وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

«اتوسل لكم بحب الله بأن توافقوا على أن أسكن معكم ، كي أستطيع أن أقول إنني وجدت لدى الغرباء طيبة وكرما أكثر مما لدى أهلى الأقربين ؛ ولدى أولئك الذين هم من جنسي». وقد أعجبت الأسماك بهذا القول ، وأمضى العصفور عاما كاملا بينها ، دون أن يكلف دفع أية ضريبة. وعند انتهاء هذه الفترة ، وعند ما حل وقت جباية الضرائب ، أرسل ملك الأسماك أحد الأتباع للعصفور لإعلامه بالعادة ومطالبته بمجموع الضرائب المستحقة ، فقال العصفور «هذا حق طبعا» وأخذ بالطيران خارجا من الماء ، تاركا محدثة في أكبر حيرة صادفها مخلوق. وهكذا أصبح كلما طالبه ملك العصافير بالضريبة ، هرب تحت الماء ، وكلما طالبه ملك الأسماك ، عاد فوق الأرض.

وأريد أن أخلص الى ان الانسان حيثما وجد مصلحته سعى إليها قدر استطاعته. فاذا كنت قد نشرت عيوب الأفارقة ، فأقول إنني ولدت في غرناطة وليس في إفريقيا. وإذا كان عليّ ان أنتقد موطنى ومسقط رأسي فإنني سأتعلل للدفاع عن نفسي بأني نشأت في إفريقيا وليس في غرناطة. ولكني عطوف نوعا ما على الأفارقة. وهي انني لم اسرد مما يعاب عليهم إلا الأشياء الشائعة المشهودة بل أكثرها سطوعا في عيني كل إنسان.

١٠١
١٠٢

القسم الثاني

١٠٣

١٠٤

إستهلال

تكلمت في القسم الأول من هذا الكتاب ، بصورة عامة ومجملة ، عن مدن أفريقيا وحدودها وأقسامها ، وكذلك عن الأمور المتعلقة بالأفارقة ، والتي بدت لي أنها تستحق الذكر. أما الاقسام التي ستأتي فستخصّص لا عطائكم معلومات خاصة عن مختلف الأقاليم ، والمدن والجبال والمواقع والشرائع والعادات. ولن أغفل عن ذكر أي شيء يستحق المعرفة. وسأبدأ بالغرب وأنهي عرضي في مصر ، وأعالج هذا كله في سبعة أقسام. وسأضيف قسما آخر ، وذلك بمشيئة العلي القدير ـ إذ لا يمكن انجاز شيء كامل ، هنا على الأرض ، بدون هذه المشيئة ـ أصف فيه الأنهار الرئيسية ومختلف الحيوانات والنباتات المتنوعة والثمار والبقول التي تمتاز بها أفريقيا.

١٠٥
١٠٦

مملكة مراكش

حاحه ، منطقة غربية

تنتهي بلاد حاحه (١) ، وهي منطقة من مملكة مراكش ، على المحيط من الغرب والشمال. وتنتهي جنوبا عند جبال الأطلس. وفي الشرق ، تتوقف عند نهر آسيف اينوال (٢) الذي ينبع من هذا الجبل ويصب في نهر تانسيفت. ويفصل هذا النهر بلاد حاحة عن المنطقة المجاورة.

موقع وطبيعة حاحه

تبدو هذه المنطقة وعرة جدا ، مليئة بالجبال العالية الصخرية وبالغابات والأودية المائية الصغيرة. وهي مأهولة جدا بالسكان. ويوجد فيها عدد ضخم من الماعز والحمير ، ولكن القليل من الضأن ، وأقل من ذلك من الأبقار والخيول. ولا نجد هنا سوى القليل من الثمار ، ولا ينتج هذا عن عدم مواءمة التربة ، بل عن جهل السكان ، لأني رأيت في عديد من الأماكن أن التين والدراق يكثران فيها ، وهكذا لا ينبت هنا سوى القليل من القمح في حين تكثر كميات الدخن والذرة البيضاء والشعير. ويكون انتاج العسل وفيرا ، وهو الذي يعتبر الغذاء العادي للسكان. ولما كانوا لا يعرفون ماذا يصنعون بالشمع فهم يهملونه. ونجد هنا عددا كبيرا من الأشجار الشوكية التي تنتج ثمرة بحجم حبات الزيتون الذي يأتينا من اسبانيا. وتدعى هذه الثمرة في اللغة المحلية «الهرجان». ويستخرج منها زيت رديء الرائحة جدا ، ولكنه مع ذلك يستعمل في الغذاء وفي الإضاءة.

__________________

(١) من اسم قبيلة بربرية ايحاحان.

(٢) ومعناه بالبربرية نهر الأكواخ ، وهو اسم أصبح منسيا تماما. ويقصد به المؤلف المجري الأدنى لواد شيشاوه وأحد فروعه الرئيسية. ويقصد به على التحديد واد آمسنز.

١٠٧

نمط حياة هؤلاء الناس

من عادة سكان هذه المنطقة أكل خبز الشعير. ويصنع هذا النوع ـ وهو إلى القرصة أدنى منه إلى الخبز ـ بلا خميرة. ويشوى في مقلاة من فخار لها شكل غطاء كمشواة فطائر الحلوى ، ويندر أن يخبز في تنور. وهناك نوع من طعام يدعى «العصيد» ، يتم تحضيره على الصورة التالية : يغلى الماء في قدر ، ثم يرمى فيه دقيق الشعير الذي يحرك بعصاة إلى ان ينضج ، ثم يسكب هذا الحساء في قصعة عميقة ويصنع في وسطها تجويف يصب فيه زيت الهرجان. وتجتمع الأسرة حول القصعة ، ويأخذ كل واحد ما يستطيع بدون استعمال ملعقة سوى اليد ، الى أن يؤتى على كل ما فيها. أما في الربيع وخلال كل الصيف فيغلى الدقيق المذكور في الحليب ويوضع فيه السمن. تلك هي وجبة العشاء العادية. أما وجبة الغذاء فتتألف شتاء من الخبز والعسل ، وفي الصيف من الحليب والزبدة. ويؤكل اللحم المسلوق أيضا مع البصل والفول ، أو يكون اللحم مصحوبا بنوع من طعام يدعى «الكسكسي». ولا يستعمل الخوان ولا السماط. بل تمدد حصيرة مستديرة على الأرض ويؤكل فوقها.

لباس هؤلاء الناس وعوائدهم

يرتدي اكثر الناس لباسا مؤلفا من قطعة قماش صوفية تدعى «الكسا» (٣) ، وهو لباس يشبه في صنعته أغطية السرر المستعملة في إيطاليا. ويلفون بها أجسادهم بشكل وثيق. كما يطوقون الردفين وأجزاء الجسم بنوع من «فوطة» من صوف ، ويضعون فوق رءوسهم قطعة من قماش من نفس الصوف ، طولها حوالي عشرة أشبار (٤) ، وعرضها اثنان ، مصبوغة بقشر من جذر شجرة الجوز ، يبرمونها ويلفونها حول هامتهم بصورة تجعل قرص الرأس مكشوفا على الدوام. وليس من عادتهم لبس القبعات ، اللهم إلا بين الكهول والمتعلمين ، هذا إذا ما وجد بينهم واحد من هؤلاء. وتكون هذه القبعات مزدوجة ، أي مبطنة ، ومستديرة ، ومرتفعة كتلك التي يلبسها بعض الأطباء في ايطاليا. وقليلون هم الذين يلبسون قميصا ، وذلك أولا لأن الكتان لا يزرع في هذه البلاد ، ثم لأنه لا يوجد إنسان يعرف صنعة النسيج. وعوضا عن المقاعد فإنهم يستعملون حصرا

__________________

(٣) وهو يشبه العباءة النسائية أو الحايك عند المغاربة.

(٤) الشبر يعادل ٢٥ سم.

١٠٨

ناعمة مصنوعة من قصب مضفور ، ويستخدمون عوضا عن الفراش وملحقاته أغطية طويلة من الصوف ، يبلغ طولها عشرة إلى عشرين ذراعا (٥) ، يستخدم قسم منها فراشا والآخر غطاء. وفي الشتاء يوضع الجانب الناعم من الداخل ، أي من طرف الجسم ، وفي الصيف يصنعون عكس ذلك. أما الوسائد فهي عبارة عن أكياس من صوف ، خشنة ، وغليظة ، من نوع بعض أغطية الخيول التي تأتي من ألبانيا أو من تركيا. هذا ووجوه معظم النسوة سافرة.

وفيما يتعلق بالأدوات المنزلية ، تستعمل قصعات من خشب محفور بالسكين. غير أن القدور والصحف تكون مصنوعة من الفخار.

وليس من عادة العزّاب ترك لحاهم ولا يتركونها تنمو إلّا بعد زواجهم.

وليس لديهم سوى القليل من الخيول ، ولكن هذه الخيول النادرة معتادة على التجوال في هذه الجبال بخفة وبراعة كبيرتين حتى ليظن انها من القطط ، ولا تكون محذّوة بالحديد. ولا تحرث الأرض إلا بالاستعانة بالخيل والحمير. ونجد في هذه المنطقة أعدادا كبيرة من الوعول (٦) والتيوس الجبلية (٧) والأرانب ، ولكن ليس من المألوف اصطيادها. ولا أزال أشعر دوما بالدهشة لقلة الطواحين التي نراها مع كثرة كميات المياه لهذا الحد. ويعود هذا إلى أن لكل بيت أدواته الخاصة لطحن الحب ، وإلى أن النسوة يقمن بهذا العمل بأيديهن.

ولا تعرف هذه البلاد أي نوع من أنواع التعليم ، فلا نكاد نجد إنسانا واحدا يعرف القراءة ، فيما عدا بعض رجال الشريعة الذين لا يعرفون أي نوع من أنواع المعرفة سواها. وليس في البلاد طبيب من أي نوع كان ، ولا أي جرّاح ، ولا أي عطار. وتتألف كل العلاجات من الكيّ الناري ، كما يصنع مع الحيوانات. وهناك بعض الحلّاقين الذين لا يؤدون أية خدمة جراحية سوى ختان الأولاد.

ولا يصنع الصابون من هذه المنطقة ، إذ يستعمل الرماد مكانه. والسكان في حالة

__________________

(٥) أي ٧ ، ٦ م إلى ١٣ م.

(٦) الاسم اللاتيني لهذا الحيوان هوCervus Elaphus barbarus (إذا كان هذا هو ما يقصده المؤلف). وقد أصبحت رقعة انتشار هذا الحيوان محصورة في شريط غابي ضيق يقع على الحدود التونسية الجزائرية.

(٧) وهي أبقار وحشية صغيرة ، مؤلفة غالبا من الغزلان.

١٠٩

حرب لا تهدأ ، ولكنها حرب أهلية لا تحمل أي أذى للأجانب. وإذا أراد أحد من أهل البلاد الانتقال من مكان إلى آخر وجب عليه أن يكون مصحوبا بفقيه أو بامرأة من هذا البلد الذي يريد الانتقال إليه.

ولا يوجد في هذه البلاد أي مظهر من مظاهر القضاء ، ولا سيما في الجبل حيث لا يوجد أمير يحكم ولا موظف. ويتمكن النبلاء والوجهاء من الاحتفاظ بشبه سلطة في داخل المدن ، وهذه المدن نادرة.

وكثير من القرى والقصور والمداشر صغيرة جدا ، وبعضها الآخر كبير ومزدهر. وسأتكلم لكم عن هذة وعن تلك.

تدنست (٨) مدينة من حاحه

تدنست مدينة قديمة ، بناها الأفارقة من سهل جميل ولطيف جدا. وتحاط كلها بسور من آجر وطين. وتقع البيوت والحوانيت في داخل السور ، وتضم قرابة خمسمائة أسرة وأكثر. وينبع نهر صغير من جوارها ويجري بمحاذاة السور.

وفي هذه المدينة بعض دكاكين التجار الذين يبيعون القماش الصوفي المستعمل في المنطقة والقماش الكتاني المستورد من البرتغال. ولا يوجد صنّاع سوى الحذّائين والحدادين وبعض الصاغة من اليهود. ولا تحوي المدينة في أي مكان منها فندقا أو حمّاما أو دكان حلاق. ولهذا عندما يقصد المدينة أي تاجر غريب ، فإنه ينزل عند صديق له أو عند معارفه. وإذا كان لا يعرف أحدا ، يقترع وجهاء البلدة على من يقوم بواجب ضيافته.

وهكذا يأوي الغرباء ، ويبتهج الناس بالتشرف بإكرام أي غريب. ومن المتعارف عليه أن من واجب كل من هؤلاء أن يترك عند سفره نوعا من هدية لصاحب البيت الذي استفضافه رمزا للعرفان. وإذا حدث ومرّ مسافر من غير التجار ، فله الحق أن يختار مقامه عند الوجيه الذي يروقه أكثر من سواه ، وذلك دون أن ينقده شيئا أو يترك هدية. وإذا مرّ فقير غريب فإنه ينزل في ملجأ معدّ خصيصا لإيواء الفقراء واطعامهم.

__________________

(٨) لا تزال هناك بلدة صغيرة في المنطقة تحمل هذا الاسم ، ومن المحتمل أن تكون هي ذاتها ، ولكن ليس هذا مؤكدا.

١١٠

ويوجد في قلب المدينة مسجد كبير جدا ، مشيّد بفخامة من الحجر والكلس. وهو قديم تمّ بناؤه في العصر الذي كانت البلاد فيه خاضعة لسلطة ملوك مراكش. ويقوم في وسط الجامع خزان مياه كبير (٩). ويقوم على خدمة هذا الجامع عدة ائمة ومستخدمين. وثم كذلك عدة معابد بين جامع مصلّى ، ولكنها صغيرة ، ومع هذا فهي جيدة البناء والخدمة.

وفي المدينة مائة بيت من اليهود ، وهم لا يدفعون الضريبة العادية (١٠) ، بل من عادتهم أن يقدموا بعض الهدايا للوجهاء الذين يبسطون عليهم حمايتهم واكثرية السكان من اليهود. وهؤلاء هم الذين يملكون دار سكّ العملة ويضربون لسكان المدينة قطع نقود فضية ، ويصنعون من كل «أونس Once» من الفضة (١١) مقدار مائة وستين دانقا صغيرا ، تشبه عملة الهيللر الهنغارية ، ولكن لها شكل مربع (١٢). ولا توجد في هذه المدينة ضريبة على المعاملات التجارية (١٣) ، ولا ضريبة مكس ، ولا أية جباية أخرى. وإذا اضطرت المدينة لبعض النفقات فإن الوجهاء يجتمعون ويتوزعون هذه النفقات فيما بينهم ، كل حسب وسائله الخاصة.

ولقد تخربت تدنست عام ٩١٨ من هجرة الرسول (١٤) ، وغادرها بعض سكانها إلى الجبل والبعض الآخر إلى مراكش ، لأن جيرانهم العرب تفاهموا مع نائب ملك البرتغال الذي كان يقيم في آسفي. وكان العرب يرغبون في تسليم هذه المدينة للنصارى. ولهذا غادرها سكانها برمتهم بعد أن اتفقوا على ذلك جميعا. ورأى كاتب هذه الأسطر «تدنست» بعد خرابها. وكان سور المدينة بأجمعه منهارا ، وكذلك المنازل ، ولم تكن المدينة مأهولة بغير الغربان والبوم ، وكان ذلك في العام ٩٢٠ ه‍ (١٥).

__________________

(٩) خزان ماء مكشوف أو بركة.

(١٠) أي الجزية.

(١١) أي ٥٩ ، ٣٠ غرام.

(١٢) أي واحد من مائة من القرش الفضي. وإذا كان الأونس الإيطالي الذي يزن ٢٥ ، ٢٨ غراما معادلا للأونس المغربي فمعنى ذلك أن هذا «الدانق» كان يزن ١٧٦ ميليغرام من الفضة.

(١٣) أي رسوم على الصفقات التجارية.

(١٤) أي بين ١٩ / ٣ / ١٥١١ إلى ٨ / ٣ / ١٥١٣ م.

(١٥) لا تذكر الوثائق البرتغالية أي إشارة لهجر تدنست أو عن خرابها التام. وكل ما نعلمه عنها أن حاكم آسفي ، واسمه نونو فرناندز دو آتيد ، استطاع بالتحالف مع شيخ العرب المنحاز للبرتغاليين ، وهو يحيى أو تعفوفت ، أن يلحق هزيمة منكرة ـ

١١١

تاكوليت ، مدينة من حاحه

تقع مدينة تاكوليت على سفح جبل. وتحوي قرابة ألف عائلة. وهي على مسافة ثمانية عشر ميلا (١٦) إلى الغرب من تدنست. ويمر من جوارها نهر صغير ، تقع على ضفتيه بساتين ومزارع مليئة بالأشجار المثمرة. وفي المدينة بضعة آبار عذبة صافية الماء. ويوجد فيها جامع بديع جدا ، فضلا عن أربعة ملاجىء للفقراء ، وواحد للمتعبدين. وأهل هذه البلدة أكثر ثراء من سكان تدنست ، لأن هذه المدينة تجاور ميناء يقع على المحيط ويدعى «آقوز» (١٧).

وتباع في تاكوليت مقادير كبيرة من الحبوب نظرا لوجود سهل فسيح بجوارها ، مثلما يباع فيها الكثير من الشمع للتجار البرتغاليين ، ولهذا نرى سكانها من ذوي الهندام الجيد كما أن خيولهم مسرّجة بسروج فخمة بديعة ، وفي الزمن الذي قصدت فيه هذه البلاد كان يقيم فيها وجيه منزلته كمنزلة رئيس الوزارة ، وكان يقوم بجميع مهام الإدارة وبتوزيع العوائد التي كانت تدفع للعرب تسوية لاتفاقيات السلام ووفاء بالعقود المبرمة بينهم وبين أهل المدينة. وكان هذا الرجل يملك موارد ضخمة ، وكان ينفقها على الناس ليكسب ودهم وليظل أثيرا لديهم. وكان كريما ينفق الكثير من الصدقات ويساعد الأهالي بماله لقضاء حاجاتهم ، حتى أنه لم يكن في المدينة إنسان واحد لا يحبه ولا ينزله منزلة والده. وقد رأيت وقرأت في منزله عدة مؤلفات تاريخية وبحوث تتعلق بأفريقيا. وقد قتل هذا الرجل في حرب مع البرتغاليين عام ٩٢٣ من تاريخنا ، والذي يقابل سنة ١٥١٤ للميلاد (١٨). وسقط قسم من سكان المدينة في الأسر ، وهرب قسم آخر ، وتم ذبح

__________________

ـ بالشريف أبي عباس أحمد الأعرج. بتاريخ الأحد الأول من محرم عام ٩٢٠ ه‍. الموافق ٢٦ شباط ١٥١٤ م ، على مسافة مائة كيلومتر من آسفي على طريق تدنست. وعلى أثر هزيمة الشريف ، دخل نونو فرناندز بسلام إلى مدينة تدنست ، ولم يكن احتلالى البرتغاليين لأطلال تدنست أكثر من احتلال مؤقت. ومن المحتمل أن المؤلف رأى هذه الأطلال الخاوية في شهر حزيران أو تموز (يونيو او يوليو) من عام ١٥١٤ م.

(١٦) ٢٩ كيلومتر.

(١٧) لا يزال موقع تاكوليت مجهولا ، ومعناها بالبربرية «القلعة الصغيرة». أما موقع «آقوز» فقد تعيّن على الضفة اليمني لنهر التانسفت بجوار مصبه ، ولكن ليس على ساحل المحيط تماما. وهي الصويرة القديمة.

(١٨) والأصح عام ٩٢٠ ه‍ ، لأن المؤلف كان في مصر عام ٩٢٣ ه‍ أو ١٥١٧ م. [ونستشف من كلامه عاطفته الاسلامية الصادقة وأن تنصره لم يكن أكثر من مجاملة اضطرارية لم تتجاوز لسانه] (المترجم)

١١٢

الآخرين ، كما كتبنا ذلك في «تاريخ أفريقيا الحديث» (١٩).

هاد كيّس. مدينة من حاحه

هادكّيس (٢٠) مدينة تقع في السهل ، على مسافة ثمانية أميال جنوبي تاكوليت (٢١). وفيها حوالي سبعمائة أسرة. ويتكون جدار سورها من قوالب الطوب النيء. وكذلك جامعها وكل بيوتها تقريبا. ويمر من داخل المدينة نهير قليل الأهمية تقع على ضفتيه أشجار كرة عديدة مع تكعيبات بديعة جدا تمتد عليها هذه الأشجار. وفي مدينة هادكّيس عدد كبير من الصنّاع اليهود. ومن عادة السكان أن يتأنقوا كل التأنق في لباسهم. ولديهم خيول حسان وذلك لأنهم يزاولون التجارة ويتجولون في المناطق المجاورة. وتضرب المدينة عملتها الفضية. وتقيم سوقا موسميا كل عام ، يقصده أهل الجبال المجاورة ، (ومنظر هؤلاء أدنى إلى الحيوانات منه إلى الأناسيّ). ونجد في هذا السوق الكثير من المواشي والسمن وزيت الهرجان ، وكذلك أدوات حديدية وأقمشة البلاد ، ويدوم هذا السوق خمسة عشر يوما.

ونرى بين هؤلاء السكان نساء غاية في الجمال ، بيضاوات ، متوسطات السمنة ، وهن كذلك مليحات لطيفات. ولكن الرجال عنيفون وغيورون يقتلون كل من يقترب من نسائهم. ولا يوجد هنا قاض ولا مثقف يفصل بين الناس لتسوية قضاياهم المدنية ، وهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم على هواهم. أما فيما يتعلق بالمسائل الدينية فإن لهم فقهاءهم وعلماءهم المتخصصين. ولا يوجد هنا رسم أو ضريبة من أي نوع كان ، شأنهم في ذلك شأن المدن الأخرى التي تكلمنا عنها.

وقد نزلت في بيت فقيه المدينة ، وكان رجلا جلفا للغاية ، ولكنه كان يعجب كثيرا بالبلاغة العربية وعلومها. ولهذا السبب أمسك بي بالقوة تقريبا مدة شهر عنده. وتذرّع بأنه ليس من المناسب لي أن أذهب دون أن يصاحبني باسم الصداقة التي أكنّها للعرب ، لأنه كان عربيا وكذلك أسرته. وهكذا احتفظ بي استنادا لهذه الحجة إلى أن فرغت من قراءة كتاب صغير عليه في علوم البلاغة. ومن هنا عدت إلى مراكش ، وكانت هادكّيس

__________________

(١٩) هذا المؤلف الذي سيسميه فيما بعد «الوجيز في التواريخ الاسلامية» لم يصل إلينا.

(٢٠) وهي في موقع تيكجي الحالية.

(٢١) أي ١٣ كم.

١١٣

قد تخربت قبل قليل في حرب ضد البرتغاليين. وقد فزع السكان جميعا إلى الجبال. وحدث هذا في عام ٩٢٢ ه‍ في بداية السنة التي انطلق فيها المؤلف لرحلته الكبرى ، أي السنة الموافقة لعام ١٥٠٥ لميلاد المسيح (٢٢).

ايد اوايزوغ غواغن

ايد آوايزوغ غواغن هي بلدة صغيرة شيّدت لتكون قلعة فوق جبل كبير جدا على مسافة عشرة أميال (٢٣) جنوبي هادكّيس. وفيها قرابة أربعمائة عائلة. وهناك نهر صغير يمر تحت هذه البلدة (٢٤). ولا يوجد في هذه البلدة ، ولا في خارجها ، أي بستان ولا أي كرمة ولا أية شجرة مثمرة ، وذلك لسبب بسيط وهو أن سكانها مهملون وعلى درجة من التقاعس تجعلهم لا يبحثون عن أي غذاء سوى الشعير وزيت الهرجان. وهم يمشون حفاة باستثناء بعضهم من الذين ينتعلون نعولا من جلد الجمل أو من جلد الثور. وهم في حالة حرب دائمة مع أهل البادية ، ويقتتلون فيما بينهم كالكلاب. وليس لديهم أي قاض ، أو فقيه ، ولا أي شخص معروف قادر على حسم خلافاتهم ، إذ لا إيمان لهم ولا شريعة سوى ما يقولونه بأفواههم. ولا نجد في كل جبالهم إطلاقا من إنتاج غذائي سوى كمية كبيرة من العسل. ويحتفظ بهذا العسل غذاء ويباع منه للجيران ، ولكن يلقي شمعه مع القمامات.

ويوجد في هذه البليدة مسجد صغير لا يتسع لأكثر من مائة شخص ، إذ ليس لدى هؤلاء الناس أي اهتمام بالتقوى أو بالفضيلة. ويحملون معهم دائما خناجر وحرابا يرتكبون بواسطتها جرائم القتل. وهؤلاء قوم غدارون فسقة. وقد ذهبت مرة إلى هذه المدينة مع الشريف ، الذي أصبح فيما بعد أمير السوس وحاحة (٢٥) ، وكنا قد جئنا لتوطيد السلام بين السكان.

__________________

(٢٢) والصحيح ٩٢١ ه‍ أو ١٥١٥ م. ويظهر أن المؤلف قدم إلى هذه المنطقة حوالي شهر حزيران (يونيو) مع جيش السلطان أبي عبد الله محمد ، ملك فاس. وليس هناك من وثيقة تؤيد دمار هذه المدينة الصغيرة في تلك الحقبة ، والتي ربما كان اسمها آدكيس ، لأن اسمها ورد على شكل آدكة في النص البرتغالي.

(٢٣) ١٦ كم.

(٢٤) لقد اختفت هذه البلدة ولم يمكن تشخيص موقعها ، ولكن هناك فرعا من عشيرة آيت بيوض ، وهي ذاتها عبارة عن فخذ من عشيرة أيد أو زمزم ، لا يزال يحمل اسم ايد آوايزوغ غواغن.

(٢٥) هو الشريف أبو العباس الأعرج الذي أصبح فيما بعد أول سلطان من أسرة السعديين.

١١٤

تيّوت

تيّوت بلدة صغيرة في السهل ، ولكنها بين الجبال ، على مسافة عشرة أميال (٢٦) إلى الغرب من ايد آوايزوغ غواغن. وتضم حوالي ثلاثمائة أسرة ، وهي مسورة بجدار من الطوب الأحمر. وكل سكانها فلاحون. وتصلح أراضيهم لزراعة الشعير ، إذ لا يزرع فيها أي نوع آخر من الحبوب. ولديهم كمية كبيرة من المزارع المليئة بالكروم والتين والدراق. كما يملكون عددا كبيرا من الماعز. وتوجد في المنطقة كمية عظيمة من الأسود التي تفترس وتلتهم عددا كبيرا من أنعامهم. وقد أقمت في تيّوت ليلة واحدة ونزلت في ضيعة شبه مهدّمة. ولقد قدمنا لخيولنا الكثير من الشعير ، ثم عقلناها وآويناها في أحسن مأوى أتيح لنا إيواؤها فيه ، وأغلقنا مدخل المأوى بكمية كبيرة من الأشواك. وقد كنا في أواسط شهر نيسان (إبريل). ونظرا لحرارة الطقس فقد صعدنا إلى السطح كي ننام تحت السماء. وحوالي منتصف الليل تسلل زوج من الأسود الضخمة وقد اجتذبتهما رائحة الخيول وحاولا نزع الأشواك. وأخذت الخيول بالصهيل والاضطراب ، وأخذنا نرتجف من رؤية الخربة وهي تنهار ومن تخيلنا أننا سنصبح فريسة لهذين الحيوانين الضاريين. وما كدنا نرى بياض الفجر حتى رحنا نسرج خيولنا وسرنا في الطريق ، أي في اتجاه المكان الذي ذهب إليه الأمير. وما كدنا نخرج حتى تعرضت هذه المدينة للخراب. وقد قتل قسم من السكان ، وأسر القسم الآخر ، وأقتيد إلى البرتغال. وحدث هذا عام ٩٢٠ ه‍ (٢٧).

تيسيغدلت

تيسيغدلت مدينة على قدر من الأهمية. وتقع على جبل عال ، ومحاطة بجروف

__________________

(٢٦) ١٦ كم.

(٢٧) سنرى فيما بعد أن المؤلف شهد في يوم الجمعة ١٤ نيسان ١٥١٤ م معركة بولوان ، وذلك بينما كان يقصد معسكر ملك فاس في مراكش كي يخبر ملك مراكش أبا علي الناصر بن يوسف الهنتاتي ، والأمير الشريف أبا العباس أحمد الأعرج ، بقرب وصول شقيق ملك فاس. فهذا الشقيق وهو الأمير مولاي ناصر الملقب بالكدادي ، اضطر أن يحارب متقهقرا في مطلع شهر أيار (مايو). ويبدو أن نونو فرناندز دو آتيد ، حاكم آسفي ، قد انطلق بعد قليل في حملة على رأس خمسمائة من الرماة البرتغاليين وأعوانه من عرب عبده وغربية ، ضد قوات الشريف في بلاد شياظمة ، وأنه استطاع أن يخضع المنطقة حتى جبال الأطلس. وهذه الحملة هي التي أدت إلى خراب تيّوت.

١١٥

صخرية عالية جدا ، بحيث لا تدع حاجة للأسوار. وهي تشبه مدينة أورته في إيطاليا (٢٨). وتقع على مسافة إثني عشر ميلا (٢٩) من تيّوت باتجاه الجنوب. ويمر من تحت المدينة نهر (٣٠) ، وهنا تقع مزارع تضم كل أنواع الشجر ، ولا سيما الجوز. والأهالي هنا أغنياء ، ولديهم عدد طيب من الخيول. كما أنهم لا يدفعون أية ضريبة للعرب ، بل إنهم في حرب دائمة معهم ويقتلون كثيرا منهم. وينقل أهل القرى المجاورة كل حبوبهم إلى داخل هذه المدينة خوفا من أن يسطو عليها العرب. ولسكان تيسيغدلت عادات ممتازة فيما يتعلق بالكرم والمؤانسة. وهكذا يكلف حرّاس أبواب المدينة بسؤال كل غريب يصل إليها فيما إذا كان له صديق في المدينة. فإذا أجابهم بالنفي ، كان على هؤلاء الحراس أن يستضيفوه ، بحيث يلقى كل غريب ، وبدون أن يدفع شيئا ، استقبالا حفيّا كريما. وتكاد قلوب رجالهم تتوقد غيرة على نسائهم ، ولكنهم يحافظون كل المحافظة على قواعد دينهم ، ولهم في قلب المدينة جامع بديع جدا ، يشرف عليه بضعة فقهاء. ولديهم قاض راسخ القدم في الشريعة ، ويفصل في كل القضايا باستثناء ما يتعلق بالأضرار الناجمة عن السحر.

وتقع كل الحقول المبذورة بالحبوب في الجبل. وقد أمضيت في هذه المدينة عشرة أيام مع الأمير الشريف في عام ٩١٩ ه‍ (٣١).

مدينة تغتسّة

تغتسّة مدينة قديمة أقيمت فوق جبل عال جدا مستدير الشكل. ويخرج الانسان من هذه المدينة بالدوران حولها كسلّم لولبي. وتقع على مسافة أربعة عشر ميلا (٣٢) من تيسيغدلت. ويمر من أسفل المدينة نهر يشرب منه أهلها. ويقع هذا النهر على مسافة ستة

__________________

(٢٨) لقد اختفت المدينة المذكورة ويحمل الجبل على الخرائط اسما مشوّها هو لالاتا سنديت. ولكن موقعها لا يماثل ، في الواقع ، مطلقا موقع «أورته» التي تقع في منطقة من التلال ، في حين أن تيسيغدلت ترتفع إلى حوالي ١٣٠٠ م فوق سطح البحر.

(٢٩) ٢٠ كم.

(٣٠) هو وادي ايغر ونزار.

(٣١) سنة ١٥١٣ م.

(٣٢) ٥ ، ٢٢ كم.

١١٦

أميال (٣٣) من المدينة. وتظهر المدينة لمن يقف على ضفة النهر كأنها تقع على مسافة ميل ونصف. وتنزل النسوة إلى النهر عن طريق درب ضيق منحوت بالمعول في الصخر على شكل أدراج السلم (٣٤).

وسكان هذه المدينة قتلة في حالة نزاع دائم مع جميع جيرانهم. وتقع أراضيهم الزراعية وماشيتهم في الجبل. وجميع الأحراش المحيطة بهذه البلدة مليئة بالخنازير البرية. ولا يوجد أي حصان في تغتسّة. ولا يستطيع العرب عبور المدينة ولا إقليمها بدون إذن خاص وورقة أمان.

ولقد مررت راجلا من هذا المكان في عام كانت فيه أعداد هائلة من الجراد تجتاح المنطقة بينما كان القمح على سنابله. وكان الجراد أكثر من السنابل ضعفين ، بحيث لم تمكن رؤية الأرض بسهولة. وكن هذا في عام ٩١٩ ه‍ (٣٥).

آيت دوّاد

آيت دوّاد مدينة قديمة شيّدها الأفارقة فوق جبل عال. ولكن يوجد في قمة الجبل المذكور سهل بديع جدا. وتقع على مسافة خمسة عشر ميلا (٣٦) إلى الجنوب من تغتسّة.

وفي وسط المدينة بضعة ينابيع من ماء رائق سريع الجريان شديد البرودة (٣٧). وتتألف ضواحي البلدة من جروف صخرية وغابات غير مألوفة ومفزعة. وتنمو بين هذه الصخور أعداد كبيرة من الشجر.

وفي هذه المدينة الكثير من الصناع اليهود الذين يمارسون الحدادة وصنع الأحذية والصياغة والصباغة. ويقال أن قدامى السكان كانوا يهودا من نسل داوود. ولكنهم ما لبثوا أن اعتنقوا الدين الإسلامي بعد احتلال العرب هذه البلاد. وكثير من هؤلاء السكان

__________________

(٣٣) ١٠ كم.

(٣٤) لقد اختفت هذه المدينة ، ولكن يجب أن يساعد موقعها الفريد على العثور على بقاياها.

(٣٥) في بداية صيف عام ١٥١٣ م. ويذكر تامبورال وهو أول من ترجم كتاب «وصف أفريقية» إلى الفرنسية طبعة ليون ١٥٥٥ م ص ٥٦ تاريخ ٩٠٠ ه‍. وهذا خطأ طبعا.

(٣٦) ٢٤ كم.

(٣٧) لقد اختفت هذه البلدة ، ولكن عشيرة دوّاد ، وتسمّى باللهجة الدارجة آيت داوود ، وهم فخذ من عشيرة آيت آو بوزية ، لا يزالون يقيمون في نفس الناحية.

١١٧

راسخو القدم في علوم الشريعة. ولأكثرهم ذاكرة ممتازة في مسائل الفقه الإسلامي. وقد عرفت رجلا هرما يحفظ عن ظهر قلب كتابا يدعى «المدوّنة» (٣٨) ومعناه «جامع الشرائع» الذي يضم ثلاثة كتب عولجت فيها أصعب المسائل الفقهية على مذهب مالك (٣٩). وهذه المدينة عبارة عن محكمة ترسل إليها كل الدعاوي. ففيها يفصل في الادعاءات ، والاعلانات ، والاتفاقات ، والعقود ... الخ. ومن أجل ذلك يقصدها جميع أهالي المناطق المجاورة. والفقهاء هم الذين يقومون بمهمة الإدارة المدنية والإدارة الدينية. ولكن السكان لا يذعنون لآرائهم في القضايا ذات الأهمية الكبرى ، ولا يفيدهم حينئذ علمهم شيئا. وعندما قصدت هذه المدينة نزلت في ضيافة محام ، في منزله. واتفق في إحدى الأمسيات أن كان عنده عدة فقهاء اجتمعوا بعد العشاء ، وبدءوا يتناقشون فيما إذا كان يجوز لولي الأمر أن يبيع ما يملكه فرد ما لتحقيق مصلحة عامة أو لحاجة الدولة إلى ذلك. وكان من الحضور شيخ كبير قام بتلخيص هذا النقاش والفصل في هذا الموضوع ، وكان يدعى الجزار. وعند سماع كنيته هذه طلبت اليه معنى هذه الكنية ، فأجابني أن معناها «القصّاب» وأضاف : «السبب في ذلك ، أنهم شبهوني بالقصاب ، فكما أن القصاب قد اعتاد العثور على مفاصل الحيوانات ، فإنني اعتدت العثور على فصل الخطاب في قضايا الفقه الإسلامي»!! وحياة أهالي آيت دوّاد قاسية جدا على العموم. فهم يتغذون بالشعير وزيت الهرجان ولحم الماعز. والقمح غير معروف لديهم. ونساؤهم جميلات وجسومهن ملونة. والرجال أقوياء البنية ، ولهم بطبيعتهم صدور كثيفة الشعر. وهم كرماء للغاية وغيورون لأقصى الحدود على نسائهم.

قليعة المريدين

وهي قلعة صغيرة واقعة في قمة جبل شديد الارتفاع بين جبال لها نفس الارتفاع.

وتوجد في كل هذه الجبال صخور هائلة محاطة بغابات كثيفة جدا. ولا يمكن الارتقاء الى هذه القلعة إلّا بسلوك درب ضيق على خاصرة الجبل. فمن ناحية نجد جروف الصخور ومن طرف آخر حبل تيسيغدلت ، الذي لا يبعد اكثر من ميل ونصف. (٤٠) وتقع آيت دوّاد

__________________

(٣٨) تأليف العالم التونسي سحنون ، وهي من أشهر المؤلفات في مذهب الإمام مالك.

(٣٩) الإمام مالك بن أنس.

(٤٠) ٥ ، ٢ كم.

١١٨

على مسافة ثمانية عشر ميلا (٤١) من هذا الموقع (٤٢). وقد شيّدت هذه القلعة في عصرنا من قبل عمر السياف (٤٣) ، وهو متمرد وزعيم للرافضة. وقد كان في البداية واعظا ، وبعد ان جمع حوله عددا كبيرا من المريدين الذين دانوا له بالطاعة ، تحوّل الى طاغية مخيف جبار. واستمرت سلطته مدة اثني عشر عاما. وقد تسبب في خراب هذه البلاد. وانتهى أمره بأن قتلته احدى نسائه حينما وجدته متلبسا بمقاربة إبنة لها من زوج آخر. وحينئذ أدرك الناس أن هذا الرجل كان فاسقا لا إيمان له ولا شريعة. فثار الشعب بعد موته وضربت أعناق الذين اتّبعوا مذهبه. وقد ترك عمر هذا حفيدا استولى على القلعة وصمد لحصار الثوار وكل سكان حاحة مدة عام ، حتى يئسوا وفكوا الحصار. ولا يزال هذا الرجل صامدا حتى اليوم أمام عداوة أهل حاحة وخصومه وكل جيرانه تقريبا. ويعيش على السلب ويهاجم فرسانه كل من يمر قرب قلعتهم. ولما كان في حالة مطاردة مستمرة فهو ينقضّ تارة على الماشية فينهبها وتارة أخرى على الناس فيقتلهم ويسلبهم ويستعين في مغامراته هذه بفرقة من رماة البنادق. ولما كان الطريق العام يقع على مسافة ميل واحد من القلعة فهؤلاء يرمون ببنادقهم ويجرحون أو يقتلون المارة البؤساء. وهذا الحاكم ممقوت من الجميع ولهذا لا يستطيع ان يزرع أو يحرث أو أن يحكم شبرا واحدا من الأرض في خارج جبله. وقد دفن جثمان جده في القلعة بصورة مكرمة جدا وراح يبجّله كأنه ضريح أحد الأولياء الصالحين. وقد مرّ كاتب هذه الأسطر من أمام هذه القلعة مع فرسان الأمير الشريف ، فقتل رماة القلعة بعض هؤلاء ، ولكنهم عجزوا عن القبض على أي واحد منهم. وعلى أثر ذلك تحادث المؤلف مع بعض الاشخاص الذين كانوا من اتباع «عمر» المذكور والذين سردوا له حياة هذا الرافضي واطلعوه على نظرياته المعادية للشريعة العامة. وقد سجل ذلك في مختصره عن التأريخ الإسلامي.

ايغيلنغيغيل. مدينة من حاحه

ايغيلنغيغيل (٤٤) هي مدينة صغيرة في الجبل بناها قدماء الأفارقة. وتقع تقريبا على

__________________

(٤١) ٣٠ كم.

(٤٢) هذه الأرقام الدقيقة هي التي سمحت بالافتراض بأن قليعة المريدين ، واسمها بالبرتغالية «كاستيللودس موردايس» كانت تقع في مكان قصبة تامالوكت الحالية.

(٤٣) عمر بن سليمان الشياظمي والملقب بالسيّاف.

(٤٤) موقع غير محدد.

١١٩

مسافة ستة أميال (٤٥) جنوب آيت دوّاد. وفيها قرابة اربعمائة أسرة وفي هذه المدينة بعض الصناع الذين يقومون بالأعمال الضرورية لحاجات الحياة العادية. والأراضي المحيطة بالمدينة أراض ممتازة لزراعة الشعير. وهنا يكثر العسل وزيت الهرجان. ولا سبيل لصعود المدينة إلا عن طريق درب صغير على خاصرة الجبل ، وهو درب ضيق ورديء جدا بحيث لا يمكن السير فيه راكبا إلا بمشقة. والسكان رجال على درجة عالية من الشجاعة عندما يكونون شاكين سلاحهم ، وهي في حالة نزاع مستمر مع العرب ، ولكن أهلها دوما منتصرون على هؤلاء بسبب موقع المدينة الحصين جدا. وتصنع في هذه المدينة مقادير كبيرة من الاواني التي تباع في مختلف المدن ، ولا أظن انه يصنع مثلها في أي مكان آخر من المنطقة.

تفتنة. مدينة وميناء في حاحه

تفتنة ميناء على المحيط (٤٦) على مسافة أربعين ميلا (٤٧) الى الغرب من ايغيلنغيغيل ، وقد بنيت هذه المدينة على أيدي الأفارقة. وفيها قرابة ستمائة عائلة. ويقوم هنا ميناء جيد جدا بالنسبة للسفن الصغرى. ومن عادة بعض التجار البرتغاليين التردد عليه لمقايضة بضائعهم مقابل الشمع وجلود الماعز. ومعظم الريف المجاور لها جبلي ، وينبت فيه الشعير بوفرة. ويمر من جوار المدينة نهر صغير يكون مصبه مرسى طيبا عند هبوب عواصف البحر. ويوجد في تفتنة مصلحة مكس ومصلحة جباية ضريبة الملح ، وتوزع جباتهما على الرجال القادرين على الدفاع عن المدينة. ونجد هنا فقهاء وقضاة. ولكن القضاة غير مؤهلين للبت في قضايا القتل والجروح. وإذا ارتكب أحد السكان إحدى هاتين الجريمتين فإن أهل المجني عليه يقتلونه إذا عثروا عليه. وإلا فإن القاتل يحكم عليه بالنفي لمدة سبعة أعوام ، وفي ختام هذه المدة يدفع غرامة لأهل القتيل (٤٨). وحينئذ تسقط عنه عقوبة النفي. ولسكان تفتنة بشرة بيضاء جدا. وهم ألوفون ومحبّبون. ويختصون الغرباء عندهم بمعاملة تفوق معاملتهم لأبناء بلدتهم ذاتها. ولديهم مضافة لإيواء الغرباء ، مع أن هؤلاء يتمتعون في الغالب بضيافة أناس من الأهلين. وقد قصدت هذه

__________________

(٤٥) ١٠ كم.

(٤٦) المحيط ويقصد به دوما بحر الظلمات ، أو المحيط الأطلسي.

(٤٧) ٦٥ كم.

(٤٨) الدّية.

١٢٠