أثر تولي محمد البرتغالي زمام السلطة في فاس ، قام ابن عمه مولاي زيان ، حاكم مكناس ، بثورة ضده فحاصره السلطان الجديد في مكناس وتم أسره واعتقاله. واستطاع مولاي زيان بعد ذلك أن يفلت من سجنه ، ثم التجأ إلى البرتغال واستقر أخيرا في آزمور ، حيث حاول أن يقتطع لنفسه إمارة. ولكن سقوط آزمور بيد البرتغاليين في ٣ ايلول ١٥١٣ قسره على الهرب ونزل من السور بواسطة حبل تدلى منه ، كما سرد لنا المؤلف ذلك قبل قليل. والغالب على الظن أن هذا الصلح الاحتفالي تم في خريف ١٥١٤ م مع ابن عمه ، لأن وثائق المحفوظات البرتغالية تفيدنا أنه في كانون الأول (ديسمبر) ١٥١٤ م كان يشغل وظيفة رسمية في سلا.

٢١٠

تاغيه

تاغية (٤٥) مدينة قديمة بناها الأفارقة بين الجبال التي تؤلف جزءا من جبال الأطلس (٤٦). والطقس بارد جدا وأراضي الزراعة فيها هزيلة خشنة. أما الغابة الرائعة المحيطة بها فهي عرين أسود هائجة. ولا ينبت سوى القليل من القمح في هذه المنطقة ، ولكن يكثر فيها الماعز والعسل. وتتصف هذه المدينة بشدة تقشفها ، فمنازلها رديئة البنيان ، دون كلس. ويوجد قبر ولي عاش في عصر الخليفة عبد المؤمن. ويقال إن هذا الولي قام بالعديد من الخوارق ضد الأسود وأنه كان عرافة عظيما. بل لقد قام أحدهم بتأليف كتاب عن معجزاته وروايتها بعناية واحدة واحدة ، وكان هذا المؤلف رجلا عالما يسمى التادلي. وأعتقد شخصيا بعد قراءة قصة هذه الخوارق بأنها حدثت نتيجة لفن سحري ، أو بالاستعانة بنوع من سر كان يحتفظ به هذا الولي تجاه الأسود (٤٧). وشهرة هذه الأعمال والتبجيل الذي كان يكنه الناس لهذا الولي هما السببان اللذان جعلا هذه المدينة مقصودة بكثرة. ويزور أهالي فاس هذا الضريح في كل السنين بعد عيد الفطر. ويأتيه رجال ونساء وأطفال كأنهم جيش زاحف. ويجلب كل واحد خيمته معه على ظهر دابته فتأتي الحيوانات مثقلة بالخيام وبالحاجات الأخرى الضرورية للمعاش في أثناء المدة التي يقيمها الوافدون. وتتألف كل مجموعة من مائة وخمسين خيمة. وتستغرق الرحلة بين ذهاب وإياب مدة خمسة عشر يوما. وتقع تاغية على مسافة مائة وعشرين ميلا (٤٨) من فاس. وقد اصطحبني والدي معه وأنا طفل عند زيارة هذا الضريح. وبعد أن كبرت كنت أقصده أحيانا وفاء لنذر نذرته عند ما تعرضت لخطر الموت بسبب الأسود وأنجاني الله من ذلك.

__________________

(٤٥) تاغية أو مولاي بوعزة.

(٤٦) إن البلدة ، المعروفة لدينا باسم مولاي بوعزة ، لا تزال تحمل الاسم البربري تاغية ، ومعناها ، كما يظن ، المكان الوعر والمغطى بالغابة.

(٤٧) هذا الولي هو أبو عزة النور بن ميمون بن عبد الله الحزيري ، الذي توفي بعد عمر مديد في نيسان ١١٧٧ م. أما راوية خوارقه فكان أبا الحجاج يوسف بن يحيى التادلي الملقب بأبن الزيات ، مؤلف كتاب «التشوق» الذي كتبه سنة ١٢٢٠ م.

(٤٨) ١٨٠ كم.

٢١١

ظرفه

كانت ظرفة (٤٩) مدينة من تامسنه ، وقد بناها الأفارقة في سهل كبير وفسيح جدا حيث يوجد الكثير من العيون والجداول. ويوجد حول أطلال هذه المدينة الكثير من أشجار التين التي تظهر من بعيد كأنها غابة. وتكثر الأشجار في كل ضواحيها. وهي أشجار القرانيا وأشجار أخرى تدعى ثمرتها في روما «كرز البحر» (٥٠). هذا كما توجد أيضا تلك النباتات الشوكية التي تعطي ثمرة تدعى بالعربية النبق وهي أصغر من الكرز ولها نفس طعم العناب تقريبا (٥١). وتظهر في كل هذه السهول أشجار النخيل البرية (٥٢) التي تعطي ثمرة بحجم حبة الزيتون الأسباني ، ولكن مع نواة كبيرة. وليس طعمها بالمستساغ ، وتشابه تقريبا طعم ثمر الزعرور قبل نضجه.

وقد تهدمت هذه المدينة في أثناء حرب المارقين عن الإسلام (برغواته) ، وحاليا يزرع عرب تامسنه أراضيها ، فيحصلون هناك على محاصيل طيبة تبلغ أحيانا خمسين ضعف ما بذروه.

ولاية فاس

تبدأ ولاية فاس من غرب نهر أبو الرقراق ، وتمتد شرقا حتى نهر إيناون ، وتنتهي شمالا بين هذين النهرين عند نهر سبو ، وتنتهي من الجنوب عند أقدام جبال الأطلس. وهذه الولاية رائعة حقا بسبب وفرة حبوبها وثمارها وماشيتها. وتقوم فوق تلال هذه المنطقة قرى عديدة وكبيرة جدا. والسهول قليلة السكان بسبب الحروب الماضية. ويعيش فيها جماعات من بؤساء العرب في مداشر. وليس لهم هنا أية سلطة. ويزرعون الأرض

__________________

(٤٩) موقع مجهول.

(٥٠) «الكريز» فاكهة بحجم الزيتون الكبير ولونه بين أسود وأحمر ، وطعمه حامض حلو ، ويكثر في بساتين حلب وفي المغرب. ويسمى في المغرب «حب الملول» (المترجم)

(٥١) النبق وهو العناب البري وكان يدعى اللوتوس عند الإغريق ، وهو غذاء قوم يدعون أكلة اللوتوس. والنبات هو العناب البري الذي يدعى علمياZizyphusLotus «وله الأسماء التالية في المملكة العربية السعودية : سدر ، دوم ، عبري ، كنار ، عرج» (المترجم).

(٥٢) أو النخيل القزم أو الدوم ، Chamaerops humilis.

٢١٢

مناصفة مع سكان فاس أو مع الملك ورجال حاشيته. ولكن يزرع أرياف سلا ومكناس عرب أشراف وفرسان وهم من أتباع الملك. وسأتكلم لكم الآن عما يستحق الذكر.

سلا

سلا (٥٣) مدينة قديمة جدا بناها الرومان وتغلب عليها القوط. وعندما دخلت جيوش المسلمين هذه المنطقة سلمها القوط إلى طارق قائد هذه الجيوش (٥٤). وبعد تأسيس فاس (٥٥) انضوت تحت سلطة ملوك فاس. وقد بنيت هذه المدينة على ساحل المحيط في موقع بديع جدا. ولا تزيد المسافة بينها وبين الرباط عن ميل ونصف ، ويفصل نهر أبو الرقراق بين المدينتين. وبيوتها مشيدة حسب الطريقة التي كان يتبعها القدامى ، وهي مزينة كثيرا بالفسيفساء وبأعمدة الرخام. وجوامعها جميلة ومزخرفة. وينطبق هذا الوصف نفسه على الدكاكين ، الواقعة في أروقة كبيرة وجميلة. وعندما يجتاز المار عدة دكاكين تظهر قنطرة مبنية ، للفصل بين أرباب مهنة وأخرى. وأخلص من ذلك إلى القول بأن سلا حازت على كل الزينة التي تميز مدينة ذات حضارة رفيعة ، وفضلا عن ذلك فإن لها ميناء جيد كان يقصده تجار النصارى من مختلف الجنسيات ، من جنوبيين وبنادقة وانجليز وفلمنك ، لأنها كانت ميناء لكل مملكة فاس ، ولكن تعرضت هذه المدينة لهجوم اسطول ملك قشتالة الذي استولى عليها في عام ٦٧٠ للهجرة (٥٦) ، وهرب سكانها ، وأقام فيها النصارى ، ولكن لم يتح لهم ذلك لأكثر من عشرة أيام ، لأنهم تعرضوا فجأة لهجوم يعقوب ، أول ملك من أسرة بني مرين ، ولم يكونوا متأهبين لذلك إذ لم يكونوا يظنون أن الملك سيتخلى عن حملته على تلمسان التي كان يخوضها حينئذ (٥٧). وهكذا تم استرداد المدينة وقتل كل النصارى الذين كانوا فيها ، ولجأ الباقي إلى السفن وانهزموا. وهذا هو السبب الذي جعل الملك يعقوب وكل أفراد أسرته الذين حكموا من بعده يتمتعون بمحبة أهالي هذه المناطق.

__________________

(٥٣) في اللغة العربية سلا أو سالة ولم يكن الرومان هم مؤسسوها.

(٥٤) هو طارق بن زياد ، أمير مصمودة منطقة طنجة ، سنة ٧٠٩ م.

(٥٥) آخر القرن الثامن أو بداية القرن التاسع الميلادي.

(٥٦) في الحقيقة عام ٦٥٨ ه‍. أو يوم الجمعة ، ٢ شوال ١٠ أيلول (سبتمبر) ١٢٦٠ م.

(٥٧) وهو الملك يعقوب بن عبد الحق الذي بلغه نبأ سقوط المدينة بعد يومين وكان في فاس أو في تازة ، فهرع على عجل وأنقذ سلا ، وهكذا كانت المدة التي بقيت فيها سلا بأيدي النصارى أربعة وعشرين يوما.

٢١٣

وعلى الرغم من استرداد سلا بسرعة فإنها ظلت بعد ذلك أقل سكانا وأقل عناية. ونجد في كل المدينة ، ولا سيما قرب جدار السور ، الكثير من البيوت الخالية التي تحتوي على أعمدة بديعة جدا ونوافذ من الرخام المختلفة الألوان. ولكن لا يقدرها الأهالي حق قدرها في أيامنا. وضواحي سلا كلها رملية. وتوجد بعض الأراضي الزراعية التي ينبت فيها القليل من القمح. ولكن البساتين عديدة وكذلك الحقول التي تنتج كمية كبيرة من القطن. ومعظم سكان المدينة من الحاكة الذين يصنعون قماشا من القطن يبدو شديد النعومة وجميلا جدا. وتصنع كذلك في سلا كمية عظيمة من الأمشاط التي تصدر إلى مختلف المدن في مملكة فاس ، وذلك لأنه يوجد بجوار هذه المدينة غابة مليئة بأشجار البقص وأنواع أخرى من الشجر التي يصلح خشبها لعمل الأمشاط.

ويعيش الآن أهل سلا عيشة طيبة. إذ يوجد فيها حاكم وقاض وعدد من الموظفين الآخرين ، مثل موظفي المكس وجباية ضرائب المعاملات التجارية ، وذلك لأن الكثير من التجار الجنويين يقصدونها ويعقدون فيها صفقات هامة ، ويلقون من الملك اهتماما ورعاية لأن تجارتهم تحقق له موارد جزيلة. ولهؤلاء التجار مستودعاتهم في كل من فاس وسلا. وعند شحن بضائعهم يتعاونون فيعمل الواحد منهم لحساب الآخر. وقد وجدتهم صادقين جدا وبشوشين للغاية في المعاملات. وهم ينفقون الكثير من المال كي يحصلوا على صداقة الأمراء ورجال الحاشية. وهم لا يفعلون ذلك عن جشع ورغبة في استغلال هؤلاء العظماء للحصول على المال بل ليتمكنوا من العيش في أوضاع كريمة في هذه البلاد الغريبة عليهم. وكان يوجد في أيامي وجيه من جنوه مبجل بشكل خاص يدعى توماسو دومارينو ، وهو رجل عاقل وطيب حقا ، وغني جدا ، وكان الملك يكن له تقديرا كبيرا ويحبه كثيرا. وعاش ثلاثين سنة في فاس ، وحينما وافته منيته ، عمد الملك ، تنفيذا لوصية هذا الوجيه إلى نقل جثته إلى جنوا. وقد خلف هذا الرجل بضعة أبناء كلهم أغنياء ومحترمون لدى الملك وكل حاشيته.

فنزاره

فنزارة (٥٨) ليست بالمدينة الكبيرة جدا ، ولكنها قامت في سهل جميل للغاية على يد

__________________

(٥٨) تحدد النصوص العربية موقع فنزارة على طريق فاس ، قرب سلا ، ولكن لم يعثر على موقع هذه البلدة حتى الآن.

٢١٤

أحد الملوك الموحدين على مسافة عشرة أميال (٥٩) من سلا. والسهل كله خصيب تجود فيه الحنطة والحبوب الأخرى. وتوجد في خارج البلدة ، قرب الأسوار ، أحواض جميلة جدا بناها أبو الحسن علي ، ملك فاس (٦٠). وفي أيام الملك أبي سعيد ، الذي كان آخر ملك من الأسرة المرينية (٦١) حدث أن كان حينئذ أحد أعمامه ـ ويدعى سعيدا ـ سجينا عند عبد الله ملك غرناطة ، وقد توسل هذا إلى ابن أخيه بأن يستجيب لطلب تقدم به هذا الملك. ولما رفض أبو سعيد ، عمد الملك إلى إطلاق سراح سعيد من السجن كي يرسله على رأس قوات كبيرة وميزانية حربية عظيمة ليحارب ملك فاس وليقضي عليه. فحاصر سعيد مدينة فاس بمساعدة بعض الجبليين العرب ، ودام هذا الحصار سبعة أعوام تم في أثنائها تدمير القرى والمدن والقصور في كل المملكة. ثم تفشى الطاعون في جيشه وقضى نحبه مع قسم من قواته. وحدث هذا في عام ٩١٨ هجرية (٦٢). والمدن التي تخربت في تلك الفترة لم تعمر بالسكان مرة ثانية ولا سيما فنزارة التي اقطعت كي تكون مقرا لشيوخ من العرب الذين عاونوا سعيدا.

__________________

(٥٩) ١٦ كم.

(٦٠) حكم بين ١٣٣١ و ١٣٤٨ م.

(٦١) سهو من جانب المؤلف ، الذي لا يجهل أبدا أن آخر ملك مريني كان عبد الحق بن أبي سعيد عثمان.

(٦٢) هذه الأحداث المفرطة في خطورتها معروفة لدينا حسب روايتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى قليلا :

فحسب الرواية الاولى كان سلطان غرناطة ابن الاحمر ، وهو الاسم الذي يعطيه كل المؤرخين العرب لسائر ملوك هذه الأسرة في هذه الحقبة ، والذي كان يدعى أبا الحجاج يوسف أو أبا الحاجز عند المؤرخين الأسبان ، أقول كان يحتجز بالسجن مع مرينيين آخرين ، ابن عم سلطان فاس ، وهو المدعى محمد ، الملقب السعيد بن عبد العزيز. وحفيد السلطان إبراهيم ، وأما سلطان فاس فكان أبا سعيد عثمان ، ابن السلطان أحمد وحفيد السلطان إبراهيم. وفي عام ٨٦٣ ه‍ / ١٤١١ م أطلق سلطان غرناطة سراح السعيد بناء على طلب سلطان تونس الذي كان في حالة حرب مع سلطان فاس ، واعترف به سلطانا على فاس. وتقدم السعيد لمحاصرة فاس في أواخر عام ٨١٣ ه‍ / نيسان (ابريل) ١٤١١ م واستمر الحصار شهرين ثم اضطر لرفعه ، ولكنه أمعن في تخريب ضواحي المدينة ، واستأنف الحصار في صفر أو آب (أغسطس) ١٤١١ م. وبعد عشرين يوما انكسر من جديد واضطر للانسحاب إلى سلاكي يعيد تشكيل قوات جديدة. وعاد إلى فاس في شعبان / تشرين الثاني (نوفمر) وكانون الأول (ديسمبر) ١٤١١ وشيد في مواجهة فاس مدينة دعاها المنصورة. وفي أواخر عام ٨١٣ ه‍ آذار (مارس) ظهر أمام المدينة وافلح في اقتحامها. ولكن قامت ثورة أدت إلى طرده منها واضطر للهرب إلى تونس ، ثم مات في عنابة في أثناء الطريق.

وتقول الرواية الأخرى أن السعيد حاصر فاس في سنة ٨٦٥ ه‍ وتعرض السكان لمحن شديدة. واستمر الحصار حتى شعبان / تشرين الثاني (نوفمبر) ١٤١٢ وهي الفترة التي اضطر فيها السعيد للهرب. وعاد في شوال أو كانون الثاني (يناير) ١٤١٣ ولكن السكان خرجوا إليه ونشبت معركة قتل فيها حصانه وسقط أسيرا ثم أعدم. وفي خلال هذا الوقت كان السلب والمجاعة يفتكان بالسكان وأعقب ذلك جائحة وتخريب سائر البلاد. والجائحة المقصودة هي الطاعون الذي تكلم عنه المؤلف.

٢١٥

معمورة

معمورة مدينة صغيرة بناها أحد ملوك الموحدين عند مصب نهر سبو ، ولكن على مسافة ميل ونصف من النقطة التي يصب فيها هذا النهر في البحر وعلى مسافة اثنين وعشرين ميلا من سلا. وتتمثل ضواحيها في سهل رملي (٦٣). وقد تأسست كي تحمي المصب ولتحول دون دخول السفن المعادية في النهر. وتوجد بجوار المدينة غابة يعثر فيها على أشجار بلوط عالية جدا (٦٤) ، وثمار بلوطها طويلة وبحجم خوخ دمشق. ولهذه البلوطات طعم أطيب مذاقا وأكثر حلاوة ولذة من الكستناء. ومن عادة العرب بجوار هذه الغابة أن يشحنوا كمية كبيرة منها إلى فاس على جمالهم ويربحوا من وراء ذلك الكثير من المال. كما يقوم بغالة معمورة ، بدورهم أيضا ، بنقل كمية منها ويحصلون بذلك على ربح كبير. ولكن خطر الأسود داهم فكثيرا ما تفترس هذه الأسود الماشية والناس الذين لم يعتادوا عليها (ولم يعرفوا طبيعتها) لأن أسود هذه الغابة أكثر ضراوة من كل مثيلاتها في سائر افريقيا (٦٥).

وقد مضى على خراب هذه المدينة مائة وعشرون عاما على أثر الحرب التي شنها سعيد على ملك فاس (٦٦). وفي ٩٢١ ه‍ أرسل ملك البرتغال أسطولا كبيرا جدا كي يستطيع في حراسته أن يبني قصرا عند مصب النهر (٦٧). وعمل البرتغاليون بمجرد وصولهم

__________________

(٦٣) كانت أطلالها لا تزال مائلة عند ضفة نهر سبو عندما كان البرتغاليون الذين سموها ، «معمورة افلها» ، أي المعمورة العتيقة ، كانوا يجهزون حملة في هذه المنطقة. ولكن هذه الأطلال اختفت الآن تماما. والمسافة المذكورة هنا وهي ٥ ، ٢ كم من البحر تطابق تقريبا موقع بيرنقطة.

(٦٤) هو البلوط ذو الثمار الحلوةQuercusilex

(٦٥) لقد اختفت أسود غابة المعمورة ، وكذلك حلت أشجار بلوط الفلين (الخفاف) مكان البلوط ذي الثمار الحلوة.

(٦٦) لقد كتبت هذه الفقرة بكل تأكيد في عام ١٥٢٥ م / ٩٣٢ ه‍. وبذلك يصحح المؤلف التاريخ المغلوط وهو ٩١٨ ه‍ ، والذي أعطانا إياه قبل قليل في معرض حرب المدعي السعيد ضد السلطان أبي سعيد عثمان والذي حدده بعام ٨١٢ ه‍ أو بين ١٦ / ٥ / ١٤٠٩ و ٥ / ٥ / ١٤١٠ م «وهنا لا نجد مندوحة من التنويه بأن ملك غرناطة من بني الأحمر والذي كان حينذاك يدفع الجزية عن يد وهو صاغر لملوك قشتالة الأسبان ، كان ينفس عن مذلته تحروب جانبية ضد إخوانه الملوك المسلمين في العدوة الإفريقية ، الذين كانوا يتعرضون في نفس الوقت لضربات متلاحقة من الأسبان وغيرهم ولا سيما من البرتغاليين ، كما يقول الشاعر : أسد على وفي الحروب نعامة. وهذا الواقع المرير يتكرر بكل سخافته في عصرنا هذا بين بعض الدول العربية التي لا يقل تخاذلها امام اليهود عن شجاعتها وغدرها تجاه بعضها البعض ، ولعل في ذلك بعض العبرة لمن يعقل. وقد ظهر في بيروت قبل حوالي عشرة أعوام كتاب يحمل عنوان «يا عقلاء العرب اتحدوا» (المترجم)

(٦٧) حدث هذا الإنزال البرتغالي يوم الأحد ٢٤ حزيران (يونية) ١٥١٥ / ١٢ جمادي الأول ٩٢١ ه‍. وقد سمي القصر الذي بدأ بناؤه فورا على ضفة سبو ، في حضيض تل المهدية ، سمى القديس حنا المعمورة.

٢١٦

على إرساء كل قواعده وأخذوا يقيمون الجدران والزوايا المحصنة. بينما كان الأسطول مرابطا في المصب. وعلى حين غرة برز لهم شقيق ملك فاس (٦٨) فخسر البرتغاليون ثلاثة آلاف رجل قطعوا إربا إربا ، لا لأن الشجاعة كانت تعوزهم (٦٩) ولكن بسبب ما حدث في صفوفهم من الفوضى. وإليكم ما حدث : ففي إحدى الليالي وقبل الفجر نزل ثلاثة آلاف برتغالي بقصد الاستيلاء على مدفعية ملك فاس. وقد كان خطأ عظيما اعتقادهم أن مثل هذا العدد من المشاة يستطيع النجاح في مثل هذه الموقعة الحربية ، في حين كان عدوهم يحشد خمسين ألف رجل من المشاة وأربعة آلاف من الخيالة ولكن البرتغاليين ظنوا أن في استطاعتهم قبل أن يعرف عدوهم ما يجب عمله للرد على هجومهم الخاطف ، أن يسحبوا المدفعية المغربية إلى حصنهم الذي كان على مسافة ميلين تقريبا من هذه المدفعية. وكان يقوم على حراسة هذه المدينة ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف رجل ، ولكنهم كانوا نياما جميعا في الفجر. وكانت العملية ناجحة جدا حتى أن البرتغاليين سحبوا قطع المدفعية لمسافة ميل تقريبا ، عندما انكشف أمرهم ، وكانت الجلبة كافية لإيقاظ كل المعسكر ، وفي برهة من الوقت أخذوا سلاحهم وانقضوا على البرتغاليين الذين تحلقوا فورا على شكل دائرة ، وبدون أن يفقدوا شجاعتهم ، تابعوا مسيرتهم وهم يدافعون عن أنفسهم. ولم ترتعد فرائصهم مطلقا عندما وجدوا أنفسهم محاطين من سائر الجهات وبعد أن رأوا أن الطريق قد قطع عليهم ، بل إن حميتهم قد أتاحت لمقدمة جيشهم أن يشق لنفسه ثغرة اخترق منها صفوف العدو المحيطة به. وكادوا ينجون لولا إن بعض قدامى الرقيق من النصارى الداخلين في الإسلام الذين يعرفون اللغة البرتغالية نادوا عليهم وأمروهم بالقاء السلاح ، وبأن أخا الملك سيتركهم أحياء. فانصاعوا للأوامر. ولكن المغاربة الذين كانوا حانقين لم يريدوا أن يكون لديهم أي أسير فقتلوهم جميعا. ولم ينج منهم سوى ثلاثة أو أربعة بفضل حماية بعض قواد شقيق الملك.

وهكذا أصبح قائد حامية الحصن في أقصى حالة من اليأس لأن زهرة قواته كانت بين القتلى. فطلب النجدة من القائد العام الذي كان يرابط في خارج مصب النهر مع سفن كانت تحمل على متنها العديد من النبلاء والفرسان البرتغاليين. ولكن السفن لم تستطع

__________________

(٦٨) هو النصر الكداد حاكم مكناس وتامسنة.

(٦٩) هناك تقرير أرسل بتاريخ ٢٠ تموز (يونية) الى ملك البرتغال يقول بصراحة إن الجنود لم يصابوا بأي نوع من الخوف تماما كما لو كانوا فرنسيين ComoSe Foram Franceses

٢١٧

الولوج في النهر الذي كان مدخله محميا بحرس الجيش الملكي ، والذي أدى قصف مدفعيته القوية إلى إغراق بضع سفن برتغالية. وفي هذه الأثناء وصل نبأ موت ملك أسبانيا إلى البرتغاليين ، فضلا عن أن بضع سفن من التي أرسلها هذا الملك رغبت في العودة إلى أدراجها. كما أخلى قائد الحصن موقعه بعد أن يئس من الحصول على أية نجدة. أضف إلى هذا أن السفن التي كانت راسية في النهر لم تعد تطيق البقاء حيث هي وبالفعل غرق ثلثاها تقريبا عند المخرج. وكانت تحاول فعلا تحاشي الضفة التي ترمي منها المدفعية (٧٠) فحاذت الضفة الأخرى وجنحت على الرمال لأن هذا الجانب من النهر لم يكن عميقا جدا. وهنا رمى المغاربة بأنفسهم على البرتغاليين وقتلوا القسم الأعظم منهم ، في حين ارتمى الآخرون في النهر على أمل الوصول إلى السفن سباحة. ولكنهم هلكوا غرقا أو قتلوا كما قتل سابقوهم. وتم إحراق السفن وقذف بمدافعها إلى الماء. واصطبغ ماء النهر بالدم في أثناء ثلاثة أيام في منطقة المعركة. ويقال إنه كان هناك عشرة آلاف قتيل نصراني في هذه الحملة. وعمل ملك فاس بعدئذ على البحث في قاع النهر لإخراج ما غرق فيه من مهمات حربية فانتشل منه أربعمائة قطعة مدفعية من البرونز (٧١). وحدثت هذه الهزيمة الكبرى لسببين من عدم الانضباط : الأول ، ويعزى إلى البرتغاليين إذ كانت رغبتهم الاستيلاء على المدفعية المعادية مع عدد قليل جدا من الرجال وبدون تقدير لقوى الخصم ؛ والثاني هو أن ملك البرتغال ، الذي كان بإمكانه أن يرسل أسطولا مستقلا على نفقته وتحت قيادة ضباطه أنفسهم ، أراد أن يضم إليه أسطول القشتاليين. ويحدث دائما في مثل هذا الوضع ـ وهذه قاعدة مطردة ـ أنه عندما يسير جيشان لأميرين ضد جيش لأمير واحد ، فإن هذين الجيشين سيتعرضان للهزيمة والخزي بسبب اختلاف القيادة والآراء التي لا يتسق بعضها مع بعض. ويعتقد ملوكنا الأفارقة أن من علائم النصر رؤية جيشين لأمير واحد يخوض معركة ضد

__________________

(٧٠) الضفة اليسرى.

(٧١) تؤيد وثائق المحفوظات البرتغالية ، مع اختلاف طفيف بالتفاصيل ، ما جاء في النص أعلاه. ولكنها لا تذكر شيئا عن وجود سفن حربية اسبانية وفضلا عن ذلك فإن الملك فرديناند الخامس ، أي الكاثوليكي ، لم يمت إلا في ٢٣ كانون الثاني (يناير) ١٥١٦ ، ولكن ربما كان الخبر صحيحا أو أنه كان عبارة عن نبإ كاذب. والعملية المباغتة للاستيلاء على المدفعية إنما حدثت في فجر ٢٢ تموز (يونية). وفي الحقيقة أرسلت ثلاث سرايا تضم كل منها ألف رجل كي تنقض لزحزحة المغاربة عن التل وتمكين مرور السرية المكلفة بالاستيلاء على المدافع ، والتي تعرضت لخسائر شديدة بلغت ١٢٠٠ رجل كما ذكر التقرير. ولكن الأمر بالانسحاب الذي وصل من لشبونة بقرار من الملك ، حدث بتهافت شديد وانقلب إلى كارثة ، ولكن البرتغاليين لا يذكرون سوى خسارة ثماني سفن واثنين وخمسين منجنيقا ، منها خمسة ضخمة. وكلفت هذه الحملة إجمالا قرابة أربعة آلاف قتيل.

٢١٨

جيشين لأميرين اثنين. وقد كنت موجودا في كل هذه الحرب وشهدتها عن كثب. وبعد هذه الأحداث ذهبت لأقوم برحلتي إلى القسطنطينية (٧٢).

تفلفلت

تفلفلت مدينة صغيرة مشيدة في سهل رملي على مسافة خمسة عشر ميلا شرقي «معمورة» وعلى مسافة اثني عشر ميلا من المحيط. ويمر من جوار هذه البلدة نهر ليس بكبير الأهمية. وتقوم على ضفاف هذا النهر غابة يعيش فيها أسود شرسة للغاية. وأسود من التي سبق لي الكلام عليها. وهي تحدث أضرارا بالمارة ولا سيما الذين يبيتون فيها ليلا. ولكن في خارج المدينة أي على الطريق الكبير إلى فاس ، يوجد مدشر صغير غير مأهول ، حيث يوجد بناء مسقوف بعقد. وإلى هناك يذهب البغالة والمسافرون للمبيت. ويحمون الباب بسياج من الأشواك والأغصان التي يجمعونها من حولهم. وقد كان هذا فندقا في الزمن الذي كانت فيه تفلفلت مأهولة. وقد هجرت المدينة أيضا في أثناء حرب سعيد (٧٣).

مكناس

مكناس مدينة كبيرة بنتها قبيلة تحمل هذا الاسم (٧٤) ومنها استمدت اسمها. وتقع على مسافة ستة وثلاثين ميلا من فاس (٧٥) وخمسين ميلا من سلا (٧٦) وخمسة عشر ميلا من

__________________

(٧٢) من العسير التوفيق بين هذا التوكيد وبين ما قاله المؤلف آنفا عن وجوده في حملة دكالة في حزيران وتموز (يونية ويولية) ١٥١٥ م ، وعن عودته من مراكش إلى فاس عن طريق هسكورة وتادلة. ومهما كان عليه الأمر فهو على اطلاع تام بالتفاصيل ولم يستطع أن يذهب إلى فاس إلا بعد بضعة أيام من تاريخ ١٠ آب (أغسطس) ١٥١٥ لأنه كان على علم بقضية انتشال المدافع البرتغالية من مياه النهر. وسنراه في بجاية في أواسط شهر أيلول (سبتمبر).

(٧٣) على الرغم من أن المسافات المذكورة تبدو غير صحيحة بصورة صارخة ، فإن قرية تفلت التي قامت في العصر الحالي لا تنطبق بالتأكيد على تافلفلت. ويقول مارمول الذي نسخ هذه الفقرة حرفيا تقريبا ، يقول إن النهر الذي يمر غير بعيد من هنا يدعى واد زيللي عند العرب ، وأن هؤلاء العرب هم عشيرة إبن مالك سفيان ، وهذا يدل على أنه كان يعرف المنطقة. إذ يمكن أن نفترض بأن تفلفلت كانت موجودة في هذه الأنحاء بجوار إتصال واد زيللي مع واد تفلت. أما بنو مالك ، وهم فرع من سفيان فقد أجلوا في اتجاه شمالي نهر الورغة حيث يشكلون عشيرة هامة.

(٧٤) مكناسة.

(٧٥) ٥٨ كم.

(٧٦) والصحيح ٨٠ ميلا أو ١٣٠ كم.

٢١٩

جبال الأطلس (٧٧) وتضم قرابة ستة آلاف أسرة ، وسكانها متكائفون جدا.

وقبل بناء هذه المدينة عاش أهالي هذه المنطقة في أثناء فترة طويلة في سلام متحدين ، ودام هذا بالفعل ما دام هؤلاء ريفيين. ولكن بعد ذلك تفشت الاختلافات بينهم ، وتشكلت أحزاب ، وتغلب بعضهم على بعض ، وجار الأعلون على الأدنين ، فخسر الذين كانوا في الوضع الأدنى ماشيتهم ولم يطيقوا الحياة في البوادي فاتحدوا وبنوا هذه المدينة.

وهي تقع في سهل بديع للغاية ، ويمر بجوارها نهر هزيل ، وتقوم حولها على مسافة ثلاثة أميال (٧٨) مزارع أشجار عديدة تعطي ثمارا ممتازة ، ولا سيما السفرجل وثماره فخمة جدا وزكية الرائحة ، وكذلك ثمار الرمان التي تبدو عجيبة في حجمها ونوعها لأنها تخلو تماما من البذور. وتباع بثمن بخس. أما الخوخ الأبيض وخوخ دمشق فإنتاجهما غزير جدا حتى إن الحمل منهما يباخ بخمسة إلى ستة بيوكشي (٧٩). ويجنى العناب بمقادير وفيرة في كل سنة ويؤكل في الشتاء مجففا وتنقل كمية طيبة منه إلى فاس لبيعها. هذا كما يوجد أيضا الكثير من التين ومن عنب التكعيبات ولكنه يستهلك طازجا. وتفرز ثمار التين نوعا من الدقيق عند ما يراد تجفيفها لحفظها ، أما العنب فلا يكون طيب المذاق إذا ما أكل جافا ، وتنتج المنطقة مقادير كبيرة من المشمش والخوخ حتى إنهم ليرمون كميات منها. وثمار هذا الخوخ ليست جيدة ، فهي غاصة بالماء وتكاد تكون خضراء. وتجنى مقادير لا تحصى من الزيتون ويباع القنطار فيه بدينار ونصف ، أو ما يعادل مائة رطل إيطالي. هذا ، والأراضي المحيطة بالمدينة خصيبة جدا. ويحصل منها على كمية كبيرة من الكتان الذي يباع أكبر قسم منه في فاس وفي سلا.

والمدينة في داخلها جميلة التنظيم والتنسيق ، وتكثر فيها المساجد الجميلة. كما تضم ثلاثة معاهد للطلبة وعشرة حمامات كبيرة للغاية ، ويعقد السوق خارج المدينة قرب الأسوار في كل أيام الاثنين ، حيث يجتمع فيه الكثير من عرب المناطق المجاورة الذين

__________________

(٧٧) ٣٤ كم.

(٧٨) ٥ كم.

(٧٩) بيوكشي وحدة نقد إيطالية. وهذه المعلومات تبدو كأنها تشير إلى تعادل رطل هذه المنطقة مع الرطل الإيطالي وهو ٣٣٩ جرام ، وإذا كان المثقال يعادل الدينار الإيطالي وهو ١٧ ، ١٢ فرنك ذهب ، فإن سعر كل ٣٤ كجم زيتون كان ٢٥ ، ١٨ فرنك ذهبي.

٢٢٠