وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

القول أن هذه المدينة قد هرمت قبل الأوان ، إذ في السنة التي يكتب فيها المؤلف هذا الكتاب يكون قد مضى خمسمائة سنة على بنائها في عهد يوسف بن تاشفين في عام ٤٢٤ ه‍ (١٥٥). وبعد موت يوسف استلم السلطة ابنه علي (١٥٦) ، وخلفه ابنه ابراهيم (١٥٧). وفي ذلك الزمن ظهر داعية ، يدعى المهدي ، الذي كان ولد وترعرع في هذه الجبال ، وثار ، وجمع جيوشا جرارة وشهّر الحرب على ابراهيم (١٥٨).

واضطر الملك للخروج مع جيشه لملاقاة جيش المهدي. ونشبت المعركة ولم يكن الحظ حليف الملك فانهزم. وقطعت عليه طريق العودة إلى مراكش ، فعزف عن الرجوع إليها وهرب نحو الشرق سالكا حضيض سفوح الأطلس مع القليل من قواته المتبقية. ولكن المهدي لم يقنع بذلك. فكلف أحد تلامذته ، واسمه عبد المؤمن ، أن يتعقب الملك مع نصف الجيش. وبقي معه النصف الآخر لضرب الحصار على مراكش. ولم يفلح الملك في العثور على وسيلة للتخلص من عدوه ولا للدفاع عن نفسه إلى أن بلغ وهران. وخطر له أن يتحصّن فيها قدر استطاعته مع بقية قواته داخل المدينة. ولكن وصل عبد المؤمن في الحال وعسكر أمام وهران ، وحينئذ جاء السكان وذكروا للملك أنهم لا يستطيعون أن يعرضوا أنفسهم للضرر بسببه. وبعد أن فقد الملك البائس كل أمل أردف الزوجة التي كانت معه خلف ظهره ، وخرج من أحد أبواب المدينة ، دون أن يتعرف عليه أحد ووجّه حصانه نحو جرف عال يطل على البحر ، ثم لكز خاصرتي حصانه وتدهور وراح يسقط من صخرة إلى صخرة. ولقي الثلاثة حتفهم وتهشموا فوق رصيف صخري على الساحل ودفنوا بصورة بائسة. وعاد عبد المؤمن ظافرا إلى مراكش وشاء حسن طالعه أن يجد المهدي قد توفي. وهكذا تم انتخابه ملكا مكانه من قبل أربعين مريدا وعشرة من حجاب المهدي ، وكانت عادة جديدة في التشريع الإسلامي. وهكذا أحكم حصار مراكش بشدة. ثم قبض على اسحق ، وهو الإبن الوحيد الذي ظل حيا من أبناء

__________________

(١٥٥) في الحقيقة تحدد تأسيس مراكش بعام ٤٥٤ ه‍ / ١٠٦٢ م وهذه الأسطر كتبت حوالي العام ٩٣٢ ه‍ / ١٥٢٥ م.

(١٥٦) وكان ذلك في ٤ أينول (سبتمبر) ١١٠٦ م.

(١٥٧) وكان هذا تاشفين بن علي الذي نودي به ملكا بتاريخ ٢٧ كانون الثاني ١١٤٣ م.

(١٥٨) لقد بدأ محمد بن تومرت (الملقب بالمهدي بن تومرت) دعوته في عام ١١١٦ م بعد عودته من المشرق ، وفي ١١٢٠ م ثار على الملك المرابطي علي بن يوسف ، وفي يوم الجمعة ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٢١ م نودي به في جامع نينمل مهدي الموحدين. والمرجح أنه مات يوم الأربعاء ٢٠ آب (أغسطس) ١١٣٠ م ، أي قبل خصمه للملك المرابطي علي بن يوسف. بحوالي اثنتي عشرة سنة.

١٤١

إبراهيم ، وهو طفل صغير ، فخنقه بيده بدون رحمة ، وبعد أن أعمل السيف في رقاب معظم الجند الذين كانوا هناك ، عمد إلى قتل شطر كبير من سكان مراكش (١٥٩).

وحكمت أسرة عبد المؤمن عن طريق التوراث من عام ٥١٦ ه‍ إلى عام ٦٦٨ ه‍ (١٦٠). ثم جردت من سلطتها على أيدي ملوك أسرة بني مرين. فانظر كيف يكون الحظ قلّبا! وقد احتفظت هذه الأسرة الجديدة بالمملكة (١٦١) حتى عام ٧٨٥ ه‍. ثم خبا نجمها وراح يحكم مراكش بعض الأمراء الذين يرجع أصلهم إلى الجبل العتيق ، المجاور للمدينة (١٦٢).

وفي أثناء هذه التقلبات في السيادة لم يجلب أحد ضررا على مراكش أكثر من المرينيين الذين سكنوا في فاس بعد أن جعلوها مقر البلاط الملكي (١٦٣) في حين كانوا يرسلون نائبا إلى مراكش ، وأصبحت فاس عاصمة موريتانيا وكل المنطقة الغربية. وقد عالجنا هذه القضية بصورة أكثر شمولا في «المختصر» الذي علناه عن التاريخ الاسلامي.

ولقد ابتعدنا قليلا عن موضوعنا ، وحان الوقت للعودة الآن إلى وصف مراكش.

__________________

(١٥٩) هذا الملخص الذي ذكره عن سقوط أسرة المرابطين لا يتفق مع حقائق التاريخ. فالمهدي بن تومرت لم يقم حتى موته بأكثر من غزوات ضد قبائل الأطلس الجنوبي وضد علي بن يوسف ، ملك مراكش. ولكن كان خلفه ، أبو محمد عبد المؤمن الكومي ، الذي نودي به يوم الخميس ٢١ آب (اغسطس) ١١٣٠ م ، هو الذي انجز فعلا عملية الاستيلاء البطىء على امبراطورية المرابطين. ولم تسقط مراكش إلا يوم السبت ١٢ آذار (مارس) ١١٤٧ م حسب كل احتمال. ويبدو أن موت تاشفين بن علي بصورة مأساوية والذي ورد ذكره هنا بصورة مختلفة ، قد حدث ليلة ٢٧ رمضان من عام ٥٣٩ ه‍ / أو ليلة ٢٢ إلى ٢٣ آذار (مارس) ١١٤٥ م. وعندئذ نودي بابنه إبراهيم ملكا على مراكش ، ولكن عجز هذا الملك أدّى إلى خلعه وانتخاب عمه الصغير اسحق ابن علي. وهذا هو الذي اغتاله عبد المؤمن دون شفقة.

(١٦٠) لقد نصب عبد المؤمن بتاريخ الرابع عشر من رمضان ٥٢٤ ه‍ وآخر ملك من الموحدين هو أبو العلا ادريس الملقب بأبي دبوس ، الذي قتل في آخر يوم من عام ٢٢٧ ه‍ / الجمعة ٣٠ آب (اغسطس) ١٢٦٩ م. ولكن بعد يومين أي الأول من ايلول (سبتمبر) أو الثاني من محرم ٦٦٨ ه‍ استطاع قاهره ، يعقوب بن عبد الحق ، الذي سبق أن نودي به ملكا على الشمال بتاريخ ٣٠ تموز ١٢٥٨ م ، أن يدخل مراكش وامتلكها نهائيا وأقام فيها.

(١٦١) أي مملكة مراكش.

(١٦٢) هذا التاريخ أي ٧٨٥ ه‍ / ١٣٨٣ م. هو بلا شك التاريخ الذي تنازع فيه على مراكش اثنان من سلاطين المرينيين المتنافسين وهما عبد الرحمن بن ايفاللوسن وأبو العباس احمد ابن أبي سالم. وقد حاصر الثاني عدوه في مراكش ، وتمكن أخيرا من الانتصار عليه وقتل عبد الرحمن مع ولديه. وربما كانت مراكش في هذا الوقت تحت حكم أمراء يعودون أصلا لقبيلة هنتاتة ، وقد استقلوا استقلالا ذاتيا واتخذوا بعدئذ لقب سلطان.

(١٦٣) سنة ١٢٧٦ م.

١٤٢

تملك هذه المدينة قصبة (١٦٤) لا يقل اتساعها عن مدينة ، مع أسوار سميكة ومتينة وأبواب بديعة جدا بني جانباها وأسقفها (١٦٥) من الحجر المنحوت وصنعت مصاريعها من الحديد. ويقوم في وسط القصبة جامع جميل جدا تعلوه منارة فخمة رشيقة ، في قمتها ساق من حديد انتظمت فيه ثلاث تفاحات من الذهب تزن مائة وثلاثين ألف دينار افريقي (١٦٦). والسفلى هي أكبر التفاحات والعليا هي أصغرها. وقد فكر عدة ملوك بانتزاعها وسكّها عملة عندما كانوا في حاجة ، ولكن كان يقع لهم دائما حادث خارق يقسرهم على تركها ، حتى أنهم اعتبروا المساس بها شؤما. ومن الشائع بين الأهلين بأن هذه التفاحات قد وضعت في مكانها تحت تأثير الكواكب بحيث لا يمكن انتزاعها من مكانها ، ويضاف إلى ذلك أن الذي ثبتها نطق رقية سحرية اضطرت بعض الأرواح بتأثير منها إلى تجنيد حرس واصب. وفي أيامنا أراد ملك مراكش (١٦٧) الذي كان عليه أن يدافع عن نفسه ضد النصارى البرتغاليين ، والذي لم يكن لديه أي تقدير لتطيّر الدهماء الساذج ، أن يقتلع هذه الكرات ، ولكن سكان المدينة لم يسمحوا له بذلك ، متذرعين بأنها تؤلف أشرف زينة لمدينتهم. ونقرأ في الكتب التاريخية أن زوجة المنصور (١٦٨) رغبت ، بعد أن بنى زوجها هذا الجامع (١٦٩) في أن تخلف هي نوعا من ذكرى عن نفسها بين تزيينات هذا البناء ، فباعت حليها الذهبية الخاصة ، والفضية والأحجار الكريمة وجميع ما قدمه لها الملك عند زواجه منها وأمرت بصنع التفاحات الذهبية الثلاث التي تعطي مظهرا جميلا للغاية فوق قمة هذه المنارة ، كما قلنا ذلك آنفا. هذا وتقوم في القصبة مدرسة جميلة جدا أو ، على الأصح ، مؤسسة للدراسات ولسكنى طلاب متنوعين وتحوي على ثلاثين غرفة ، وفي الطابق الأرضي قاعة كانت تعطى الدروس فيها في الماضي. وكان كل تلميذ مقبول في هذه المدرسة يعفى من مصاريفه ويكسى مرة في كل عام. وكان الأساتذة يتقاضون مرتبا يتراوح بين مائة ومائتي دينار حسب طبيعة الدروس

__________________

(١٦٤) تعني كلمة قصبة في بلاد المغرب الحصن أو القلعة. (المترجم).

(١٦٥) يسمى سقف الباب أسكفّه. وقد تطلق هذه الكلمة كذلك على عتبته السفلى.

(١٦٦) يعود هذا البناء للعصر الموحدي. والدينار هنا يعني المثقال الموحدي ويزن ٧ ، ٤ جرامات ويجب بكل تأكيد أن نقرأ عوضا عما كتبه المؤلف : ثلاثة عشر الف دينار ، أي ٦٠ كجم من الذهب.

(١٦٧) أبو علي الناصر بن يوسف.

(١٦٨) أي زوجة الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن ، الملقب بالمنصور.

(١٦٩) في عام ٥٩٤ ه‍ أو ٢٤ / ١٠ / ١١٩٦ م الى ١٢ / ١٠ / ١١٩٧ م.

١٤٣

التي عهد إليهم بأمر القيام بها ، ولا يمكن قبول أحد في هذه المدرسة بدون أن يكون على اطلاع تام بمبادىء العلوم. وهذه البناية مزدانة بالفسيفساء البديعة. وحيثما لا يكون هناك فسيفساء فإن الجدران الداخلية تكون مغطاة بمربعات من قرميد مشوي ، مطلية ومقطعة على شكل أوراق شجر خفيفة (١٧٠) أو بمواد أخرى تحل محل الفسيفساء ، وهذا خاصة في غرفة الدروس وفي الدهاليز المسقوفة. وكل رقعة لا تكون مسقوفة تظهر أرضها مبلطة بمربعات مطلية تسمى الزليج كما كان الوضع في أسبانيا (١٧١). ونجد في وسط البناء حوضا منقوشا بالنحت ، مصنوعا من المرمر الأبيض ، ولكنه منخفض حسب العادة في افريقيا. وكان يوجد في الماضي ، حسبما بلغني ، عدد كبير من الطلاب في هذه المدرسة ، ولكنهم لا يزيدون اليوم عن خمسة ، مع أستاذ شريعة ذي جهل عميق ، ليس في ذهنه إلا معارف ضحلة غامضة عن الانسانيات وأقل من ذلك عن العلوم الأخرى.

وعندما ذهبت إلى مراكش كانت لي علاقات ودية مع قاض هناك كان رجلا غنيا ، وكان يعرف تاريخ افريقيا بصورة جيدة ولكنه غير ضليع في علم الشريعة. وقد حصل هذا الرجل على وظيفته بفضل الممارسة التي اكتسبها في خلال أربعين عاما كان في أثنائها كاتب عدل ومقربا من الملك. أما الأشخاص الآخرون الذين كانوا يشغلون وظائف عامة فقد ظهروا لي من ذوي النفوس الغليظة وذلك استنادا للتجربة التي كانت لي حينما كنت بصحبة هذا الامير ، في البرية ، في أول مرة أقصد فيها منطقة مراكش.

هذا ويوجد في القصبة أحد عشر أو اثنا عشر قصرا متقنة البنيان والزخرفة من التي بناها المنصور. وأول قصر نصادفه كان يقيم فيه الحرس من الرماة ، النصارى ، الذين كان عددهم ، عادة ، خمسمائة ، وكانوا يسيرون دوما أمام الملك عندما كان ينتقل من مكان إلى آخر. وكان يقيم في القصر الواقع إلى جانب السابق عدد مماثل من النّبالة. وعلى مسافة أبعد من ذلك بقليل كان يسكن المستشارون وأمناء السر وكان مقامهم يسمى بالعربية «بيت القضايا». وكان القصر الثالث يحمل اسم قصر النصر ، وهناك كانت تخزن اسلحة المدينة وذخائرها. وفي قصر آخر ، وعلى مسافة ما ، كان يسكن رئيس اسطبلات الملك ، ويوجد قرب هذا القصر ثلاثة اسطبلات مسقوفة بعقود كل منها يمكن أن يؤوى ثلاثمائة حصان بسهولة. ويوجد أيضا اسطبلان آخران ، أحدهما للبغال يضم

__________________

(١٧٠) وهو يسمى حاليا بالزليج Zellij

(١٧١) كان الزليج في ذلك العصر عبارة عن بلاطات مربعة كاملة مدهونة ، وفي اللغة الأسبانية آزولوجوس.

١٤٤

مائة رأس ، والآخر للأفراس وإناث البغال التي كان يركبها الملك.

وبعد هذه الاسطبلات كان يوجد صومعتان كبيرتان ، وهما أيضا على شكل أقبية. وكان لكل صومعة منهما طابق علوي. ففي الطابق الأرضي كان يخزن التبن. وفي القسم الأول من الطابق العلوي كان يخزن الشعير للخيل ، وفي القسم الثاني القمح. ويستطيع كل من هذين الطابقين أن يستوعب أكثر من ثلاثين ألف «روغجي» من الحب (١٧٢).

وقد فتحت فوق سقف هاتين البنايتين طاقات ، ويرقى إلى هذا السقف بواسطة درج من حجر. وتصعد الحيوانات المحملة فوق هذا السقف حيث يكال الحب ، ثم يصب من هذه الطاقات. وعندما يراد سحب الحب يكفي فتح الفوهات المفتوحة من أسفل الصوامع. وهكذا يمكن سحب الحب من هذه الصوامع وتخزينه فيها بدون مشقة. (١٧٣)

وعلى مسافة أبعد قليلا يقوم قصر آخر جميل يستخدم مدرسة لأبناء الملك ولأبناء أسرته. ونرى فيه قاعة بديعة جدا مربعه محاطة بممشى مع نوافذ أنيقة جدا تزدان بزجاج ملون. ونجد حول هذه القاعة بضع خزائن خشبية مزدانة بنقوش محفورة مذهبة ، وتتغطى من مختلف أجزائها برسوم ذهبية. وبلون لا زوردى زاه. هذا وكان يوجد قصر آخر مخصص لحرس مؤلف من بعض رجال الدرك. وفي قصر آخر كبير جدا كان يجلس فيه الملك للمقابلات العامة. وفي قصر آخر كان يجلس السفراء عند ما يستقبلهم الملك وكذلك امناء السر. وكان قصر آخر مخصصا لزوجات الملك ووصيفاتهن وجواريهن.

وإلى جوار هذا كان يقوم قصر مقسوم إلى عدة مساكن لأبناء الملك ، اي عند ما يكونون في سن الشباب نوعا ما. وعلى مسافة ما ، أي على طول جدار القصبة الذي يطل على الحقول ، كان يقع بستان جميل وواسع جدا مليء بكل أنواع الأشجار والزهور. ويرى الناظر فيه حوضا مربعا ، كله من المرمر ، وعمقه سبعة أشبار (١٧٤) ، في وسطه عمود كان يحمل أسدا من رخام منحوت في فن دقيق ، يتدفق من فمه ماء صاف غزير كان

__________________

(١٧٢) كيل إيطالي لا نعرف سعته بشكل دقيق.

(١٧٣) يطلق على أمين السر اسم «الكاتب». (المترجم).

(١٧٤) أي ٥ ، ١ م إذا كان يقصد بذلك الشبر المراكشي وهو ٦ ، ٢١ سم.

١٤٥

ينتشر في الحوض. وفي كل من زوايا الحوض الأربع كان يقوم فهد من رخام أبيض مبرقش ببقع خضراء مستديرة. ولا يوجد هذا المرمر في أي مكان إلا في بعض بقاع جبال الأطلس على مسافة مائه وخمسين ميلا من مراكش (١٧٥).

وبالقرب من البستان كانت توجد حديقة حيوانات تضم العديد من الحيوانات الوحشية كالزرافات والفيلة والأسود والودّان والتيوس الجبلية. وكان للأسود مع ذلك حديقة حيوان منفصلة عن بقية الحيوانات الأخرى ، ولا تزال تدعى ، إلى اليوم ، حديقة الأسود.

هذا وبالرغم من قلة مخلفات الماضي التي قدّر لها أن تبقى من هذه المدينة ، فإن الباقي يستطيع أن يجعلنا نؤمن بالفخامة والعظمة اللتين كانتا سائديتن في عصر المنصور. أما اليوم فلم يبق مأهولا سوى قصر الأسرة المالكة وقصر الرماة. ويسكن في القصر الأخير هذا حجّاب الملك وسائقو بغاله. أما البقية فقد تحولت إلى مأوى لأسراب الحمام البري والغربان والبوم وطيور اخرى من هذا القبيل. واما البستان الذي كان فيما مضى بهجة للناظرين فقد تحول الى مزبلة للمدينة. وقد تحول القصر الذي كان يضم المكتبة إلى حظيرة دجاج ، وتحول القسم الآخر إلى برج للحمام ، واستخدمت الخزائن التي كانت تضم الكتب أعشاشا لهذه الطيور. وقد كان المنصور هذا بالتأكيد أميرا عظيما ، إذ كانت سلطته تمتد من ماسّه إلى طرابلس من بلاد البربر ، وهي أشرف جزء في افريقيا. وما كان بالإمكان اجتياز امبراطوريته بالطول بأقل من تسعين يوما سفرا ؛ ودون خمسة عشر يوما لاختراقها عرضا.

وكان يحكم أيضا من أوروبا على كل القسم الذي يدعي بلاد غرناطة من أسبانيا والذي يمتد من طريف الى مقاطعة آراغون والذي كان يضم جزءا من قشتالة ومن البرتغال. ولم يكن المنصور وحده هو الذي امتلك امبراطورية بمثل هذا الاتساع ، فقد سبقه إلى ذلك جده عبد المؤمن (١٧٦) وأبوه يوسف (١٧٧) ولحقه (١٧٨) في هذا الاتساع ابنه أبو عبد الله محمد الناصر (١٧٩). وهذا الأخير هو الذي هزم من مملكة بلنسية ، وفقد من فرسانه بمقدار خسارته

__________________

(١٧٥) أي ٢٤٠ كلم.

(١٧٦) توفي في السابع من نيسان (ابريل) ١١٦٣ م.

(١٧٧) أبو يعقوب يوسف ، توفي في ٢٣ تموز (يولية) ١١٨٤ م.

(١٧٨) توفي في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م.

(١٧٩) توفي في ٢٥ كانون الاول (ديسمبر) ١٢١٣ م.

١٤٦

من المشاة أى حوالى ستين ألف رجل ، واستطاع ان ينجو بشخصه من هذه النكبة والعودة إلى مراكش (١٨٠). وبعد هذا الانتصار استرد النصارى شجاعتهم ، وتابعوا مشروعهم ، واسترجعوا في مدة ثلاثين عاما ، بلنسية ، ودانية ، واليقانط ، ومرسية ، وقرطاجنة ، وقرطبة واشبيلية وجيان وعبيدة. وعلى اثر هذه الهزيمة التي لا تنسى وهذه المجزرة ، أخذت أسرة ملوك مراكش تتدهور. وعند ما توفي محمد ترك ولدين بالغين أراد كلاهما الاستئثار بالسلطة. ولهذا السبب اقتتلا مما أدى لدخول عشيرة بنى مرين إلى مملكة فاس. وإلى هذه المناطق ، وبسبب ذلك تمردت قبيلة بنى عبد الواد أيضا واستملت مقاليد السلطة في تلمسان ، وطردت الحاكم المعيّن من قبل تونس ، وانتخبت الملك الذي ارتضته (١٨١). وتلك هي نهاية خلفاء المنصور. وهكذا آلت مملكة مراكش ليدي يعقوب بن عبد الحق ، أول ملك من أسرة بني مرين (١٨٢). وفي الختام ، خسرت مراكش شهرتها القديمة وظلت مهددة بغارات الأعراب في كل مرة يرفض السكان فيها إرضاء أي رغبة من رغباتهم. وما قلته حتى الآن عن مراكش إنما رأيت بعضه بنفسي ، رأي العين على الطبيعة ، واستقيته كذلك من «تاريخ مراكش» وهو مؤلف من سبعة مجلدات ، لمؤلفه ابن عبد الحق ، مؤرخ مراكش (١٨٣) ، وهذا يظهر أيضا في مختصرنا عن التاريخ الإسلامي.

__________________

(١٨٠) وهو الانكسار الرهيب الذي تعرض له المسلمون في موقعه حصن العقاب والذي كسبت فيه النصرانية معركة لاسنافاس دو تولوزه ، التي وقعت في سروات مورينا قرب مدينة كارولينا الحالية ، بتاريخ ١٤ صفر ٦٠٩ ه‍ الموافق ١٦ تموز (يولية) ١٢١٢ م.

(١٨١) لقد خلف محمد الناصر إبنه يعقوب يوسف المستنصر دون منافسة تذكر ، ولكن من الصحيح أيضا القول ان العشيرة الزناتية بني مرين ، التي كانت تعيش حياة البداوة حتى ذلك الوقت في المناطق الصحرواية شرقي نهر الملوية ، ظهرت فجأة وبعنف في الاراضي الزراعية المعمورة من المغرب الأقصى وذلك خلال ربيع عام ١٢١٦ م في أعقاب انهيار جيش الموحدين والعصيان الخطير الذي قامت به عشائر زناته في المغرب الأوسط والذي أثاره الطامع المرابطي يحيى بن غانية. كما أن بني عبد الواد ، وهم من زناتة كذلك ، وكانوا من بدو منطقة تلمسان ، كان المجال واسعا أمامهم ، إذ لم يكن ثم حاكم تونسي يتخلصون منه. بل إن الخليفة الموحدي أبا العلا ادريس المأمون عهد هو بنفسه إلى شيوخ هذه القبيلة بحكم تلمسان لكي يقفوا في وجه أبناء عمومتهم المرينيين حوالي العام ١٢٣٠ م. وفي عام ١٢٣٦ م نادى أميرهم الجديد ، يغموراسن بن زيان بنفسه ملكا.

(١٨٢) لقد نودي بأبي يوسف يعقوب بن عبد الحق في شمالي المغرب يوم ٣٠ تموز (يولية) ١٢٥٨ م ، فاحتل مراكش على أثر موت الخليفة الموحدي أبى العلا ادريس ، المسمى ابو دبوس ، والذي قتل في ٣٠ آب (اغسطس) ١٢٦٩ م.

(١٨٣) ابن عبد الحق المراكشي ، مؤلف كتاب بعنوان «كتاب الذيل والتكمله»

١٤٧

مدينة أغمات

أغمات (١٨٤) مدينة تقع على مسافة أربعة وعشرين ميلا (١٨٥) من مراكش ، شيّدت فوق سفح جبل يؤلف جزءا من الاطلس. وكانت بها قرابة ستة آلاف أسرة. وقد كانت في عصر الموحدين مدينة مطمئنة جدا بحكم عادل ، حتى أنها سميت مراكش الثانية. وتحيط بها كروم بديعة جدا بعضها في الجبل وبعضها في السهل. ويمر من أسفل المدينة نهر ينبع من جبال الأطلس ويصب بعدئذ في نهر التانسفت. وتجري هذه الأنهار في أرض خصبة التربة : يقال أنها تعطي أحيانا خمسين ضعف ما يوضع فيها من بذور. وماء النهر أبيض بصورة دائمة. وتشابه البلدة ونهرها مدينة نارني. ونهرها النيرا في إقليم أو مبري (١٨٦).

ويجزم بعضهم أن ماء هذا النهر يصل إلى مراكش ، وأنه بعد أن يأخذ ماءه من منبعه قرب أغمات يتابع مجراه في قنوات باطنية. وقد أمر عدة ملوك بإجراء أبحاث لمعرفة المكان الذي يأتي منه هذا الماء إلى مراكش. وبناء على أوامرهم دخل عدة رجال في القناه عند نقطة وصولها وبيدهم مصباح للاستنارة به. وعندما تقدموا مسافة ما في القناة شعروا بريح شديد أطفأت أنوارهم ، وكانت هذه الريح عاصفة لم يروا مثلها في شدتها من قبل ، وتعرضوا عدة مرات إلى خطر العجز عن العودة إلى الوراء ، بسبب هذه الريح من جهة ولأن مجرى الماء من جهة أخرى كان غاصا بجلاميد من الحجارة الضخمة التي كان الماء يتهشم عليها كي يمر من ناحية إلى أخرى. وبعدئذ وجدوا ثقوبا عديدة عميقة جدا فاضطروا إلى العزوف عن مشروعهم وبعد هذه المحاولة لم يكن لدى أي شخص من الجرأة ما يكفي لاستئناف التنقيب.

ويقول المؤرخون أن الملك الذي أسس مراكش توقع ، إستنادا إلى معطيات بعض المنجمين ، أنه سيتعرض لحروب عديدة. ولهذا وضع هو نفسه في المجرى الجوفي للنهر كل هذه العوائق ، مستعينا في أعماله هذه بالفن السحري ، وذلك كيلا يستطيع أي عدو

__________________

(١٨٤) وتلفظ محليا غمات ، ولكن يغلب على المكان اسم الجما ، وتقع على الضفة اليسرى لوادي غمات.

(١٨٥) ٥ ، ٣٨ كلم.

(١٨٦) ليس هناك أكثر من تماثل غامض بين هذين المشهدين ، ولكن «نارني» التي تربض فوق تل ، وتطل من قوف سفح عمودي تقريبا على خانق نهر نيرا ، تسمح لنا بالتوضيح بأن أغمات التي وصفها المؤلف كانت تقع على اليسار عند النظر الى نهر اوريكا من السهل ـ أو غمات ـ أي من ضفة هذا النهر اليمنى ، والذي يجري في اتجاه معاكس لنهر نيرا.

١٤٨

معرفة مصدر الماء وبالتالي لا يستطيع سبيلا إلى قطعه عن اصل البلد (١٨٧).

وفي اسفل أغمات ، وعلى طول النهر ، نجد ممرا يجتاز جبال الأطلس نحو إقليم جزوله.

وقد أصبحت اليوم هذه المدينة (يقصد أغمات) مأوى الذئاب (١٨٨) والثعالب والغربان والطيور وحيوانات أخرى من هذا النوع. وفي أيامي لم يكن يسكن القلعة سوى ناسك مع مائة من تلامذته الذين كان لديهم جميعا خيول جميلة جدا. وقد حاول أن يجعل من نفسه أميرا ، ولكن لم يكن لديه تابع يحكمه. وقد نزلت عند الناسك ومكثت بضيافته قرابة ثمانية أيام. وكان أخوه أحد أصدقائي الحميمين. إذ كان طالبا في مدرسة مجاورة لبيتي في فاس. وقد واظبنا معا على تلقي درس في التوحيد من كتاب النسفى (١٨٩).

آنيماي

آنيماي (١٩٠) بليدة صغيرة على سفوح جبل تتجه نحو السهل ، على مسافة خمسين ميلا (١٩١) تقريبا من مراكش ، على الطريق الذي يسلكه الناس للذهاب إلى فاس بمحاذاة سفح الجبل. ويمر نهر أغمات على مسافة خمسة وثلاثين ميلا (١٩٢) من هناك ، ومن هذا النهر حتى آنيماي تكون الأراضي خصبة كما هو الحال في أغمات. وتخضع المنطقة من مراكش إلى نهر أغمات لأمير مراكش. أما المنطقة الممتدة من مراكش إلى آنيماي فقد كانت حاضعة لأمير من آنيماي وهو شاب باسل ، كثيرا ما كان في حالة حرب مع ملك مراكش

__________________

(١٨٧) «تدعى هذه الظاهرة بالجريان الكارستي ، نسبة إلى جبال الكارست اليوغوسلافية. والسبب هو أن النهر يجري من منطقة ذات صخور كلسية (جيرية) ذوّابة ، لذا يكون جريانه في بعض أجزائه باطنيا ضمن كهوف معقدة ، كمغارة قاديشا أو جعيتا في لبنان ، أو مناطق الخفوس في أواسط نجد ، أو في شبه جزيرة قطر» (المترجم).

(١٨٨) أي ابن آوى.

(١٨٩) كتاب «العقائد النسفية» لمؤلفه نجم الدين ابي حفص عمر النسفي (١٠٦٨ ـ ١١٤٢ م).

(١٩٠) لقد اتخذت آنيماي اسم سيدي رحّال الذي أسس زاوية في القرن السادس عشر ، ولكن اسم مولاي آنيماي ظل يطلق على مكان قرب هذه الزاوية ، والذي يجله الكثير من المسلمين باعتباره مكان ضريح أحد أوليائهم مثلما يحترمه اليهود لأن أحد أحبارهم قدّسه. وتقع البلدة على وادي تساءوت الرافد العلوي لنهر أم الربيع.

(١٩١) ٦٤ كم.

(١٩٢) أو ٥٣ كم.

١٤٩

ومع العرب. وكان يحكم أيضا بضع عشائر في جبال الأطلس. وكان كريما وشجاعا. ولم يكن عمره يتجاوز ستة عشر عاما حينما اغتال أحد أعمامه ونادى بنفسه أميرا على آنيماي. ولم يلبث أن اتته فرصة دلت على شجاعته وإقدامه. فقد تحالف عدد كبير من العرب مع ثلثمائة من فرسان البرتغال وقاموا بغارة مفاجئة حتى أبواب آنيماي. ونشبت معركة بينه وبينهم ، واستطاع هذا الشاب مع مائة فارس وبعض العرب أن يقاتل بشجاعة مذهلة ، وسقط عدد كبير من العرب المهاجمين صرعى ولم يعد ولا نصراني واحد حيا إلى البرتغال. ويرجع سبب هزيمتهم إلى أنهم لم تكن لديهم أية خبرة عن البلاد. وقد حدث هذا عام ٩٢٠ ه‍ (١٩٣). وحدث أن طلب الملك (١٩٤) من أمير آنيماي إتاوة فرفض الأمير مطلبه. فأرسل الملك حينئذ حملة مؤلفة من عديد من الخيالة الرماة. فقرر الأمير ملاقاة العدو ، وخرج من المدينة لمباشرة المعركة ، ولكنه تلقى رصاصة من طبنجة في صدره فسقط ميتا في الحال. وأصبحت المدينة تابعة للملك ، وقد قدمت أرملة الأمير ، نفسها ، لقائد حملة الملك بضعة وجهاء فأسرهم وكبلهم بالأصفاد. وترك القائد وراءه حاكما وعاد أدراجه. وقد وقع هذا الحادث عام ٩٢١ ه‍ (١٩٥).

أنفيفة

أما وقد تكلمنا عن منطقة مراكش بصورة تبدو لنا كافية ، فنشرع الآن في الكلام ـ حسب النظام المعهود ـ عن أكثر جبالها شهرة. وسنبدأ بجبل أنفيفة الذي يشير ، في الغرب ، إلى بداية هذه المنطقة ويفصلها عن منطقة حاحة. وهذا الجبل كثير السكان. وفوق قمته ـ التي كثيرا ما يتساقط فيها الثلج ـ يزرع الشعير بغزارة كبيرة. وسكانه همج دون أية تربية : وعندما يشاهدون ابن مدينة يدهشون لمنظره ويستغربون ثيابه. وهذا ما فعلوه معي في أثناء اليومين اللذين قضيتهما عندهم. فقد ارتديت معطفا أبيض اللون حسب عادة طلاب هذه البلاد. فأخذ كل رجل كنت اتحادث معه يلمسه ليتأمله ، حتى أصبح في نهاية هذين اليومين أشبه شيء بممسحة مطبخ. وقد اضطرني أحد وجهائهم أن

__________________

(١٩٣) لا تذكر الوثائق البرتغالية شيئا عن ذلك الحادث ، غير أنه محتمل جدا ، ويغلب على الظن أنه حدث قبل آخر شهر من عام ٩٢٠ ه‍ وبين ١٧ كانون الثاني (يناير) و ١٤ شباط (فبراير) عام ١٥١٥ م.

(١٩٤) أي ملك مراكش.

(١٩٥) يحتمل حدوث ذلك في حزيران أو تموز (يونية أو يولية) ١٥١٥ م.

١٥٠

أبادله حصانه الذي يساوي عشرة دنانير مقابل السيف الذي أحمله والذي لم يكن يساوي دينارا ونصف الدينار في فاس. ويعود ذلك إلى أن التجار لا يأتون أبدا لهذه البقعة بسبب الاغتيالات التي ترتكب فيها. ويكثر هنا الماعز والعسل والهرجان. وابتداء من هذا الموقع يبدأ ظهور الهرجان.

جبل سمد (١٩٦)

يبدأ هذا الجبل من تخوم الجبل السابق. وينفصل عنه بنهر شيشاوة. ويمتد على مسافة عشرين ميلا (١٩٧) باتجاه الشرق. والسكان هنا أنذال ، غلاظ وفقراء (١٩٨). ونجد في هذا الجبل ينابيع كثيرة ويظل الثلج طيلة العام. ولا يوجد هنا شخص يحمي العدالة ولا شخص يتقيد بها. ويلجأ السكان أحيانا لأحد المسافرين الذين يرون فيه الكفاءة. وقد أمضيت ليلة في هذا الجبل ، في بيت فقيه محترم جدا بين هؤلاء الجبليين. وقد كان عليّ أن أتناول طعام أهل المنطقة ، أي دقيق الشعير المنقوع بالماء الغالي ، مع لحم تيس هرم بدا لي من قساوته أن عمره كان يتجاوز سبعة أعوام. وفضلا عن ذلك اضطررت أن أنام على الأرض العاريه. وقد استيقظت مبكرا استعدادا للسفر. وحينئذ وجدت أكثر من خمسين شخصا يحيطون بي وأخذوا يعرضون عليّ مخاصماتهم بنفس الطريقة التي يعرضونها على قاض أو على حكم ، ونظرا لأنني كنت أجهل تقاليدهم ، فقد أجبتهم بأنني لا أعرف شيئا عن قضاياهم. وعندئذ تقدم ثلاثة من أكثر وجهائهم زعامة لمقابلتي ، وقال لي أحدهم : «أيها السيد ربما كنت تجهل عادتنا. وإليك إياها : لا يغادرنا أي غريب قبل أن يدرس ويحسم دعاوينا» ، وما كاد يلفظ هذه الكلمات حتى رأيت حصاني وقد انتزع من يدي. وقد اضطررت إلى تحمّل تسعة أيام مرة وتسعة ليال لا تقل عنها مرارة ، سواء بسبب الطعام أو بسبب الفراش. هذا وبالإضافة إلى عدد القضايا ، لم يكن هناك إنسان يعرف كتابة كلمة واحدة. وهكذا قمت بوظيفة قاض وبوظيفة كاتب عدل في آن واحد.

وفي ختام ثمانية أيام قال لي الأهالي بأنهم سيقدمون لي في صبيحة الغد هدية جميلة. فقضيت ليلة خلتها ألف عام مع الأمل ، في شعوري ، بأنني سأتقاضى مقدارا كبيرا من

__________________

(١٩٦) اسم موقع لم يحدد له مكان.

(١٩٧) ٣٢ كم.

(١٩٨) كثيرا ما نجد هذا التعميم لدى الجغرافيين والرحالة العرب ، وغالبا ما يسجله المؤلف نتيجة مغاملة فردية ولا يمكن تعطى انطباعا صحيحا عن مجتمع أو مدينة أو منطقة بكاملها.

١٥١

الدنانير. ومع بزوغ الفجر أجلسوني تحت باب جامع ، وبعد أداء الصلاة ، تقدم كل واحد منهم بهدية وقبّل رأسي. فقدم واحد منهم لي ديكا ، وآخر قشرة جوزة ، وآخر ضفيرة أو اثنتين من البصل ، وغيره ضفيرة ثوم. وقدم لي أشرفهم هدية هي عبارة عن تيس. ولما لم أجد شخصا يشتري كل هذه الأشياء ، لأن المنطقة لا تعرف النقد المسكوك ، فقد تركتها لصاحب البيت لأنني لا أريد أن أحملها معي. ذاك كان أجر التعب والمقت خلال هذه الأيام العديدة. ولكن ، والحق يقال ، لقد واكبني خمسون من هؤلاء الغلاظ على طول جزء من الطريق الذي لم يكن مأمونا.

جبل سوساوة (١٩٩)

يأتي هذا الجبل بعد الجبل السابق الذكر. ويتولد منه نهر يحمل اسمه (٢٠٠). والسكان وحشيون للغاية ويحتربون باستمرار مع جيرانهم. وأسلحتهم هي حجارة يقذفونها بالمقلاع. ويعيش الناس على الشعير والعسل ولحم الماعز. ويعيش كثير من اليهود مختلطين بهم ، وهم الذين يمارسون في هذه الجبال حرفة الحدادة ويصنعون المجارف والمناجل وحدوات حوافر الخيل. ويقومون أيضا بمهنة المعمار التي لا تحقق لهم أرباحا هامة لأن الجدران تشيّد هنا بواسطة الطوب النيء والصلصال وتسقف البيوت بالقش ، إذ لا يوجد كلس (٢٠١) ، ولا قرميد ، ولا طوب مشوي. وتظهر كل المنازل مبنية بنفس الطريقة في سائر الجبال التي تكلمنا عنها قبل قليل. وبين سكان هذا الجبل العديد من الفقهاء الذين يرشدونهم في بعض القضايا. وقد تعرفت على بضعة منهم من الذين أتمّوا تخصيلهم في فاس ، واستقبلوني بوداد وأكثروا من الوعود في مرافقتي.

جبل سكسيوه

سكسيوة جبل غير منزرع ، عال جدا ، وشديد البرودة. وهو مغطى بغابات

__________________

(١٩٩) جبل سعيسعاوه (ماسينيون ١٩٠٦ ، ص ١٩٧).

(٢٠٠) لقد كتب سابقا تحت شكل سفساوة ، ومن المحتمل أن المقصود به واد شيشاوة الذي لم يعد يحمل هذا الاسم إلا في مجراه الأدنى. ولا نجد أي جبل يحتفظ بهذه التسمية.

(٢٠١) «ويسمى النورة في جزيرة العرب ، والكلس في بلاد الشام الشمالية ، ومنه جاءت كلمة كلسيوم في اللغات الأوربية. والشيد في فلسطين والأردن ، والجير في مصر ومعظم المغرب» (المترجم).

١٥٢

عديدة ولا يختفي منه الثلج أبدا. ومن عادة سكانه أن يلبسوا فوق رؤوسهم قبعات بيضاء (٢٠٢) وفي هذا الجبل عدد كبير من العيون. وهنا يتولد نهر آسيف اينوال (٢٠٣). ونجد في هذا الجبل الكثير من الكهوف العريضة والعميقة حيث اعتاد الناس إيواء الماشية فيها في أثناء ثلاثة أشهر من العام وهي تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني (نوفمبر وديسمبر ويناير). وتعلف هذه المواشي بالتبن وبأوراق بعض الأشجار الكبيرة جدا. وتجلب الأقوات من الجبال المجاورة إذ لا ينبت شيء هنا. ويكثر الجبن الطري والزبدة في فصلي الربيع والصيف. ويتمتع الرجال بعمر طويل ويعيشون في الغالب ثمانين ، أو تسعين ، وحتى مائة سنة. وتكون شيخوختهم قوية وخالية من العلل التي تجلبها السنون. فهم يستمرون في السير خلف حيواناتهم حتى موتهم. ولا يمكن أن نرى هنا غرباء ، وهم لا ينتعلون أحذية حقيقية في أرجلهم ، ولكي يحموا أرجلهم من الحصى يضعون تحت أقدامهم أصنافا من النعول ، ويلفون حول أفخاذهم خرقا مشدودة بخيوط لحمايتها من الثلج.

جبل ومدينة تينمل

تينمل هو اسم جبل عال جدا وبارد للغاية. ولكنه مأهول في شتى أرجائه. وتقوم فوق قمته مدينة تحمل اسم الجبل. وهي كذلك كثيرة السكان وتزدان بمسجد جميل. ويخترقها نهر (٢٠٤). وهنا دفن المهدي الداعية (٢٠٥) وتلميذه عبد المؤمن. وسكان المنطقة من أسوأ الأجناس وأخبثها. ويتفاخرون بشدة الثقافة لأنهم جميعا تقريبا درسوا الشريعة الاسلامية وعقيدة هذا الداعية الذي اعتبره الناس حينا من الدهر منشقا عن الجماعة. وما أن يروا أجنبيا حتى يميلوا الى مناقشته. وهم رديئو الكساء إذ لا يوجد أجنبي يتاجر في هذه المنطقة ، ويعيشون عيشة حيوانية فيما يتعلق بطرائقهم في نظام الحكم. غير أن لهم قاضيا على رأس مجلسهم. ويقتاتون عادة بالشعير وزيت الزيتون ولديهم كمية كبيرة من الجوز ومن تفاح الصنوبر.

__________________

(٢٠٢) «لعلها القبعة المتصلة بالبرنس من الخلف والتي نرى أبناء المغرب الأقصى يلبسونها حتى الآن وخاصة في الطقس البارد ، وتشبه قبعة الرهبان الكبوشيين الكاثوليك» (المترجم).

(٢٠٣) وهو واد ايمينتانوت الذي يقع منبعه في جبل سكسيوه.

(٢٠٤) واد النفيس.

(٢٠٥) محمد تومرت.

١٥٣

جبل غدميوا

غدميوا جبل يبدأ من جبل سميدا من الغرب ويمتد نحو الشرق على مسافة خمسة وعشرين ميلا (٢٠٦) تقريبا حتى يصل إلى أميزمز. والسكان عبارة عن قرويين فقراء خاضعين للعرب ولأمير بلدة الجمعة الجديدة ؛ لأن مساكنهم تجاور السهل الذي يطل على الجنوب حيث يوجد جبل تينمل (٢٠٧). ويوجد على سفوح الجبل الكثير من شجر الزيتون ومن الحقول التي يزرع فيها الشعير. وتظهر في أعالي الجبل أيضا غابات واسعة وعديد من العيون.

جبل هنتاتة

وهو جبل عال جدا لم أر له نظيرا في علوه. ويبدأ من الغرب عند تخوم غدميوا ويمتد على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٢٠٨) تقريبا حتى جبل آنيماي. وسكانه رجال بواسل وأغنياء يملكون الكثير من الخيول. وهنا يقع حصن يهيمن عليه أمير ، وهو قريب صاحب مراكش (٢٠٩) ، ولكنه في حرب دائمة مع ابن عمه بسبب قرية مختلف عليها وأرض واقعة على الحدود بينهما. ويوجد في هذا الجبل العديد من الصناع اليهود الذين يدفعون الجزية لهذا الأمير. وينتسبون جميعا إلى مذهب القرائين. وهم ، كما سبق أن قلنا ، شجعان عندما يكون السلاح في أيديهم.

وتظل ذروة الجبل مستورة بالثلج على الدوام. وعندما رأيته لأول مرة خلته سحابة ، بسبب شدة ارتفاع هذا الجبل الهائل (٢١٠). وسفوحه عارية ، بدون شجر ، ولا عشب. وهناك العديد من المواقع التي يمكن أن يستخرج منها الرخام ذو البياض الناصع والصافي. ولكن أهل المنطقة لا يعرفون قيمة هذا الرخام ، ولا يعرفون كيف

__________________

(٢٠٦) ٣٦ كم.

(٢٠٧) تبدو فكرة المؤلف هنا عسيرة الفهم.

(٢٠٨) ٧٢ كم.

(٢٠٩) هو «ملك الجبل» ادريس الهنتاتي ، ابن عم سلطان مراكش ، الناصر الهنتاتي.

(٢١٠) تصل قمة جبال طبقال ، أي الأقرع باللغة البربرية ، الى ٤١٦٥ م ، وهي أعلى قمة في العالم العربي ، وتشرف من ارتفاع ٢٠٠٠ م على حلبة آرّوند.

١٥٤

يستخرجونه ، ولا كيف يجلونه. ونجد هنا العديد من الأعمدة وتيجانها المنقوشة ، وأحواضا مائية كبيرة وجميلة جدا تتوسطها نوافير الماء التي صنعت في عصر الملوك الأقوياء الذين تكلمنا عنهم آنفا. والذين حالت الحروب دون تحقيق مشروعاتهم. وقد رأيت هنا الكثير من الأشياء التي تستوقف النظر. ولكن ذاكرتي الهزيلة لم تستطع استعادتها ، وخاصة لأنها كانت مشغولة بقضايا أكثر أهمية.

جبل آديمي

جبل آديمي (٢١١) جبل كبير مرنفع. ويبدأ من تخوم جبل هنتاتة من الغرب ويمتد إلى الشرق حتى نهر تساؤوت. وهنا تقع المدينة التي قلنا آنفا أن أميرها قتل في حرب مع ملك فاس. وتسكن هذا الجبل بضع عشائر. ونجد فيه العديد من المزارع من شجر الجوز والزيتون والسفرجل. والرجال هنا شجعان جدا ، ولديهم حيوانات من كل نوع ، لأن الهواء معتدل هنا والأرض غنية. وينفجر هنا العديد من العيون في الجبل ، وينبع كذلك النهران اللذان سنتكلم عنهما بشكل خاص في هذا «الوصف».

أما وقد فرغنا الآن من مملكة مراكش ، التي تنتهي جنوبا بجبال الأطلس ، سنتكلم عن منطقة جزوله الواقعة على الجانب الآخر من الجبل ، والتي تحاذي مملكة مراكش ، ولكن تنفصل عنها بجبال الأطلس.

منطقة جزوله

منطقة جزوله (٢١٢) إقليم مأهول بكثير من السكان ، يتاخم من الغرب جبل هلالة ،

__________________

(٢١١) من المحتمل أن يكون الاسم أنيماي.

(٢١٢) لا يعني الاسم العربي «جزولة» ، وفي البربرية ايغزولن ، أية منطقة ، أو أية عشيرة معنية ، وإنما يعني حزبا (لف) انضمت إليه عشائر مختلفة وأفخاذ عشائر في منطقة جزولة التي يتحدث عنها المؤلف. وهذا اللفيف يقابل لفيف سكتانة ، وفي البربرية ايزوكتان. وفي العصور القديمة كان كل السكان الوطنيين القاطنين في الهضاب العليا الجزائرية وجبال الأطلس ابتداء من خليج قابس حتى المحيط ، كانوا جميعا ينضوون تحت عبارة جايتولي أو جيتول Getules الفرنسية. أما حدود المنطقة التي يعطيها المؤلف لمكان جبل إيلدا فيجب قراءتها ايلالة ، أو هلالة ، وهي النطق البربري لكلمة ايلالن. كذلك يجب قراءة منطقة الدرعة عوضا عن منطقة حاحة.

(وقد صححت فعلا في النص) (المترجم).

١٥٥

وهو جبل السوس ، ويتاخم من الشمال الأطلس حتى حضيض هذا الجبل تقريبا ، ومن الشرق منطقة الدرعة.

وسكان هذا الإقليم أناس أجلاف ، ومحرومون من العملة النقدية ، ولكن لديهم الكثير من الماشية وكمية كبيرة من الشعير. وتوجد في هذه المنطقة عدة مناجم للنحاس والحديد ، وهكذا يصنعون أوعية عديدة من النحاس يحملونها إلى مختلف الأنحاء لمقايضتها بالأقمشة والتوابل والخيول وجميع ما يحتاجون اليه (٢١٣). ولا يوجد في هذ الجبل (٢١٤) أية مدينة ، أو قصر ، بل توجد قرى كبيرة فحسب ، تضم أحيانا ألف أسرة ، وأحيانا أكثر ، وأحيانا أقل. وليس لسكان هذه الكورة أمير ، بل يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، ولهذا كثيرا ما ينقسمون على أنفسهم ويحتربون فيما بينهم. وفي أثناء كل هدنة ، يستطيع المتخاصمون أن يتاجروا فيما بينهم وأن يذهبوا من قرية لأخرى. ولكن فيما عدا هذه الأيام فهم يقتتلون كالوحوش. وفي الفترة التي مررت فيها في هذه المنطقة ، كان منظم الهدنات ناسكا كان له بينهم شهرة القداسة. وكان هذا الرجل المسكين أعور ، والحقيقة لم أر فيه سوى الطهر والوداعة والشفقة.

ويلبس سكان هذه المنطقة صدرية قصيرة من الصوف ، دون أكمام ، ملتصقة كل الالتصاق بأجسامهم. ويتسلحون بخناجر محنية وعريضة ، مدببة في نهايتها وحادة من حافتيها ، وسيوفهم مثل سيوف أهل الدرعة. ويقام في منطقتهم سوق يستمر مدة شهرين ، وفي أثناء انعقاد السوق يقدم الطعام لكل الغرباء المتواجدين ، ولو كان عددهم عشرة آلاف. وعندما يأذن موعد السوق تعقد هدنة ويختار كل زعيم حزب قائدا مع مائة من المشاة لتأمين حراسة السوق وسلامة الوافدين إليه. وينظم هذا الحرس الدوريات ويعاقب كل المفسدين حسب أهمية جريرة كل منهم. ويقتل اللصوص فورا إذ تخترق

__________________

(٢١٣) لقد كان لنحاس هذه المنطقة في عصر المؤلف شهرة مؤكدة تحت اسم «سيني» ، مما يشير إلى أن المنجم كان يقع في كورة آغاديرن تيسنت. ولا تزال هناك آثار عن استغلال النحاس على مسافة ٣ كم من مخفر أغاديرن تيسنت ، ولكن الاستغلال متوقف الآن. وكان هناك أيضا استغلال للنحاس قرب قصر متهدم ، وهو قصر تامودلت ، في عكا وتيزونين.

والاستثمار الوحيد المتبقي في المنطقة يقع في إيغرم شمال عكا حيث ينتج الصناع أشياء من نحاس مطروق. وليس هذا النحاس هو الذي أعطى اسمه لأغاديرن تيسنت ، ولكن الملح. وكلمة تيسنت ليست إلا تحريفا لكلمة تيزيمت (ملح) وذلك بإبدال الميم بالنون وهو شائع في البربرية. والواقع يستغل الملح في تريت وهي قرية صغيرة بين طاطة وأغاديرن تيسنت. ه ـ ل.H. E

(٢١٤) أي الأطلس الخلفي الحالي أو الأطلس الصحراوي.

١٥٦

أجسادهم برمح وتترك جثثهم طعاما للكلاب. ويقوم هذا السوق في سهل بين جبلين (٢١٥). ويضع التجار بضائعهم تحت خيام أو تحت أكواخ صغيرة من الأغصان. وهم يتجمعون في فئات تنفصل بعضها عن بعض حسب نوعية البضائع ، فنجد في مكان ما تجار الأقمشة ، وفي آخر العقّادين وهكذا دواليك. ولكن يقيم تجار المواشي خارج الخيام. وإلى جانب كل خيمة يقوم كوخ من الأغصان يسمح بإقامة الوجهاء فيه ، وهنا يقدم الطعام للغرباء. ورغم ارتفاع رقم النفقات فإن بيع البضائع يجلب من العوائد ضعف المصاريف التي أنفقت ، لأن أهل كل المنطقة يأتون إلى هذا السوق ، حتى من بلاد السودان ، حيث يعقدون صفقات هامة. وخلاصة القول فإن أهل جزولة الذين يتميزون بنفسية خشنة استطاعوا بالحقيقة تسيير حركة سوقهم تسييرا جيدا فيما يتعلق بالهدوء والسلام. ويبدأ السوق يوم مولد محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يقع في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، أي الشهر الثالث من العام العربي حسب تقويمهم. وقد قصدت هذا السوق مع الأمير الشريف ، وقضيت هناك خمسة عشر يوما للاستمتاع ، في عام ٩٢٠ ه‍ (٢١٦).

منطقة دكّالة

تبدأ مقاطعة دقّالة من غرب نهر التانسفت. وتنتهي شمالا على المحيط جنوبي نهر العبيد غربي نهر أم الربيع (٢١٧). وتمثل هذه المنطقة مسافة أربعة أيام طولا ويومين عرضا تقريبا. وهي كثيرة السكان ، ولكن الأهالي أشرار وجهال. ولا نجد سوى القليل من المدن المسوّرة. وسنتكلم عما يستحق الذكر من بلاد هذه المنطقة بلدة بلدة.

مدينة آسفي

آسفي مدينة شيّدها قدماء الأفارقة على ساحل المحيط. وتضم قرابة أربعة آلاف

__________________

(٢١٥) يعقد سوق المولد حاليا في موقع عسّة ببلاد آيت اوسّه في المجرى الأدنى لوادي الدرعة. وليس هناك احتمال كبير في أن موقعه قد تغير منذ ذلك الزمن ، غير أن هذه البليدة تقع في جنوب غرب بلاد جزوله.

(٢١٦) يصادف يوم ١٢ ربيع الأول ٩٢٠ ه‍ يوم الأحد ٧ أيار (مايو) ١٥١٤ م. ولا يذكر تامبورال (طبعة ليون ١٥٥٦ م ، ص ٨٣) العام الذي مرّ فيه الحسن الوزان في هذه المنطقة.

(٢١٧) يمكن تصحيح هذا الموقع بسهولة ، ولكننا نجهل التخم الشرقي لإقليم دكالة في ذلك العصر ، ومن غير المحتمل كثيرا أن يكون مقرن وادي العبيد مع نهر أم الربيع هو الحد الفاصل بين دكالة وتادلة.

١٥٧

أسرة. والسكان فيها متكاثفون ، ولكنهم يفتقرون للتهذيب. وكان في آسفي ، فيما مضى من الزمن ، الكثير من الصناع وقرابة مائة بيت من اليهود. والأراضي المجاورة لها خصبة جدا ، ولكن الناس ليسوا أذكياء ولا يعرفون كيفية زراعتها ، حتى ولا زراعة الكرمة فيها. غير أن لديهم مع ذلك بضعة بساتين للخضر صغيرة. وعندما أخذت قوة ملوك مراكش بالأفول ، استولت على السلطة في آسفي أسرة تدعى أسرة فرهون. وفي زمني (٢١٨) كانت المدينة في يد أمير شجاع اسمه عبد الرحمن ، وهو الذي قتل أحد أعمامه كي يستأثر بالسلطة (٢١٩).

وبعد هذا أخضع المدينة واحتفظ بإمارتها لنفسه لمدة طويلة. وكان لهذا الرجل ابنة بارعة الجمال شغفت حبا برجل من العامة ، ولكنه كان رئيس حزب كبير العدد ، يدعى علي بن واشيمان (٢٢٠) الذي استطاع بالتواطؤ مع أمها وإحدى الإماء ، أن يضاجع هذه البنت عدة مرات. ولما نقل الخبر إلى أبيها بواسطة الأمة استشاط غضبا من زوجته وهددها بالموت ، ولكن تظاهر بعدئد أنه لم يعد يهتم بهذه القضية. غير أن الزوجة التي كانت تعرف بطش زوجها انذرت عشيق ابنتها بأن يأخذ حذره. ولما أصبح «علي» خائفا على حياته فعلا قرر قتل عبد الرحمن. وأسرّ ذلك لرجل شاب جريء كان هو أيضا زعيما على عدد من المحاربين المشاة وكانت له فيه ثقة مطلقة (٢٢١). وأصبح الاثنان على قلب واحد لا ينتظران سوى الفرصة السانحة. وأسرّ الملك ، من جهته ، إلى علي يوم عيد الأضحى بأنه راغب في أن يقوم معه ، بعد صلاة العيد ، بنزهة على الخيل للترويح عن النفس. وأن

__________________

(٢١٨) سيقول الحسن فيما بعد أنه ذهب إلى آسفي عام ٩٠٦ ه‍ / ١٥٠٠ م وسنه حينئذ ١٢ سنة.

(٢١٩) كان هذا العم ، الذي كان يدعى رسميا أحمد بن علي ، مشتهرا باسم حمّادوش بن فرهون ، الذي سجل البرتغاليون اسمه على شكل امادوكس بن فارام. وبتاريخ ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ١٤٨٨ م عهد ملك البرتغال ، حنا الثاني ، إلى هذا الشخص بزمام قيادة آسفي ، تلك المدينة التي كانت حينئذ تحت الحماية البرتغالية قبل عام ١٤٨١ م. وفي ايلول (سبتمبر) ١٤٩٨ م قررت حكومة البرتغال عزل القائد أحمد ، الذي كان قد بلغ أرذل العمر ، لمصلحة ابن أخيه ، عبد الرحمن ، وبعثت رسولا للقائد أحمد بهذا الخصوص. ولكن الأمور لم تمر بسلام ، فقد نشب شجار عنيف بين عبد الرحمن وأخ له انتهى بأن أغمد عبد الرحمن نصل رمحه في جسد أخيه. ونادى السكان بعبد الرحمن قائدا ، وتصالح القائد القديم مع ابن أخيه ، وناشد الجمهور طالبا منه الطاعة لعبد الرحمن.

(٢٢٠) يظهر علي بن واشيمان في الوثائق البرتغالية تحت اسم عليّ بن كسيمن ، وذلك ابتداء من شهر حزيران (يونيو) ١٥٠٠ م. ففي ذلك التاريخ أوفد برسالة من قبل قريبة قائد آسفي ، عبد الرحمن ، إلى ملك البرتغال عما نوئيل الأول ورجع إلى عبد الرحمن حاملا له إجابة الملك على رسالته.

(٢٢١) هذا الشخص الذي لم يكن شابا كان يدعى أبا زكريا يحيى بن محمد تعفوفت.

١٥٨

على «عليّ» أن ينتظره في مكان معيّن (٢٢٢). وهناك كان ينوي قتله. ولكن عليّ الذي توقع كل شيء دعا رفيقه (٢٢٣) ، وقال له بأن ساعة العمل قد أزفت لوضع مشروعهما قيد التنفيذ. فأخذا معهما عشرين فردا من أصدقائهما ، وتسلحوا بعناية ، وجهزا مركبا بحجة إرساله إلى آزّمور ، والحقيقة لكي يتمكنوا من الهرب إذا اقتضت الحاجة. وقصدوا الجامع الذي بلغوه بعد وصول الأمير بقليل وكان يؤدي الصلاة. وكان الجامع غاصا بجمهور عظيم. ودخل الشابان وحرسهما ، بكل حماس وعزم ، إلى الجامع واقترب الاثنان من الملك الذي كان بجوار الإمام ، دون أن يمنعهما الحرس الملكي من ذلك ، إذ لم يكن لدى الحرس أي ارتياب ، فقد كانوا يعرفون المكانة التي يتمتع بها عليّ ورفيقه لدى الملك. ومرّ أحد المتآمرين من أمامه في حين وقف الثاني ، وهو عليّ ، خلفه وأغمد خنجره في ظهره ، في حين أغمد الثاني سيفه في جسمه. وحدث هرج عظيم وهجم رجال الحرس على القاتلين ، ولكن لما رأوا مداهمة الرجال العشرين لهم وهم شاهرون سيوفهم اعتقدوا بوجود تحالف مع السكان وهربوا. فخرج كل الناس ولم يبق في الجامع سوى المتآمرين.

وقد سمع كاتب هذه السطور عليا يقول له من لسانه ذاته ، بأنهما حينما دخلا المسجد لم يكن الأمير قد دخله بعد ، وإلى هذا يرجع السبب في أنهما مكثا في داخله فترة ما في انتظاره ، وأنهما بعد أن فاضت روحه خرجا إلى الساحة العامة وخطبا في الناس واقنعا الجمهور بأنهما قتلا الأمير ، وأن لهما الحق لأنه أراد أن يقتلهما. وهكذا هدأ الناس وارتضوا أن تكون الإمارة في أيدي هذين الرجلين. ولكن لم يظلا طويلا على وفاق ، إذ كان يبيت كل منهما للآخر.

وفي هذه الأثناء حصل أن نصح بعض التجار البرتغاليين ـ وكان عدد هؤلاء كبيرا في آسفي ـ ملك البرتغال بتعبئة أسطول يستطيع ، بدون عناء ، أن يحتل المدينة. ولم يرغب الملك ، مع هذا ، في أن يقدم على هذا المشروع إلا بعد أن أنبأه التجار بأن أهل آسفى أصبحوا منقسمين إلى عدة أحزاب ، وأن التجار تمكّنوا بفضل بعض الهدايا ، أن يقيموا علاقات وثيقة جدا مع زعيم أحد هذه الأحزاب (٢٢٤) وعقدوا معه معاهدة. فأصبح من

__________________

(٢٢٢) إن لقب الملك الذي أعطى لقائد وشيخ آسفي هو أمر مؤكد ، لأن الزعماء الصغار المحليين في ذلك العصر كانوا يتخذون لأنفسهم مختارين لقب سلطان ، والعيد المذكور هو كما يعتقد عيد الأضحى العاشر من ذي الحجة ٩١٢ ه‍ / الجمعة ٢٣ نيسان (ابريل) ١٥٠٧ م.

(٢٢٣) أي يحيى أو تعوفت.

(٢٢٤) أي مع يحيى أو تعفوفت.

١٥٩

الممكن في هذا الوضع الاستيلاء على المدينة بأقل النفقات. ولم يقف أمرهم مع هذا الزعيم عند هذا الحد ، بل لقد حصلوا منه على موافقة بأن يدعهم يبنون حصنا لهم على سيف البحر لكي يضعوا فيه بضائعهم في أمان ، متذرّعين بأنهم تعرضوا ، على أثر موت الملك ، لإتلاف قسم كبير من أرزاقهم ونهبها. فشيّدوا حصنا منيعا جدا نقلوا إليه سرّا «طبنجات» وبنادق ضمن براميل الزيت وفي رزم البضائع. ولم يكن أهل البلدة يطلبون منهم أكثر من أن يدفعوا الرسوم المقررة من مكس وسواه. ولما أصبح لدى البرتغاليين ما يكفي من أسلحة الدفاع والهجوم ، راحوا يبحثون عن فرص مختلفة لإثارة الاضطرابات والخلافات مع المسلمين. وهكذا استطاع غلام لأحد هؤلاء التجار ، وكان يشتري لحما ، أن يستثير غضب البائع الذي يشتري منه ، حتى نفذ صبر البائع فصفع هذا الغلام ، فما كان من الغلام إلا أن استلّ خنجره وأغمده في صدر البائع المسكين الذي سقط ميتا في الحال. وعلى أثر ذلك هرب القاتل والتجأ إلى الحصن البرتغالي. وقد أدّى موت هذا الرجل إلى ثورة الأهالي الذين أخذوا اسلحتهم وسارعوا إلى الحصن البرتغالي لنهبه وتقطيع من فيه إربا إربا. ولكن هؤلاء حينما رأوا الجمهور يقترب منهم فتحوا عليهم نيران بنادقهم وراشقات سهامهم. وحدث ولا حرج عن هرب المسلمين مذعورين إذ سقط منهم أكثر من مائة قتيل خلال هذا الهجوم المفاجىء. ولكن هذا لم يحل بينهم وبين محاصرة الحصن خلال بضعة أيام.

وحينئذ ظهر أسطول قادم من لشبونة ، وهو أسطول جهزه الملك لهذا الغرض ، وكان مجهزا بكل أنواع الأسلحة وبقطع من المدفعية الثقيلة فضلا عن كمية كبيرة من المؤن. ونقل عليه خمسة آلاف من الجنود المشاة ومائة فارس (٢٢٥) ، وهكذا انتاب المسلمين الذعر فأخلوا المدينة كي يلجأوا إلى جبال بني ماجر (٢٢٦) ، ولم يبق فيها سوى أسرة الزعيم الذي وافق على بناء الحصن البرتغالي وأنصاره. واحتل قبطان الأسطول المدينة واستدعى الزعيم المذكور ، المسمّى يحيى. وأرسله إلى ملك البرتغال الذي خصص له دخلا طيبا

__________________

(٢٢٥) لقد جاء جزء من هذا الأسطول من جزر ماديرا بتاريخ ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ١٥٠٧ م. وقدمت أربع سفن منه من البرتغال في مطلع شهر كانون الثاني (يناير) ١٥٠٨ م. ولا يعتقد أن عدد رجال الحملة تجاوز ١٥٠٠ رجل. وقد ظل الأسطول مرابطا تجاه آسفي مدة ثلاثة أشهر.

(٢٢٦) لا نزال نجهل تاريخ احتلال البرتغاليين لآسفي ، ولكن استنادا إلى النص ، حدث هذا على الأرجح بعد وصول الأسطول بقليل.

١٦٠