ثم اهتديت

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

ثم اهتديت

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مدينة العلم ـ آية الله العظمى الخوئي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩١

هكذا ـ وللاسف ـ تكون إجاباتنا وهي كما ترى سفسطة لا يقول بها عقل ولا دين ولا يقر بها شرع ، اللهم إني أبرأ إليك من خطل الآراء وزلل الاهواء وأعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون.

كيف يحكم العقل السليم باجتهاد معاوية ويعطيه أجراً على حربه إمام المسلمين وقتله المؤمنين الابرياء وارتكابه الجرائم والآثام التي لا يحصي عددها إلا الله وقد اشتهر عند المؤرخين بقتله معارضيه وتصفيتهم بطريقته المشهورة وهو إطعامهم عسلا مسموما وكان يقول : « إن لله جنودا من عسل ».

كيف يحكم هؤلاء باجتهاده ويعطونه أجرا وقد كان إمام الفئة الباغية؟ ففي الحديث المشهور الذي أخرجه كل المحدثين من السنة والشيعة وسواهم : « ويح عمار تقتله الفئة الباغية » ولم يختلف اثنان من المسلمين على أن الذي قتل عمارا وأصحابه هو معاوية! كيف يحكمون باجتهاده وقد قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ودفنهم في مرج عذراء ببادية الشام لانهم امتنعوا عن سب علي بن أبي طالب.

كيف يريدونه صحابيا عادلا وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة وقتله.

كيف ينزهونه وقد أخذ البيعة من الامة بالقوة والقهر لنفسه أولا ثم لابنه الفاسق يزيد من بعده وبدل نظام الشورى بالملكية القيصرية (١).

كيف يحكمون باجتهاده ويعطونه أجرا وقد حمل الناس على لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر ، وقتل الصحابة الذين امتنعوا عن ذلك وأصبحت سنة متبعة يهرم عليها الكبير ويشيب عليها الصغير فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والسؤال يعود دائما ويتكرر ويلح : ترى أي الفريقين على الحق وأيهما على الباطل؟ فإما أن يكون علي وشيعته ظالمين وعلى غير الحق. وإما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلى غير الحق ، وقد أوضح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل شيء. وفي كلا الحالين فإن عدالة الصحابة كلهم من غير استثناء أمر مستحيل ، لا ينسجم مع المنطق السليم.

__________________

( ١ ) راجع : الخلافة والملك للمودودي. ويوم الاسلام لاحمد الامين.

١٢١

ولكل هذه المواضيع أمثلة كثيرة لا يحصي عددها إلا الله ولو أردت الدخول في التفصيل وبحث هذه المواضيع من كل جوانبها لاحتجت إلى مجلدات كثيرة ولكنني رمت الاختصار وأخذت في هذا البحث بعض الامثلة وهي بحمد الله كافية لابطال مزاعم قومي الذين جمدوا فكري ردحا من الزمن وحجروا علي أن أفقه الحديث أو أحلل الاحداث التاريخية بميزان العقل والمقاييس الشرعية التي علمنا إياها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ولذلك سوف أتمرد على نفسي وأنفض عني غبار التعصب الذي غلفوني به وأتحرر من القيود والاغلال التي كبلوني بها أكثر من عشرين عاما ولسان حالي يقول لهم : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. ياليت قومي اكتشفوا العالم الذي يجهلونه ويعادونه دون أن يعرفوه.

١٢٢

بداية التحول

بقيت متحيرا ثلاثة أشهر مضطربا حتى في نومي تتجاذبني الافكار وتموج بي الظنون والاوهام خائفا على نفسي من بعض الصحابة الذين أحقق في تاريخهم فأقف على بعض المفارقات المذهلة في سلوكهم ، لان التربية التي تلقيتها طيلة حياتي تدعوني إلى احترام أولياء الله والصالحين من عباده وتقديسهم ، الذين ( يؤذون ) من يقول فيهم سوءا أو يسيء إليهم الادب حتى في غيابهم وإن كانوا موتى.

ولقد قرأت في ما سبق في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري (١) : أن رجلا كان يشتم عمر بن الخطاب وكان أصحابه في القافلة ينهونه فلما ذهب يتبول لدغه أسود سالخ فمات لحينه وحفروا له لدفنه فوجدوا في القبر أسود سالخا ثم حفروا قبورا أخرى وفي كل مرة يجدون أسود سالخا ، فقال لهم أحد العارفين ادفنوه أنى شئتم فلو حفرتم الارض كلها لوجدتم أسود سالخا ذلك ليعذبه الله في الدنيا قبل الآخرة على شتمه سيدنا عمر.

ولذلك وجدتني وأنا أقحم نفسي في هذا البحث العسير خائفا محتارا وخصوصا لانني تعلمت في الفرع الزيتوني بأن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبوبكر الصديق ثم يأتي بعده سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق الذي يفرق الله به بين الحق والباطل ، ثم بعده سيدنا عثمان بن عفان ذو النورين الذي استحت منه ملائكة الرحمن ، ثم بعده سيدنا علي

__________________

( ١ ) كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري. هذه القصة توجد في حديثه عن الاسود السالخ.

١٢٣

باب مدينة العلم ، ثم يأتي بعد هؤلاء الاربعة الستة الباقون من العشرة المبشرين بالجنة وهم ، طلحة والزبير وسعد وسعيد ، وعبدالرحمن ، وأبوعبيدة ، ثم يأتي بعد هؤلاء الصحابة جميعا ، وكثيرا ما كانوا يعلموننا الاستدلال بالآية الكريمة ( لا نفرق بين أحد من رسله ) على وجوب النظر إلى بقية الصحابة بالمنظار نفسه دون خدش أي واحد منهم.

وعلى هذا خشيت على نفسي واستغفرت ربي مرات عديدة أردت فيها الانقطاع عن البحث في مثل هذه الامور التي تشككني في صحابة رسول الله وبالتالي تشككني في ديني ولكني وجدت من خلال الحديث مع بعض العلماء طيلة تلك المدة تناقضات لا يقبلها العقل وبدأوا يحذرونني من أنني إن واصلت البحث في أحوال الصحابة فسوف يسلب الله نعمته عني ويهلكني ، ومن كثرة معاندتهم وتكذيبهم كل ما أقول دفعني فضولي العلمي وحرصي على بلوغ الحقيقة إلى أن أقحم نفسي من جديد في البحث ووجدت قوة داخلية تدفعني دفعا.

١٢٤

محاورة مع عالم

قلت لاحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الابرياء وهتك الاعراض وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد. وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة لجيشه وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد حتى قال بعضكم : « قتل الحسين بسيف جده » لتبرير فعل يزيد. فلماذا لا أجتهد أنا في البحث وهو ما يجرني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر « واحد » ، على أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم واللعن ، وإنما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة. وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، والله سبحانه يعلم السرائر وما تخفى الصدور. أجابني العالم قائلا :

ـ يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان.

ـ فقلت ومن أغلقه؟.

ـ قال الائمة الاربعة.

ـ فقلت متحررا : الحمد لله إذ لم يكن الله هو الذي أغلقه ولا رسول الله ولا الخلفاء الراشدون الذين « أمرنا بالاقتداء بهم » فليس علي حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا.

ـ فقال : لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما ، منها علم التفسير

١٢٥

واللغة والنحو والصرف والبلاغة والاحاديث والتاريخ وغير ذلك.

ـ وقاطعته قائلا : أنا لن اجتهد لابين للناس أحكام القرآن والسنة أو لاكون صاحب مذهب في الاسلام ، كلا ، ولكن لاعرف من على الحق ومن على الباطل ، ولمعرفة إن كان الامام علي على الحق ، أو معاوية مثلا ولا يتطلب ذلك الاحاطة بسبعة عشر علما ، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبين الحقيقة.

ـ قال : وما يهمك أن تعرف ذلك « تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ». قلت : أتقرأ « ولا تسألون » بفتح التاء أم بضمها؟.

ـ قال : تسألون بالضم.

قلت : الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أن الله سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) و ( أن ليس للانسان إلا ما سعى ). وقد حثنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الامم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الانبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل. أما قولك « وما يهمني من هذا البحث »؟. نعم يهمني :

* أولاً : لكي أعرف ولي الله فأواليه وأعرف عدو الله فأعاديه وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه علي.

* ثانيا : يهمني أن أعرف كيف أعبدالله وأتقرب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جل وعلا لا كما يريدها مالك أو أبوحنيفة أو غيرهم من المجتهدين لاني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصلاة بينما يقول أبوحنيفة بوجوبها ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أن الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن « وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم » وهي صريحة في المسح ، فكيف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث ودليل.

١٢٦

ـ قال : بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لانها مذاهب إسلامية وكلهم من رسول الله ملتمس.

ـ قلت : أخاف أن أكون ممن قال الله فيهم : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) (١). يا سيدي أنا لا أعتقد بأن المذاهب كلها على حق مادام الواحد منهم يبيح الشيء ويحرمه الآخر ، فلا يمكن أن يكون الشيء حراما وحلالا في آن واحد والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتناقض في أحكامه لانه « وحي من القرآن » ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (٢). وبما أن المذاهب الاربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند الله ولا من عند رسوله لان الرسول لا يناقض القرآن.

ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة.

ـ قال : أنصحك لوجه الله تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين فهم أعمدة الاسلام الاربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء ....

ـ قلت : استغفر الله يا سيدي فأين رسول الله إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الاسلام؟.

أجاب : رسول الله هو ذاك البناء! هو الاسلام كله.

ابتسمت من هذا التحليل وقلت : استغفر الله مرة أخرى يا سيدي الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الاربعة بينما يقول الله تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) (٣).

فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الاربعة ولا من غيرهم وقد قال الله تعالى في هذا الصدد : (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا

__________________

( ١ ) سورة الجاثية : آية ٢٣.

( ٢ ) سورة النساء : آية ٨٢.

( ١ ) سورة الفتح : آية ٢٨.

١٢٧

ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون ) (١).

ـ قال : هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكون في كل شيء وتشككون في الدين ، وهذه من علامات الساعة فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ».

ـ فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل أعوذ بالله أن أشك في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الانبياء والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتهمني بهذا؟

ـ قال : أتهمك بأكثر من هذا لانك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال ( ص ) : « لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر ».

وقال في حق سيدنا عمر « عرضت عليّ أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض عليّ عمر وهو يجر قميصه ، قالوا ما أولته يا رسول الله قال : الدين ». وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر. ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق!!.

ـ ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالاثم ، فتحول من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبث الاشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر.

فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للامام مالك وصحيح البخاري وقلت يا سيدي : إن الذي بعثني على هذا الشك هو رسول الله نفسه وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق ، ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول الله (ص) : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو

__________________

( ١ ) سورة البقرة : آية ١٥١.

١٢٨

بكر ثم بكى ثم قال : « إننا لكائنون بعدك » (١).

ثم فتحت صحيح البخاري وفيه دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ من هذه؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه. قالت أسماء نعم ، قال سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وقالت كلا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه ، فلما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت يا نبي الله ، عمر قال كذا وكذا قال فما قلت له قالت كذا وكذا. قال : ليس بأحق بي منكم وله ولاصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان قالت فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي (ص) (٢).

وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الاحاديث تغيرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال : ( وقل رب زدني علما ).

فقلت : إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لانه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضلها عليه ، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضل أحدا حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الاحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها ، لانهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة ؛ قال الحاضرون! وكيف ذلك؟.

قلت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشهد على أبي بكر وقال له إنني لا أدري ماذا

__________________

( ١ ) موطأ الامام مالك ج ١ ص ٣٠٧. المغازي للواقدي ص ٣١٠.

( ٢ ) صحيح البخاري ج ٣ ص ٣٨٧ باب غزوة خيبر.

١٢٩

تحدثون بعدي! فهذا معقول جدا وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول ـ كما سبق ـ وقد بدل حتى ندم قبل وفاته وتمنى أن لا يكون بشرا. أما الحديث الذي يقول : « لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر » فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الاصنام أرجح إيمانا من أمة محمد بأسرها ، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والائمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهادا في سبيل الله ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا. ولو كان إيمانه يفوق إيمان الامة ماكانت سيدة النساء ، فاطمة بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة تصليها.

ولم يرد العالم بشيء ، ولكن بعض المجالسين قالوا : لقد بعث ـ والله ـ هذا الحديث الشك فينا ، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم وكفاني أحدهم الرد عليه إذ قال : كلا ، إن الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملا ، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبين لنا الآن أن ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث!! ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان ( وقل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ).

ذلك ما دفعني وشجعني على الدخول في البحث وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا يخلف وعده.

تواصل البحث ـ بكل دقة ـ ثلاث سنوات ، وذلك لأني أعيد ما أقرأ وأكرّر ـ في بعض الأحيان ـ قراءة الكتاب من الصفحة الأولى أخر صفحة.

قرأت كتاب المراجعات للامام شرف الدين وراجعته عدة مرات وقد فتح أمامي آفاقا سببت هدايتي وشرحت صدري لحب أهل البيت ومودتهم.

وقرأت كتاب الغدير للشيخ الاميني وأعدته ثلاث مرات لما فيه من حقائق دامغة واضحة جلية وقرأت كتاب فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصدر وكتاب السقيفة للشيخ

١٣٠

محمد رضا المظفر وفهمت منهما أسرارا غامضة اتضحت ، كما قرأت كتاب النص والاجتهاد فازددت يقينا ثم قرأت كتاب أبي هريرة لشرف الدين وشيخ المضيرة للشيخ محمود أبورية المصري وعرفت أن الصحابة الذين غيروا بعد رسول الله قسمان ، قسم غير الاحكام بما له من السلطة والقوة الحاكمة ، وقسم غير الاحكام بوضع الاحاديث المكذوبة على رسول الله (ص).

ثم قرأت كتاب الامام الصادق والمذاهب الاربعة لاسد حيدر وعرفت الفرق بين العلم الموهوب والعلم المكسوب عرفت الفرق بين حكمة الله التي يؤتيها من يشاء وبين التطفل على العلم والاجتهاد بالرأي الذي أبعد الامة عن روح الاسلام.

وقرأت كتبا أخرى عديدة للسيد جعفر مرتضى العاملي والسيد مرتضى العسكري والسيد الخوئي والسيد الطباطبائي والشيخ محمد أمين زين الدين وللفيروز آبادي ولابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة والفتنة الكبرى لطه حسين ، ومن كتب التاريخ قرأت تاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير وتاريخ المسعودي وتاريخ اليعقوبي ، وقرأت الكثير حتى اقتنعت بأن الشيعة الامامية على حق فتشيعت وركبت على بركة الله سفينة أهل البيت وتمسكت بحبل ولائهم لاني وجدت بحمد الله البديل عن بعض الصحابة الذين ثبت عندي أنهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى ولم ينج منهم إلا القليل وأبدلتهم بأئمة أهل البيت النبوي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وافترض مودتهم على الناس أجمعين.

فالشيعة ليسوا كما يدعي بعض علمائنا ، هم الفرس والمجوس الذين حطم سيدنا عمر كبرياءهم ومجدهم وعظمتهم في حرب القادسية ولذلك يبغضونه ويكرهونه!.

وأجبت هؤلاء الجاهلين بأن التشيع لاهل البيت النبوي لا يختص بالفرس بل الشيعة في العراق وفي الحجاز وفي سوريا ولبنان كل هؤلاء عرب كما يوجد الشيعة في الباكستان والهند وفي أفريقيا وأمريكا وكل هؤلاء ليسوا من العرب ولا من الفرس.

ولو اقتصرنا على شيعة إيران فإن الحجة تكون أبلغ إذ أنني وجدت الفرس يقولون بإمامة الائمة الاثني عشر وكلهم من العرب من قريش من بني هاشم عترة النبي ، فلو كان

١٣١

الفرس متعصبين ويكرهون العرب كما يدعي البعض لاتخذوا سلمان الفارسي إماما لهم لانه منهم وهو صحابي جليل عرف قدره كل من الشيعة والسنة على حد سواء.

بينما وجدت أهل السنة والجماعة ينقطعون في الامامة إلى الفرس فأغلب أئمتهم من الفرس كأبي حنيفة والامام النسائي والترمذي والبخاري ومسلم وابن ماجة والرازي والامام الغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرون يضيق بهم المقام فإذا كان الشيعة من الفرس يرفضون عمر بن الخطاب لانه حطم كبرياءهم وعظمتهم فبماذا نفسر رفض الشيعة له من العرب وغير الفرس فهذه دعوى لا تقوم على دليل ، وإنما رفض هؤلاء عمر للدور الذي قام به في إبعاد أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عن الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما سبب ذلك من فتن ومحن وقلاقل وانحلال لهذه الامة ويكفي أن يزاح الحجاب عن أي باحث حر وتكشف له الحقيقة حتى يرفضه بدون عداوة سابقة.

والحق إن الشيعة سواء كانوا من الفرس أم من العرب أم من غير هؤلاء قد خضعوا للنصوص القرآنية والنصوص النبوية واتبعوا إمام الهدى وأولاده مصابيح الدجى ولم يرضوا بغيرهم رغم سياسة الترغيب والترهيب التي قادها الامويون ومن بعدهم العباسيون طيلة سبعة قرون تتبعوا خلالها الشيعة تحت كل حجر ومدر وقتلوهم وشردوهم ومنعوهم العطاء ومحوا آثارهم وأثاروا حولهم الاشاعات والدعايات التي تنفر الناس منهم وبقيت هذه الآثار حتى اليوم.

ولكن الشيعة ثبتوا وصمدوا وصبروا وتمسكوا بالحق لا تأخذهم في الله لومة لائم وهم يدفعون حتى اليوم ثمن هذا الصمود ، وإني اتحدى أي عالم من علمائنا أن يجلس مع علمائهم ويجادلهم فلا يخرج إلا مستبصرا بالهدى الذي هم عليه.

نعم وجدت البديل والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله. الحمد لله والشكر له على أن دلني على الفرقة الناجية التي كنت أبحث عنها بلهف ولم يبق عندي أي شك في أن المتمسك بعلي وأهل البيت قد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، والنصوص النبوية على ذلك كثيرة أجمع عليها المسلمون ، والعقل وحده خير دليل لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فعلي كان أعلم الصحابة وأشجعهم على الاطلاق وذلك بإجماع الامة ، وهذا وحده كاف للدلالة على أحقيته ( ع ) للخلافة دون غيره ، قال

١٣٢

الله تعالى : ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) (١).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي » (٢).

وقال الامام الزمخشري في أبيات له :

كثر الشك والإختلاف وكل

يدعي أنه الصراط السوي

فمسكت بلا اله الا الله

وحبي لأحمد وعلي

فاز كلب بحب أصحاب كهف

كيف أشقى بحب آل النبي

نعم وجدت البديل بحمد الله ، وصرت اقتدي ـ بعد رسول الله ـ بأمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الامام علي بن أبي طالب وبسيدي شباب أهل الجنة وريحانتي النبي من هذه الامة الامام أبي محمد الحسن الزكي والامام أبي عبدالله الحسين وببضعة المصطفى سلالة النبوة وأم الائمة معدن الرسالة ومن يغضب لغضبها رب العزة والجلالة سيدة النساء فاطمة الزهراء.

وأبدلت الامام مالك بأستاذ الائمة ومعلم الامة الامام جعفر الصادق.

وتمسكت بالائمة التسعة المعصومين من ذرية الحسين أئمة المسلمين وأولياء الله الصالحين.

وأبدلت الصحابة المنقلبين على أعقابهم أمثال معاوية وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة وعكرمة وكعب الاحبار وغيرهم بالصحابة الشاكرين الذين لم ينقضوا عهد النبي أمثال عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الاسود وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين واُبي بن كعب وغيرهم والحمد لله على هذا الاستبصار.

وأبدلت علماء قومي ، الذين جمدوا عقولنا واتبع كثير منهم السلاطين والحكام في كل

__________________

( ١ ) سورة البقرة : آية ٢٤٧.

( ٢ ) صحيح الترمذي ج ٥ ص ٢٩٦ خصائص النسائي ص ٨٧ مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١٠.

١٣٣

زمان ، بعلماء الشيعة الابرار الذين ما أغلقوا يوما باب الاجتهاد ولا وهنوا ولا استكانوا للامراء والسلاطين الظالمين.

نعم أبدلت أفكارا متحجرة متعصبة تؤمن بالتناقضات بأفكار نيرة متحررة ومتفتحة تؤمن بالدليل والحجة والبرهان.

وكما يقال في عصرنا الحاضر : « غسلت دماغي من أوساخ كثفتها عليه ـ طوال ثلاثين عاما ـ أضاليل بني أمية وطهرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا لما تبقى من حياتي.

اللهم أحينا على ملتهم وأمتنا على سنتهم واحشرنا معهم فقد قال نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله « يحشر المرء مع من أحب ».

وبذلك أكون قد رجعت إلى أصلي ، فقد كان أبي وأعمامي يحدثوننا حسب الشجرة التي يعرفونها أنهم من السادة الذين هربوا من العراق تحت الضغط العباسي ولجأوا إلى شمال أفريقيا حيث أقاموا في تونس وبقيت آثارهم حتى اليوم.

وهناك في شمال أفريقيا كثيرون مثلنا يسمون الاشراف لانهم من السلالة الطاهرة ولكنهم تاهوا في ضلالات الامويين والعباسين ولم يبق عندهم من الحقيقة شيء إلا ذلك الاحترام والتقدير الذي يكنه لهم الناس ، فالحمد لله على هدايته والحمد لله على استبصاري وفتح بصري وبصيرتي على الحقيقة.

١٣٤

أسباب الاستبصار

أما الاسباب التي دعتني للاستبصار فكثيرة جدا ولا يمكن لي في هذه العجالة إلا ذكر بعض الامثلة منها :

١ ـ النص على الخلافة :

لقد اليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلا ما هو موثوق عند الفريقين وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون الاخرى ، وعلى ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأن الخلافة إنما كانت بالنص على علي كما يدعي الشيعة أو بالانتخاب والشورى كما يدعي أهل السنة والجماعة.

والباحث في هذا الموضوع إذا تجرد للحقيقة فإنه سيجد النص على علي بن أبي طالب واضحا جليا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » قال ذلك بعد ما انصرف من حجة الوداع فعقد لعلي موكب للتهنئة حتى أن أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنئين للامام ويقولان : « بخ بخ لك يا أبن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة » (١).

__________________

( ١ ) مسند الامام أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٢٨١ سر العالمين للامام الغزالي ص ١٢. تذكرة الخواص لابن الجوزي ص ٢٩ الرياض النضرة للطبري ج ٢ ص ١٦٩ كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٧ البداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢١٢ تاريخ ابن عساكر ج ٢ ص ٥٠ تفسير الرازي ج ٣ ص ٦٣ الحاوي للفتاوي للسيوطي ج ١ ص ١١٢.

١٣٥

وهذا النص مجمع عليه من الشيعة والسنة ، ولم أخرج أنا في البحث ـ هذا ـ إلا مصادر أهل السنة والجماعة ومع ذلك لم أذكر المصادر كلها فهي أكثر بكثير مما ذكرت ، وللاطلاع على مزيد من التفصيل ادعو القارئ إلى مطالعة كتاب الغدير للعلامة الاميني وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلدا يحصي فيها المصنف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنة والجماعة.

أما الاجماع المدعى على انتخاب أبي بكر يوم السقيفة ثم مبايعته بعد ذلك في المسجد ، فإنه دعوى بدون دليل ، إذ كيف يكون الاجماع وقد تخلف عن البيعة علي والعباس وسائر بني هاشم كما تخلف أسامة بن زيد والزبير وسلمان الفارسي وأبوذر الغفاري والمقداد بن الاسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبوبريدة الاسلمي والبراء بن عازب واُبي بن كعب وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وأبوأيوب الانصاري وجابر بن عبدالله وخالد بن سعيد وغير هؤلاء كثيرون (١).

فأين الاجماع المزعوم يا عباد الله؟ على أنه لو كان علي بن أبي طالب وحده تخلف عن البيعة لكان ذلك كافيا للطعن في ذلك الاجماع إذ أنه المرشح الوحيد للخلافة من قبل الرسول على فرض عدم وجود النص المباشر عليه.

وإنما كانت بيعة أبي بكر عن غير مشورة بل وقعت على حين غفلة من الناس وخصوصا أولي الحل والعقد منهم كما يسميهم علماء المسلمين إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه ، وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحمل الناس على البيعة بعد ذلك قهرا (٢). كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة إن لم يخرج المتخلفون عن البيعة فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأن البيعة كانت بالمشورة وبالاجماع.

وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأن تلك البيعة كانت فلتة وقى الله المسلمين

__________________

( ١ ) تاريخ الطبري ، تاريخ ابن الاثير ، تاريخ الخلفاء ، تاريخ الخميس ، الاستيعاب ، وكل من ذكر بيعة أبي بكر.

( ٢ ) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج ١ ص ١٨.

١٣٦

شرها ، وقال فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ؛ أو قال فمن دعا إلى مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه (١).

ويقول الامام علي في حقها : « أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير (٢).

ويقول سعد بن عبادة سيد الانصار الذي هاجم أبا بكر وعمر يوم السقيفة وحاول بكل جهوده أن يمنعهم ويبعدهم عن الخلافة ولكنه عجز عن مقاومتهم لانه كان مريضا لا يقدر على الوقوف ، وبعدما بايع الانصار أبا بكر قال سعد : والله لا أبايعكم أبدا حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجتمع بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم ، ولو يجد عليهم أعوانا لطال بهم ، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم ، ولم يزل كذلك حتى قتل بالشام في خلافة عمر (٣).

فإذا كانت هذه البيعة فلتة وقى الله المسلمين شرها على حد تعبير عمر الذي شيد أركانها وعرفت ما آلت إليه أمور المسلمين بسببها.

وإذا كانت هذه الخلافة تقمصا ـ من قبل أبي بكر ـ كما وصفها الامام علي إذ قال بأنه هو صاحبها الشرعي.

وإذا كانت هذه البيعة ظلما كما اعتبرها سعد بن عبادة سيد الانصار الذي فارق الجماعة بسببها.

وإذا كانت هذه البيعة غير شرعية لتخلف أكابر الصحابة والعباس عم النبي عنها.

فما هي إذن الحجة في صحة خلافة أبي بكر؟ والجواب لا حجة هناك عند أهل السنة والجماعة.

__________________

( ١ ) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٢٧.

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ج ١ ص ٣٤ الخطبة الشقشقية.

( ٣ ) تاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٧.

١٣٧

فقول الشيعة إذن هو الصحيح في هذا الموضوع ، لانه ثبت وجود النص على خلافة علي عند السنة أنفسهم ، وقد تأولوه حفاظا على كرامة الصحابة ، فالمنصف العادل لا يجد مناصا من قبول النص وبالاخص إذا عرف ملابسات القضية (١).

٢ ـ خلاف فاطمة مع أبي بكر

وهذا الموضوع أيضا مجمع على صحته من الفريقين فلا يسع المنصف العاقل إلا أن يحكم بخطأ أبي بكر إن لم يعترف بظلمه وحيفه على سيدة النساء. لان من يتتبع هذه المأساة ويطلع على جوانبها يعلم علم اليقين أن أبا بكر تعمد إيذاء الزهراء وتكذيبها لئلا تحتج عليه بنصوص الغدير وغيرها على خلافة زوجها وابن عمها علي ونجد قرائن عديدة على ذلك ، منها ما أخرجه المؤرخون من أنها ـ سلام الله عليها ـ خرجت تطوف على مجالس الانصار وتطلب منهم النصرة والبيعة لابن عمها ، فكانوا يقولون : « يا ابنة رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبوالحسن إلا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (٢).

ولو كان أبو بكر مخطئا عن حسن نية أو على اشتباه لاقنعته فاطمة الزهراء ولكنها غضبت عليه ولم تكلمه حتى ماتت ، لانه رد في كل مرة دعواها ولم يقبل شهادتها ولا شهادة زوجها ولكل هذا اشتد غضبها عليه حتى أنها لم تأذن له بحضور جنازتها حسب وصيتها لزوجها الذي دفنها في الليل سرا (٣).

وعلى ذكر دفنها ـ سلام الله عليها ـ سرا في الليل فقد سافرت خلال سنوات البحث إلى المدينة المنورة لاطلع بنفسي على بعض الحقائق ، واكتشفت :

أولا : أن قبر الزهراء مجهول لا يعرفه أحد فمن قائل بأنه في الحجرة النبوية ومن

__________________

( ١ ) راجع : السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود ، والسقيفة للشيخ محمد رضا المظفر.

( ٢ ) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج ١ ص ١٩. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( بيعة أبي بكر ).

( ٣ ) صحيح البخاري ج ٣ ص ٣٦ صحيح مسلم ج ٢ ص ٧٢ باب لا نورث ما تركناه صدقة.

١٣٨

قائل بأنه في بيتها مقابل الحجرة النبوية ، وثالث يقول : « إنه في البقيع وسط قبور أهل البيت بدون تحديد ».

هذه الحقيقة الاولى التي استنتجت منها أنها ـ سلام الله عليها ـ أرادت بهذا أن يتسأل المسلمون عبر الاجيال عن السبب الذي دعاها أن تطلب من زوجها أن يدفنها في الليل سرا ولا يحضر جنازتها منهم أحدا!!! وبذلك يمكن لاي مسلم أن يصل إلى بعض الحقائق المثيرة من خلال مراجعة التاريخ.

ثانيا : اكتشفت أن الزائر الذي يريد زيارة قبر عثمان بن عفان يمشي مسافة طويلة حتى يصل إلى آخر البقيع فيجده تحت الحائط بينما يجد أغلب الصحابة مدفونين في بداية البقيع قرب المدخل وحتى مالك بن أنس صاحب المذهب وهو من تابعي التابعين مدفون قرب زوجات الرسول ، وتحقق لدي ما قاله المؤرخون من أنه دفن بحش كوكب وهي أرض يهودية لان المسلمين منعوا دفنه في بقيع رسول الله ، ولما استولى معاوية بن أبي سفيان على الخلافة اشترى تلك الارض من اليهود وأدخلها في البقيع ليدخل بذلك قبر ابن عمه عثمان فيها والذي يزور البقيع حتى اليوم سيري هذه الحقيقة بأجلى ما تكون.

وإن عجبي لكبير حين أعلم أن فاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ أول من لحق بأبيها فبينها وبينه ، ستة أشهر على أكثر الاحتمالات ثم لا تدفن إلى جانب أبيها.

وإذا كانت فاطمة الزهراء هي التي أوصت بدفنها سرا فلم تدفن بالقرب من قبر أبيها كما ذكرت فما بال ما حصل مع جثمان ولدها الحسن لم يدفن قرب قبر جده؟! فقد منعت هذا ( أم المومنين ) عائشة وقد فعلت ذلك عندما جاء الحسين بأخيه الحسن ليدفنه إلى جانب جده رسول الله ، فركبت عائشة بغلة وخرجت تنادي وتقول : لا تدفنوا في بيتي من لا أحب. واصطف بنو أمية وبنو هاشم للحرب ولكن الامام الحسين قال لها أنه سيطوف بأخيه على قبر جده ثم يدفنه في البقيع لان الامام الحسن أوصاه أن لا يهرقوا من أجله ولو محجمة من دم. وقال لها ابن عباس أبياتا مشهورة :

تجملت (١) تبغلت (٢)

ولو عشت تفيلت

١٣٩

لك التسع من الثمن

وبالكل تصرفت

وهذه حقيقة أخرى من الحقائق المخيفة ، فكيف ترث عائشة كل البيت من بين أزواج النبي المتعددات وهن تسع نساء حسب ما قاله ابن عباس :

وإذا كان النبي لا يورث كما شهد بذلك أبو بكر نفسه ومنع ذلك ميراث الزهراء من أبيها فكيف ترث عائشة؟ فهل هناك في كتاب الله آية تعطي الزوجة حق الميراث وتمنع البنت؟ أم أن السياسة هي التي أبدلت كل شيء فحرمت البنت من كل شيء وأعطت الزوجة كل شيء؟.

وبالمناسبة أذكر هنا قصة طريفة ذكرها بعض المؤرخين ولها علاقة بموضوع الارث.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة : جاءت عائشة وحفصة ودخلتا على عثمان أيام خلافته وطلبتا منه أن يقسم لهما إرثهما من رسول الله (ص).

وكان عثمان متكئا فاستوى جالسا وقال لعائشة :

أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهر ببوله وشهدتما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : نحن معشر الانبياء لا نورث فإذا كان الرسول حقيقة لا يورث فماذا تطلبان بعد هذا ، وإذا كان الرسول يورث لماذا منعتم فاطمة حقها؟ فخرجت من عنده غاضبة وقالت : أقتلوا نعثلا فقد كفر (١).

٣ ـ علي أولى بالاتباع :

ومن الاسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والاجداد ، الموازنة العقلية والنقلية بين علي بن إبي طالب وأبي بكر.

وكما ذكرت في الابواب السابقة من هذا البحث إني أعتمد على الاجماع الذي يوافق عليه أهل السنة والشيعة.

وقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعا إلا على علي بن أبي طالب فقد أجمع على إمامته الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص ثبتتها مصادر الطرفين ، بينما لا يقول

__________________

( ١ ) إشارة إلى ركوبها الجمل في حرب الجمل المشهورة.

١٤٠