ثم اهتديت

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

ثم اهتديت

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مدينة العلم ـ آية الله العظمى الخوئي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩١

الشك والحيرة

كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر ، واضحة ومقنعة ولكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة وعشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم وخصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم والسير على هديهم ، وعلى رأس هؤلاء سيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق ، وإني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق ، وإنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما ، وأئمة بعدد إثنى عشر إماما ، وإدعاء بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نص على الامام علي بالخلافة قبل وفاته ، كيف لي أن أصدق ذلك. أي أن يتفق المسلمون وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله ويتصافقوا ضد الامام علي كرم الله وجهه ، وقد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الامام عليا ويعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء وأبوالحسن والحسين وباب مدينة العلم ، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا وصاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالى في القرآن ، وقد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبابكر خليلا ، ولكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم ، كما يعرف الامام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الاسلام وسماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن والذي جهز جيش العسرة وسماه رسول الله بذي النورين ، فكيف يجهل إخواننا الشيعة كل هذا أو

٦١

يتجاهلونه ويجعلون من هؤلاء أشخاصا عاديين تميل بهم الاهواء والاطماع الدنيوية عن اتباع الحق فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته وهم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره فيقتلون أولادهم وآباءهم وعشيرتهم في سبيل عزة الاسلام ونصرته ، والذي يقتل أباه وولده طاعة لله ورسوله لا يمكن أن تغره أطماع دنيوية زائلة هي اعتلاء منصة الخلافة فيتجاهل أمر رسول الله ويتركه ظهريا.

نعم من أجل كل هذا ما كنت لاصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة ، وبقيت بين الشك والحيرة ، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لان كلامهم معقول ومنطقي ، والحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الاخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا ، لم تصقلهم أنوار الرسالة ولم يهذبهم الهدى المحمدي؟ يا إلهي كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة؟ والمهم هو أن هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لابد من كشفها للوصول إلى الحقيقة.

جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء ، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته وعلمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت ، فالناس يتزاحمون ويتراصون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا ، فكأن الحسين استشهد الآن ، وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب ، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار ، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها وكأنها كانت مكبوتة ، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم ، وكأني كنت في صفوف أعداء الحسين وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الذين يفدونه بأرواحهم ، وكان الخطيب يستعرض قصة الحر وهو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين ، ولكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة ولما سأله بعض أصحابه : أخائف أنت من الموت أجابه الحر ، لا والله ولكنني أخير نفسي بين الجنة والنار ثم همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلا : هل من توبة يابن رسول الله ، ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الارض باكيا وكأني أمثل دور الحر وأطلب من الحسين : هل من توبة ياابن رسول الله ، سامحني ياابن رسول الله ، وكان صوت الخطيب مؤثرا ، وارتفعت

٦٢

أصوات الناس بالبكاء والنحيب عند ذلك سمع صديقي صياحي وانكب علي معانقا ، باكيا وضمني إلى صدره كما تضم الام ولدها وهو يردد يا حسين ، يا حسين ، كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي وأحسست وكان دموعي غسلت قلبي وكل جسدي من الداخل وفهمت وقتها حديث الرسول : « لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ».

بقيت كامل اليوم مقبوض النفس وقد حاول صديقي تسليتي وتعزيتي وقدم إلي بعض المرطبات ولكن شهيتي انقطعت تماما ، وبقيت أسأله أن يعيد علي قصة مقتل سيدنا الحسين ، لاني ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيرا غاية ما هناك أن شيوخنا إذا حدثونا عن ذلك يقولون أن المنافقين أعداء الاسلام الذين قتلوا سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي هم الذين قتلوا سيدنا الحسين ، ولا نعرف غير هذا الاقتضاب بل إننا نحتفل بيوم عاشوراء على أنه من الاعياد الاسلامية وتخرج فيه زكاة الاموال وتطبخ فيه شتى المأكولات وأنواع الاطعمة الشهية ، ويطوف الصبيان على الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات والالعاب.

صحيح أن هناك بعض التقاليد والعادات في بعض القرى منها أنهم يشعلون النار ، ولا يعملون في ذلك اليوم ولا يتزوجون ولا يفرحون ، ولكن نسميها عادات وتقاليد بدون ذكر أي تفسير لها ، ويروي علماؤنا في ذلك أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء وما فيه من بركات ورحمات أنه أمر عجيب!.

زرنا بعد ذلك ضريح العباس أخي الحسين ، ولم أكن أعرف من هو وقد روى لي صديقي قصة بطولته وشجاعته ، كما التقينا بالعديد من العلماء الافاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوى بعض الالقاب ، كبحر العلوم والسيد الحكيم وكاشف الغطاء وآل ياسين والطباطبائي والفيروزآبادي وأسد حيدر وغيرهم ممن تشرفت بمقابلتهم. والحق يقال إنهم علماء أتقياء ، تعلوهم هيبة ووقار ، والشيعة يحترمونهم كثيرا ويؤدون إليهم خمس أموالهم ، والتي بها يديرون شؤون الحوزات العلمية ويؤسسون المدارس والمطابع وينفقون على طلاب العلم الوافدين من كل البلاد الاسلامية ، إنهم مستقلون ولا يرتبطون بالحكام من قريب أو من بعيد كما هو شأن علمائنا الذين لا يفتون ولا

٦٣

يتكلمون إلا برأي السلطة التي تضمن معاشهم ، وتعزل من تشاء منهم وتنصب من تشاء.

إنه عالم جديد بالنسبة إليّ اكتشفته ، أو كشفه الله لي وقد أنست به بعد ما كنت أنفر منه وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه ، وقد أفادني هذا العالم أفكارا جديدة وبعث في حب الاطلاع والبحث والدراسة حتى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة ».

فلا كلام لنا مع الاديان المتعددة التي يدّعي كل منها أنه هو الحق وغيره الباطل ، ولكن أعجب واندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث ، وليس عجبي وإندهاشي وحيرتي للحديث نفسه ولكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا الحديث ويرددونه في خطبهم ويمرون عليه مر الكرام بدون تحليل ، ولا بحث في مدلوله لكي يتبينوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة.

والغريب أن كل فرقة تدعي أنها هي وحدها الناجية وقد جاء في ذيل الحديث : « قالوا من هم يارسول الله؟ قال من هم على ما أنا عليه أنا وأصحابي » فهل هناك فرقة إلا وهي متمسكة بالكتاب والسنة ، وهل هناك فرقة إسلامية تدعي غير هذا؟ فلو سئل الامام مالك أو أبوحنيفة أو الامام الشافعي أو أحمد بن حنبل فهل يدعي أي واحد منهم إلا التمسك بالقرآن والسنة الصحيحة؟.

فهذه المذاهب السنية وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد بفسادها وانحرافها ، فها هي الاخرى تدعي أيضا أنها متمسكة بالقرآن والسنة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطاهرين ، وأهل البيت أدري بما فيه كما يقولون.

فهل يمكن أن يكونوا كلهم على حق كما يدعون؟ وهذا غير ممكن لان الحديث الشريف يفيد نقيض ذلك ، اللهم إلا إذا كان الحديث موضوعا ، مكذوبا ، وهذا لا سبيل إليه لان الحديث متواتر عند السنة والشيعة ، أم أن الحديث لا معنى له ولا مدلول؟ وحاشى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوى وكل أحاديثه حكمة وعبر.

إذا لم يبق أمامنا إلا الاعتراف بأن هناك فرقة واحدة على الحق وما بقي فهو باطل ، فالحديث يبعث

٦٤

على الحيرة كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة.

ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلهم يقولون حقا وينطقون صدقا! ولماذا لا أبحث ولا أنقب.

وقد كلفني الاسلام بقرآنه وسنته أن أبحث وأقارن وأتبين قال الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (١) وقال أيضا : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب ) (٢).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون » فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كل مكلف.

بهذا القرار وبهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي وأصدقائي من الشيعة في العراق وأنا أودعهم معانقا ومتأسفا لفراقهم فقد أحببتهم وأحبوني ، وقد تركت أحباء أعزاء مخلصين ضحوا بأوقاتهم من أجلي لا لشيء كما قالوا لا خوفا ولا طمعا ، وإنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه فقد ورد في الحديث الشريف « لئن يهد الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ».

وغادرت العراق بعد قضاء عشرين يوماً في ربوع الائمة وشيعتهم ، مرت كأنها حلم لذيذ يتمنى النائم أن لا يستيقظ حتى يستوفيه ، غادرت العراق متأسفاً على قصر المدة ، متأسفاً على فراق الافئدة التي أهوي إليها والقلوب التي تنبض بمحبة أهل البيت وتوجهت للحجاز قاصداً بيت الله الحرام وقبر سيد الاولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

__________________

( ١ ) سورة العنكبوت : آية ٦٩.

( ٢ ) سورة الزمر : آية ١٨.

٦٥

السفر إلى الحجاز

وصلت إلى جدة والتقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي وأنزلني في بيته ، وأكرمني غاية الاكرام ، وكان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة والمزارات بسيارته ، وذهبنا للعمرة معا وعشنا أياما كلها عبادة وتقوى ، واعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق وحكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد ، وكان متفتحا ومطلعا فقال : فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار وعندهم ما يقولون ، ولكن عندهم فرقا كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعددة في كل موسم للحج. سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها؟. أجاب : إنهم يصلون حول القبور ، يدخلون البقيع جماعات فيبكون وينوحون ويحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها ، وإذا ذهبوا إلى قبر سيدنا الحمزة في أحد فهناك يقيمون جنازة بلطم وعويل وكأن الحمزة مات في ذلك الحين ، ومن أجل كل ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلى المزارات.

ابتسمت ، وقلت له : ألهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الاسلام؟ قال : هذا وغيره ، أنهم يأتون لزيارة النبي ولكنهم في نفس الوقت يقفون على قبر أبي بكر وعمر ويسبونهما ويلعنونهما ومنهم من يلقي على قبر أبي بكر وقبر عمر القذارات والنجاسات.

وذكرني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحج ولكنه قال بأنهم يلقون القذارات على قبر النبي ، ولا شك بأن والدي لم يشاهد ذلك بعينيه لانه قال : شاهدنا جنودا من الجيش السعودي يضربون بعض الحجاج بالعصي ولما استنكرنا

٦٦

عليهم إهانتهم لحجاج بيت الله الحرام : أجابونا بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها على قبر النبي ، قال والدي : عند ذلك لعناهم وبصقنا عليهم.

وها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنورة بأنهم يأتون لزيارة قبر النبي ولكنهم يلقون النجاسات على قبر أبي بكر وعمر ، وشككت في صحة الروايتين ، لاني حججت ورأيت أن الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي وأبي بكر وعمر مغلقة ولا يمكن لاي شخص أن يقترب منها للتمسح على بابها أو شباكها ، فضلا على أن يلقي فيها أشياء ، أولا ، لعدم وجود فجوات وثانيا لوجود حراسة مشددة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون على الرقابة والحراسة أمام كل باب وفي أيديهم سياط يضربون بها كل من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة ، والغالب على الظن أن بعض الجنود من السعودية وهم يكفرون الشيعة ، رماهم بهذه التهمة ليبرر ضربه لهم ، وحتى يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو على الاقل ليسكتوا على إهانتهم ، ويروجوا إذا رجعوا إلى بلدانهم أن الشيعة يبغضون رسول الله ويلقون على قبره النجاسات ، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد.

وهذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممن أثق بهم إذ قال : كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب « أصابه مغص من شدة الزحام فتقيأ » ، وضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الاسود وأخرجوه وهو في حالة يرثى لها واتهموه بأنه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة وشهدوا عليه وأعدم في نفس اليوم.

وجالت بخاطري هذه المسرحيات وبقيت أفكر برهة في تعليل صديقي السعودي لتكفير هؤلاء الشيعة ، فلم أسمع غير أنهم يبكون ويلطمون ويسجدون على الحجر ويصلون حول القبور ، وتساءلت أفي هذا دليل على تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وما أردت معاندة صديقي والدخول معه في جدال لا طائل من ورائه فاقتصرت على

٦٧

القول : هدانا الله وإياهم إلى صراطه المستقيم ولعن الله أعداء الدين الذين يكيدون للاسلام والمسلمين.

وكنت كلما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كل زيارة لمكة المكرمة ، ولم يكن يطوف بها الا نفر قليل من المعتمرين ، صليت وسألت الله سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني إلى الحقيقة.

وقفت على مقام ابراهيم ( ع ) واستعرضت الآية الكريمة ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (١) صدق الله العظيم.

وبدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سماه القرآن :

ـ يا أبتاه ، يامن سميتنا المسلمين ، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهودا ونصارى ومسلمين ، واختلف اليهود فيما بينهم إلى أحدى وسبعين فرقة واختلف النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، واختلف المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة وكلهم في الضلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمد وفرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه!.

أهي سنة الله في خلقه كما يقول القدرية ، فالله سبحانه هو الذي كتب على كل نفس أن تكون يهودية أو نصرانية أو مسلمة ، أو ملحدة ، أو مشركة ، أم أنه حب الدنيا والابتعاد عن تعاليمه سبحانه ، ذلك بأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، إن عقلي لا يطاوعني بتصديق أن القضاء والقدر هو الذي حتم مصير الانسان ، بل أميل وأكاد أجزم بأن الله سبحانه خلقنا وهدانا وألهمنا الفجور والتقوى ، وأرسل إلينا رسله ليوضحوا لنا ما أشكل علينا ويعرفوننا الحق من الباطل ، ولكن الانسان غرته الحياة الدنيا وزينتها ، الانسان بأنانيته وكبريائه ، بجهله وفضوله ، بعناده ولجاجته ، بظلمه وطغيانه مال عن الحق واتبع الشيطان وابتعد عن الرحمن فورد غير مورده ، وأكل غير مأكله ، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك

_________________

( ١ ) سورة الحج : آية ٧٨.

٦٨

أحسن تعبير وأوجزه بقوله تعالى : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) (١).

ياأبانا إبراهيم ، لا لوم على اليهود والنصارى الذين عاندوا الحق بغيا بينهم لما جاءتهم البينة ، فها هي الامة التي أنقذها الله بولدك محمد وأخرجها من الظلمات إلى النور وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، فهي الاخرى اختلفت وتفرقت وكفر بعضها بعضا ، وقد حذرهم رسول الله ونبههم إلى ذلك وضيق عليهم حتى قال : « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث » فما بال هذه الامة قد انقسمت وافترقت وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض ويحارب بعضها البعض ويكفر بعضها البعض وحتى لا يعرف بعضها البعض الآخر ، فيهجره طيلة حياته ، ما لهذه الامة ياأبانا إبراهيم بعد ما كانت خير الامم وقد ملكت الشرق والغرب وأوصلت للناس الهداية والعلوم والمعرفة والحضارة ، إذا بها اليوم أصبحت أقل الامم وأذلها فأراضيهم مغتصبة وشعوبهم مشردة ومسجدهم الاقصى تحتله عصابة من الصهاينة ولا يقدرون على تحريره ، وإذا زرت بلدانهم فإنك لا ترى إلا الفقر المدقع والجوع القاتل والاراضي القاحلة ، والامراض الفتاكة والاخلاق السيئة ، والتخلف الفكري والتقني ، والظلم والاضطهاد ، والاوساخ والحشرات ، ويكفيك فقط أن تقارن بيوت الراحة « المراحيض » العمومية كيف هي في أوروبا وكيف هي عندنا ، فإذا دخل المسافر إلى المراحيض في أوروبا بأسرها وجدها نظيفة تلمع كالبلور وفيها روائح طيبة بينما لا يطيق المسافر إلى البلاد الاسلامية الدخول إلى المراحيض لعفونتها ونجاستها ونتونتها ونحن الذين علمنا الاسلام « إن النظافة من الايمان والوسخ من الشيطان » ، فهل تحول الايمان إلى أوروبا وسكن الشيطان عندنا؟ لماذا أصبح المسلمون يخافون من إظهار عقيدتهم حتى في بلدانهم ، ولا يتحكم المسلم حتى في وجهه فلا يتمكن من إعفاء لحيته ولا من لبسه الزي الاسلامي بينما يتجاهر الفاسقون بشرب الخمر والزنا وهتك الاعراض ولا يقدر المسلم دفعهم بل ولا حتى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وقد بلغني أن في بعض البلاد الاسلامية مثل مصر والمغرب من يبعث الاباء بناتهم للبغاء من شدة الفقر والبؤس والاحتياج فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

( ١ ) سورة يونس : آية ٤٤.

٦٩

ياإلهي لماذا ابتعدت عن هذه الامة وتركتها تتخبط في الظلمات ، لا ، لا ، أستغفرك ياإلهي وأتوب إليك ، فهي التي ابتعدت عنك عن ذكرك ، واختارت طريق الشيطان ، وأنت جلت حكمتك ، وتعالت قدرتك قلت ، وقولك الحق : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) (١) وقلت أيضا : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (٢).

ولا شك أن ما وصلت إليه الامة الاسلامية من الانحطاط والتخلف والذلة والمسكنة لدليل قاطع على بعدها عن الصراط المستقيم ، ولا شك أن القلة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة وسبعين ، لا تؤثر في مسيرة أمة بأكملها.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ».

ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

سافرت إلى المدينة المنورة محملا برسالة من صديقي بشير إلى أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدة بقائي هناك ، وقد كلمه من قبل بالهاتف ، واستقبلني هذا الاخير ورحب بي وأنزلني في بيته وتوجهت فور وصولي إلى زيارة رسول الله ، فاغتسلت وتطيبت ، ولبست أحسن ثيابي وأطهرها ، وكان الزوار قليلين بالنسبة إلى موسم الحج فتمكنت من الوقوف أمام قبر رسول الله وأبي بكر وعمر ، ولم أكن أتمكن من ذلك في موسم الحج لكثرة الازدحام ، وحاوت عبثا أن أمس أحد الابواب للتبرك ، فانتهرني الحرس الواقف هناك ، وكان على كل باب حرس يحرسه ، ولما أطلت الوقوف للدعاء وإبلاغ السلام الذي حملني إياه أصدقائي ، أمرني الحراس بالانصراف ، وحاولت أن أتكلم مع واحد منهم ولكن دون جدوى.

__________________

( ١ ) سورة الزخرف : آية ٣٦.

( ٢ ) سورة آل عمران : آية ١٤٤.

٧٠

ورجعت إلى الروضة المطهرة حيث جلست أقرأ ما تيسر من القرآن ، وأحسن الترتيل وأعيده مرات لاني تخيلت وكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستمع إلي ، وقلت في نفسي أيمكن أن يكون الرسول ميتا كسائر الاموات ، فلماذا نقول في صلاتنا ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته بصفة المخاطب ، وإذا كان المسلمون يعتقدون بأن سيدنا الخضر عليه‌السلام لم يمت ويرد السلام على كل من يسلم عليه بل وأن مشايخ الطرق الصوفية يعتقدون جزما بأن شيخهم أحمد التيجاني أو عبد القادر الجيلاني يأتون إليهم جهارا ويقظة لا مناما ، فلماذا نشح على رسول الله بمثل هذه المكرمة وهو أفضل الخلق على الاطلاق ، ولكن يخفف على نفسي أن المسلمين لا يشحون بذلك على رسول الله ، إلا الوهابية الذين بدأت أنفر منهم لهذا ولعدة أسباب أخرى منها الغلظة التي شاهدتها فيهم والشدة على المؤمنين الذين يخالفونهم في معتقداتهم. زرت البقيع وكنت واقفا أترحم على أرواح أهل البيت ، وكان بالقرب مني شيخ طاعن في السن يبكي وعرفت من بكائه أنه شيعي ، واستقبل القبلة وبدأ يصلي وإذا بالجندي يأتي إليه بسرعة وكأنه كان يراقب تحركاته وركله بحذائه ركلة وهو في حالة سجود فقلبه على ظهره وبقي المسكين فاقد الوعي بضع دقائق وانهال عليه الجندي ضربا وسبا وشتما ، ورق قلبي لذلك الشيخ وظننت أنه مات ودفعني فضولي وأخذتني الحمية وقلت للجندي : حرام عليك لماذا تضربه وهو يصلي؟ فانتهرني قائلا : أسكت أنت ولا تتدخل حتى لا أصنع بك مثله. ولما رأيت في عينيه الشر تجنبته وأنا ساخط على نفسي العاجزة عن نصرة المظلوم ، وعلى السعوديين الذين يفعلون بالناس ما بدا لهم بدون رادع ولا وازع ولا من ينكر عليهم ، وكان بعض الزائرين حاضرا فمنهم من حوقل (١) ومنهم من قال : إنه يستحق ذلك لانه يصلي حول القبور وهو محرم ، فلم أتمالك وانفجرت على هذا المتكلم قائلا : من قال لك أن الصلاة حول القبور حرام؟ أجابني : قد نهى رسول الله عن ذلك. فقلت بدون وعي : تكذبون على رسول الله ، وخشيت أن يتألب علي الحاضرون أو ينادوا الجندي فيفتك بي ، فتلطفت قائلا : إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نهى عن ذلك فلماذا يخالف نهيه الملايين من الحجاج والزوار ويرتكبون حراما لانهم يصلون حول قبر النبي وقبر أبي بكر وقبر عمر

__________________

( ١ ) حوقل : قال لا حول ولا قوة إلا بالله.

٧١

في المسجد النبوي الشريف ، وفي مساجد المسلمين في كل العالم الاسلامي ، وعلى افتراض أن الصلاة حول القبور حرام ، أفبهذه الغلظة والشدة ولا خجل ، ولما قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه ، نهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنعهم وقال : « دعوه ولا تزرموه وهريقوا على بوله دلوا من الماء ، إنما بعثتم لتيسروا لا لتعسروا ، لتبشروا لا لتنفروا » وما كان من الصحابة إلا أن امتثلوا أمره ، ونادى رسول الله الاعرابي وأجلسه إلى جانبه ورحب به ولاطفه وأفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله ولا يمكن تنجيسه فأسلم الاعرابي ولم ير بعد ذلك إلا وهو آت المسجد في أحسن ثيابه وأطهرها ، وصدق الله العظيم إذ يقول لرسوله : ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (١).

وتأثر بعض الحاضرين عند سماع القصة فاختلى بي أحدهم إلى جانب وسألني : من أين أنت : قلت من تونس : فسلم علي وقال : يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك ولا تتكلم مثل هذا هنا أبدا. أنصحك لوجه الله. وازددت بغضا وحنقا على هؤلاء الذين يدعون أنهم حماة الحرمين ويعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة ، ولا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق وما يروونه ، أو يعتقد غير ما يعتقدونه.

رجعت إلى بيت الصديق الجديد الذي لم أعرف اسمه وقد جاءني بالعشاء وجلس مقابلي وقبل أن نبدأ في الاكل سألني أين ذهبت ، ورويت له قصتي من أولها إلى آخرها وقلت في معرض كلامي : يا أخي أنا بصراحة بدأت أنفر من الوهابية وأميل إلى الشيعة ، فتغير وجهه وقال لي : إياك أن تتكلم مثل هذا الكلام مرة اخرى! وغادرني ولم يأكل معي ، وانتظرته طويلا حتى غلبني النوم ، وأفقت باكرا على أذان المسجد النبوي فرأيت أن الاكل لا يزال في مكانه كما تركته وعلمت بأن مضيفي لم يرجع ، وتشككت في أمره وخشيت أن يكون من المخابرات ، فنهضت مسرعا وغادرت البيت بدون رجعة وقضيت كامل اليوم في الحرم النبوي أزور وأصلي وأخرج لقضاء الحاجة والوضوء وبعد صلاة

__________________

( ١ ) سورة آل عمران : آية ١٥٩.

٧٢

العصر سمعت أحد الخطباء يلقي درسا وسط جماعة من المصلين ، واتجهت وعلمت من بعض الجالسين أنه قاضي المدينة ، واستمعت إليه وهو يفسر بعض آيات من الذكر الحكيم ، وبعد ما أتم ، درسه وهم بالخروج استوقفته وسألته قائلا : سيدي هل لك أن تعطيني مدلول الآية من قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (١).

فمن هم أهل البيت المقصودون بهذه الآية؟ أجابني على الفور : هم نساء النبي وقد بدأت الآية بذكرهن ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن ).

قلت له : إن علماء الشيعة يقولون بأنها خاصة بعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وقد اعترضت عليهم طبعا وقلت بأن بداية الآية تقول : «يا نساء النبي» ، فأجابوني لما كان الكلام عليهن جاءت الصيغة كلها بنون النسوة ، فقال تعالى : لستن ، ان اتقيتن ، فلا تخضعن ، وقلن ، وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، ولما كان هذا المقطع من الآية خاضعا بأهل البيت تغيرت الصيغة فقال : ليذهب عنكم ، ويطهركم ، فنظر إلي رافعا نظارته وقال : إياك وهذه الافكار المسمومة ، إن الشيعة يؤولون كلام الله على حسب أهوائهم ولهم في عليّ وذريته آيات لا نعرفها وعندهم قرآن خاص يسمونه مصحف فاطمة ، فأنا أحذرك أن يخدعوك.

قلت : لا تخف يا سيدي فأنا على حذر وأعرف عنهم الكثير ولكني أردت أن أتحقق ، قال : من أين أنت ، قلت من تونس ، قال فما اسمك؟ قلت : ـ التيجاني فضحك مفتخرا ، وقال هل تدري من هو أحمد التيجاني؟ قلت هو شيخ الطريقة ، قال وهو عميل للاستعمار الفرنسي ، وقد تركز الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس بإعانته ، وإذا زرت باريس فاذهب للمكتبة القومية واقرأ بنفسك القاموس الفرنسي في باب « أ » فسترى أن فرنسا أعطت وسام الشرف لاحمد التيجاني الذي قدم لها خدمات لا تقاس فتعجبت من قوله وشكرته وودعته وانصرفت.

بقيت في المدينة أسبوعا كاملا حيث صليت أربعين صلاة وزرت المزارات كلها ،

__________________

( ١ ) سورة الاحزاب : آية ٣٢.

٧٣

وكنت دقيق الملاحظة خلال إقامتي هناك فلم أزدد من الوهابية إلا بعدا ونفورا وارتحلت من المدينة المنورة إلى الاردن حيث التقيت أصدقاء هناك كنت تعرفت عليهم في ملتقى الحج الذي أشرت إليه سابقا.

وبقيت معهم ثلاثة أيام ، ووجدت عندهم حقدا على الشيعة أكثر مما عندنا في تونس فالروايات نفسها ، والاشاعات ذاتها ، وليس هناك واحد سألته عن الدليل إلا وقال بأنه يسمع عنهم ولم أجد احدا منهم جالس الشيعة أو قرأ كتابا للشيعة ولا حتى التقى شيعيا في حياته.

رجعت من هناك إلى سوريا وفي دمشق زرت الجامع الاموي وإلى جانبه مرقد رأس سيدنا الحسين كما زرت ضريح صلاح الدين الايوبي والسيدة زينب ومن بيروت قطعت مباشرة إلى طرابلس ودامت الرحلة أربعة أيام في البحر استرحت خلالها بدنيا وفكريا واستعرضت شريط الرحلة التي أوشكت على النهاية فإذا بي أستنتج ميلا واحتراما للشيعة وفي نفس الوقت بعدا ونفورا وسخطا على الوهابية التي عرفت دسائسها وحمدت الله على ما أنعم به علي وما أولاني من عناية ورعاية داعيا إياه سبحانه وتعالى أن يهديني إلى طريق الحق.

ورجعت إلى أرض الوطن وكلي شوق وحنين إلى أسرتي وأهلي وأصدقائي ، ووجدت الجميع بخير ، وفوجئت عند دخولي إلى منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي وعرفت مصدرها. ولما فتحت تلك الكتب التي ملات البيت ازددت حبا وتقديرا لاولئك. الذين لا يخلفون وعدهم وقد وجدت هنا أضعاف ما أهدي إلي هناك.

٧٤

بداية البحث

فرحت كثيرا ونظمت الكتب في بيت خاص سميته بالمكتبة ، واسترحت أياما ، وتسلمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنة الدراسية الجديدة فكان عملي ثلاثة أيام متوالية من التدريس وأربعة أيام متوالية من الراحة في الاسبوع.

وبدأت أقرأ الكتب فقرأت كتاب عقائد الامامية ، وأصل الشيعة وأصولها وارتاح ضميري لتلك العقائد وتلك الافكار التي يرتئيها الشيعة ، ثم قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي ، وما أن قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتاب وشدني إليه شدا فكنت لا أتركه إلا غضبا وكنت أحمله في بعض الاحيان إلى المعهد ، وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحله لما أشكل على العالم السني شيخ الازهر ، وجدت في الكتاب بغيتي لانه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش فالمراجعات هو حواريين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كل منهما صاحبه على كل شاردة وواردة ، على كل صغيرة وكبيرة متوخيين في ذلك المرجعين الاساسيين لكافة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها في صحاح السنة. فكان الكتاب بحق يمثل دوري كباحث يفتش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت وعلى هذا كان الكتاب مفيدا جدا وله فضل عليّ عميم.

ووقفت مبهوتا عندما كان يتكلم عن عدم امتثال الصحابة لاوامر الرسول ويسوق لذلك عدة أمثلة ، ومنها حادثة رزية يوم الخميس ، إذ لم أكن أتصور أن سيدنا عمر بن الخطاب

٧٥

يعترض على أمر رسول الله ويرميه بالهجر ، وظننت بادئ الامر أن الرواية هي من كتب الشيعة ، وازدادت دهشتي وحيرتي عندما رأيت العالم الشيعي ينقلها من صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وقلت في نفسي « إن وجدت هذا في صحيح البخاري فسيكون لي رأي ».

وسافرت إلى العاصمة ومنها اشتريت صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الامام أحمد وصحيح الترمذي وموطأ الامام مالك وغيرها من الكتب الاخرى المشهورة ، ولم أنتظر الرجوع إلى البيت فكنت طوال الطريق بين تونس وقفصة وأنا راكب في حافلة النقل العمومية أتصفح كتاب البخاري وأبحث عن رزية يوم الخميس متمنيا أن لا أعثر عليها ، ورغم أنفي وجدتها وقرأتها مرات عديدة فكانت كما نقلها السيد شرف الدين ، وحاولت تكذيب الحادثة برمتها واستبعدت أن يقوم سيدنا عمر بذلك الدور الخطير ولكن أنىّ لي تكذيب ما ورد في صحاحنا وهي صحاح أهل السنة والجماعة التي ألزمنا بها أنفسنا وشهدنا بصحتها ، والشك فيها ، أو تكذيب بعضها يستلزم طرحها لانه هو الآخر يستلزم طرح كل معتقداتنا ، ولو كان العالم الشيعي ينقل من كتبهم ما كنت لاصدق أبدا ، وأما أن ينقل من صحاح أهل السنة التي لا مجال للطعن فيها ، وقد أخذنا على أنفسنا بأنها أصح الكتب بعد كتاب الله فيصبح الامر ملزما وإلا استلزم الشك في هذه الصحاح وعند ذلك لا يبقى معنا من أحكام الاسلام شيء نعتمده ، لان الاحكام التي وردت في كتاب الله جاءت مجملة غير مفصلة ، ولاننا بعيدون عن عصر الرسالة وقد ورثنا أحكام ديننا أبا عن جد عن طريق هذه الصحاح ، فلا يمكن بحال من الاحوال طرح هذه الكتب.

وأخذت على نفسي عهدا وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير ، أن أعتمد الاحاديث الصحيحة التي اتفق عليها السنة والشيعة ، وأن أطرح الاحاديث التي انفرد بها فريق دون الآخر ، بهذه الطريقة المعتدلة ، أكون قد ابتعدت عن المؤثرات العاطفية ، والتعصبات المذهبية والنزعات القومية أو الوطنية ، وفي الوقت نفسه أقطع طريق الشك لاصل إلى حبل اليقين وهو صراط الله المستقيم.

٧٦

بداية الدراسة المعمقة

الصحابة عند الشيعة والسنة

من أهم الابحاث التي أعتبرها الحجر الاساسي في كل البحوث التي تقود إلى الحقيقة ، هو البحث في حياة الصحابة وشؤونهم وما فعلوه وما اعتقدوه لانهم عماد كل شيء ، وعنهم أخذنا ديننا وبهم نستضيء في الظلمات لمعرفة أحكام الله ، ولقد سبق لعلماء الاسلام ـ لقناعتهم بذلك ـ البحث عنهم وعن سيرتهم.

فألفوا في ذلك كتبا عديدة أمثال : اُسد الغابة في تمييز الصحابة ، وكتاب الاصابة في معرفة الصحابة ، وكتاب ميزان الاعتدال وغيرها من الكتب التي تناولت حياة الصحابة بالنقد والتحليل ولكنها من وجهة نظر أهل السنة والجماعة.

وثمة إشكال يتلخص في أن العلماء الاوائل غالبا ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الامويين والعباسيين الذين عرفوا بعدائهم لاهل البيت النبوي ، بل ولكل من يشايعهم ويتبع نهجهم ، ولهذا فليس من الانصاف الاعتماد على أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشردتهم وقتلتهم لانهم كانوا أتباع أهل البيت وكانوا مصدر تلك الثورات ضد السلطات الغاشمة والمنحرفة.

والمشكل الاساسي في كل ذلك هو الصحابة ، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله ذلك الكتاب الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة واختلافهم هذا هو الذي حرم الامة الاسلامية من هذه الفضيلة ورماها في الضلالة حتى انقسمت وتفرقت وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها.

٧٧

وهم الذين اختلفوا في الخلافة فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض وسبب ذلك تخلف الامة وانقسامها إلى شيعة علي وشيعة معاوية ، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل ، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة تتصل بطموحات الهيمنة على السلطة والحكم ...

فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شيء لولا الصحابة وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة. فالرب واحد والقرآن واحد والرسول واحد والقبلة واحدة وهم متفقون على ذلك وبدأ الخلاف والاختلاف في الصحابة من اليوم الاول بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في سقيفة بني ساعدة ، واستمر إلى يوم الناس هذا وسيستمر إلى ما شاء الله. وقد استنتجت من خلال الحديث مع علماء الشيعة أن الصحابة في نظرهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

فالقسم الاول وهم الصحابة الاخيار الذين عرفوا رسول الله حق المعرفة وبايعوه على الموت وصاحبوه بصدق في القول وبإخلاص في العمل ، ولم ينقلبوا بعده ، بل ثبتوا على العهد وقد امتدحهم الله جل جلاله ، في كتابه العزيز في العديد من المواقع ، وقد أثنى عليهم رسول الله في العديد من المواقع أيضا ، والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس ويترضون عليهم كما يذكرهم أهل السنة باحترام وتقديس أيضا.

والقسم الثاني ، وهم الصحابة الذين اعتنقوا الاسلام واتبعوا رسول الله أما رغبة أو رهبة ، وهولاء كانوا يمنون اسلامهم على رسول الله ، وكانوا يؤذونه في بعض الاوقات لا يمتثلون لاوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم مجالا في مقابل النصوص الصريحة حتى ينزل القرآن بتوبيخهم مرة وتهديدهم أخرى وقد فضحهم الله في العديد من الآيات وحذرهم رسول الله أيضا في العديد من الآحاديث النبوية والشيعة لا يذكرونهم إلا بأفعالهم بدون احترام ولا تقديس.

أما القسم الثالث من الصحابة : فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله للكيد له وقد أظهروا الاسلام وانطوت سرائرهم على الكفر وقد تقربوا ليكيدوا للاسلام والمسلمين عامة وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك

٧٨

الاسفل من النار وقد ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحذر منهم وعلم بعضا من أصحابه أسماءهم وعلاماتهم ، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم.

وهناك قسم خاص وإن كانوا من الصحابة فهم يتميزون عليهم بالقرابة وبفضائل خلقية ونفسية وخصوصيات اختصهم الله ورسوله بها لا يلحقهم فيها لاحق ، وهؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (١) وأوجب الصلاة عليهم كما أوجبها على رسوله ، وأوجب لهم سهما من الخمس (٢) كما أوجب مودتهم على كل مسلم كأجر للرسالة المحمدية (٣) ، فهم أولوا الامر الذين أمر بطاعتهم (٤) وهم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن ويعلمون المتشابه منه والمحكم (٥) ، وهم أهل الذكر الذين قرنهم رسول الله بالقرآن في حديث الثقلين وأوجب التمسك بهما (٦) ، وجعلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق (٧) ، والصحابة يعرفون قدر أهل البيت ويعظمونهم ويحترمونهم ، والشيعة يقتدون بهم ويقدمونهم على كل الصحابة ، ولهم في ذلك أدلة من النصوص الصريحة.

أما أهل السنة والجماعة فإنهم مع احترامهم لاهل البيت وتعظيمهم وتفضيلهم إلا أنهم لا يعترفون بهذا التقسيم للصحابة ولا يعدون المنافقين في الصحابة ، بل الصحابة في نظرهم خير الخلق بعد رسول الله. وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للاسلام والبلاء الحسن فيه فيفضلون الخلفاء الراشدين بالدرجة الاولى ثم الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة على ما يروونه. ولذلك تراهم عندما يصلون على النبي وأهل بيته يلحقون بهم الصحابة أجمعين بدون استثناء.

__________________

( ١ ) سورة الاحزاب : آية ٣٣.

( ٢ ) سورة الانفال : آية ٤١.

( ٣ ) سورة الشورى : آية ٢٣.

( ٤ ) سورة النساء : آية ٥٩.

( ٥ ) سورة آل عمران : آية ٧.

( ٦ ) حديث الثقلين ، ومن مصادره ؛ كنز العمال ج ١ ص ٤٤ ، مسند أحمد ج ٥ ص ١٨٢.

( ٧ ) حديث السفينة ؛ المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٥١ تلخيص الذهبي ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٨٤ و ٢٣٤.

٧٩

هذا ما أعرفه من علماء أهل السنة والجماعة ، وذاك ما سمعته من علماء الشيعة في تقسيم الصحابة ، وهذا ما دعاني إلى أن أجعل بحثي يبدأ بهذه الدراسة المعمقة حول الصحابة وعاهدت ربي ـ إن هداني ـ أن أتجرد من العاطفة لاكون حياديا ، موضوعيا ولاسمع القول من الطرفين فأتبع أحسنه ، ومرجعي في ذلك :

١ ـ القاعدة المنطقية السليمة ؛ وهي أن لا أعتمد إلا ما اتفقوا عليه جميعا بشأن التفسير لكتاب الله والصحيح من السنة النبوية الشريفة.

٢ ـ العقل ؛ فهو أكبر نعمة من نعم الله على الانسان ؛ إذ به كرمه وفضله على سائر مخلوقاته ، ألا ترى أن الله سبحانه عندما يحتج على عباده يدعوهم للتعقل بقوله :

« أفلا يعقلون ، أفلا يفقهون ، أفلا يتدبرون ، أفلا يبصرون الخ ... ».

وليكن إسلامي مبدئيا إيمانا بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الدين عند الله الاسلام ، ولا أعتمد في ذلك على أي واحد من الصحابة مهما كانت قرابته ومهما علت منزلته فأنا لست أمويا ولا عباسيا ولا فاطميا ، ولا سنيا ولا شيعيا وليست لي أي عداوة لابي بكر ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي ولا حتى لوحشي قاتل سيدنا الحمزة مادام أنه أسلم والاسلام يجب ما قبله وقد عفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما دمت أقحمت نفسي في هذا البحث بغية الوصول للحقيقة وما دمت قد تجردت من كل الافكار المسبقة بكل إخلاص فأنا أبدأ هذا البحث على بركة الله في مواقف الصحابة.

١ ـ الصحابة في صلح الحديبية :

مجمل القصة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب ، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة وقلدوا الهدي ليعلم قريشا أنه إنما جاء زائرا معتمرا وليس محاربا ، ولكن قريشا بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأن محمدا دخل عنوة إلى مكة وكسر شوكتها ، فبعثوا إليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبد ود العامري وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتى على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام ، وقد اشترطوا عليه

٨٠