الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

السبي ، مع أنهم أخرجوهن لهدف هو عكس ذلك تماما.

ولكن الأمر بالنسبة للمسلمين (الحقيقيين) كان على عكس ذلك تماما كما سنرى.

عنصر السرية لتلافي الأخطار المحتملة :

قد رأينا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» يأمر أبيا بكتمان خبر مسير قريش ، ويستفيد من عنصر السرية ، كي لا يفسح المجال أمام الحرب النفسية ، التي لا بد أن يمارسها اليهود والمنافقون ضد المسلمين ؛ وليفوت الفرصة عليهم ، ويحبط مؤامراتهم المحتملة ؛ لأنهم في الحقيقة ـ وهم العدو الواقعي ـ هم العدو الأخطر ، والمطلع على مواطن الضعف والقوة لدى المسلمين. أي أن إعلان الأمر في وقت مبكر لسوف يستدعي إصرارا على معرفة خطة المواجهة مع العدو ، وهذا يسهل على المتآمرين والخونة وضع الخطط اللازمة لإفشال خطة المسلمين في الدفاع عن أنفسهم.

كما أنه يعطي أعداءهم الفرصة لإعلام قريش بالأمر ، وبكل الخصوصيات اللازمة لمواجهة خطة المسلمين وإفشالها ، أو على الأقل تكبيد المسلمين أكبر عدد ممكن من الخسائر. وعنصر السرية هذا قد اعتمده النبي «صلى الله عليه وآله» في أكثر من موقف في معركة أحد هذه وفي غيرها ، كما سنرى.

المشركون في طريق المدينة :

ولما انتهت قريش إلى الأبواء ، ائتمروا في أن ينبشوا قبر أم محمد «صلى الله عليه وآله» ، وقالوا : «فإن النساء عورة ؛ فإن يصب من نسائكم أحدا ، قلتم : هذه رمة أمك. فإن كان برا بأمه ـ كما يزعم ـ فلعمري لنفادينهم برمة

٦١

أمه ، وإن لم يظفر بأحد من نسائكم ، فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير ، إن كان بها برا» (١).

وكانت زعيمة هذا الرأي هند زوجة أبي سفيان ، فاستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش ، فقالوا : لا تذكر من هذا شيئا ؛ فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.

وسارت قريش حتى نزلت بذي الحليفة ، وسرّحوا إبلهم في زروع المدينة ، التي كان المسلمون قد أخلوها من آلة الزرع قبل ذلك ، وأرسل النبي «صلى الله عليه وآله» بعض العيون لمراقبتهم ، وأرسل أيضا الحباب بن المنذر سرّا لمعرفة عددهم وعدتهم ، وقال له : إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين ، إلا أن ترى في القوم قلة ، فرجع إليه فأخبره خاليا ، وأمره الرسول «صلى الله عليه وآله» بالكتمان (٢).

ونشير نحن هنا إلى أمرين :

الأول : معرفة النبي صلى الله عليه وآله بواقع أصحابه :

إن سبب أمره «صلى الله عليه وآله» عينه الذي أرسله إليهم بذلك واضح ، فإن معرفة المسلمين بعددهم وعدتهم سوف يثبط من عزائم بعضهم ، ممن اعتادوا أن يقيسوا الأمور بالمقاييس المادية ، ولم يتفاعلوا بعد مع دينهم وعقيدتهم ، بشكل كامل ، ولا اطلعوا على تعاليم الإسلام وأهدافه ، وارتبطوا بها عقليا ، ووجدانيا ، وعاطفيا ، وسلوكيا ، بنحو أعمق وأقوى ، وإنما دخلوا في

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٠٦.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٠٧ و ٢٠٨.

٦٢

الإسلام ، إما عن طريق الإعجاب ، أو القناعة العقلية. ولم تمض على دخولهم فيه إلا فترة قصيرة جدا.

الثاني : الإفلاس على كل صعيد :

إن ما فكر به القرشيون من نبش قبر أمه «صلى الله عليه وآله» ، إنما يعبر عن مدى الإسفاف الفكري لدى قريش ، حتى إنها لتفكر باتباع أبشع أسلوب وأدناه في حربها مع المسلمين. وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على أمور :

أحدها : إفلاسهم على صعيد المنطق والفكر ، وحتى على صعيد الخلق الإنساني ، بل والعلاقات والضوابط المعقولة ، في المواجهة مع المسلمين الذين هم القمة في كل ذلك.

الثاني : مدى حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين.

الثالث : مدى عمق الجرح ، وعنف الصدمة الساحقة التي تلقتها قريش في بدر ، ولا تزال تتلقاها على صعيد طرق قوافل تجارتها إلى الشام ، ويحتمل إلى الحبشة أيضا.

النبي صلى الله عليه وآله يستشير أصحابه :

ويقول المؤرخون : إنه لما نزل المشركون قرب المدينة ، وبثّ المسلمون الحرس عليها ، وخصوصا على مسجد الرسول ، وأراد «صلى الله عليه وآله» الشخوص ، فجمع أصحابه للتشاور في أمر جيش لم يواجه المسلمون مثله من قبل ، عدة وعددا.

ويذكرون أيضا : أنه «صلى الله عليه وآله» أخبرهم برؤيا رآها ، رأى

٦٣

بقرا يذبح ، وأن في سيفه ثلمة ، وأنه في درع حصينة ، فأول البقر : بناس من أصحابه يقتلون.

والثلمة : برجل من أهل بيته يقتل.

والدرع : بالمدينة.

وللرواية نصوص أخرى لا مجال لها.

وإذا كانت رؤيا النبي «صلى الله عليه وآله» من الوحي ، وكانت هذه الرواية صحيحة ؛ فإن ذلك يكون توطئة لإعلامهم بالموقف الصحيح ، وأن عليهم أن يلتزموا بتوجيهات رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيما يرتبط بالتخطيط والتنفيذ في المواجهة مع العدو.

ولكنهم اتجهوا في مواقفهم وقراراتهم نحو العكس من ذلك ، حيث يقولون : إن ابن أبي قد أشار بالبقاء في المدينة ، فإذا أقبل العدو رماه الأطفال والنسوة بالحجارة ، وقاتله الرجال بالسكك. وإن أقام في خارج المدينة أقام في شر موضع.

وكان «صلى الله عليه وآله» ـ كما يقولون ـ كارها للخروج من المدينة أيضا. ولكن من لم يشهد بدرا ، وطائفة من الشباب المتحمسين الذين ذاقوا حلاوة النصر في بدر ، ومعهم حمزة بن عبد المطلب ، وأهل السن ، قد رغبوا بالخروج وأصروا عليه ، لأنهم ـ كما يقول البعض ـ يرون خيل قريش وإبلها ترعى زروعهم ، وتعيث فيها فسادا.

واحتجوا لذلك : بأن إقامتهم في المدينة ستجعل عدوهم يظن فيهم الجبن ، فيجرؤ عليهم.

وقالوا : (وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل ؛ فأظفرك الله بهم ، ونحن

٦٤

اليوم بشر كثير).

بعد أن ذكروا : أن هذا أمر قد ساقه الله إليهم في ساحتهم.

قال نعيم بن مالك : يا نبي الله ، لا تحرمنا الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده لأدخلنها.

فقال له «صلى الله عليه وآله» : بم؟

قال : بأني أحب الله ورسوله ، ولا أفر من الزحف.

فقال له «صلى الله عليه وآله» : صدقت.

وقال له أنصاري : متى نقاتلهم يا رسول الله ، إن لم نقاتلهم عند شعبنا؟

وقال آخر : إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها لتقول : حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها ؛ فتكون هذه جرأة لقريش ، وها هم قد وطأوا سعفنا ، فإذا لم نذبّ عن عرضنا فلم ندرع؟!.

وقال آخر : إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع ، وتستجلب العرب في بواديها ، ومن اتبعها من أحابيشها ، ثم جاؤونا قد قادوا الخيل ، واعتلوا الإبل ، حتى نزلوا ساحتنا ؛ فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا؟ ثم يرجعون وافرين لم يكلموا؟! فيجرؤهم ذلك علينا ، حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطلالنا ، ويضعوا العيون والأرصاد علينا. مع ما قد صنعوا بحروثنا ، ويجترئ علينا العرب حولنا الخ ..

وثمة كلام آخر هنا يروى عن حمزة وغيره لا مجال له هنا ، فمن أراد المزيد فعليه بمراجعة المصادر.

وأبى كثير من الناس إلا الخروج ، فنزل «صلى الله عليه وآله» على رأي غالبية الناس ، ثم دخل بيته ليلبس لامة الحرب. ففي هذه الأثناء أدركهم

٦٥

الندم على إصرارهم على النبي «صلى الله عليه وآله» واستكراههم له ، وهو أعلم بالله وما يريد ، ويأتيه الوحي من السماء.

فلما خرج النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم وقد لبس لامته ، ليتوجه مع أصحابه إلى حرب قريش ، قالوا : يا رسول الله ، امكث كما أمرتنا.

فقال «صلى الله عليه وآله» : ما ينبغي لنبي إذا أخذ لامة الحرب أن يرجع حتى يقاتل (١).

ثم وعظهم وعقد الألوية ، وخرج بجيشه لحرب قريش وجمعها.

وفي رواية : أنهم لما صاروا على الطريق قالوا : نرجع.

قال «صلى الله عليه وآله» : ما كان ينبغي لنبي إذا قصد قوما أن يرجع عنهم.

وههنا أمور هامة لا بد من التنبيه عليها :

__________________

(١) راجع جميع ما تقدم في : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٦٧ و ٦٨ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢١ و ٤٢٢ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٨ و ٢١٩ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٨٨ ـ ١٩٠ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٩٢ و ٩٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ٢٠٨ و ٢٢٦.

وراجع أيضا : السيرة النبوية لابن اسحاق ص ٣٢٤ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٥٠ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٥ و ٢٦ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢ و ١٣ ، وراجع ص ١١ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٠٨ ـ ٢١١ و ٢١٤ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٣ ، وسيرة المصطفى ص ٣٩٥ و ٣٩٦ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٠٧.

٦٦

ألف : هل النبي صلى الله عليه وآله يحتاج إلى رأي أحد؟!

قد تقدم في أوائل هذا الكتاب في فصل «سرايا وغزوات قبل بدر» ، وفي نفس موقعة بدر بعض الكلام حول استشارة الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» لأصحابه في أمر الحرب.

ونعود هنا للإشارة إلى هذا الأمر من جديد ، على أمل أن يضم القارئ ما كتبناه هنا وهناك ، وهنالك ، بعضه إلى بعض ، ويستخلص النتيجة المتوخاة من طرح هذا الموضوع ، والإشارة إلى جوانبه المختلفة فنقول : إنه لا ريب في حسن المشاورة وصلاحها.

وقد ورد الحث عليها في الأخبار الكثيرة.

ويقولون : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد شاور أصحابه في أكثر من مرة ومناسبة ، حتى نزل في مناسبة حرب أحد قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ..)(١).

وعن ابن عباس بسند حسن : لما نزلت : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي ؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيا (٢).

__________________

(١) الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ من سورة آل عمران.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٠ عن ابن عدي ، والبيهقي في شعب الايمان.

٦٧

والسؤال هنا هو : إنه إذا كان الله ورسوله غنيين عنها ، فلماذا يأمر الله تعالى نبيه بأن يشاور أصحابه في الأمر؟!.

وسؤال آخر ، وهو : هل يمكن بضم الآية التي في سورة الشورى :

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(١) ، وبضم سائر الروايات التي تحث على الاستشارة ـ هل يمكن ـ أن نفهم من ذلك : ضرورة اتخاذ الشورى كمبدأ في الحكم والسياسة ، وفي الإدارة ، وفي سائر الموارد والمواقف ، حسبما تريد بعض الفئات أن تتبناه ، وتوحي به على أنه أصل إسلامي أصيل ومطرد؟!.

الجواب عن السؤال الأول :

أما الجواب عن السؤال الأول : فنحسب أن ما تقدم في الجزء السابق من هذا الكتاب في فصل سرايا وغزوات قبل بدر ، وكذا ما تقدم من الكلام حول الشورى في بدر (٢) كاف فيه ، ونزيد هنا تأييدا لما ذكرناه هناك ما يلي :

١ ـ قد يقال : إن بعض الروايات تفيد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يستشير أصحابه إلا في أمر الحرب.

فقد روي بسند رجاله ثقات ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كتب أبو بكر إلى عمرو بن العاص : إن رسول الله شاور في الحرب ، فعليك به (٣).

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة الشورى.

(٢) راجع غزوة بدر.

(٣) مجمع الزوائد ج ٥ ص ٣١٩ عن الطبراني ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٨ عن كنز العمال ج ٢ ص ١٦٣ عن البزار والعقيلي وسنده حسن ، والدر المنثور ج ٢ ص ٩٠ عن الطبراني بسند جيد عن ابن عمرو.

٦٨

وإن كنا نرى : أن هذا لا يفيد نفي استشارته «صلى الله عليه وآله» في غير الحرب.

٢ ـ إن قوله تعالى في سورة آل عمران : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) خاص بالمشاورة في الحرب ، لأن اللام في الآية ليست للجنس بحيث تشمل كل أمر ، بل هي للعهد ، أي شاورهم في هذا الأمر الذي يجري الحديث عنه ، وهو أمر الحرب ، كما هو واضح من الآيات السابقة واللاحقة ؛ فالتعدي إلى غير الحرب يحتاج إلى دليل.

٣ ـ إن الآية تنص على أن استشارة النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه لا تعني أن يأخذ برأيهم حتى ولو اجتمعوا عليه ؛ لأنها تنص على أن اتخاذ القرار النهائي يرجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه ، حيث قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

٤ ـ لقد ذكر العلامة السيد عبد المحسن فضل الله «رحمه الله» : أن الأمر في الآية ليس للوجوب ؛ وإلا لكانت بقية الأوامر في الآية كذلك ، ويلزم منه وجوب العفو عن كبائرهم حتى الشرك. وإذا كان الضمير في الآية يرجع إلى الفارين فهو يعني : أن الشورى تكون لأهل الكبائر من أمته ، مع أن الله قد نهى رسوله عن إطاعة الآثم ، والكفور ، ومن أغفل الله قلبه (١).

فالحق : أن الأمر وارد عقيب توهم الحظر عن مشاورة هؤلاء ، ليبيح

__________________

(١) راجع : سورة الكهف آية ٢٩ ، والأحزاب آية ٥٦ ، والدهر آية ٣٤ ، وأقول : وتنافي أيضا الآية التي في سورة الشورى التي خصت الشورى بالمؤمنين الذين لهم صفات معينة.

٦٩

مشاورتهم ، ومعاملتهم معاملة طبيعية (١).

٥ ـ إن رواية ابن عباس المتقدمة تفيد : أن استشارته «صلى الله عليه وآله» أصحابه لا قيمة لها على صعيد اتخاذ القرار ؛ لأن الله ورسوله غنيان عنها ، لأنهما يعرفان صواب الآراء من خطئها ، فلا تزيدهما الاستشارة علما ، ولا ترفع جهلا ، وإنما هي أمر تعليمي أخلاقي للأمة ؛ بملاحظة فوائد المشورة لهم ؛ لأنها تهدف إلى الإمعان في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول المختلفة. فعن علي أمير المؤمنين «عليه السلام» : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها (٢).

وعنه أيضا : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه (٣).

وعن أنس عن النبي «صلى الله عليه وآله» : ما خاب من استخار ، وما ندم من استشار (٤).

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.

وإذا كانت الاستشارة أمرا تعليميا أخلاقيا ، فلا محذور على الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» فيها.

ب : من أهداف استشارته صلّى الله عليه وآله لأصحابه :

يقول الشهيد السعيد ، الشيخ مرتضى مطهري ، قدس الله نفسه الزكية : إن

__________________

(١) راجع : الإسلام وأسس التشريع ص ١١١ ـ ١١٣ للعلامة السيد عبد المحسن فضل الله.

(٢) نهج البلاغة ج ٣ ص ١٩٢ الحكمة رقم ١٦١.

(٣) نهج البلاغة ج ٣ ص ٢٠١ الحكمة رقم ٢١١.

(٤) الدر المنثور ج ٢ ص ٩٠ عن الطبراني في الأوسط ، وأمالي الطوسي ص ٨٤.

٧٠

النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في مقام النبوة ، وفي حين كان أصحابه يتفانون في سبيله ، حتى ليقولون له : إنه لو أمرهم بأن يلقوا أنفسهم في البحر لفعلوا ، فإنه لا يريد أن ينفرد في اتخاذ القرار ، لأن أقل مضار ذلك هو أن لا يشعر أتباعه بأن لهم شخصيتهم وفكرهم المتميز ، فهو حين يتجاهلهم كأنه يقول لهم : إنهم لا يملكون الفكر والفهم والشعور الكافي ، وإنما هم مجرد آلة تنفيذ لا أكثر ولا أقل ، وهو فقط يملك حرية إصدار القرار ، والتفكير فيه دونهم.

وطبيعي أن ينعكس ذلك على الأجيال بعده «صلى الله عليه وآله» ، فكل حاكم يأتي سوف يستبد بالقرار ، وسيقهر الناس على الانصياع لإرادته ، مهما كانت ، وذلك بحجة أن له في رسول الله «صلى الله عليه وآله» أسوة حسنة. مع أنه ليس من لوازم الحكم ، الاستبداد بالرأي ، فقد استشار النبي «صلى الله عليه وآله» ـ وهو معصوم ـ أصحابه في بدر وأحد (١) انتهى.

ونزيد نحن هنا : أن ظروف وأجواء آية : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) تشعر بأنه قد كان ثمة حاجة لتأليف الناس حينئذ ، وجلب محبتهم وثقتهم ، وإظهار العطف والليونة معهم ، وأن لا يفرض الرأي عليهم فرضا ، رحمة لهم ، وحفاظا على وحدتهم واجتماعهم ، ولمّ شعثهم ، وجمع كلمتهم ، وكبح جماحهم؟!

فالآية تقول : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٢).

فكأنه كان قد بدر من أصحابه أمر سيء يستدعي العفو عنهم واللين

__________________

(١) جريدة (جمهوري إسلامي) الفارسية عدد ٣٠ ربيع الأول ١٤٠٠ ه‍.

(٢) الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

٧١

معهم ، وإرجاع الاعتبار إليهم ، ليطمئنوا إلى أن ما بدر منهم لم يؤثر على مكانتهم عنده ، فلا داعي لنفورهم منه.

يضاف إلى ذلك : أنه حين يكون الأمر مرتبطا بالحرب ، فإن الأمر يحتاج إلى قناعة تامة بها ، واستعداد لتحمل نتائجها ، وإقدام عليها بمحض الإدارة والإختبار من دون ممارسة أي إكراه أو إجبار في ذلك ..

هذا كله ، عدا عما قدمناه حين الكلام على بدر ، وعلى السرايا التي سبقتها ، في الجزء السابق من هذا الكتاب ، فليراجع.

الجواب عن السؤال الثاني :

نشير إلى ما يلي :

١ ـ ما قدمناه : من أن قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(١) ليس إلا أمرا تعليميا أخلاقيا ، وليس إلزاميا يوجب التخلف عنه العقاب ، وإنما يمكن أن يوجب وقوع الإنسان في بعض الأخطاء ، فيكون عليه أن يتحمل آثارها ، ويعاني من نتائجها.

٢ ـ إن الضمير في (أَمْرُهُمْ) يرجع إلى المؤمنين ، والمراد به الأمر الذي يرتبط بهم ؛ فالشورى إنما هي في الأمور التي ترجع إلى المؤمنين وشؤونهم الخاصة بهم ، وليس للشرع فيها إلزام أو مدخلية ، كما في أمور معاشهم ونحوها ، مما يفترض في الإنسان أن يقوم به. أما إذا كان ثمة الزام شرعي فـ (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٢) (وَأَطِيعُوا اللهَ

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة الشورى.

(٢) الآية ٣٦ من سورة الأحزاب.

٧٢

وَالرَّسُولَ)(١). فمورد الحكم ، والسياسة ، والإدارة ، وغير ذلك ، لا يمكن أن يكون شورائيا إلا إذا ثبت أن الشارع ليس له فيه حكم ، ونظر خاص.

وقد قال العلامة الطباطبائي «رحمه الله» : «والروايات في المشاورة كثيرة جدا ، وموردها ما يجوز للمستشير فعله وتركه بحسب المرجحات.

وأما الأحكام الإلهية الثابتة ، فلا مورد للاستشارة فيها ، كما لا رخصة فيها لأحد ، وإلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى» (٢).

٣ ـ قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٣) ظاهر في كون ذلك في ظرف كونه حاكما وواليا عليهم ؛ فإن عليه أن يستشيرهم في هذا الظرف. وهذا لا يعني أبدا أن يكون نفس الحكم شورائيا وانتخابيا ، بأي وجه.

هذا كله ، عدا عن احتمال أن يكون هذا الأمر واردا في مقام توهم الحظر ، فلا يدل على أكثر من إباحة المشاورة ، ولا يدل على الإلزام بها. وهو احتمال قوي كما أوضحناه في ما سبق.

٤ ـ إن القرار النهائي يتخذه المستشير نفسه ، ولربما وافق رأي الأكثر ، ولربما خالفهم.

ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٤).

وليس في الآية إلزام برأي الأكثرية ، بل ولا برأي الكل لو حصل إجماعهم على رأي واحد.

__________________

(١) الآية ١٣٢ من سورة آل عمران.

(٢) تفسير الميزان ج ٤ ص ٧٠.

(٣) الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

(٤) الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

٧٣

٥ ـ إن هذه الشورى التي دل عليها قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(١) ليست لكل أحد ، وإنما هي خاصة بأولئك المؤمنين الذين لهم تلك الصفات المذكورة في الآيات قبل وبعد هذه العبارة ، وليس ثمة ما يدل على تعميمها لغيرهم ، بل ربما يقال بعدم التعميم قطعا ، فقد قال تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(٢).

فهؤلاء الذين صرحت الآيات بإيمانهم وبحيازتهم لهذه الصفات ، هم أهل الشورى دون أحد سواهم (٣) ، وليس لغيرهم الحق في أن يشاركهم فيها ، لأن ذلك الغير ، لا يؤمن على نفسه ، فكيف يؤمن على مصالح العباد ، ودمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم؟!.

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة الشورى.

(٢) الآيات من ٣٦ إلى ٣٩ من سورة الشورى.

(٣) واحتمال : أن يكون المعنى : ما عند الله خير وأبقى لجماعات مختلفة وهم :

أ ـ الذين آمنوا.

ب ـ الذين يجتنبون كبائر الإثم الخ ..

هذا الاحتمال خلاف الظاهر هنا ، فإن المراد أن الذين يجمعون هذه الصفات هم الذين يكون ما عند الله خير وأبقى لهم. وإلا فلو كان أحد ينتصر على من بغى عليه ولكنه غير مؤمن مثلا ، فلا شك في أن ما عند الله ليس خيرا وأبقى له. وكذا لو كان أمرهم شورى بينهم وهم غير مؤمنين.

٧٤

واللافت : أننا لا نجد لعلي «عليه السلام» أي حضور في مواقع الاعتراض أو الاقتراح على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لأنه كان دائما في موقع التسليم لرسول الله ، والرضا بما يرضاه صلوات الله وسلامه عليهما.

ج : نظرية : خلافة الإنسان ، وشهادة الأنبياء :

ويقول الشهيد السعيد ، السيد محمد باقر الصدر ، قدس الله نفسه الزكية ، ما ملخصه : إن الله عز وجل قد جعل الخلافة لآدم «عليه السلام» ، لا بما أنه آدم ، بل بما أنه ممثل لكل البشرية ، فخلافة الله في الحقيقة هي للأمة وللبشر أنفسهم ، فقد قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

كما أن المراد بالأمانة في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٢) هذه الخلافة بالذات ، وهي التي تعني الإدارة والحكم في الكون.

واستشهد على ذلك أيضا بقوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)(٣).

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.

(٣) الآية ٢٦ من سورة ص.

٧٥

وبقوله تعالى : (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)(١).

وبقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ)(٢).

ورتب على ذلك : أنه بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وفقد الإمام ، وتحرر الأمة من الطاغوت ، تمارس الأمة دورها في الخلافة الزمنية ، ويكون دور المجتهد المرجع هو الشهادة والرقابة على الأمة.

وقال ما ملخصه : إن الله هو رب الأرض وخيراتها ، ورب الإنسان والحيوان ، فالإنسان مستخلف على كل ذلك. ومن هنا كانت الخلافة في القرآن أساسا للحكم.

وقد فرع الله الحكم بين الناس على جعل داود خليفة. ولما كانت الجماعة البشرية هي التي منحت ـ ممثلة بآدم ـ هذه الخلافة ، فهي إذا المكلفة برعاية الكون ، وتدبير أمر الإنسان ، والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية.

وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة ، وهو أن الله تعالى قد أناب الجماعة البشرية في الحكم ، وقيادة الكون وإعماره ، اجتماعيا وطبيعيا.

وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم ، وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله. وفي عملية إعداد وتربية الأمة يتولى النبي والإمام مسؤولية الرقابة والشهادة على الأمة ، ومسؤولية الخلافة ؛ ليهيئ الأمة لتحمل مسؤولياتها في الوقت المناسب.

__________________

(١) الآية ٦٩ من سورة الأعراف.

(٢) الآية ١٤ من سورة يونس.

٧٦

وبعد أن فقد الإمام «عليه السلام» ، بسبب ظروف معينة عرضت لها الأمة ؛ فإن المرجع ـ غير المعصوم ـ لا بد أن يتولى أمر الخلافة والشهادة ما دامت الأمة محكومة للطاغوت ، ومقصاة عن حقها في الخلافة العامة.

«وأما إذا حررت الأمة نفسها ، فخط الخلافة ينتقل إليها ؛ فهي التي تمارس الخلافة السياسية والاجتماعية في الأمة ، بتطبيق أحكام الله ، وعلى أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الرباني.

وتمارس الأمة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١).

فإن النص الأول : يعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى ، ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك.

والنص الثاني : يتحدث عن الولاية ، وأن كل مؤمن ولي الآخرين. ويريد بالولاية تولي أموره ، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه.

والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية.

وينتج عن ذلك : الأخذ بمبدأ الشورى ، وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.

وهكذا ، وزع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطين بين المرجع

__________________

(١) الآية ٧١ من سورة التوبة.

٧٧

والأمة ، وبين الاجتهاد الشرعي والخلافة الزمنية» (١) إلى آخر كلامه قدس الله نفسه الزكية.

مناقشة ما تقدم :

ونحن نسجل هنا النقاط التالية :

أولا : إن الآية القرآنية التي استدل بها رحمه الله تقول : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

فإذا كان تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليلا على أن المراد بالولاية هو تولي أمور بعضهم البعض ، كما ذكره قدس الله نفسه الزكية ، فما هو وجه تفريع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ذلك؟!.

ولم لا يفهم من الآية : أنها ـ فقط ـ في مقام إعطاء حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمؤمنين جميعا ؛ فهي تجعل لهم الولاية بهذا المقدار ، لا أكثر؟!.

بل لم لا يفهم منها : أنها في مقام إعطائهم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بسبب محبة بعضهم بعضا ، أو بسبب كون بعضهم تابعا لبعض ، ومطيعا له ، أو بسبب نصرته له ، ونحو ذلك.

__________________

(١) هذا محصل ما جاء في كتاب : خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء للشهيد الصدر ، والفقرات الأخيرة هي في ص ٥٣ و ٥٤.

(٢) الآية ٧١ من سورة التوبة.

٧٨

فقد وردت للولي معان كثيرة ، ومنها : المحب ، والصديق ، والنصير ، والولي : فعيل ، بمعنى فاعل ، من وليه إذا قام به ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)(١).

بل إن من يلاحظ آيات إعطاء الولاية للمؤمنين وسواها من الآيات ، يخرج بحقيقة : أن الله سبحانه يريد للناس المؤمنين أن يكونوا أمة واحدة ، وبمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء.

وكل هذه الأعضاء للجسد الواحد إنما تحافظ على ذلك الواحد بكل ما تقدر عليه ، وذلك بالدفاع عنه ؛ وبالنصيحة لجماعة ولأئمة المسلمين.

فالله ولي الذين آمنوا بالتشريع ، وحفظ المصالح والحكم ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وللنبي «صلى الله عليه وآله» وللإمام «عليه السلام» الولاية أيضا بجعل من الله ، بهدف تدبير أمورهم وقيادتهم.

والمؤمنون المرؤوسون للنبي «صلى الله عليه وآله» وللإمام «عليه السلام» بعضهم أولياء بعض في النصيحة وحفظ الغيب ، والاهتمام بأمور بعضهم بعضا ، والنصرة ، والمعونة ، فليس معنى الولاية هو الحكومة لكل واحد منهم على الآخر أو على المجتمع ، بل ولي المجتمع والحاكم فيه هو الله سبحانه.

وكخلاصة لما تقدم نقول :

إن كل هذه المعاني محتملة في الآية المشار إليها ـ إن لم يكن من بينها (وهو الأخير) ما هو الأظهر ـ وليس فيها ما يوجب تعين كون الولي فيها

__________________

(١) الآية ٢٥٧ من سورة البقرة.

٧٩

بمعنى الحاكم ، والمتولي للأمر.

ثانيا : لو كانت هذه الآية تعطي حقا للمؤمنين في أن يحكم بعضهم بعضا ؛ فاللازم أن تعطي الآيات الأخرى هذا الحق بالذات للكفار ، وتصير حكومتهم على بعضهم البعض شرعية!!

فقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)(١).

فبقرينة المقابلة في الآية هنا بين ولاية المؤمنين التي نشأت عنها مسؤوليات النصر وغير ذلك من أمور ، تدل على أن المراد بالولاية تولي الأمور ، وبين الآية الدالة على ولاية الكفار بعضهم لبعض ، تكون النتيجة هي : جعل الحاكمية للكفار أيضا بالنسبة لبعضهم فيما بينهم ، لو كان المراد بالولاية هو تولي الأمور كما يريد المستدل أن يقول.

ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(٢).

__________________

(١) الآيتان ٧٢ و ٧٣ من سورة الأنفال.

(٢) الآية ٥١ من سورة المائدة.

٨٠