وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

قرمزية ، وحريرية ، وخيمة جميلة. وأتذكر مرة أن هذا الأمير أرسل لملك فاس هدية قيمة مؤلفة من خمسين رقيقا أسود ، ومثل هذا العدد من الزنجيات ، وعشرة خصيان ، واثنى عشر من الهجن ، وزرافة وعشر نعامات ، وستة عشر سنورا من التي تنتج الزباد ، ورطلا من المسك الممتاز ، ورطلا من الزباد ، ورطلا من العنبر الرمادي ، وستمائة من جلود حيوان يدعى اللمت (٣٠٦) التي تصنع منها تروس خفيفة جدا. ويساوي ثمن كل جلد من هذه الجلود في فاس ثمانية دنانير (٣٠٧). ويقدر ثمن العبيد السود بحوالي عشرين درهما للرأس ، والإماء الزنجيات تساوي كل واحدة منهن خمسة عشر درهما (٣٠٨) ، وكان سعر كل خصي أربعين دينارا (٣٠٩) ، وثمن الجمال في بلاد هذا الأمير يعادل خمسين دينارا للواحد (٣١٠) وثمن قطط الزباد مائتا دينار (٣١١) ، ويساوي ثمن المسك والزباد والعنبر الرمادي في المتوسط ستين دينارا للرطل (٣١٢). وكان في عداد هذه الهدية أشياء أخرى لم أذكر عددها ، مثل التمور السكرية (٣١٣) ونوع من فلفل اثيوبيا (٣١٤).

وقد كنت حاضرا حينما قدمت للملك هذه الهدايا الرائعة. وكان الذي قدمها زنجي قصير وسمين ، وكان أعجميا حقيقا في لغته وتصرفاته. وكان يحمل خطابا من سيده

__________________

(٣٠٦) وعل الودان أو أوريكس ، أو المها.

(٣٠٧) إذا افترضنا أن مثقال فاس يساوي دينارا واحدا بابويا في روما ، فإن جلد الودان أو اللمت يساوي ٣٦ ، ٩٧ فرنكا ذهبيا وجميع الجلود ٥٨٠٠٠ فرنكا ذهبيا.

(٣٠٨) كان الدرهم البابوي يزنه ٣٦ ، ٤٤ جراما من الفضة عيار ٩١٧ ، ولكن من المحتم أن المؤلف استعمل هنا عباره درهم كمرادف لكلمة دينار كي يترجم كلمة مثقال العربية ، لأنه يقول في كتابه الثالث بمعرض كلامه عن الزواج في فاس أن الأمة الزنجية كانت قيمتها خمسة عشر دينارا او هذا يعني أن العبد الأسود يساوي ٢٤٣ فرنكا ذهبيا والزنجية ٥٥ ، ١٨٢ فرنكا ذهبيا ، ويمثل ثمن المائة عبد حوالي ١١٣٠٠ فرنك ذهب أو ١١٣ جنيه ذهبي.

(٣٠٩) أو ٨ ، ٤٩٦ فرنك ذهب أو ١١٣ جنيها ذهبيا.

(٣١٠) بما أن مثقال تنزيته وثمنه ١١ ، ٨ فرنك ذهب ، فإن الجمل الواحد يساوي ٤٠٥ فرنكات ذهب للرأس والمجموع ٤٨٦٦ فرنك ذهب.

(٣١١) أي ١٦٢٢ فرنك ذهب والمجموع ٢٥٩٦٢ فرنك ذهب.

(٣١٢) أي ٤٨٦ فرنك ذهب واجمالا ١٤٦٠ فرنك ذهب ، ولكن بقي علينا تحديد وزن رطل العطارين ، طالما أن وزن هذا الرطل يختلف باختلاف المادة والمكان والزمان.

(٣١٣) أو تمر دقلة النور كما يقال في أيامنا.

(٣١٤) ربما كان فلفل ملاغت Amemum Meleguetta وهو نوع من توابل تزرع بشكل خاص على ساحل بلاد البذور ، وهي ليبريا الحالية ، وربما كان أيضا بهار الآشانتى Piper guineese الذي كان يجني في بلاد بنين (الداهومي سابقا) والذي كان معروفا حتى قبل وصول البرتغاليين في القرن الخامس عشر.

١٨١

خاطه في ثنية من ردائه. وللبرهنة على الاحترام الذي يكنه لسيده طلب من الملك شخصيا أن يقوم بفتق الخياطة ، لأنه لم يكن يود أن يلمس يده هذا الكتاب الذي أقسم بالأيمسه. وقد ضحك الملك كثيرا من سلوك هذا الرجل وقام أحد كتابه بفتق خياطة الثنية التي تضم الرسالة.

وقد كانت هذه الرسالة مدبّجة بصورة مشوشة وغامضة ، حسب أسلوب قدامى الخطباء. وزاد الطين بلة الكلمة التي القاها السفير الزنجي بصوت جهوري. ولم يتمالك الملك وجلساؤه أنفسهم من الضحك ولكنهم أخفوا وجوههم بأيديهم أو بجانب من أطراف ثيابهم. ومع ذلك عامل الملك هذا الرسول بأكبر رعاية في أثناء بضعة الأيام التي قضاها في ضيافته. وأنزله عند إمام الجامع الكبير ، وأنفق عليه وعلى الأربعة والعشرين الذين كان عليه إطعامهم ما بين مرافقين وخدم ، إلى أن أعاده إلى بلده.

جبل غجدامه

غجدامه (٣١٥) هو اسم لجبل يتاخم السابق (٣١٦) ولكن هذا الجبل لا يكون مأهولا إلا على سفحه الشمالي. ويكون سفحه المطل على الجنوب غامرا تماما. وسبب ذلك هو أن إبراهيم ، ملك مراكش ، تعرض ، في أيامه ، لهزيمة على يد تلميذه المهدي ، والتجأ إلى هذا الجبل ورغب سكانه الذين اشفقوا عليه أن يمدوا له يد العون. ولكن الحظ خانهم ، وصب تلميذ المهدي جام غضبه عليهم. فحرق المنازل والقرى ، وقتل شطرا من الناس وطرد الباقين من الجبل (٣١٧). ويسكن القسم المأهول أناس يعيشون أسوأ معيشة ويرتدي جميعهم الاسمال. ويمارسون تجارة الزيت ويعتاشون من هذه التجارة. ولا ينبت هنا شيء باستثناء الزيتون والشعير. ولدى هؤلاء الكثير من الماعز والبغال الصغيرة جدا ، لأن الخيول ذات قوام صغير. وتحمي طبيعة الجبل حرية هؤلاء السكان.

__________________

(٣١٥) وبالبربرية ايخجدامن.

(٣١٦) يتاخم جبل تينواط من الجنوب وليس جبل تنزيته.

(٣١٧) لا تنسب هذه الحملة ضد غجدامة الى عبد المؤمن بل إلى المهدي محمد بن تومرت ذاته ، الذي استطاع في عام ١١٢٨ م ، في زمن الخليفة المرابطي أبو الحسن علي بن يوسف ، أن يخضع قبيلة غجدامة وولى عليهم حاكما من الموحدين ، ولكن غجدامه ثارت وقتلت هذا الحاكم ، فعاد ابن تومرت وصب عليهم جام غضبه.

١٨٢

تاساوين

يتألف إقليم تاساوين من جبلين ، الواحد بجانب الآخر. وبدايتهما من تخوم الجبل السابق في الغرب ، ونهايتهما في جبل تاغوداست. ويسكنها أناس في فقر مدقع إذ لا ينبت هنا سوى الشعير والدخن. وينبع من هذين الجبلين نهر يجري في سهل بديع جدا ، ولكن الناس لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا ما في السهل لأن العرب يتصرفون به (٣١٨). وقد آن الأوان الآن للكلام عن تادله.

منطقة تادله

تادلة منطقة غير واسعة جدا ، تبدأ من نهر العبيد وتنتهي عند نهر أم الربيع ، عند منبع هذا النهر. وتنتهي جنوبا بين جبال الأطلس وتنتهي شمالا عند مقرن نهر العبيد مع نهر ام الربيع. ولهذه المنطقة تقريبا شكل مثلث لأن هذين النهرين ، اللذين يستمدان منبعهما من جبال الأطلس ، يجريان تجاه الشمال ويقترب أحدهما من الآخر إلى أن يتحدا (٣١٩).

تفزه : مدينة من تادله

تفزه مدينة إقليم تادله الرئيسية. فقد شيدها الأفارقة فوق سفوح الأطلس على مسافة خمسة أميال (٣٢٠) تقريبا من السهل. ولها جدار سور مشيد بنوع من صخر كلسي يحمل اسم تفزه في لغة أهل البلاد. ومن هذا جاء اسم المدينة هذه (٣٢١). وهذه الكورة

__________________

(٣١٨) لا تحمل الكتلة الجبلية ، التي يتولد منها النهران اللذان يسميهما المؤلف في كتابه التاسع تيسوين ، أقول لا تحمل هذا الاسم مطلقا. وهذان النهران ، أي الوادي الأخضر ، وواد تساءوت جنوبا ، إنما ينبعان من كتلة جبلية واقعة في بلاد قبيلة فتواكه ، وهي كتلة تبلغ أعلى ذراها ٣٨٠٠ م. والسهل المقصود هو على الأرجح سهل دمنات الذي يخترقه الوادي الأخضر ، وهو أحد نهري تيسوين ، والنهر الشمالي هو واد تسّاءوت.

(٣١٩) في الصحيح ان نهر أم الربيع يجري من الشمال نحو الجنوب الغربي في حين يجري وادي العبيد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي. والوصف الذي سيأتي يبين أن المؤلف كان يدمج في تادله الكتلة الجبلية في غرب وادي دادس الأعلى بالإضافة إلى كتلة المغون التي يتجاوز ارتفاعها ٤٠٠٠ م ، والتي تحتل قبيلة ايميغران سفوحها الجنوبية.

(٣٢٠) ٨ كلم.

(٣٢١) هذه الإشارة صحيحة ولكن كلمة تفزه لا تعنى نفس النوع من الصخر الكلسي في كل المناطق. وهذه التسمية معروفة أيضا في القطر التونسي ، ويقصد بها القسرة الصخرية الصلبة وCroute أوCrust بالإنجليزية أوhard pan في أميركا أو حجر الحرش كما يسمى في القلمون شمالي دمشق» (المترجم).

١٨٣

مأهولة بسكان كثر أغنياء. وفيها قرابة مائتي بيت من اليهود ، وكلهم باعة وصناع. ويقصدها عدد كبير من الباعة الغرباء ليشتروا منها نوعا من عباءات سوداء تنسج قطعة واحدة مع قبعتها ، ويدعى هذا الكساء البرنس. ويباع بعض هذه العباءات في ايطاليا وفي أسبانيا حيث نرى الكثير منها. ويباع في تفزه أشياء مصنوعة في فاس على الخصوص كالأقمشة الكتانية ، والسكاكين ، والسيوف ، والسروج ، واللجامات ، والقلانس ، والإبر وأدوات الخياطة. وإذا رغب التجار في بيعها بالمبادلة ، فإنهم سيجدون تصريفا ميسورا أمامها ، لأن لدى أهل المنطقة بضائع مختلفة كالدقيق ، والخيول ، والبرانس ، والنيلة ، والجلد ، والجلود المصنوعة ، أي القرطبية. الخ. وإذا أرادوا بيعها نقدا فيجب عليهم أن يقبلوا تخفيضا كبيرا في الأسعار. ويجري الدفع بالذهب ، وذلك على شكل قطع على صورة الدنانير ولكن غير مسكوكة. أما العملة الفضية فليست دارجة في هذه البقاع.

ويلبس سكان تفزه لباسا جيدا ، وكذلك نساؤهم. وكل هذه النسوة لطيفات. ويوجد فى المدينة عدة جوامع وفقهاء وقضاة.

وكانت تفزه تحكم في الماضي على شكل جمهورية. ولكن نظرا لنزاعاتهم وانقساماتهم فقد راح الناس يقتتلون فيما بينهم ، وذهب زعماء أحد الأحزاب (الذين (أخرجوا من ديارهم) في ايامي ، قاصدين فاس ، وطلبوا إلى الملك أن يتفضل بمساعدتهم للعودة إلى مدينتهم ، وتكفلوا له بالعمل على توطيد سيادته عليها. فاهتبل الملك هذه الفرصة السانحة وأعطاهم ألفين من الخيالة الخفيفة ، وخمسمائة من رماة السهام ومائتين من رماة البنادق ، وكلهم فرسان. وكتب إلى أتباعه من العرب ، واسمهم عشيرة «زهير» التي تستطيع أن تعد أربعة آلاف فارس (٣٢٢) بأن يأتوا لمساندة زعماء هذا الحزب إذا احتاجوا لمساعدتهم. وعين الملك قائدا لهذه الحملة ، وهو الزرناقي ، وكان فارسا باسلا جدا. وما إن جمع القائد قواته ، حتى ابتدأ الهجوم على تفزه ، لأنه وجد الحزب المعادي متحصنا في المدينة ووجد أنه قد استدعى جيرانه العرب الذين يدعون بني جابر (٣٢٣) والذين يبلغ عدد عم حوالي خمسة آلاف فارس. فما أن رأى القائد هذا الوضع حتى رفع الحصار حالا عن المدينة ودخل في عراك مع العرب. وفي نهاية اليوم الثالث ألحق الهزيمة بهم جميعا

__________________

(٣٢٢) كانت قبيلة زهير تحتل حينذا منطقة تيغريغره.

(٣٢٣) بنو جابر قبيلة عربية لا زال باقيا فخذ واحد منها وهم الأوريجي (ماسينيون ، ١٩٠٦ م ، ص ٢٠٩).

١٨٤

وأصبح سيد البلد. ولما أن رأى أهل تفزه أن لا أمل لهم من أي عون خارجى ، أرسلوا مفاوضين يقترحون السلم. وعرضوا تسديد نفقات الحملة للملك ، وهذا فضلا عن دفع مبلغ عشرة آلاف دينار سنويا ، وأن يعود اليها أهل الحزب الذي غادر المدينة ، ولكن على الأ يتدخلوا في أي نشاط إداري أو في الحكم.

وأخبر القائد الذين كانوا موجودين معه في الخارج بفحوى المفاوضات فأجاب هؤلاء : «مولانا ، نحن نعرف قيمة الفرصة المتاحة لنا. أدخلنا الى المدينة ، ونحن نتعهد لك بدفع مائة ألف دينار على الفور وحتى اكثر من ذلك. ولن نجترح أي ظلم ولن نهدم بيتا ، بل كل ما سنقوم به هو قسر خصومنا على تسديد عائدات أملاكنا التي استغلوها خلال ثلاثة أعوام. ونود أن نعطيك إياها كتعويض عن كل النفقات التي تكلفتموها من أجل خيرنا. وتبلغ هذه العائدات ثلاثين ألف دينار على الاقل ، وسنعطيك كذلك العوائد السنوية للمدينة التي تبلغ حوالي عشرين ألف دينار. وبعدئذ سنستخلص من اليهود جزية عام أو عامين ، حتى يصل ما نستخلصه إلى عشرة آلاف دينار». ولما سمع القائد هذه العروض نقلها الى أهل المدينة قائلا : «لقد أعطى الملك عهدا للوجهاء المنفيين بمساعدتهم قدر الاستطاعة. ولهذا يرجح أن يكون حكم المدينة بأيديهم عوضا عن أيديكم على كل حال. ومع هذا أعلمكم انكم اذا سلمتم مدينتكم للملك فلن تتعرضوا لأي أذى. ولكن إذا تشبثتم بعنادكم فلدي الوسائل لتغريمكم كل المبالغ بعون الله وبفضل الملك» ولدى سماعهم ذلك حدث شقاق بين السكان. وكان البعض يريد الخضوع للملك ، في حين كان الآخرون يرغبون في الحرب ، إلى أن امتشق البعض السلاح ضد الآخرين. وجاء الجواسيس ليخبروا القائد بما حدث فعبأ فورا نصف قواته وهاجم المدينة بواسطة الرماة من حملة الأقواس والبنادق. وبعد ثلاث ساعات دخل المدينة دون ان يخسر رجاله قطرة دم واحدة. وكان الحزب الذي رغب في الخضوع للملك قد تجمهر ، واندفعوا نحو أحد أبواب المدينة الذي كان مسدودا بالبناء وأخذوا في تقويض الجدار من الداخل ، بينما كان القائد يعمل نفس الشيء من الخارج ، إذ لم يكن هناك أي إنسان في أعلى السور ليمنعه ، ونظرا لأن أهالي الداخل كانوا منهمكين في المعركة ، إلى أن تم نقض جدار الباب ، وما إن دخل القائد حتى رفع راية الملك على السور وفي وسط الساحة العامة للميدان ، وأرسل فرسانه للقيام بدورية حول المدينة ليحولوا دون هرب الذين يحاولون الفرار منها. ونشر على الفور ظهيرا بإسم ملك فاس يمنع أيا كان مدنيا كان

١٨٥

أو عسكريا ، من ارتكاب أي عملية نهب او قتل وبعد قليل سادت السكينة في المدينة ، وسقط كل زعماء الحزب المعادي في الأسر.

وقد أبلغهم القائد بأنهم سيظلون في الأسر إلى أن يستوفي الملك تمام النفقات التي تكلفها خلال شهر من أجل هذه الحملة ، وهي نفقات بلغت اثني عشر ألف دينار. وقد دفعت نساء السجناء وأهلهم هذا المبلغ لكي يتم الإفراج عن هؤلاء. وحينئذ ظهر حزب الملك الذين اعلنوا انهم يريدون تعويضا عن عائدات أملاكهم خلال ثلاثة أعوام فأجابهم القائد بأن هذه القضية لا تعنيه ، وعليهم ان يعرضوا دعواهم لحكم الخبراء الذين سيبتون فيها ، ولكن يمكن الاحتفاظ بخصومهم في السجن هذه الليلة. ولكن السجناء قالوا للقائد :

ـ مولانا هل ستنكث بعهدك؟ فقد وعدتنا بالحرية بعد ان نكون قد أرضينا الملك.

فأجابهم القائد :

ـ أنا لا أخلفكم عهدي ، وأنا لا أحتفظ بكم كسجناء لحساب الملك ، ولكن لحساب الذين يطالبونكم بأموالهم. ونحن نعمل بناء على حكم القضاة والعلماء وربما يكون هذا في صالحكم».

وفي صبيحة اليوم التالي تم عقد اجتماع العلماء والقضاة امام القائد ، وتناول المدافعون عن السجناء الكلام بهذه العبارات :

ـ أيها السادة ، حقا إن جماعتنا استولوا على أملاك خصومهم ، ولكن هذا كان معاملة بالمثل ، لأن اجداد هؤلاء كانوا قد استولوا على أملاك اجدادنا. فأجاب ممثل الحزب الخصم :

ـ سادتي لقد مضى الآن اكثر من مائة وخمسين عاما على الامور التي هي مدار الحديث ، ولا يوجد في موضوعها اية شهادة ولا أية بينة يستدل بها.

فأجاب ممثل السجناء حالا :

ـ سادتي الأمر ممكن لأن الأمر معروف جهارا لدى العموم.

فأجاب الآخر :

ـ لا يمكن اعتبار الشهرة العامة برهانا ، إذ من يعرف كم من الوقت ظل أجداد

١٨٦

أولئك الذين أمثلهم يتصرفون في هذه الممتلكات؟ وربما كان لهذا التصرف ما يبرره لأنه من المعلوم عن طريق الشهرة العامة كذلك أن أجداد السجناء كانوا قد تمردوا على تاج فاس وأن هذه الاملاك كانت تخص الخزينة الملكية. وحينئذ تظاهر القائد ـ وكان ذلك مكيدة منه ـ بأنه مشفق على السجناء وتوجه لمندوب خصومهم قائلا :

ـ لا ترهق إذن هؤلاء المساجين المساكين.

ولكن هذا رد عليه قائلا :

قد يظهر لك انهم مساكين ، سيدي القائد ، ولكن لن تجد من بين هؤلاء الذين تظنهم مساكين من يعجز عن تدبير خمسين الف دينار. وعندما يتخلصون من أغلالهم ، سترى جيدا انهم سيحاولون طردك. وقد أخذتهم على حين غرة ولهذا ظهروا لك في صورة المساكين.

وعندما سمع القائد هذا الكلام تملكه الخوف فجأة ، وصرف المجلس ، وتظاهر بأنه يريد الذهاب لتناول وجبة غدائه وأحضر أمامه المساجين وقال :

ـ أود أن ترضوا خصومكم ، وإلا سأقتادكم إلى فاس حيث ستقسرون على دفع ضعف هذا المبلغ. وعندئذ أرسل السجناء طالبين نساءهم وأمهاتهم وتوجهوا إليهن قائلين :

ـ حاولن حل المشكلة ، إذ يدعي خصومنا أننا أغنياء جدا ونحن لا نملك المبلغ الذي قيل للقائد. وهكذا ، وفي خلال ثمانية أيام ، تم تقديم أموال الخصوم السجناء بحضور القائد. وكانت هذه الاموال تتمثل في خواتم وعقود وحلى نسائية اخرى. وتبلغ قيمتها ثمانية وعشرين الفا من الدنانير. وذلك أن النساء أردن ، وهذه حيلة منهن ، أن يظهرن وكأنهن لا يملكن أية ثروة سوى الحلي العينية ، وعندما تم التسديد قال القائد للمساجين :

سادتي الوجهاء : لقد كتبت للملك بخصوص هذه القضية ، وآسف لأني كتبت ، ولن أستطيع ان أطلق سراحكم قبل ان يرد الي جوابه ، ولكن على كل حال ستكونون احرارا لأنكم ارضيتم كل الناس ، اذن تحملوا محنتكم بصبر.

وفي تلك الليلة استدعى القائد مستشاريه وسألهم :

١٨٧

ـ كيف نستطيع سحب مبلغ آخر من المال من هؤلاء الخونة دون ان نتهم بالخطأ وبفضيحة النكوص بوعدنا؟ وحينئذ تصور كاتب هذه السطور (٣٢٤) خدعة فاقترح قائلا :

ـ سيدي القائد ، تظاهر غدا صباحا بأنك استلمت خطابا من الملك يأمر فيها بقطع رؤوس هؤلاء الناس ، ولكن تظاهر حينئذ بأنك مشفق عليهم وبأنك لا تود ارتكاب خطأ إعدامهم وقل لهم بأنك ترجح ، في مثل هذه الظروف ، إرسالهم إلى فاس.

وفي الصباح كتبنا رسالة مزعومة بأنها من يد الملك ، ثم استدعى القائد جميع السجناء ، وكان عددهم اثنين وأربعين وقال لهم ، وكانت ملامح الحنان المفرط بادية عليه :

سادتي الوجهاء ، وصلني كتاب من الملك يحمل لي خبرا سيئا وظهر لي أنه قد أسيء نقل الخبر لجنابه ، بشأن ما ارتكبتموه وأنه يعتبركم عصاة لتاجه ، ولهذا السبب امرني بقطع رؤوسكم. وإني على هذا الأمر لحزين لأن كل الناس سيظنون أني حنثت بوعدي ، ولكني لست أكثر من خادم ولا أستطيع إلا طاعة ما أؤمر به.

وحينئذ أخذ هؤلاء يجهشون بالبكاء طالبين عفو القائد الذي افتعل بدوره البكاء وقال لهم :

ـ لا أرى شيئا أفضل لكم ولي كي أتخلص من كل المسئوليات ، تجاه أعمالكم ، سوى سوقكم الى فاس ، وربما صفح الملك عنكم وسيعمل ما يراه مناسبا ، وسأعمل على تسفيركم بعد قليل مع مائة فارس.

وهنا راح المساجين ينتحبون واستغاثوا بالله وبالقائد. وهنا ظهر شخص ثالث وقال للقائد :

ـ مولاي ، لقد أرسلك الملك الى هنا نيابة عنه ، إذ يمكنك عمل ما تراه هو الأنسب ، تريث قليلا لترى ما هي إمكانيات هؤلاء الوجهاء فيما إذا كانوا يستطيعون دفع شيء من المال لإنقاذ حياتهم. واخبر الملك بأنك أعطيتهم عهدا بأنك لن تعاقبهم ، وتقدم بالرجاء لجلالته ، كرامة لمكانتك عنده كي يتكرم بالصفح عنهم. وربما يميل الملك لجانب الحل المالي.

__________________

(٣٢٤) لا تنسب ترجمة تامبورال (ليون) ١٥٥٦ م ص ١٠٥) هذه الخديعة الى الحسن الوزان ، ولكن الى ... «أحد مستشاريه».

١٨٨

وأخذ السجناء يتوسلون للقائد بأن يقبل هذه النصيحة قائلين بأنهم سيكونون سعداء بأن يدفعوا للملك ما يشاء وأنهم سيقدمون من جهة اخرى ، هدايا كبيرة للقائد. وتظاهر هذا بأنه سيقبل ذلك على مضض وطلب فجأة :

ـ ماذا تستطيعون أن تدفعوا للملك؟

وهنا عرض أحدهم دفع ألف دينار ، والآخر خمسمائة ، وآخر ثمانمائة. وأجاب القائد انه لا يريد أن يكتب للملك بشأن مبالغ زهيدة كهذه وأنه يفضل أن يرسلهم الى فاس ، فربما يقبل الملك ما يعرضونه عليه فأخذوا يتوسلون للقائد ويستصرخون كرمه كثيرا الى ان قال لهم:

ـ أنتم اثنان وأربعون وجيها وأنتم أغنياء كثيرا. وإذا وعدتموني بدفع ألفي دينار عن كل فرد فسأكتب للملك ولي أمل في إنقاذكم وإلا فإني سأرسلكم الى فاس.

وهنا قبل المساجين عن طيب خاطر جمع المبلغ الكلي ، على شرط ان يساهم كل واحد منهم قدر طاقته فأجابهم القائد :

ـ اصنعوا ما يروق لكم.

فطلبوا مهلة مدتها خمسة عشر يوما وتظاهر القائد بأنه سيكتب للملك من جديد. وبعد خمسة عشر يوما اعلن القائد ان الملك ، وذلك تلطفا منه ، كان سعيدا بالصفح عنهم وكشف لهم عن رسالة كاذبة. وفي خلال ثلاثة أيام قدم أهل المساجين المبلغ ، ذهبا ، وكان أربعة وثمانين ألف دينار. وقام القائد بوزن الذهب المذكور ودهش كثيرا من إمكانية تواجد هذه الكمية من الذهب في بلدة بمثل هذا الصغر ، لدى اثنين وأربعين شخصا ، وأطلق سراح المساجين حالا ، وكتب الى الملك بالتفصيل الحقيقي بكل ما حدث طالبا ما يجب عمله. فأرسل الملك بعد قليل اثنين من أمنائه مع مائة فارس لاستلام المبلغ. وعاد الاثنان إلى فاس بمجرد استلام هذا المبلغ ، وقدم الوجهاء المذكورون حالا هدية تساوي ألفي دينار من الخيول والعبيد والمسك ، معتذرين بأنهم لم يعد لديهم شيء من النقد السائل وشاكرين له كثيرا أن أنقذ حياتهم. وهكذا سلمت المنطقة لملك فاس تحت حكم القائد الزرناقي ، الذي اغتيل غدرا بعد فترة على أيدي العرب.

ـ ويجبي ملك فاس عوائد من هذه المنطقة تبلغ عشرين الف دينار في العام.

١٨٩

وقد أسهبت نوعا ما في هذه القصة الطويلة لانها حدثت امام عيني. ولاني اشتركت فيها ، ولانني ايضا ربحت بعض الدنانير لقاء ابتكاري الحيلة السابق ذكرها واخيرا لانني رأيت لاول مرة مبلغا بمثل هذا القدر من الذهب ، ومما هو جدير بالذكر ان ملك فاس لم يسبق له ان رأى ابدا مثل هذا المبلغ ، لأن هذا الملك المسكين ، الذي يجبي اليه كل عام زهاء ثلاثمائة الف دينار ، لم يكن لديه تحت يده مائة الف ، كما لم يكن لدى والده مثلها قط. وترون من خلال هذه الحكاية كيف يمكن التوصل لابتزاز المال بهذه الوسائل عن طرائق الغدر والمناورات. وقد وقع هذا الحادث في عام ٩١٥ ه‍ (٣٢٥) ولكن الامر المدهش اكثر من ذلك ان يهوديا واحدا دفع اكثر مما دفعه هؤلاء الوجهاء مجتمعين لانه وشى بثروته. ولهذا السبب حكم على اليهود عن طريق القضاء بغرامة بلغت خمسين الف دينار لأنهم حابوا الحزب المعادي للملك. وقد كنت بصحبة المندوب الذي حصل هذه الغرامة.

أفزة : مدينة من تادله

أفزة (٣٢٦) مدينة صغيرة على مسافة ميلين تقريبا من تفزه. وفيها حوالي خمسمائة أسرة. وقد قامت فوق تل عند حضيض جبال الاطلس. وهي مأهولة بالمغاربة (٣٢٧) وباليهود. وتصنع فيها كمية من البرانس. وجل سكانها من التجار أو من الفلاحين. ويحكمها أناس من تفزه. ونساء هذه البلدة ماهرات جدا في شغل الصوف فيصنعن برانس وخمارات (٣٢٨) جميلة جدا ، وبذلك يربحن من المال أكثر من رجالهن الى حد ما. ويمر من بين أفزه وتفزه نهر يدعى نهر درنه. وهذا يتولد في الاطلس ، ويمر من بين التلال ويجري في السهل إلى أن يصب في نهر أم الربيع. ويوجد بين هذه التلال ، عند حافة النهر ، مزارع أشجار مثمرة مليئة بكل أنواع الفاكهة المشتهاة. وملاكو هذه البساتين دمثو الأخلاق على غاية من الكرم فكل تاجر غريب يمكنه أن يدخل إلى بساتينهم ويأكل قدر ما يستطيع.

__________________

(٣٢٥) ١٥٠٩ م.

(٣٢٦) يسمى مارمول هذه المدينة تبزه ويقول إنها عانت في زمانه ، حوالي سنة ١٥٤٢ م ، الكثير من الحروب ويفترض أن موقعها هو عند تغزيت ، عند مدخل نهر درنه إلى السهل ، وهو رافد أم الربيع.

(٣٢٧) مغاربة ، أومور ، مورو ، تعني مسلمين وربما كان يقصد بها مسلمو الأندلس.

(٣٢٨) الكيسه ، أو الكسا ، وهو حجاب المرأة المسلمة.

١٩٠

وأهل أفزة بطيئون جدا في إنجاز ما يعدون تقديمه من بضاعة. فقد اعتاد التجار ان يدفعوا اليهم مسبقا ثمن البرانس التي يوصون عليها على ان تسلم خلال ثلاثة شهور ، ولكنهم لا يتوقعون ان تسلم لهم في العادة الا بعد عام كامل ، وقد قصدت هذه المدينة في الزمن الذي وصل فيه جيش ملكنا إلى تادلة فخضعت حالا. وفي المرة الثانية التي جاء إليها القائد ، تقدمت إليه بهدية مؤلفة من خيول وخمسة عشر عبدا ، وكان كل عبد يمسك بزمام حصان ، كما قدم له أهل تفزة مائتي خروف وخمس عشرة بقرة. فاعتبرهم القائد مخلصين للملك (٣٢٩).

آيت عتّاب : مدينة من تادله

آيت عتّاب ، مدينة بناها الآفارقة فوق سفح جبل عال جدا على مسافة أربعين ميلا جنوب غربي المدينة السابقة (٣٣٠) ، وهي مأهولة كثيرا ، ومليئة بالنبلاء والفرسان. ونظرا لصناعة كمية كبيرة من البرانس في هذه المدينة يوجد فيها دوما العديد من التجار الأغراب. ويظهر الثلج باستمرار فوق قمة الجبل المطل على المدينة. وجميع الأودية المجاورة مليئة بالكروم وبمزارع أشجار بهيجة. ولا تباع فيها أية فاكهة بسبب هذه الوفرة. ونساؤها شديدات البياض ، سمينات ولطيفات. ويتحلين بقدر كبير من حلى الفضة وعيونهن سوداوات كشعرهن. والسكان ذو أنفة. ففي الوقت الذي احتل فيه ملك فاس تادله ، لم تقبل هذه المدينة أن تخضع له ولا أن تعده بالطاعة ، ولكنها انتخبت وجيها قائدا لجيشها. وبعد أن عبأ الفا من الخيالة الخفيفة تجرأ ووقف في وجه قائد الملك ، أي الزرناقي ، وشن عليه حربا كادت ، عدة مرات ، أن تؤدي إلى فقدان كل ما فتحه. فأرسل الملك أخاه على رأس جيش لنجدة قائده ، ولكن هذا لم يأت بشيء ذي بال. واستمرت الحرب ثلاثة أعوام إلى أن مات زعيم العصابة مسموما على يد يهودي وكان ذلك بإيعاز من الملك. وعندئذ عادت المدينة للدخول في الطاعة في عام ٩٢١ ه‍ (٣٣١).

__________________

(٣٢٩) وبسميها مارمول الذي كان في هذه البلدة تفزه أو فيكستلا ، ويكمل هذا الوصف. وهي اليوم زاوية فشتاله على مسافة ٦ كلم جنوبي درنة.

(٣٣٠) أي ٦٤ كلم في الجنوب الغربي ، ويحتمل أن هذه المدينة كانت تشغل ضواحي قصبة قائد آيت عتاب ، التي تطل من ارتفاع ٨٨٩ م على الضفة اليمنى لنهر واد العبيد.

(٣٣١) بين منتصف شباط (فبراير) وأواخر تموز (يوليه) ١٥١٥ م.

١٩١

آيت اياد : مدينة في نفس الإقليم

آيت أياد ، بلدة واقعة فوق جبل صغير من الأطلس وقد تأسست على يد الأفارقة. وفيها ثلاثمائة أسرة. وهي مسورة من ناحية واحدة وهي الناحية التي تتجه إلى الجبل. وليس لها سور من الناحية التي تشرف على السهل ، لأن جلاميد الصخور الموجودة هناك تكفي لحمايتها. وتقع على مسافة اثني عشر ميلا من المدينة السابقة (٣٣٢). وفي المدينة جامع صغير ولكنه جميل جدا ، حفرت حوله قناة تشبه جدولا جاريا ، ويقطن هذه المدينة نبلاء وفرسان. ويشاهد فيها أيضا عدد كبير من التجار الغرباء والمواطنين ، ومن اليهود كذلك ، وبعض هؤلاء تجار وبعضهم الآخر صناع. وتنبع من هذه المدينة عدة عيون وتتجمع مياهها لتؤلف نهيرا يمر تحت هذه المدينة. وتقع عدة بساتين للخضر وللثمار على ضفاف هذا النهر وتنتج عنبا ممتازا وتينا. وتوجد فيها كذلك أشجار جوز باسقة. وتحوي سفوح الجبل أراض مزروعة بأشجار زيتون بديعة جدا. ونساء هذه المدينة لطيفات أكثر منهن جميلات. ويكتسين بإتقان ، وهن مزدانات بأناقة بالحلى الفضية ، وبالخواتم والأطواق وأنواع الزينة الأخرى. وأرض السهل خصبة هي كذلك وتنتج كل أنواع الحبوب. أما أرض الجبل فطيبة لإنتاج الشعير ولرعي الماعز. وكانت هذه المدينة في زمننا معقل الثائر رحمن بن ويعزان (٣٣٣) وظل فيها حتى موته. وقد ذهبت إليها في سنة ٩٢١ ه‍ (٣٣٤) ونزلت في منزل إمام البلدة.

سغمه : جبل في نفس الإقليم

مع أن جبل سغمة يطل على الجنوب فإنه يعتبر من جبال تادلة. ويبدأ من الغرب عند تخوم جبل تازاوين ويمتد نحو الشرق حتى جبل ايمغران الذي ينبع منه نهر أم الربيع. ويتاخم من الجنوب جبال دادس (٣٣٥). ويعتبر سكان هذا الجبل فرعا من قبيلة زناقة ،

__________________

(٣٣٢) يجب أن تكفي هذه التوضيحات لتحديد مكان هذه البليدة بدقة. فسوق الخميس الحالي لعشيرة آيت اياد (ولداياد) هو على مسافة عشرين كيلومتر إلى الشرق من المنطقة التي يجنازها وادي العبيد من مراكش إلى مكناس ، وعلى مسافة كيلومترين جنوبي هذا الطريق وعلى مسافة عشرين كيلومترا شمال غرب آيت عتاب.

(٣٣٣) شخصية مجهولة.

(٣٣٤) وربما كان ذلك في شهر آب (أغسطس) ١٥١٥ في عودته من مراكش إلى فاس مارا بأنيماي ودمنات وجمعة أنتيفه وتادله.

(٣٣٥) إن اسم سغمه مجهول لدينا وربما وجب جعله سغمت ، وهو اسم نهر في المنطقة. والواقع كانت التضاريس الجبلية ـ

١٩٢

وهم رجال رشيقون ، أشداء ، شجعان في اللقاء. وسلاحهم يتمثل في رماح صغيرة وسيوف محنية وخناجر. ويستخدمون أيضا الحجارة التي يقذفونها بحذق شديد وبقوة كبيرة. وهم في حالة حرب مستمرة مع سكان تادلة ، حتى إن تجار المنطقة لا يستطيعون المرور بالجبل بدون إذن مرور وبدون دفع رسوم باهظة. والأماكن المسكونة بائسة ومتباعدة بعضها عن بعض حتى إن من النادر أن نجد ثلاثة أو أربعة بيوت مجتمعة. ويملك الأهالي العديد من الماعز والكثير من البغال الصغيرة التي هي في حجم الحمير. وترعى هذه الحيوانات في غابات الجبل ، ولكن الأسود تفترس بعضها وتقطع أعضاء بعضها. ولا يخضع أهل المنطقة لأي أمير ، لأن جبلهم عسير جدا ووعر للغاية فأصبح بذلك حصنا لا يرام. وقد أراد القائد الذي فتح تادلة في أيامنا أن يقوم بغارة في هذه المنطقة. وما إن تناهى الخبر لأسماع السكان حتى شكلوا فصيلة قوية من رجال شجعان كمنت دون أن تحدث ضجة قرب صخرة تحاذي دربا صغيرا يضطر العدو أن يمر منه. وما رأى ان الخيالة قد توغلت على سفح الجبل ، حتى خرج عليهم هؤلاء من كمينهم من كل جهة ، وقذفوهم بالحراب وبالحجارة الكبيرة. وكانت المعركة قصيرة لأن القائد لم يتمكن من التصدي للهجوم ، ولا أن ينجو لأن الكثير منهم. تساقطوا مع خيولهم من فوق الجسر ودقت اعناقهم ، وقتل بعضهم الآخر ، حتى إنه لم ينج منهم إلا من وقع في الاسر. وهؤلاء كان لهم أسوأ مصير ، لأن المنتصرين اقتادوهم مكبلين حتى بيوتهم حيث قامت نساؤهم بالتمثيل بهم تعبيرا عن احتقارهم الأقصى ، وذلك لأن الرجال يأنفون من قتل الأسرى فيسلمونهم لأيدي النسوة.

ولم يتجرأ أهل هذه المنطقة ، منذ ذلك الحادث ، على التردد على تادلة ، ولم يكن لهم كبير حاجة إلى ذلك إذ تنمو في جبلهم مقادير كبيرة من الشعير ، ويملكون قطعانا كبيرة العدد من الأنعام ، ولديهم من الينابيع أكثر من البيوت. ولا يفتقرون إلا الى الأشياء المألوفة في التجارة.

جبل إيمغران

إيمغران جبل يقع خلف الجبل السابق قليلا ويشرف من الجنوب على بلاد فيركلة ، على تخوم الصحراء. ويبدأ تقريبا عند هذا الجبل غربا وينتهي شرقا عند السفوح الدنيا

__________________

ـ مجهولة تقريبا بالنسبة للمؤلف. ولكنه ارتكب خطا فريدا بوضع نبع أم الربيع في منطقة إيمغران ، ذلك النهر الذي يقع على مسافة ٢٥٠ كلم شمال أراضيهم ، ويقصد بسغمة الكتلة الجبلية في جنوب شرق أم الربيع.

١٩٣

لجبال دادس (٣٣٦) ويتساقط البرد (بفتح الباء والراء) دوما فوق قمته. ولدى سكانه كمية كبيرة من الماشية ، بحيث لا يستطيعون الاستقرار في أي مكان (بل ينتقلون طلبا للكلإ والمرعى). ولهذا يسكنون أكواخا من لحاء الشجر مثبتة فوق دعائم دقيقة. ويتألف سقف هذه الأكواخ من عصيات محنية على شكل نصف دائرة ، كمقابض السلال التي اعتادت النساء في ايطاليا حملها فوق ظهور البغال عندما يسافرن. ويحمل هؤلاء الجبليون أكواخهم فوق البغال (٣٣٧) وينتقلون مع حيواناتهم وعائلاتهم إلى هذا الموقع أو ذاك. وحيثما وجدوا العشب في مكان أقاموا فيه إلى أن تأتي الأنعام على عشبه. ولكنهم مع ذلك يعملون على الاستقرار في مكان ما في أثناء فصل الشتاء ويبنون أنواعا من زرائب واطئة مغطاة بأغصان يؤوون إليها حيواناتهم في أثناء الليل. ومن عادتهم إيقاد نار شديدة ، ولا سيما قرب الزرائب لتدفئة الحيوانات. ويحدث أن يثور الريح ويدفع بالنار إلى الزرائب التي تحترق ، ولكن الحيوانات تنجو بسرعة لأنه لا يشيد أي جدار لهذه الزرائب احتياطا لمثل هذا الحادث. وهي ليست أفضل بناء من الأكواخ التي تكلمنا عنها قبل قليل. وتحدث الأسود وأبناء آوى أضرارا كبيرة. وعادات هؤلاء الجبليين وكساؤهم مماثلة لما عليه الجبليون السابق ذكرهم. والاختلاف الوحيد هو ان هؤلاء الناس يسكنون اخصاصا في حين أن الآخرين يسكنون بيوتا ذات جدران وقد مررت بهذه المنطقة في عام ٩١٧ ه‍ (٣٣٨) عائدا من الدرعة الى فاس (٣٣٨).

جبل دادس

جبل دادس هو كذلك جبل عال وبارد وينتشر في أرجائه كثير من الغابات. ويبدأ من جبل إيمغران في الغرب وينتهي عند تخوم جبل آدخسن (٣٣٩) وفي الجنوب يتاخم سهل تودغه ، ويقارب طوله ثمانين ميلا (٣٤٠). وفي قمة هذا الجبل توجد أطلال مدينة قديمة : وتظهر حتى الآن منها بقايا على شكل جدران سميكة مبنية بالحجارة وتحمل بعض هذه

__________________

(٣٣٦) تنتجع قبيلة إيمغران ، التي استقرت على السفوح الجنوبية للأطلس شمالى وارزازات حتى جبل ساغرو. وقد احتفظوا باسمهم البربري الذي يعني «الرؤساء» وهو الذي كتبه هيرودوت «ماشلويس» وبطليموس «ماشرويس» ويسميهم العرب مقراوة ، وربما كانت هذه التسمية الأخرى مستمدة من اسم لاتيني لم يصل الينا ، ويخلط المؤلف هنا فيركله مع تودغه ، وارتكب نفس الإبهام في كتابه الثاني والسادس.

(٣٣٧) فهل هؤلاء الرعاة من زناته كانوا لا يزالون يستعملون أكواخ الماباليا المعروفة في العصور القديمة؟

(٣٣٨) أي بين ٣١ آذار (مارس) عام ١٥١١ و ١٨ آذار (مارس) سنة ١٥١٢ م.

(٣٣٩) أو آدكسان ، قرب خنيفره.

(٣٤٠) ١٢٠ كلم.

١٩٤

الحجارة كتابات لا يفهمها إنسان. ويعتقد الناس أن هذه المدينة من بناء الرومان ، ولكن لم أعثر في التواريخ الإفريقية على مؤلف يقول ذلك ولم أعثر حتى على مصدر يشير إلى ذلك مجرد إشارة. غير ان الشريف الصقلي تكلم في كتابه عن مدينة تسمى تدسي ، تقع عند التقاء تخوم سجلماسة مع وادي الدرعة ، ولكنه لم يقل إنها مبنية في جبل دادس ، غير أننا نعتقد بأنه يقصد هذه المدينة بالذات إذ ليس هناك من مدينة أخرى في هذه المنطقة (٣٤١). وسكان هذا الجبل أناس لا قيمة لهم. فمعظمهم يسكن كهوفا رطبة ويتغذون بالشعير والعصيد الذي يتألف من دقيق شعير ، ولكنه مغلى بالماء المالح ، كما تكلمنا عنه في حديثنا عن حاحه. ولديهم عدد كبير من الماعز ومن الحمير. ويوجد في الكهوف التي تؤوي هذه الحيوانات الكثير من ملح البارود ، وأعتقد أنه لو كان هذا الجبل مجاورا لإيطاليا لاستغل ولبلغ إيراده سنويا مقدار خمسة وعشرين ألف دينار بل أكثر من ذلك. ولكن هؤلاء الدهماء لا يعرفون ما هو ملح البارود.

والناس هنا يكتسون بشكل رديء حتى إن قسما كبيرا من جسمهم يظل عاريا. ومساكنهم شنيعة ونتنة بسبب رائحة الماعز القبيحة التي تحشر فيها. وليس في هذا الجبل أي قصر ، ولا مدينة تكون محاطة بجدار. ويتجمع السكان في قرى ذات بيوت مبنية بحجر صلد مغطى بصفائح رقيقة سوداء اللون ، كتلك التي تستعمل في بعض كور إيطاليا ، في إمارة آسيّز وفابريانو (٣٤٢) ، وتسكن بقية السكان كهوفا ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وبراغيث هذا الجبل لم أر نظيرا لها في كثرتها.

والرجال هنا غدارون ولصوص وقتلة. ولا يترددون في قتل شخص ما من أجل بصلة. وهكذا تنشب شجارات عنيفة فيما بينهم لأتفه الأسباب. وليس لهم حكام ولا أئمة ولا أي شخص ذو كفاءة ما في أي اختصاص. ولا يقصد أحد من التجار هذه

__________________

(٣٤١) الشريف الصقلي هو الشريف الإدريسي أبو عبد الله محمد ، الجغرافي الشهير لدى الملك النور ماندي النصراني روجر الصقلي ، ومن هذا جاءت شهرته الصقلي. ونسميه اليوم بالإدريسي. وما وصلنا من كتابه الذي أنجزه سنة ١١٥٤ م لا يرد فيه شيء عن مدينة تدسي. ولكن في أواخر القرن السادس عشر أشار برتغالي مجهول إلى هذه المدينة عند وصفه لجبال الأطلس في منطقة مراكش ، وذلك إذ يقول : «في أعلى أحد هذه الجبال ، وفي وسط السلسلة ، وفي ارض مكشوفة تقوم أبنية كبيرة متسعة قديمة جدا ومتهدمة ، ولا يبدو أن هناك شخصا يحدد العصر الذي كانت قائمة فيه ، وهذه المدينة هي التي تدعى قنسطنطين Constantine

(٣٤٢) «ويقصد به صفائح حجر الاردواز الأسود التي تصنع منه الألواح الحجرية التي يكتب عليها صغار التلامذة» (المترجم).

١٩٥

المنطقة ، حيث يسلب المسافرون ، ويعيش الناس في بطالة ، ولا تمارس أية صناعة واما التجار الذين يحملون جواز مرور من بعض الزعماء المحليين ، وينقلون بضائع لا تهم هؤلاء الجبليين ، فإنهم يتقاضون منهم ربع قيمة البضائع في مقابل مرورهم في منطقتهم.

والنساء قبيحات كالغيلان ، ولباسهن أقبح من لباس الرجال ، وأوضاعهن أسوأ من أوضاع الحمير ، لأنهن يحملن على ظهورهن الماء الذي يجلبنه من العيون ، والحطب الذي يلتقطنه من الغابات ، ويظللن كذلك في عناء دائم لا راحة فيه. والخلاصة ، لا آسف لذهابي لأية منطقة في إفريقيا ، باستثناء هذه المنطقة ، فقد اضطررت للمرور بهذا الجبل للذهاب من مراكش إلى سجلماسة امتثالا لما أمرت به. وقد كان هذا في عام ٩١٨ ه‍(٣٤٣).

__________________

(٣٤٣) ١٩ / ٣ / ١٥١٢ إلى ٨ / ٣ / ١٥١٣ ولا يذكر تامبورال هذا التاريخ في كتابه (طبعة ليون ١٥٥٦ م. ص ١٠٩).

١٩٦

القسم الثالث

١٩٧

١٩٨

مملكة فاس

تبدأ مملكة فاس من نهر أم الربيع غربا وتنتهي شرقا على نهر الملوية. وتنتهي جزئيا في الشمال على المحيط ، وعلى البحر المتوسط بالنسبة للأجزاء الأخرى.

وتنقسم هذه المملكة إلى سبعة أقاليم هي : تامسنه ، منطقة فاس ، أزغار ، الهبط ، الريف ، غارت ، والحوز. وفي العصور القديمة كان لكل إقليم إمارته الخاصة ، حتى إن إقليم فاس نفسه لم يكن بالبداية مقر حكومة ملكية. وقد أسس فاس ثائر شيعي (١). وظلت السلطة في أيدي أسرته خلال مائة وخمسين سنة تقريبا (٢). ولم تظهر تسمية مملكة فاس إلا بعد أن حكمت أسرة بني مرين ، وهي التي جعلت من هذه المدينة (٣) مقرها وحصنها الدفاعي ، وذلك لأسباب يوردها مؤلفو التاريخ الإسلامي.

وسأصف لكم الآن إقليما إثر إقليم ومدينة بعد مدينة كما عملته بصورة أقرب للكمال حتى الآن.

تامسنه

تامسنه اقليم يؤلف جزءا من مملكة فاس. وهو يبدأ في الغرب عند ام الربيع وينتهي شرقا عند نهر ابي الرقراق. وينتهي في الجنوب عند جبال الاطلس ويحاذي المحيط من الشمال. وله طول يبلغ ثمانين ميلا (٤) من الغرب للشرق وستين ميلا (٥) بين جبال الاطلس والمحيط.

__________________

(١) أي إدريس ، المنحدر من ابن عم وصهر الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب ، وكان الأمراء العلويون معتبرين رافضة ومتمردين في نظر خلفاء بغداد العباسيين.

(٢) في الحقيقة ١٩٤ سنة هجرية ، أو من ٦ شباط (فبراير) ٧٨٩ م إلى أيلول (سبتمبر) ٩٨٥ م.

(٣) في عام ١٢٧٦ م.

(٤) ١٢٦ كم.

(٥) ٩٦ كم.

١٩٩

وهذه الولاية ، في الحقيقة ، زهرة كل هذه المنطقة. فهي تضم قرابة اربعين مدينة وحوالي ثلاثمائة قصر يسكنها عدد من العشائر البربرية. وقد ثارت في عام ٣٢٣ ه‍ (٦) بتحريض من داعية شيعي يدعى حاميم بن منّ الله. وقد اقنع هذا الرجل الشعب بألايدين بالطاعة ولا يدفع ضرائب لملوك فاس باعتبار ان هؤلاء كانوا ظالمين ، ولأنه هو نفسه نبي ، حتى لقد استحوذ ، خلال قليل من الوقت ، على السلطتين الزمنية والروحية في هذا الاقليم. وحينئذ شن حربا ضد هؤلاء الملوك الذين كانوا منهمكين في نفس الوقت ، في حرب مع قبيلة زناتة. فأضطروا للتفاوض مع هذا الرجل تاركين له حق التمتع بالحكم في إقليم تامسنه في حين يحتفظون هم بالسيادة على فاس ، وتعهد كل فريق بألا يزعج الآخر. وظل حاميم يحكم مدة خمس وثلاثين سنة. وظل خلفاؤه محتفظين بالإقليم قرابة مائة عام (٧). ولكن بعد أن أسس الملك يوسف ، مع قبيلته لمتونة ، مدينة مراكش (٨) حاول فورا أن يكون سيد هذا الإقليم ، أي تامسنه ، فأرسل إليه بضعة علماء مبشرين من أهل السنة في محاولة منه لانتزاع أهله من مروقهم ولاجتذابهم إليه دون أن يشهر عليهم حربا.

فاجتمع هؤلاء في مدينة أنفا (٩) مع أميرهم ، وهو حفيد الداعية المذكور ، وقرروا إعدام السفراء ونفذوا قرارهم. وعبأوا بعدئذ جيشا قوامه خمسون ألف محارب قاصدين طرد قبيلة لمتونة من مراكش ومن المنطقة كلها. وعندما علم يوسف بذلك انتابه أشد غضب انتابه في حياته. فجمع جيشا عظيما ولم ينتظر قدوم العدو إلى مراكش ، ووصل في خلال ثلاثة أيام إلى الإقليم بعد أن عبر نهر أم الربيع. وعندما رأى أهل تامسنه هذا الجيش الزاحف لمواجهتهم بحمية شديدة ، انتابهم الخوف ، وتحاشوا المعركة وعبروا نهر أبي الرقراق في اتجاه فاس ، تاركين إقليمهم. وحينئذ أباح الملك يوسف هذا الإقليم وسكانه لجيشه فأصبح طعمة للنار والدم والنهب والتقتيل للكبار والصغار حتى الأطفال الرضع.

__________________

(٦) ٩٣٥ م.

(٧) والحقيقة هي أن النبي الكاذب أبو محمد حاميم بز منّ الله ثار في منطقة طنجة بين عامي ٣١٣ و ٣١٥ ه‍ / أي من ٩٢٥ إلى ٩٢٧ م. وابتداء من عام ٧٤٠ م ، أي بعد ثلاثين عاما من بداية الفتح الإسلامي ، حدثت بين بربر المغرب فتنة عامة كان فمعها عسيرا ، كما أن قبيلة بغوارته ، التي كانت تحتل آنئذ إقليم تامسنة ، لم تخضع مطلقا. وفي حوالي العام ٧٤٥ م تمكن زعيمهم صالح بن طريف أن يؤسس مذهبا إسلاميا بربريا منشقا انضمت إليه عشائر بربرية عديدة ودام هذا المذهب مدة تزيد على ثلاثة قرون.

(٨) يوسف بن تاشفين.

(٩) في موقع الدار البيضاء الحالية.

٢٠٠