وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

ومنحه عشرين خادما. وبعدئذ أعاده الملك إلى افريقيا ليحكم الأرياف التابعة لآسفي ، لأن قبطان الملك (٢٢٧) لم يكن يعرف عادات هذا الشعب الجاهل والأسلوب الذي يعامله بموجبه. ومنذ ذلك الحين أصبحت آسفي خاوية وأضحت المنطقة خرابا (٢٢٨).

وقد أسهبت نوعا ما في كلامي عن هذه القصة لكي أبيّن أن النزاع بين الأحزاب وقصة المرأة السابق ذكرها لم يؤديا إلى خراب آسفي وحدها ، بل جلبا الدمار على جميع أهل دكّالة. وعند ما ذهبت إلى آسفي لم يكن سني تتجاوز اثنتي عشرة سنة. ولكن بعد أن مضى على ذلك حوالي أربعة عشرة عاما كان لي لقاء مع حاكم البادية ، الذي كان موفدا من قبل ملك فاس والشريف ، أمير السوس ودكّالة. وكان حينئذ قرب مراكش مع حملة قوامها خمسمائة فارس برتغالي وأكثر من الفي فارس من العرب. وكان يجبي كل ضرائب البلاد لحساب ملك البرتغال. وكان هذا عام ٩٢٠ ه‍ كما سردت ذلك مفصلا في بحوثي التاريخية (٢٢٩).

كونتي ، مدينة في دكّالة

كونتي مدينة صغيرة (٢٣٠) تقع على مسافة عشرين ميلا (٢٣١) من آسفي ، وقد بناها القوط في العصر الذي كانوا يحكمون فيه هذا الساحل ، وهي اليوم مخربة وأراضيها خاضعة لبعض عرب دكّالة.

__________________

(٢٢٧) وهو نونو فرناندز دو آتيد.

(٢٢٨) الحقيقة هي أنه على أثر مقتل القائد عبد الرحمن في نيسان (ابريل) ١٥٠٧ م ، تنازع عليّ ابن واشيمان مع يحيى او تعفوفت ، وانحاز ديبغو دو آزمبوجة حاكم الصويرة (موغادور) الذي عهد اليه بإدارة شئون آسفي ، انحاز إلى جانب عليّ ، وأرسل يحيى أو تعفوفت إلى لشبونة في آب (أغسطس) ١٥٠٧ م. ويبدو أن يحيى عاد في أثناء العام ١٥١١ م. أما علي بن واشيمان فقد ذهب بعد احتلال آسفي ليقيم مع جماعته في تارغة ، على ضفة نهر أم الربيع وهناك سقط بيد مولاي الناصر ، شقيق ملك فاس ، في أيار (مايو) ١٥١٤ م. واقتيد إلى هذا الملك. ثم عاد وهاجر في تموز (يوليو) ١٥١٥ م إلى مملكة فاس. ويبدو أن عرض هذه الأحداث قد كتب استنادا لذكريات عن قصة رواها عليّ بن واشيمان ذاته للمؤلف.

(٢٢٩) لقد سبق للمؤلف أن قال فيما يلي أن هذا اللقاء كان في تومغلاست ، بلدة يظهر أنها تنطبق على جماسّة الحالية. ومن المحتمل أن هذا حدث في عام ٩٢٠ ه‍ / حزيران أو تموز (يونية أو يولية) ١٥١٤ م. ورحلة المؤلف إلى آسفي ، التي حدثت قبل أربعة عشر عاما سابقا ، تقع إذن في عام ٩٠٦ ه‍. وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة ، مما يثبت تاريخ ولادته بصورة تقريبية عام ٨٩٤ ه‍ / أو بين ٥ / ١٢ / ١٤٨٨ و ٢٤ / ١١ / ١٤٨٩ م.

(٢٣٠) مدينة صغيرة تقع قرب رأس كانتان (القنطو.) واسمها تحريف عن قنطو.

(٢٣١) ٣٢ كم.

١٦١

تيت ، مدينة في دكّالة

تيت (٢٣٢) مدينة قديمة تقع على مسافة أربعة وعشرين ميلا من آزمور ، بناها الأفارقة على ساحل المحيط. وهي بريف (٢٣٣) فسيح تجود فيه زراعة القمح وتنتج كميات وفيرة منه. ولسكانها ذكاء محدود ، فهم لا يعرفون طريقة غرس البساتين ، ولا عمل أي شيء يسرّ النظر. ويلبسون ثيابا لائقة جدا بسبب تجارتهم وعلاقاتهم مع البرتغاليين. وعند ما احتل هؤلاء آزمور ، استسلمت هذه المدينة (تيت) لملك البرتغال ، بالاتفاق مع قبطان الملك ودفعت جزية معينة (٢٣٤) ، وفي أيامي (٢٣٥) جاءها ملك فاس شخصيا بينما كان في نجدة أهل دكّالة. ولما عجز عن الحصول على أية نتيجة ، عمد الى نصراني كان خازنا ويهودي كان وسيطا في شئون التجارة فشنقهما (٢٣٦) ، ونقل سكانها إلى فاس وخصص لهم مكانا لإقامتهم هو بلد صغير كان مهجورا منذ بعض الوقت ، على مسافة اثني عشر ميلا (٢٣٧) من فاس (٢٣٨).

المدينة ، مدينة في دكّالة

المدينة هي بلدة في دكّالة ، وهي بالفعل عاصمة هذه المنطقة. ولها سور مشيّد حسب طريقة أهل البلاد ، أي من مواد يغلب عليها الغلظة وذات منظر تعيس. ويمكن التأكيد بأن سكانها جهال. وهم يرتدون أقمشة صوفية مصنوعة محليا. وتحمل النسوة الكثير من الحلى الفضية ومن العقيق. ورجالها شجعان ولديهم عدد لا بأس به من

__________________

(٢٣٢) لا تزال آثار ماثلة حتى اليوم من سور تيت القديم ، وذلك بجوار زاوية مولاي عبد الله الأمغار على ساحل البحر ، على مسافة ٢٥ كم جنوب أزمّور.

(٢٣٣) «بادية أو ريف أو حقول مزروعة أو غيطان بمعنى واحد ، وعبارة البوادي في المغرب تعني الأرياف الزراعية» (المترجم).

(٢٣٤) لقد نزل دوق براغانس مع قواته البرتغالية على ساحل الجديدة (مازاغان) يوم الاثنين ٢٩ آب (أغسطس) ١٥٢٣ م ، وفي يوم الجمعة جاء عرب أولاد دوي وشيخ تيت للتفاوض على تسليم المدينة وخضوعها ، ولكن الأهالي الذين تملكهم الخوف أخلوها في أثناء الليل. ولم تكن تيت تبعد عن الجديدة سوى ٨ كم. وبعد سقوط آزمور الذي حدث يوم ١٣ ايلول (سبتمبر) ، أعلن أهالي تيت خضوعهم.

(٢٣٥) في مطلع تموز (يولية) ١٥١٥ م.

(٢٣٦) يحتمل أنهما كانا يعملان لحساب ملك البرتغال.

(٢٣٧) ٢٠ كم.

(٢٣٨) تؤكد الوثائق البرتغالية ، إخلاء مدينة تيت كليا.

١٦٢

الخيول. وقد ضم ملك فاس سكانها إلى مملكته خشية البرتغاليين ، فقد بلغه بالفعل أن عجوزا ، وهو رئيس حزب في المدينة ، نصح للسكان أن يدفعوا الجزية لملك البرتغال. وقد شاهدت هذا العجوز وهو يقاد حافيا مقيدا بالأغلال. وقد تملكتنى شفقة كبيرة عليه لأن هذا الرجل المسكين كان مضطرا لأن يعمل ما عمل ، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه من الأفضل دفع الجزية عوضا عن خسارة الأملاك وتضحية الأرواح البشرية. وتوسط عدة أشخاص لدى الملك طالبين الإفراج عنه وحصلوا على ذلك لقاء دفع غرامة. وظلت المدينة بعد ذلك خاوية على عروشها. وحدث هذا سنة ٩٢١ ه‍ (٢٣٩).

المائة بير ، مدينة في دكّالة (٢٤٠)

وهي بليدة صغيرة فوق تل كلسي. ونجد في خارج البلدة العديد من الصوامع التي اعتاد السكان أن يخزنوا فيها حبوبهم. ويقول أهل البلاد أنه أمكن تخزين القمح في أثناء مائة سنة بدون أن يفسد أو أن تتغير رائحته. وبسبب هذا العديد من الصوامع ، التي تشابه الآبار ، دعيت هذه المدينة ، مدينة المائة بير (٢٤١). وسكانها قليلون جدا ولا نجد فيها أي صانع ، باستثناء بعض الحدادين اليهود ، وفي الوقت الذي نقل فيه ملك فاس سكان «المدينة» (التي عقدت لها فقرة قبل بلدة المائة بير) ليستوطنوا أراضيه ، رغب أيضا في أن يسوق أمامه هؤلاء أيضا (أي سكان المائة بير) ، ولكنهم امتنعوا عن هذا النزوح وهربوا إلى آسفي كيلا يتركوا وطنهم. ولما رأى الملك ذلك منهم خرب مدينة المائة بير حيث لم يجد شيئا سوى بعض الغلال والعسل وأشياء ثقيلة عديمة القيمة (٢٤٢).

__________________

(٢٣٩) إن هذا الشيخ الذي انحاز إلى البرتغاليين معروف لدينا استنادا إلى الوثائق البرتغالية وكان يدعى ميمون. وليس من الصحيح أن سكان المدينة قد نقلوا في تموز (يولية) ١٥١٥ م إلى منطقة فاس ، وعلى الأقل بصورة جماعية ، لأن سكان تيت وبني ماجر هم الذين أجلوا بصورة كلية. وقبل آخر شهر آب (أغسطس) كان أكثر من ألف بيت قد عادوا لمنازلهم ، حتى كان فيها من السكان أكثر مما كانوا عليه قبل حملة ملك فاس ، لأن الناس قصدوها من مراكش ومن الجبل. ولما كان المؤلف قد غادر وطنه نهائيا في تلك الفترة ، فهو لم يستطع بالفعل أن يعرف ما إذا كانت المدينة قد ظلت خالية أم لا.

(٢٤٠) المائة بير ذكرت خطأ بدلا من سرنو.

(٢٤١) وبالفعل يوجد في المنطقة مكان يدعى مائة بير. ولكن إدمون دوتي Edmond Doutte توصل إلى أن المقصود هو بلدة سرنو ، وهي مدينة تقع على مسافة ١١ كم إلى الجنوب ، وحيث كان يسكن يحيى أو تعفوفت ، وملك البرتغال هو الذي أقطعه إياها له ولأولاده من بعده ، وذلك بموجب خطاب مؤرخ ٢٥ آب (أغسطس) ١٥١٤ م.

«وفي ذلك عطاء من لا يملك لمن لا يستحق» (المترجم).

(٢٤٢) تفيد وثيقة برتغالية انه لم يبق شيء من القمح في سرنو ، وهو القمح الذي نهبه ملك فاس.

١٦٣

السبيت ، مدينة في نفس المنطقة

السبيت مدينة صغيرة على نهر أم الربيع ، باتجاه الجنوب. وتقع على مسافة أربعين ميلا (٢٤٣) من «المدينة» وهي خاضعة لعرب دكالة. وتنتج كثيرا من القمح والعسل ، ولكن نظرا لجهل سكانها ، لا يظهر فيها حدائق من البساتين ولا من الكروم. وبعد خراب مدينة بولوان (٢٤٤) استاق ملك فاس سكانها الى مملكته. وأعطاهم مدينة صغيرة في منطقة فاس كانت غير مأهولة. وظلت سبيت مهجورة. (٢٤٥)

تامراكشت

تامراكشت (٢٤٦) مدينة صغيرة في دكالة على نهر أم الربيع. وقد بنيت من قبل الملك الذي شيّد مراكش ، ولهذا تحمل هذا الاسم. (٢٤٧) وقد كانت مأهولة جدا وتضم أربعمائة أسرة. وكانت خاضعة لآزمور ، ولكنها تخربت في العام الذي تم فيه احتلال هذه المدينة الأخيرة من قبل البرتغاليين (٢٤٨) ونقل سكانها الى «المدينة». (٢٤٩)

ترغه

ترغه مدينة صغيرة على نهر أم الربيع على مسافة ثلاثين ميلا من آزمور. وقد كانت كثيرة السكان وتضم حوالي ثلاثمائة اسرة ، وكانت تخضع لعرب دكالة. ولكن بعد سقوط آسفى (٢٥٠) جاء عليّ ، زعيم الحزب المعادي للبرتغاليين ، ليسكنها بعض الوقت مع بعض من أكثر رجاله شجاعة. وبعد ذلك استدعاهم ملك فاس الى مملكته مع أسرته ،

__________________

(٢٤٣) حوالي ٦٥ كم.

(٢٤٤) في ايار (مايو) ١٥١٤ م.

(٢٤٥) لم يصل الينا عن هذه البلدة الا فقرة وردت في رسالة يحي او تعفونت ، وقد كتبها في أواخر شهر آذار (مارس) ١٥١٤ م يعبر فيها عن نيته في المرور من اعالي القرى الواقعة فوق السّوبيت ، على طول مجرى النهر ، ولم يعثر على موقع السّوبيت.

(٢٤٦) لقد اختفت تامّراكشت ، وظل اسمها يطلق على أرض واقعة على الضفة اليمنى لنهر أم ربيع.

(٢٤٧) تصغير بربري لكلمة مراكش.

(٢٤٨) سنة ١٥١٣ م.

(٢٤٩) ورغم وقوع هذه المدينة فوق أرض منطقة تامسنة ، فإن مجرد تبعية تامّراكشت لآزمور وكون سكانها التجأوا إلى «المدينة» يبرهن على ان هذه المدينة الصغيرة كانت تعتبر في دكالة.

(٢٥٠) في بداية عام ١٥٠٨ م.

١٦٤

حتى لقد أصبحت ترغه ملجأ للبوم. (٢٥١)

بولوان

بولوان مدينة صغيرة أنشئت على ضفة نهر أم الربيع. وتضم قرابة خمسمائة عائلة. وكان يسكنها عديد من النبلاء الذين كانوا من كرام الناس. وتقع في منتصف الطريق من فاس إلى مراكش (٢٥٢). وقد بنى سكان هذه البليدة عمارة ذات غرف عديدة مخططة في صورة حظيرة واسعة. ويستضاف كل المارة بالبلدة بإكرام في هذا المنزل على نفقة السكان ، لأن هؤلاء الناس أغنياء جدا بالقمح وبالماشية. ولدى كل واحد فيها زهاء مائة زوج من الابقار ، وبعضهم يحصد حوالي مائة حمل من القمح (٢٥٣) وأن منهم من يجني ثلاثة آلاف. والعرب هم الذين يشترون هذا القمح ويمتارون منه للعام كله.

وفي عام ٩٢٠ ه‍ (٢٥٤) أرسل ملك فاس أخاه (٢٥٥) لحماية منطقة دكالة وحكمها. وما أن وصل هذا قرب بولوان حتى علم بنبأ مفاده أن قبطان آزامور سيأتي ليخرب هذه المدينة وليأخذ سكانها أسرى. وهكذا أرسل على الفور قائدين مع ألفي فارس وقائدا آخر مع ثمانمائة من رماة النبل لنجدة بولوان. وفي الوقت الذي وصلت فيه هذه القوات كانت القوات البرتغالية قد وصلت أيضا. وبما أن البرتغاليين تلقوا دعما مؤلفا من ألفي عربي (٢٥٦) فقد تحقق لهم التفوق. وعند ما حصروا رماة ملك فاس في وسط السهل ، أعملوا السيف فيهم جميعا باستثناء عشر أو اثني عشر مع بقية القوات التي هربت الى الجبال. والواقع أن المغاربة المسلمين قد أعادوا تنظيم قواتهم وقاموا بهجوم مضاد وأخذوا

__________________

(٢٥١) تقع ترغه على مسافة ٣٥ كم من آزمور عند مقرن واد ترغه مع نهر أم الربيع ، وهي أيضا على ضفة هذا النهر اليمنى. إذن تقع في إقليم تامسنة ، ولكن تعتبر من إقليم دكالة. وقد التجأ اليها علي بن واشيمان مع اتباعه ، فأخذه شقيق ملك فاس سجينا ، وهو مولاي الناصر ، الذي اقتاده مع وجهاء آخرين من دكالة في عام ١٥١٤ م. وبعد عودته الى ترغه تزعم على قبيلة بني ماجر اثناء حملة السلطان محمد سنة ١٥١٥ م ، وهاجرت هذه العشيرة الى ضواحي فاس.

(٢٥٢) وعلى الأصح على الطريق المذكور عند منتصف المسافة بين الساحل ومراكش.

(٢٥٣) لقد ذكر المؤلف بأن حمل الجمل في «السوس» كان يزن سبعمائة رطل إيطالي أي ، ٢٣٧ كلغم ، ومن المحتمل جدا أن يكون الحمل المذكور معادلا لما هو في دكالة. «أي أن بعضهم يجني قرابة ٢٣٧ طن من القمح والبعض الآخر يصل محصوله الى ٧١١ طنا» (المترجم).

(٢٥٤) أو نيسان (إبريل) ١٥١٤ م.

(٢٥٥) مولاي الناصر ، حاكم ونائب الملك الحقيقي في منطقة فاس أو الشاوية.

(٢٥٦) وهم خيّالة جلبهم يحي أو تعفوفت من منطقة حوز مراكش.

١٦٥

يطاردون البرتغاليين وقتلوا منهم خمسين فارسا (٢٥٧) ووصل أخو الملك إلى دكّالة ، وجبى الضريبة ووعد بمد يد المساعدة بدون انقطاع إلى المنطقة. ولكن بعد أن خذله العرب اضطر الى العودة الى فاس. وهكذا لما رأى سكان بولوان أن مجيء أخي الملك لم يكن له أية نتيجة سوى تحصيل الضريبة ، دون أن يقدم لهم أية نجدة تذكر ، استبدّ بهم الذعر وهجروا المدينة ولجأوا الى جبال تادلة خوفا من أن يأتي البرتغاليون بدورهم ويطالبونهم بغرامات ليس بمقدورهم تأديتها ، فيأخذوهم أسرى. وقد شهدت هذه الهزيمة ، ورأيت مجزرة رماة السهام ، ولكن كنت على مسافة ميل منهم على ظهر فرس تضيق افريقيا كلها عن قفزته عند فراره!. وكنت عندئذ مسافرا. وعدت الى مراكش قادما من ساحة المعركة التي خاضها جيش ملك فاس كي أخبر ملك مراكش والأمير شريف باقتراب قدوم شقيق الملك لكي يتداركوا ويأخذوا الأهبة ويعدوا ما استطاعوا من قوة للتصدي للبرتغاليين.

مدينة آزمّور

هي مدينة تقع في دكّالة ، وقد شيّدها قدماء الأفارقة على ساحل المحيط ، عند مصب نهر أم الربيع على مسافة ثلاثين ميلا من المدينة باتجاه الشمال (٢٥٨). وهي كبيرة جدا ومأهولة بشكل طيب. وتحوي زهاء خمسة آلاف أسرة. ويقصدها التجار البرتغاليون باستمرار. وسكانها أناس مهذبون جميلو الهندام. ومع أنهم ينقسمون الى طائفتين ، فإن المدينة تظل دائما مدينة سلام. وتنتج أريافها الكثير من القمح. ولا تشاهد فيها أشجار مثمرة ولا بساتين فيما عدا بعض أشجار التين ويدر النهر لهذه المدينة ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف دينار سنويا ، تجبى من رسوم الصيد لنوع من السمك يغزر في مياهه يسمى الألوزL\'alose ويبدأ موسم الصيد في تشرين الأول (اكتوبر) وينتهي في أواخر نيسان

__________________

(٢٥٧) هناك سرد مفصل جدا لهذه المعركة التي حدثت يوم الجمعة ١٢ نيسان (إبريل) ١٥١٤ م. فقد قدّم دوم جاوو دمينيسيس ، حاكم آزمور الذي كان يقود الحملة مع نونو فرناندز دو آتيد ، حاكم آسفى ، قدّم تقريرا للملك عما نوئيل الأول يقول فيه أن البرتغاليين لم يخسروا سوى اثنين وثلاثين فارسا ، منهم اثني عشر وجيها ويقول دوجواDegois في سرده تفاصيل المعركة بأنه في الساعة العاشرة صباحا ، سقط بعد ثلاث ساعات من القتال ، أكثر من خمسين فارسا قتيلا ، معظمهم من الرجال الممتازين ، ولم يسقط من المشاة سوى القليل وتجاوز عدد الجرحى المائة. أما المغاربة فقد خسروا اكثر من ألفين وستمائة قتيل منهم ستمائة وخمسون من رماة السهام ورماة البنادق ، فضلا عن أربعة آلاف جريح وأكثر من مائتين وثمانين أسيرا.

انظر ايضا ، ب. دو سينيفال : المصادر غير المنشورة عن تارخ المغرب ، الزمرة الأولى. البرتغال. المجلد الأول.

باريس مكتبة غوتنر ١٩٣٤ م. ص ٥٤٠ ـ ٥٤١.

(٢٥٨) في الحقيقة تقع آزمور على مسافة تزيد على ٩٠ كيلومتر (٥٦ ميل) شمال المدينة.

١٦٦

(إبريل). ويحوي هذا السمك من الدهن اكثر مما يحوي من اللحم ، ولذلك تكفي كمية زهيدة من الزيت لقليه ، فما أن تمس حرارة النار سمكة من هذا النوع ، حتى تفرز اكثر من رطل ونصف من الدهن. ويشبه هذا الدهن الزيت ، ولذلك يوقد منه في السراجات لأن المنطقة تفتقر للزيت. ويأتي التجار البرتغاليون كل سنة لشراء كمية كبيرة من هذا السمك. وهم الذين يدفعون رسم الصيد ، حتى بلغ بهم الأمر انهم اقنعوا ملك البرتغال باحتلال هذه المدينة. فأرسل أسطولا مؤلفا من بضع سفن. ولكن لما كان قبطانه قليل الخبرة ، فقد انهزم الاسطول وأغرقت معظم مراكبه (٢٥٩)

وبعد عامين ، أرسل الملك اسطولا آخر قوامه مائتا قطعة حربية (٢٦٠). وعند ما رأى السكان ذلك انهارت قواهم المعنوية ، ولجأوا الى الهرب في ذعر كبير وتدافع بالغ أدى إلى هلاك أكثر من ثمانين شخصا اختناقا عند أبواب المدينة من كثرة زحام الجمهور. أما الأمير البائس الذي جاء لنجدة المدينة فلم يعرف كيف ينجو بنفسه سوى أن يلجأ للنزول بواسطة حبل من أعلى السور. وتراكض الناس في كل اتجاه في المدينة. بعضهم حفاة وبعضهم على خيول. وكان من المحزن رؤية الأولاد والكهول والنساء والفتيات ، حفاة ، شعثا ، يركضون في كل مكان بدون أن يعرفوا أين يختبئون. ولكن قبل أن تنشب المعركة مع النصارى عمد اليهود ـ الذين كانوا قد عقدوا قبل قليل إتفاقا مع ملك البرتغال لتسليمه المدينة بشرط أن لا يمسّوا بأي أذى ـ عمدوا إلى فتح الأبواب برضى الجميع. وهكذا احتل النصارى آزمور ، (٢٦١) وذهب السكان ليقطنوا في سلا وسكن قسم آخر

__________________

(٢٥٩) لقد اعترفت آزمور بالحماية البرتغالية منذ سنة ١٤٨٦ م ولكن يبدو ان الاتفاقيات المتعلقة بها قد ألغيت في ١٥٠٢ م وأدى تعاقب الأحداث الى تدخل البرتغاليين المسلّح. وفي ١٢ آب (أغسطس) ١٥٠٨ م ظهر اسطول تجاه آزمور مؤلف من خمسة وسبعين قطعة ، وتم إنزال الفين وخمسمائة رجل الى البر. ولكنهم لقوا مقاومة ضارية قسرتهم على العودة الى سفنهم على عجل ، ولم ينج من سفنهم إلا بضع سفن واحرقت سفينة خفيفة في النهر وكان هذا الاسطول بقيادة دوم جاوو دومينيسيس ، الذي مات في اثناء حكمه لمدينة آزمور في ١٥ ايار (مايو) ١٥١٤ م.

(٢٦٠) كانت هذه الحملة بقيادة دوق دو براجانس وكانت تضم خمسمائة سفينة وأنزلت بتاريخ الاثنين ٢٩ آب (اغسطس) ١٥١٣ م في الجديدة (مازاغان) التي لم تكن حينذاك أكثر من مرسى ، حملة قوامها ألفا فارس وثلاثة عشر الفا من المشاة.

(٢٦١) عسكرت القوات البرتغالية امام آزمور يوم الخميس الأول من ايلول (سبتمبر) ، بينما دخل قسم من الأسطول في النهر. وفي صبيحة الجمعة قذفت المدينة بالمدفعية مما أدى إلى فزع السكان الذين جلوا عن المدينة ليلا. أما الأمير المقصود فقد كان مولاي زيان ، ابن عم ملك فاس ، الذي كان حاكما على مكناس والشاوية سابقا ، والذي سبق له ان ثار ضد الملك ، والتجأ الى البرتغال أولا ، ثم في آزمور ، حيث لعب على الحبلين. وفي ١٥١٤ م انتهى به الأمر للتصالح مع ملك فاس بصورة رسمية. وسنرى في القسم الثالث ذكرا لهذا الصلح. ولم يسلم اليهود المدينة ولكن كان هناك يهودي ذهب لإخبار ـ

١٦٧

منهم فاس. وهكذا عوقب هؤلاء السكان بهذه الصورة جزاء انغماسهم في اللواط. وكانوا لا يستحون من هذه الرذيلة ، حتى أن الأب كان يبحث لولده عن صديق مداعب لطيف.

وأخيرا سقطت هذه المدينة في عام ٩١٨ ه‍ ، بينما كنت في بلاد السودان. (٢٦٢)

مرامر

مرامر مدينة بناها القوط في داخل الأراضي على مسافة أربعة وأربعين ميلا (٢٦٣) من آسفى ، وفيها قرابة أربعة آلاف أسرة. وتنتج المنطقة كثيرا من القمح والزيت وكانت في الماضي تحت سلطة أمير آسفى. ولكن عند ما سقطت آسفى بأيدي البرتغاليين (٢٦٤) هرب السكان من المدينة وظلت خلال عام كامل مهجورة وبعدئذ عقد الأهلون اتفاقا مع البرتغاليين وعادوا لبيوتهم. ويدفعون حتى الآن جزية لملك البرتغال (٢٦٥)

جبل بني ماجر

وهو جبل يقع على مسافة اثنين وعشرين ميلا من آسفى (٢٦٦) وكان يقطنه الكثير من الصناع الذين كانت لهم جميعا بيوت في آسفى. وهو جبل غزير الإنتاج ، ولا سيما من القمح والزيت. وكان فيما سبق من الزمن تحت سلطة أمير آسفى. وعندما سقطت المدينة المذكورة ، لم يكن لدى هؤلاء السكان بدّ من أن يبحثوا لهم عن ملجأ في الجبل. ومنذ

__________________

ـ البرثغاليين ، في منتصف الليل ، بأن المدينة قد اخليت قبل قليل ، فاحتلها البرتغاليون دون حادث في صبيحة السبت ٣ أيلول (سبتمبر) ١٥١٣ م.

(٢٦٢) سقطت آزمور يوم السبت ٣ ايلول (سبتمبر) ١٥١٣ م ـ ٢ رجب ٩١٩ ه‍. وهذا التاريخ أي ٩١٨ ه‍ / ١٥١٢ م هو بلا شك تاريخ رحلة المؤلف الثانية الى السودان ، أي الى بلاد حوض النيجر.

(٢٦٣) أي أقل من ٧٠ كم.

(٢٦٤) في ١٥٠٨ م.

(٢٦٥) تحمل آثار هذه المدينة اسم سويرة مرامر ، أي سور مرامر الصغير. وتقع هذه الآثار في منطقة الضفة اليسرى لنهر تانسنت حينما كانت مرتبطة إداريا بدكالة. ويبدو ان المؤلف يردد اعتقادا شائعا ينسب تأسيس مدينة مرامر إلى ويزيغوط اسبانيا ، ومن المحتمل ان هؤلاء أسسوا مركزا تجاريا ، لأن البكري يذكر مرامر على الطريق الذي كان يربط نيفيس ، وهي مدينة هامة في الداخل عند الفتح الاسلامي ، بميناء آغوز الواقعة عند مصب نهر تانسفت.

(٢٦٦) أي حوالي ٣٥ كم.

١٦٨

ذلك الحين أصبح هذا الجبل تابعا لملك البرتغال. وعلى أثر وصول ملك فاس لهذه المنطقة عاد قسم من الناس إلى آسفى. وجلت البقية إلى فاس بتأثير من الملك لأنهم لم يقبلوا العيش تحت سيطرة النصارى (٢٦٧).

الجبل الأخضر

الجبل الأخضر جبل عال ، ويبدأ من جوار نهر أم الربيع ، ويمتد غربا حتى تلال هسارة. ويفصل الدكالة عن جزء من منطقة تادلة (٢٦٨) ، وهذا الجبل كثير الغابات وتكثر فيه الجروف الشديدة (٢٦٩) ، وينتج الكثير من ثمار البلوط وينمو فيه الكثير من هذه الاشجار التي تحمل ثمرة حمراء تدعى باللغة الافريقية الأربوز. ونجد فيه كذلك أشجار الصنوبر. ويعيش فيه العديد من الزهاد الذين لا يتغذون بغير ثمار الجبل (٢٧٠) ، لأنهم على مسافة خمسة وعشرين ميلا من أية بقعة مأهولة. ويوجد هنا الكثير من العيون وكذلك بضعة مساجد مبنية حسب أسلوب المسلمين. وتشاهد فيه آثار عمرانية قديمة إفريقية. وبالقرب من الجبل توجد بحيرة بديعة جدا ، تعادل بحيرة بولسينا ، الواقعة ضمن المقاطعة البابوية (٢٧١). وتحوي هذه البحيرة كمية كبيرة من الأسماك ، مثل سمك الحنكليس ، وسمك الشبوط ، والسلور ، وأسماكا أخرى لم أر مثلها أبدا في إيطاليا ، وكلها ممتازة للغاية. ولكن لا يصطاد أحد أبدا في هذه البحيرة.

وعندما ذهب محمد (٢٧٢) ملك فاس إلى دكالة (٢٧٣) توقف لمدة ثمانية أيام بجوار هذه

__________________

(٢٦٧) هاجر هذا القسم من بني ماجر الى منطقة فاس في شهر تموز (يولية) ١٥١٥ م بقيادة زعيمهم علي بن واشيمان.

(٢٦٨) من المستحيل علينا حاليا تحديد تخوم مقاطعات ذلك العصر ، ولكن يبدو من غير المحتمل ان دكالة كانت ملاصقة لتادلة. ولم يعثر على اسم هسارة ، وربما جازت قراءته هسكورة ، ومن الشرق عوضا عن الغرب. ويبدو ان المؤلف أعطى اسم الجبل الأخضر لكتلة من التلال واقعة جنوب غرب نهر أم الربيع ، في حين ان الاسم يعني فقط جبلا صغيرا في هذه الكتلة ، لا يتجاوز ارتفاعه ٩٦٣ متر ، ولا يشرف على المناطق المجاورة بأكثر من حوالي ٣٠٠ متر.

(٢٦٩) يبدو هذا الجبل عاريا تماما في أيامنا هذه.

(٢٧٠) ويقصد بها ثمار الزعرور.

(٢٧١) لقد اختفت هذه البحيرة تماما بسبب ابادة الغابة كليا في المنطقة ، وكانت بحيرة دائمة تحمل اسم بحيرة اوارار. وهناك عين تقع على مسافة ثلاثين كيلومترا إلى الغرب من الجبل الاخضر تحتفظ باسم عين وارار. ولا يزال القاع الذي كان يؤلف هذه البحيرة وحليا للغاية في فصل الأمطار ، ولكن يستبعد كثيرا ان يكون لها طابع وأبعاد بحيرة بولسينا التي هي عبارة عن فوهة بركانية دائرية يبلغ قطرها ١٣ كم.

(٢٧٢) أبو عبد الله محمد بن محمد الشيخ السعيد الكامل البرتغالي.

(٢٧٣) في حزيران (يونية) ١٥١٥ م.

١٦٩

البحيرة وأمر بعض الناس بالصيد. ورأيت كيف يجري صيدها ؛ إذ عمدوا إلى ضيم أطراف ياقات قمصانهم وأكمامها بعضها إلى بعض بالخياطة ، واستعانوا بعدى طويلة لإنزالها إلى قاع البحيرة. وبهذه الطريقة حصلوا على الكثير من السمك. فماذا عسى أن يحصل عليه الذين يستخدمون الشباك من هذه الاسماك؟! وخاصة لأن السمك هناك يبدو كأنه مصاب بالدوار وكأنه ثمل للسبب الذي سأرويه فقد دخلت في البحيرة الخيول والجمال على مسافة تقارب الميل. وكانت الخيول بأعداد كبيرة تقارب أربعة عشر ألفا ، وكان أكثرها يخص العرب الذين وفدوا ليضعوا أنفسهم تحت تصرف الملك ، وكانت الأخرى تخص اتباعه من العرب ، والأخرى خيول جنوده. وجاء هؤلاء العرب بأعداد من جمالهم تفوق ثلاثة أضعاف عدد الخيول. وكان في قافلة الملك وأخوته قرابة خمسة آلاف من الخيول. وكان الملك قد جهز ذلك لحاجات كل جنوده النظاميين ، الذين كان عددهم يقارب سبعة آلاف فارس ومثلهم من المشاة ، ما بين خدم وبغالة ، وجمّالة وسقّائين وحطّابين وطباخين مع خدم المطعم ومحاسبي النفقات ، أضف إلى ذلك وكيل الاعلاف مع محاسبيه ومستخدميه الذين اصطحبهم. وكان كل هؤلاء الناس على نفقة الملك باستثناء صف ضباط المشاة وضباط الفرسان الذين قاموا بأنفسهم بما يلزم لتموينهم الخاص من الخيام ومن الجمال ومن موظفي الخدمة. وقد سردت كل هذه القصة في موجز التواريخ الذي سبق لي أن ذكرته. ولن نطيل أكثر من ذلك عنها كيلا نخرج عن موضوعنا وهو البحيرة.

وتوجد على ضفاف هذه البحيرة كمية كبيرة من الاشجار التي تشبه أوراقها أوراق الصنوبر (٢٧٤) وتصنع طيور اليمام التي لا تحصى ، بين أغصانها ، أعشاشها ، بحيث كنا في هذه الفترة ، وهي شهر أيار (مايو) (٢٧٥) ، نشتري ست يمامات دفعة واحدة بثمن زهيد.

وامتدت استراحة الملك على فترة ثمانية أيام ثم أراد أن يقصد الجبل الأخضر. وكنا عديدين في صحبته ما بين فقهاء ورجال بطانته. وكان يأمر بوقوف كل الناس عند كل مسجد نصادفه ويركع قائلا في دعاء متواضع : «اللهم إنك تعرف أنني جئت الى هذه البلاد الموحشة بنية وحيدة وهي مساعدة أهالي دكّالة لتحريرهم من العرب الزنادقة والعصاة

__________________

(٢٧٤) يحتمل أن تكون أشجار الطّويّا المعروفة في بلاد البربر واسمها اللاتيني Callitris articulata أو العرعر باللغة العربية.

(٢٧٥) أو بالأصح نهاية شهر حزيران (يونية) ١٥١٥ م.

١٧٠

ومن اعدائنا النصارى الأوغاد كذلك وإذا كانت إرادتك غير ذلك ، أسألك أن تصب بلاءك على عاتقي وحدي ، لأن الناس الذين يتبعوني لا يستحقون عقابا». وفي المساء عدنا الى المعسكر بعد أن أمضينا النهار في الجبل. وفي الصباح التالي رأى الملك أن يقوم بالصيد في الغابات التي تحيط بالبحيرة. فاستعمل في ذلك الكلاب والصقور التي يملك منها عددا كبيرا. وهكذا جرى صيد الحباري والبط ، والطيور المائية والترغل. وفي اليوم التالي جرى صيد بواسطة كلاب السلوقي والصقور والباز ، وتم صيد أرانب ووعول ودلادل (٢٧٦) وغزلان وأبناء آوى وحجل بكميات لا تحصى ، إذ لم يحدث صيد بمثل هذا الشكل منذ مائة عام في هذا الجبل.

وبعد هذا الصيد ، أخذ الملك قسطا من الراحة ، وانطلق ليذهب مع الجيش نحو مدينة الدكالة ، وسمح للفقهاء وللعلماء الذين كانوا معه بالعودة الى فاس. وأرسل عددا منهم إلى مراكش وكنت عضوا في هذا الوفد. وحدث هذا في عام ٩٢١ ه‍ (٢٧٧).

منطقة هسكورة

هسكورة منطقة تبدأ من التلال الواقعة في دكالة باتجاه الغرب وتنتهي غربا عند نهر التانسفت عند قدم جبل آديمي. وتتاخم من الشمال وادي العبيد الذي يفصل هسكورة وتادلة إحداهما عن الأخرى. وتقوم دكالة مع تلالها بفصل هذا الإقليم عن المحيط. وسكان هسكورة أفضل تربية بكثير من أهالي دكالة ، إذ تتوافر في هذه المنطقة موارد من كثرة محصول الزيت ، ومن تلك الجلود المغربية التي يستأثر إعدادها بجهود كل السكان تقريبا. ولدى هؤلاء عدد عظيم من الماعز وتجري دباغة كل الجلود التي تأتي من الجبال المجاورة في نفس المنطقة. ونظرا لوجود كمية كبيرة من الأغنام تصنع أقمشة جميلة جدا من الصوف لسد الحاجات المحلية. كما تصنع هنا سروج خيل أنيقة. ويقوم تجار فاس الذين يعقدون صفقات هامة في هذه الكورة بمقايضة أقمشتهم الكتانية في مقابل الجلود والسروج. وعملة هذه المنطقة هي العملة الدارجة في دكالة ويشتري العرب في هسكورة عادة الزيت وأشياء أخرى.

وسأتكلم الآن عن كل مدينة الواحدة تلو الأخرى.

__________________

(٢٧٦) أو الخنزير الشوكي ، أو النيص.

(٢٧٧) ١٥١٥ م.

١٧١

«المدينة» : بلدة من هسكورة

«المدينة» هي بلدة فوق سفوح جبال الأطلس وقد شيّدها أهل هسكورة. وتضم حوالي ألفي أسرة. وتقع على مسافة تقارب سبعين ميلا (٢٧٨) شرقي مراكش ، وعلى مسافة مائة وستين ميلا من مدينة دكّالة (٢٧٩). وتضم هذه «المدينة» عددا كبيرا من الدبّاغين ومن السرّاجين ومن الحرفيين الآخرين. كما أن فيها الكثير من اليهود ، بعضهم تجار والبعض الآخر صناع. وتقع في وسط إطار بديع يتألف من أشجار الزيتون وكروم العنب وأشجار الجوز اليانعات. وسكانها منقسمون الى بضعة أحزاب وتقع شجارات مستمرة فيما بينهم في داخل المدينة ومنهم وبين غيرهم في خارجها وذلك بسبب عداوتهم لأهل مدينة تقع على مسافة أربعة أميال منها (٢٨٠). ولا يستطيع أحد أن يتجول في الأرياف كي يذهب الى حقله. باستثناء النساء والعبيد. وإذا أراد تاجر غريب أن يذهب من مدينة إلى أخرى فيجب أن يكون مصحوبا بعدد كبير من الحراس. ولهذا يستأجر كل واحد منهم نبّالا أو رامي بندقية بأجر شهري يتراوح بين عشرة أو اثني عشر دينارا من العملة المحلية والتي تساوي ستة عشر دينارا إيطاليا (٢٨١). ونجد في هذه المدينة بعض الرجال المتصرفين الى علوم الشريعة. ومن بين هؤلاء يختار القضاة والفقهاء. وتعود الرسوم المستوفاة من الغرباء لبعض الرؤساء الذين ينفقونها في حاجات الجماعة. ويدفعون للعرب نوعا من ضريبة عن العقارات التي يملكونها في السهل ، ولكنهم يربحون من هؤلاء العرب أكثر من عشرة أضعاف ذلك. ولدى عودتي من مراكش قصدت هذه المدينة وبتّ في بيت رجل غرناطي غني جدا يعمل هناك في صنع راشقات السهام منذ زهاء ثمانية عشر عاما. وكنا تسعة أشخاص عدا الخدم. وقد تحمل نفقتنا عن طيب خاطر وقدم لنا كل شيء حتى سفرنا الذي كان في اليوم الثالث. وأراد الاهالي ان يكون مبيتنا في المضافة العامة المخصصة لكل الغرباء. ولكنه لم يستطع تحمل رؤيتنا تنزل في مكان غير بيته لأنني كنت

__________________

(٢٧٨) ١١٢ كم.

(٢٧٩) أي ٢٥٦ كم. والحقيقة مائة وثلاثون ميلا.

(٢٨٠) وهي بلدة أليمدين الواقعة على مسافة ٤ ، ٦ كم.

(٢٨١) تفتقر هذه الجملة للدقة ، ويجب ان نعرف ان ستة عشر دينارا إيطاليا يعادل اثني عشر مثقالا في هسكورة ، أي ان المثقال يعادل ٧ ، ٤ جرامات من الذهب ، والمثقال الموحدي له وزن نظري مقداره ٧ ، ٤ جرامات. ويبدو ان هذا الاجر مرتفع جدا بالنسبة لذلك العصر.

١٧٢

ابن وطنه. وعلى مدى إقامتنا كانت دار الإمارة تقدم لنا عجولا أو خرافا أو دجاجا ولما رأيت كثرة صغار المعز الموجودة في هذه المدينة ، طلبت من مضيّفي لماذا لا يقدمون لنا شيئا منها. فأجابني بأن هذا الحيوان يعتبر أدنى حيوان في المنطقة ولذلك يفضلون عليه في الإهداء الكبار من إناث المعز والتيوس.

ونساء هذه المدينة جميلات وشديدات البياض. وهن تمنحن وصالهن للغرباء عن طيب خاطر إذا استطعن ذلك وبشرط أن يتم ذلك في الخفاء.

ألمدين : مدينة في نفس الإقليم

ألمدين (٢٨٢) بلدة مجاورة للسابقة ، وعلى مسافة أربعة أميال (٢٨٣) إلى الغرب منها ، وتقع في واد بين أربعة جبال مرتفعة ، وهي بقعة باردة جدا. ويسكنها نحو ألف أسرة وأهل «ألمدين» هم دوما في حالة حرب مع سكان «المدينة». (المذكورة في الفقرة السابقة).

وفي أيامي استولى ملك فاس على هاتين المدينتين بواسطة تاجر من فاس وتم ذلك للأسباب الآتية : كان هناك تاجر فاسي ، كما سبق أن ذكرت ، مشغف حبا بفتاة صغيرة جميلة ، وقد وعده والدها بأن ينكحه إياها. ولكن في يوم العرس خطف الفتاة شخص كان زعيم المدينة. وقد كظم التاجر غيظه وطلب من هذا الزعيم السماح له بالرحيل. وعاد إلى فاس وقدم للملك هدية مؤلفة من أشياء جميلة ونادرة من هذه الكورة. وطلب منه ان يتفضل عليه ويعيره أربعمائة جندي راجل وثلاثمائة فارس ومائة من راشقي السهام يتعهد بنفقتهم جميعا. ووعد بأن يكتسح المدينة في قليل من الوقت وأن يحتفظ بها باسم الملك وأن يدفع كل سنة سبعة آلاف دينار ضرائب عن المنطقة. وقد قبل الملك هذا العرض وظهر كريما جدا ، إذ لم يترك على عاتق التاجر سوى نفقات راشقي السهام. وزوّده بكتاب يأمر به حاكم تادلة بأن يقدم للتاجر مثلهم من الخيالة ومن المشاة مع قائدين. وبعد أن أتم استعداداته على ما يرام قام التاجر المذكور ونصب معسكره أمام المدينة وحاصرها لمدة ستة أيام قام الأهلون في نهايتها وافهموا زعيمها بأنهم لا يريدون

__________________

(٢٨٢) مدينة اختفت كما نجهل اسمها الصحيح ومكانها.

(٢٨٣) ٤ ، ٦ كم.

١٧٣

التعرض لنقمة الملك ولا لما يلحقهم من جراء ذلك من أضرار. وهكذا خرج زعيم المدينة متخفيا بزي شحاذ ، ولكن أمكن التعرف عليه واقتيد أمام التاجر الذي كبله بالأغلال. وفي غضون ذلك فتح الأهلون أبواب المدينة وسلموها للتاجر الذي كان يتصرف باسم الملك. وجاء أهل الفتاة التي أحبها يعتذرون إليه قائلين بأن حاكم البلدة انتزعها منهم بالقوة بينما كانت في الحقيقة زوجة التاجر لأنه كان أول من منحوه إياها. وقد كانت هذه المرأة في حالة حمل في شهرها الثامن. وانتظر التاجر الى أن ولدت ثم تزوجها. أما زعيم المدينة فقد حكم الفقهاء عليه بالإعدام باعتباره زانيا وجرى رجمه في نفس اليوم. واحتفظ التاجر بحكم المدينة وعمل على استتاب الأمن. بين البلدتين المتعاديتين ، وبرّ بالوعد الذي قطعه على نفسه للملك.

وقد ذهبت إلى هذه المدينة وتعرفت فيها على التاجر الذي يحكمها. وعدت بعدئذ إلى فاس في نفس هذا العام حيث ذهبت لبيتي استعدادا للانطلاق إلى القسطنطينية (٢٨٤).

تاغوداست : مدينة في هسكورة

تاغوداست (٢٨٥) مدينة واقعة في رأس جبل شاهق ومحاط بأربعة جبال مرتفعة. وتطيف بهذه المدينة مزارع مثمرة بديعة جدا فيها جميع أنواع الأشجار. ورأيت فيها من المشمش ما ان حجمه ليعادل البرتقالة. وكرومها تسند إلى الحوائط في أشكال بديعة وتحملها سوق الأشجار. وتنتج عنبا احمر يسمى في لهجة أهل البلاد «بيض الدجاج» وبالفعل يناسبه هذا الاسم نظرا لكبر حباته. ويكثر هنا الزيت والعسل. ومن عسلها نوع أبيض كاللبن ، وهو ممتاز ، ومنه نوع أصفر فاتح كالذهب. وزيتها طيب الطعم ممتاز في نوعه. وتؤلف ينابيع في داخل المدينة جدولا يحرك مجراه بعض الطواحين الصغيرة المقامة على ضفتيه. وفيها العديد من الصنّاع الذين ينتجون أدوات دارجة في الاستعمال والسكان هنا مهذبون نسبيا. وتتزين النساء ، وهن غاية في الجمال ، بحلى فضية جميلة ، ذلك لأن أزواجهن يبيعون زيتهم بربح طيب. ويذهبون لبيعه في المدن المجاورة للصحراء ، أي في مواضع في الأطلس واقعة إلى الجنوب من الجبل. ولكنهم يذهبون الى فاس ومكناس لبيع الجلود.

__________________

(٢٨٤) وذلك خلال الأيام الأخيرة من تموز (يولية) أو أوائل ايام شهر آب (اغسطس) عام ١٥١٥ م.

(٢٨٥) الاسم والمكان غير معروفين ربما وجب البحث عنها من ناحية تاكوست.

١٧٤

ويقع قرب المدينة سهل يمتد على طول يبلغ ستة أميال (٢٨٦) وبه حقول جميلة يزرع فيها القمح. ويدفع الفلاحون إتاوة (٢٨٧) للعرب عن ممتلكاتهم.

ويوجد في هذه المنطقة فقهاء وقضاة وعدد من الشخصيات النبيلة. وفي الوقت الذي كنت موجودا فيها كان أميرها وجيها هرما ، أعمى ، ومطاعا جدا. وقد روى لي أنه كان في شبابه رجلا جسورا وذا قدرة كبيرة. فقد قتل بيده ، فيمن قتل وهم كثر ، أربعة زعماء أحزاب كانوا يظلمون الرعية. وبعد موت هؤلاء أظهر في معاملته للسكان الكثير من الرحمة ، وعرف كيف يوفق بين الأحزاب إلى أن أوصلها إلى الوحدة. وقد بلغ الوفاق درجة جعلت هؤلاء وأولئك لا يكتفون بعقد صلات صداقة بل يعقدون كذلك وشائج رحم ومصاهرة بينهم. أما فيما يتعلق بحكومته ، فقد كان الناس يعيشون بكامل حريتهم ، ولكن لا يمكن تقرير شيء دون مشورة هذا الرجل وموافقته. وقد نزلت عند هذا العجوز مع حوالي ثمانية من الفرسان. وقد برهن على سخاء كبير : إذ قدّم لي كل احتياجاتي ، وكذلك بالنسبة لرفاقي ، ولخيولنا ، وقدّم لنا كل انواع الأقوات. وقد أمضينا ثلاثة ايام عنده وكنا نثرثر بدون توقف وقد قصّ علينا ما فعله في سبيل نشر الأمن في المدينة وشرح ذلك. ولم يكتم عني شيئا كما لو كنت أخاه. وعند انصرافي أردت أن أعوضه على مصاريفه التي أنفقها على استقبالنا بإكرام ، ولكنه لم يقبل ذلك. وقال لنا انه كان صديقا وخادما أمينا لملك فاس ، ولكن إذا كان قد عاملنا هذه المعاملة الطيبة فليس ذلك لأننا من حاشية الملك ، بل لأنه ورث عن أجداده واجب إيواء كل من يجتاز المنطقة والحفاوة به سواء أكان معروفا لهم أم غريبا ، وذلك لوجه الله تعالى وسيرا على تقاليدنا النبيلة. وأضاف أن الله الذي يعوّض كل شيء منحه هذا العام محصولا يقارب سبعة آلاف كيل من القمح ومن الشعير لدرجة أن ما لديه من الاقوات يكفي لتغذية عدد أضخم من اهل البلد ولسدّ حاجاتهم. وفضلا عن ذلك لديه اكثر من مائة الف رأس من الغنم والماعز يستمد منها دخلا من شعرها ومن صوفها ، لأنه يترك للرعاة الحليب والجبن. ولكن يقدم له هؤلاء مع ذلك قدرا من السمن. وقال ان هذه الاشياء لا تجد لها سوقا في المنطقة إذ لدى كل الناس كثرة من الماشية الصغيرة. أما بالنسبة للجلود والصوف والزيت فتباع على مسافة سبعة أو ثمانية ايام. وأخيرا قال لنا إذا حدث وسلك مليكنا الطريق المحاذي

__________________

(٢٨٦) ١٠ كم.

(٢٨٧) يسمى ما يدفع من المسلمين «إتاوة» ولا يسمى «جزية» لأن «الجزية» هي ما يدفعه اهل الذمة.

١٧٥

لحضيض الجبل عند عودته من دكّالة فإنه سيخرج لملاقاته وسيقدم له خدماته كصديق وخادم. ثم استأذنا هذا العجوز الطيب وظللنا نلهج بالشكر له وبالحديث عن خلاله في أثناء بقية الرحلة.

الجمعة

الجمعة (٢٨٨) مدينة تبعد مسافة خمسة اميال تقريبا (٢٨٩) عن المدينة السابقة ، وبنيت في أيامنا فوق جبل عال يقع بين جبال أخرى مرتفعة جدا ، وتؤوي قرابة خمسمائة اسرة. كما أن القرى الواقعة في هذه الجبال فيها من السكان مثل ذلك. وتوجد هنا عدة عيون والكثير من المزارع الخاصة بكل أنواع الأشجار المثمرة ، ولا سيما بعدد ضخم من اشجار الجوز الكبيرة .. وتتغطى كل التلال التي تحيط بهذه الجبال بحقول الشعير وبأعداد من شجر الزيتون. ويسكن المدينة عدد كبير من الصناع ، وخاصة من الدبّاغيين ، والسرّاجين ، والحدادين ، نظرا لوجود منجم حديد عميق جدا. ويصنع هؤلاء الحدادون الكثير من حدوات الخيل. ويصدّر أهل هذه المدينة كل الاشياء التي يصنعونها ويصدّرون بضائعهم الى الكور التي تفتقر الى مثل هذه المنتجات ، ويقايضون عليها بالعبيد وبالنيلة وبجلود بعض الحيوانات التي تعيش في الصحراء (٢٩٠) والتي يصنعون منها تروسا جيدة شديدة المقاومة. ومن ثم ينقلون هذه الاشياء الى فاس حيث يقايضونها بالاقمشة الصوفية والكتانية وبأشياء أخرى يستعملونها.

وهذه المدينة نائية جدا عن الطريق الرئيسية ، حتى إذا جاءها غريب ، تراكض كل الناس ، حتى الأطفال لرؤيته ، لا سيما إذا كان يلبس ألبسة غير مألوفة في المنطقة.

ويحكم الأهالي بواسطة مجلس بلدي.

وقد شيّدت «الجمعة» بجهود الدهماء من أهل تاغوداست على إثر شقاق وقع بين وجهاء البلدة المذكورة. ولما كان الدهماء غير راغبين في الإنضام إلى أي من الحزبين ، فقد غادروا تاغوداست وبنو مدينة «الجمعة» تاركين تاغوداست للوجهاء. وهكذا نجد

__________________

(٢٨٨) وتقع قرب سوق الاثنين الحالي في بلاد عشيرة انتيفة.

(٢٨٩) أي ٨ كم.

(٢٩٠) وهو الحيوان المسمى اللّمت او وعل أوريكس.

١٧٦

اليوم أن إحدى المدينتين لا تحوي سوى الوجهاء بينما لا تضم الأخرى إلا أناسا ليسوا من ذوي النسب العريق.

بزو : مدينة في هسكورة

بزو مدينة قديمة قائمة فوق جبل شديد الارتفاع ، على مسافة عشرين ميلا إلى الغرب من المدينة السابقة الذكر (٢٩١) ويجري في أسفل هذه المدينة نهر العبيد الذي يبعد عنها بمسافة ثلاثة أميال (٢٩٢) ، وكل سكان بزو من التجار ، وهم شرفاء وحسنو الهندام. ويقومون بنقل الزيت والجلود والأقمشة الى بلاد السودان. وينتج جبلهم الكثير من الزيت والحبوب وكل نوع من أصناف الفاكهة الجيدة. ومن عادتهم تجفيف عنب له لون وطعم عجيبان. ويملكون أعدادا كبيرة من أشجار التين العالية والضخمة. وتصل أشجار الجوز الى ارتفاع كبير حتى إن الحدأة تعشش فيها آمنة ، إذ لا يوجد إنسان لديه من الشجاعة ما يسمح له بالتسلق إلى ارتفاع كهذا. وسفح الجبل المطل على النهر مزروع برمته ، فنجد فيه أشجارا تسر الناظرين تمتد حتى حافة النهر. ولقد ذهبت الى بزو في آخر شهر ايار (مايو) ، في الوقت الذي كان فيه المشمش والتين ناضجين (٢٩٣). وقد نزلت عند إمام المدينة ، الى جانب مسجد جميل يمر من جواره نهير يعبر سوق هذه البلدة.

جبل تينو أواز

تينو اواز جبل يقع بمواجهة منطقة هسكورة ، على سفح جبل الأطلس الذي يطل نحو الجنوب (٢٩٤). ويستوطن هذا الجبل سكان متكاثفون. وهم شجعان جدا عند ما يكونون مسلحين ، سواء كانوا فرسانا أم مشاة ولديهم الكثير من الخيول صغيرة الجئة. وينمو في جبلهم مقادير كبيرة من النيلة والشعير ، ولكن لا تنمو فيه ولا حبة واحدة من القمح بحيث لا يتغذى السكان بشيء غير الشعير. وتظهر الثلوج في هذا الجبل على مدار السنة. وبين هؤلاء السكان الكثير من النبلاء والفرسان ولهؤلاء الناس أمير يحكمهم

__________________

(٢٩١) والحقيقة ١٥ كم أو ١٠ أميال شمال سوق الاثنين في بلاد عشيرة انتيفة.

(٢٩٢) ٥ كم.

(٢٩٣) يسمى التين الكرموس في الشمال الافريقي والجماط في الحجاز (المترجم)

(٢٩٤) لا تعرف اية وثيقة تذكر هذا الاسم ، والمنطقة المقصودة هي بلا ريب بلاد أيت واوزاغيت. ويمكن الافتراض بأن هى ضمير الاشارة بالبربرية وان واواز تمثل واوازغيت.

١٧٧

بصفته ملكا ويستوفي ضريبة الجبل كي يستخدمها في الحروب التي تقع بين رعيته والرعية التي تسكن جبل تنزيته. ولديه قرابة عشرة آلاف فارس ، ولدى الوجهاء عدد مماثل تقريبا من المحاربين الفرسان ولديه ايضا مائة رجل من راشقي السهام أو من رماة البنادق.

وفي الزمن الذي ذهبت فيه الى هذه الانحاء كان اميرها على غاية في الكرم ، وكان اكثر شيء يحبه ان تقدم له الهدايا وأن يكال له المديح. ولم يكن له مثيل في البشاشة لأنه كان يعطي كل ما لديه وكان صدره ينشرح لسماع نطق اللغة العربية السليمة ، مع أنه لم يكن يفهمها ، وكان يغمره الفرح عند ما يأتي أحد ليسمعه بعض الثناء المنظوم في مدحه ، وحينما أوفد عمي من طرف ملك فاس سفيرا لدى ملك تومبوكتو (٢٩٥) اصطحبني معه. ووصلنا الى منطقة الدرعة ، التي تبعد بحوالي مائة ميل عن مقر هذا الامير (٢٩٦) الذي بلغت مسامعه شهرة عمي فجأة. وكان عمي خطيبا مصقعا وشاعرا ظريفا. وأرسل الأمير رسالة الى أمير الدرعة (٢٩٧) يرجوه بأن يرسل له عمي لأنه يرغب في رؤيته والتعرف عليه وقد اعتذر عمي وأجابه بأنه من المتعذر بالنسبة لرسول ملك ان يزور امراء موجودين في خارج طريقه ، وبذلك يؤخر خدمة الملك. وحتى لا يظن أنه متعاظم ، فإنه سيرسل ابن أخيه ليقبل يد الامير وهكذا أرسلني مزودا ببعض الهدايا الجميلة التي كانت تتألف من زوج من ركابات مزدانة بنقش على الطريقة المغربية تبلغ قيمتها خمسة وعشرين دينارا ، وزوجان من نطاقات من حرير مضفور بخيوط من الذهب ، الأول بلون بنفسجي والثاني بلون لازوردي ، ومن كتاب جميل جدا ذي جلد جديد عنوانه «حياة أولياء إفريقيا» واخيرا قصيدة مكتوبة في مدح الأمير وبدأت طريقي مع فارسين وقد استغرقت الرحلة اربعة ايام استخدمتها في نظم قصيدة هي أيضا على شرف هذه الشخصية التي نحن بصدد الكلام عنها.

وعند ما وصلت الى المدينة كان الامير يتهيأ لرحلة صيد مع تجهيزات كبيرة جدا وما ان علم بقدومي حتى استدعاني على الفور وبعد ان حييته وقبلت يده سألني عن خال عمي. فاجبته بأنه فيّ حال طيب وأنه في خدمة حضرته. وخصص لي مسكنا وطلب مني ان استريح ريثما يعود من الصيد. وعاد قبل الوقت المنتظر ليلا وطلبني للذهاب الى قصره.

__________________

(٢٩٥) هو آسكيا محمد توريه (حكم بين ١٤٩٨ ـ ١٥٢٨).

(٢٩٦) هي وار زازات بلا شك.

(٢٩٧) أي إلى مزوار الدرعة.

١٧٨

وهكذا دخلت عليه وقبلت يده من جديد ، وبعد ان أسمعته اكثر عبارات المجاملة قدمت له الهدايا وقد كان لها أكبر انشراح عارم على نفسه ، كما لاحظت ذلك. وأخيرا قدمت له قصيدة عمي التي طلب من احد كتابه قراءتها. وبينما كان هذا يشرح له ما كانت تتضمنه القصيدة نقطة نقطة لمحت على وجه الأمير علائم الفرح الشديد. وعند ما انتهت القراءة والترجمة ، جلس الامير لتناول طعامه وأجلسني على مقربة منه. وكانت الوجبة تتألف من لحم خروف مشوي ومسلوق مغلف برقائق عجينة غاية في الرقة (٢٩٨) ، تشبه نوعا من الفطائر الإيطالية المسماة لازانياLasagne ولكنها اكثر منها سماكة وتماسكا ثم جيء بالكسكسي والفتات وأنواع طعام أخرى لم أعد أتذكرها الآن مطلقا. وبعد أن فرغنا من تناول الطعام نهضت وقلت : «لقد أرسل عمي لسموكم هدية صغيرة ، كتلك التي يستطيع أن يقدمها عالم فقير ، كي يعبر لكم عن حسن نيته التي يحس بها ولكي تحتفظوا له بخير صغير في ذاكرتكم. أما بالنسبة لي ، أنا ابن أخيه وتلميذه ، لما كنت أفتقر لوسيلة أثني بها عليكم ، فليس لي ما أقدمه سوى الكلمات. ومهما كانت ضآلتي في الواقع ، فإني أتمنى أن أكون محسوبا بين خدام معاليكم». وبعد ان قلت كلمتي هذه ، أخذت بإلقاء قصيدتي ، وفي أثناء القراءة كان الأمير يطلب تارة شرح ما استعصى عليه فهمه ، وتارة اخرى كان ينظر الي ، انا الذي لم أكن أكثر من فتى له من العمر ستة عشر عاما. (٢٩٩) ولما فرغت من قراءتي ، ودعني ، لأنه كان متعبا من الصيد وكانت ساعة النوم قد أزفت. وفي صبيحة الغد دعاني في وقت مبكر لتناول الفطور معه. وبعد أن تناولنا طعامنا ، أعطاني مائة دينار لتسليمها الى عمي وعبدين ليخدماه في أثناء رحلته. وأعطاني شخصيا هدية مقدارها خمسون دينارا وحصانا ، وأعطى عشرة دنانير لكل من الشخصين اللذين كانا يرافقاني وكلفني ان انقل إلى عمي بأن هذه الهدايا البسيطة كانت بمثابة شكر على قصيدته وليست تعويضا عن الهدايا التي تلقاها من طرفه ، لأنه يحتفظ له بمظاهر عرفانه العميق عند ما يعود عمي من تومبوكتو. وأمر أحد كاتبيه بأن يرشدني الى الطريق ، وصافحني وأذن لي بالسفر في صبيحة ذلك اليوم ذاته اذ كان عليه ان يقوم بحملة ضد أحد خصومه. وحملت أطيب ذكرى عن مضيفي وعدت الى جوار عمي. وقد حرصت على

__________________

(٢٩٨) الفتات وجبة طعام مؤلفة من لحم ومن قطع خبز ، ولا تزال مرغوبة جدا.

(٢٩٩) وردت هذه العبارة في ترجمة تامبورال (أول من ترجم كتاب الحسن إلى الفرنسية) بهذا النص «الذي لم يكن سنه يتجاوز سبعة عشر عاما» (تامبورال ، ص ٩٩ طبعة ليون سنة ١٥٥٦).

١٧٩

سرد هذه الحكاية لأبرهن لكم أن في افريقيا ايضا يوجد وجهاء وأمراء كلهم أنس ودماثة من أشباه أمير ذلك الجبل.

جبل تنزيته

تنزيته جبل يشكل جزءا من سلسلة الأطلس. فيبدأ غربا من تخوم الجبل السابق ويمتد نحو الشرق حتى جبل دادس (٣٠٠). وهو جبل مأهول بالسكان بكثرة. ويضم خمسين قصرا (٣٠١). وكلها مسورة بجدران من الطين ومن الطوب النيىء ، ومطرها نادر نظرا لوقوعها في الجنوب. وكل هذه القصور قائمة على طول نهر الدرعة ، ولكن على مسافة متباينة عنه ، فبعضها يبعد مقدار أربعة أميال وبعضها الآخر ثلاثة أميال. وكل المنطقة تحت قيادة أمير كبير (٣٠٢) ، تحت تصرفه زهاء ألف وخمسمائة فارس ومثلهم من المشاة كالأمير الذي تكلمنا عنه قبل قليل (٣٠٣). وبين هذين الأميرين صلة قرابة ولكنهما عدوان لدودان كل منهما للآخر ويحتربان باستمرار. وينمو النخيل في أكبر قسم من هذا الجبل. وسكانه فلاحون أو تجار. وينبت الشعير بغزارة كبيرة في هذه المنطقة ، ولكن ندرة القمح واللحم فيه شديدة نظرا لقلة الماشية. ويجبي الأمير من جبله عشرين الفا من الدنانير الذهبية كل عام ، ولكن دنانير هذه المنطقة تزن ثلثي الدنانير الايطالية ، أو أثنى عشر قيراطا (٣٠٤). وهذا الأمير صديق حميم لملك فاس ، ويرسل له دوما هدايا هامة (٣٠٥) ، ويرد عليه ملك فاس تحياته بمثلها وأحسن منها فيرسل له خيولا حسنة التجهيز ، وأقمشة

__________________

(٣٠٠) تنزيته الحالية كورة صغيرة شمالي زاغوره ، ويقصد المؤلف بهذا الاسم كل الجزء المأهول من المجرى الأعلى لوادي الدرعة ، الذي ليس له أية علاقة بجبال دادس الواقعة الى الشمال من ذلك. وهذا الجبل هو المقسوم آنئذ بين قيادتين ، قيادة الشمال حتى زاوية تنزيته الحالية ، القريبة من مركز زاغوره الحديث ، والتي كانت مرتبطة حينذاك نظريا بمراكش ، وقيادة الجنوب أي الدرعة بكل ما في الكلمة من معنى.

(٣٠١) أي قرى صغيرة مخصنة ، عديدة الطوابق.

(٣٠٢) كان يحمل لقبا بربريا هو مزوار.

(٣٠٣) وهو أمير تينواواز.

(٣٠٤) لما كان القيراط عبارة عن واحد من مائة وأربعة وأربعين من الأونسة ، ولما كانت الأونسة المغربية هي نفس الأونسة الايطالية ، ولما كان القيراط يزن ١٩٦ ، من الجرام ، فمعنى ذلك أن الدينار أو مثقال تنزيته ، المؤلف من ١٢ قيراطا كان يزيد ٣٥ ، ٢ جرام ، ويعادل نصف الدينار أو المثقال الموحدي المؤلف من ٢٤ قيراطا ، والذي كان دارجا في دكالة وهسكورة وربما أيضا في مراكش.

(٣٠٥) كانت تقدم هذه الهدايا للملك بمناسبة العيدين تعبيرا عن التبعية وتحمل اسم «الهدية».

١٨٠