الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

ج : مع موقف عمير في أصالته ونبله :

١ ـ يلاحظ : أن عمير بن وهب ينحي ولد العصماء عن صدرها ، ثم يقتلها.

وهذا يؤكد : على أن الإسلام قد ربى أتباعه على أنه ليس ضد الإنسان ، وإنما هو ضد مواقفه وتصرفاته المنحرفة عن الحق ، والعدل ، والفطرة.

فهو يريد فقط : أن يقضي على مصدر الخطر على الحق والفطرة.

وحينما لا يبقى ثمة سبيل إلا القضاء على مصدر الفتنة ؛ وحيث يكون آخر الدواء الكي ؛ فإنه لا بد أن يكتفى بالحد الأدنى ، الذي يتحقق فيه الهدف الأقصى ، وهو إقامة الدين والحق.

٢ ـ ثم إننا لنكبر هذا التعقل النادر لعمير في موقف حرج وخطير كهذا ، حتى إنه ليملك في هذه اللحظات الحساسة جدا أن يتخذ القرار الحاسم والمبدئي ، وكما يريده الإسلام ، بعيدا عن كل اضطراب وانفعال ، لا سيما وهو ضرير ، كما قيل ، أو ضعيف البصر.

نعم ، إنه يتصرف بهدوء واطمئنان ، ووعي ، حتى في أحرج اللحظات ، وأكثرها إثارة للأعصاب ، وتشويشا للحواس.

ومثل ذلك يقال بالنسبة لا متناعهم عن قتل المرأة التي كادت تفضحهم بصياحها في قضية أبي رافع ، حين تذكروا نهي النبي «صلى الله عليه وآله» عن قتل النساء والصبيان.

وهذه هي الشخصية الإسلامية التي يريدها الإسلام ، واستطاع أن يصدر للعالم الكثير من النماذج الحية لها ، من أمثال سلمان ، وعمار ، وأبي ذر ، والمقداد ، والأشتر ، وفوق هؤلاء جميعا سيدهم ، وإمامهم ، وأميرهم ، أمير

٢١

المؤمنين علي «عليه السلام» ، والأئمة من ولده صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ويكفي أن نذكر مثالا وقدوة لكل الأحرار ، والذين يعيشون المبدأ بكل وجودهم : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» حينما أراد أن يقتل عمرو بن عبدود ، فشتمه عمرو ، وتفل في وجهه ، قام عنه ، حتى ذهب عنه غضبه ، ثم عاد إليه فقتله ، فعل ذلك ليكون قتله له خالصا لله ، لا يتدخل فيه عنصر حب الانتقام لنفسه ، وغضبه لها ، ولو بشكل لا شعوري.

هذه من علاه إحدى المعالي

وعلى هذه فقس ما سواها

٣ ـ ثم هناك رواية شواهد النبوة ، التي تضيف : أن بعض الصحابة قد نفس على عمير هذا الوسام النبوي الذي ناله عن جدارة واستحقاق ، ولم يستطع أن يخفي ذلك في نفسه ، بل ظهر في فلتات لسانه بتعبير فيه شيء من الجفاء الجارح ، دعا الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» إلى محاولة حسم الموقف ، ثم التلطيف والتخفيف من وقع تلك العبارة ، ثم معاودة التأكيد على جدارة عمير ، واستحقاقه للثناء ، وعرفان حقه ، بقوله «صلى الله عليه وآله» : «مه يا عمر ، فإنه بصير».

٤ ـ وهناك أيضا موقف آخر لعمير في قومه ، الذي أدى إلى أن يعز الإسلام فيهم ، ويسلم منهم رجال. فإن في ثقة عمير بنفسه وبدينه ، وصلابته في التعبير عن هذه الثقة ، حتى لقد صرح لهم : أنه لم يعد يخشى أحدا على الإطلاق ـ إن في ذلك ـ ما يجعل كل من يتردد في قبول الإسلام ، بسبب خوفه ، وضعف نفسه ، يشعر بأن بإمكانه أن يجد في الإسلام نصيرا ومعينا وحاميا له ، ولم يعد ثمة ما يبرر موقفه السلبي منه.

٢٢

ولأجل هذا نجد : أن عددا منهم يدخل في الإسلام ، حينما شعر بعزة الإسلام وبقوته في تلك القبيلة.

د : ابن الأشرف وأبو سفيان :

وفي قضية ابن الأشرف يواجهنا سؤال أبي سفيان لكعب عن الدين الحق ، ثم محاولة أبي سفيان الاستدلال على أحقية دينه بما تقدم ، من أنهم يطعمون الجزور الكوماء ، ويسقون اللبن على الماء الخ.

ونحن هنا نسجل ما يلي :

١ ـ إن ذلك يؤيد ما قدمناه ، من أن العرب كانوا يرون في اليهود مصدرا للمعرفة والثقافة.

وقد استقر ذلك في نفس عمر بن الخطاب ، حتى إنه كان يأتي بترجمة التوراة إلى النبي «صلى الله عليه وآله» حتى أظهر النبي «صلى الله عليه وآله» انزعاجه من ذلك ، حسبما قدمناه في مدخل هذه الدراسة ، حين الكلام حول المرسوم العام ، حيث قال النبي «صلى الله عليه وآله» لعمر بن الخطاب : أمتهوكون أنتم؟!

هذا بالإضافة إلى أننا وإن كنا نكاد نطمئن إلى أن أبا سفيان لم يكن يجهل بأحقية دين الإسلام ، وأنه من أجلى مصاديق قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) وإنما هو يحارب الإسلام من أجل الحفاظ على مصالحه الشخصية ، وامتيازاته غير المشروعة ولا المعقولة ، التي كرسها له

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

٢٣

ولأمثاله العرف الجاهلي الظالم والمنحرف.

الا أننا نعتقد : أن أبا سفيان كان يهدف من سؤاله هذا لابن الأشرف اليهودي إلى خداع البسطاء والسذج من قومه وأتباعه ، من أجل ضمان استمرارهم معه في حرب الإسلام والمسلمين ، وجديتهم في ذلك.

٢ ـ إننا نلاحظ : أن كرم العرب هو أقصى ما استطاع أن يأتي به أبو سفيان كدليل على أحقية دينه.

وقد تقدم في أوائل هذا الكتاب ما يرتبط بقيمة ما عرف عن العرب من ميزات وخصائص فلا نعيد.

ه : تساؤل حائر :

إنهم يذكرون : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أعلن بشكل عام رغبته في قتل ابن الأشرف ، فقال : من لي بابن الأشرف؟

فانتدب له محمد بن مسلمة. ثم يذكرون كيفية احتيالهم عليه ، وقتلهم إياه.

ولكن السؤال هنا هو : كيف يعلن النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك ، ثم لا يصل الخبر إلى مسامع ابن الأشرف عن طريق مشركي المدينة أو يهودها ، أو على الأقل منافقيها؟!. وكيف جازت عليه حيلتهم بهذه السهولة ، وهو يعلم : أنه محارب؟!.

وعن محمد بن مسلمة ودوره في قتل ابن الأشرف ، تساورنا شكوك وشكوك ، فإن من يراجع كتب السيرة يلاحظ : أن ثمة كثيرا من التركيز على دوره في هذه القضية ، مع أن من يتأمل في وقائعها لا يجد له كبير أثر فيها ، بل الدور الأكبر هو لأبي نائلة. وابن مسلمة لو كان معهم ، فإنما كان كغيره ممن حضر.

٢٤

كما ويلاحظ : أن ثمة اهتماما في إعطائه بعض الأدوار الهامة في الدفاع عن الإسلام ، والدين. ونحن نشك في ذلك ، ولا نستبعد أن يكون للسياسة يد في هذا الأمر ، لإظهاره على أنه رجل شجاع ، مناضل ، مخلص الخ ..

في مقابل الآخرين ممن تهتم السلطة بإيجاد بدائل لهم وعنهم ، فإن محمد بن مسلمة كان ممن امتنع عن بيعة أمير المؤمنين «عليه السلام» (١).

وروي : أن عليا «عليه السلام» قال لعمار رحمه الله : «ذنبي إلى محمد بن مسلمة : أني قتلت أخاه يوم خيبر ، مرحب اليهود» (٢) ولعله كان أخا له من الرضاعة.

وفي شرح المعتزلي : أنه كان من المهاجمين لبيت فاطمة «عليها السلام» ، وأنه هو الذي كسر سيف الزبير (٣) وكان أيضا أحد ثقات الخليفة الثاني ومعتمديه ، كما نص عليه البلاذري وغيره (٤).

كما أن عمر قد بعثه إلى الشام في مهمة قتل سعد بن عبادة كما يقول البعض (٥).

وقد عينه عمر لاقتصاص أخبار العمال ، وتحقيق الشكايات التي تصل

__________________

(١) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٥٣ ، وقاموس الرجال ج ٨ ص ٣٨٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٩.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٥٤ ، وقاموس الرجال ج ٨ ص ٣٨٨.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٨ ، وقاموس الرجال ج ٨ ص ٣٨٨.

(٤) الزهد والرقائق لابن المبارك ص ١٧٩ ، وراجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٦٧.

(٥) راجع في كل ذلك : قاموس الرجال ج ٨ ص ٣٨٨.

٢٥

إلى الخليفة من عماله (١).

و : التنافس القبلي :

ولقد رأينا : أن التنافس القبلي بين الأوس والخزرج ، حينما وظف في خدمة الإسلام والمسلمين آتى ثمارا خيرة. فكان قتل الخزرج لأبي رافع واحدة من تلك الثمار ، وكان هو النتيجة البناءة الطبيعية لهذا التنافس ، الذي سعى النبي «صلى الله عليه وآله» إلى تغيير منطلقاته ، وأهدافه ، لتكون في خدمة الدين والحق والخير للإنسان ، الفرد والجماعة على حد سواء.

ز : جهل وغرور ابن الأشرف :

إن غرور كعب بن الأشرف ، واعتداده الزائد بنفسه ، حتى ليقول لزوجته عن أبي نائلة : إنه لو وجده نائما لما أيقظه ، والأهم من ذلك جهله بالتغيير الجذري الذي يحدثه الإسلام في نفس وفي شخصية الإنسان ، هو الذي أوقعه في الفخ الذي نصبه له أولئك المجاهدون البواسل ، الذين نذروا أنفسهم لخدمة دينهم الحق.

ولو أنه كان قد أدرك ما كان حويصة قد أدركه في أخيه محيصة ، وعاش الواقع الحي الذي يواجهه ، وحاول أن يتفاعل معه ، وتخلى عن عنجهيته وغروره ، لما كان ينبغي أن يسبقه حويصة إلى التشرف بالإسلام.

__________________

(١) التراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٦٧ عن سيرة عمر.

٢٦

ح : الإسلام والإنسان :

وقد سبق : أن حويصة حينما عرف أن هذا الدين قد بلغ بأخيه : أنه لو أمره الرسول «صلى الله عليه وآله» بقتل أخيه لقتله ، أدرك أحقية هذا الدين ، وتشرف بالدخول فيه.

وسبق كذلك : أن أحد الإخوة يبارز أخاه في صفين ، ويلقيه على الأرض ، ويجلس على صدره ليذبحه ، فلما رأى وجهه عرف أنه أخاه ، ولكنه بقي مصرا على قتله ، رغم تدخل الآخرين لمنعه ، ولم يقبل أن يتركه إلا إذا أذن له أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فأذن له ، فتركه حينئذ (١).

وهذه الدرجة من اليقين ، هي التي دعت عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى : أن يستأذن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» في قتل أبيه المنافق ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا مجال لاستقصائها (٢).

كما أن هذا اليقين هو الذي أشار إليه عمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه ، حينما قال عن الجيش الذي جاء لمحاربة أمير المؤمنين «عليه السلام» :

«والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر ، لعرفت أنّا على حق وهم على باطل» (٣).

__________________

(١) صفين للمنقري ص ٢٧١ و ٢٧٢.

(٢) تفسير الصافي ج ٥ ص ١٨٠ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٢٢٤ عن عبد بن حميد وابن المنذر ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤.

(٣) صفين للمنقري ص ٣٢٢ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٢٧ ، وقاموس الرجال ج ٧ ص ١١٣.

٢٧

فعمار لم ير النصر العسكري ، والقوة العسكرية مقياسا للحق والباطل ، كما هو شأن ضعاف النفوس. بل هو يجعل النصر والهزيمة رهن الحق والباطل. فالمحق منتصر دائما ، حتى حينما يكون منهزما عسكريا وسياسيا ، والمبطل هو المنهزم ، وإن كان منتصرا على الصعيد العسكري والسياسي وغير ذلك في ظاهر الأمر.

نعم ، إن قضية «حويصة ومحيصة» تمثل لنا الشخصية التي يريد الإسلام ، واستطاع الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» من بعده : أن يصنعوا منها نماذج متفوقة ، تعتبر حب الله متفوقا على كل حب ، ورابطة العقيدة تسمو على كل رابطة (١).

ولكن لم تستطع سائر الأجهزة التي حكمت باسم الإسلام ، وتحت شعار خلافة النبوة ، أن تصنع ولو نموذجا واحدا من هذا القبيل ، حتى ولو في المستوى الأدنى ، إلا إذا كان ذلك عن طريق خداع بعض السذج ببعض الشعارات البراقة ، والأساليب الشيطانية ، فينقادون لهم ، ويؤخذون بسحرهم.

وهذا ليس هو محط كلامنا ، فنحن نتكلم عن الإيمان العميق المدعوم بالعقيدة الراسخة ، والمنطلق من الوعي والفكر ، والرؤية الصحيحة. فإذا لوحظ وجود فرد يتجه في هذا السبيل ، فإنك ستجده ـ حتما ـ يرتبط بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة بنحو من الارتباط والاتصال.

وبعد ما تقدم ، فإننا لا بد أن نفسح المجال أمام الحديث عن المرحلة الثانية ، وهي مرحلة الحرب العلنية ، فإلى الصفحات التالية ..

__________________

(١) راجع مقال : الحب في التشريع الإسلامي في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.

٢٨

الفصل السابع :

حروب علنية بين المسلمين واليهود

٢٩
٣٠

قريش تحرض اليهود على نقض العهد :

قال عبد الرزاق : وكتب كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : «إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن صاحبنا ، أو لنفعلن كذا وكذا. ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم ، وهو الخلاخل ـ (شيء) ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير [على] الغدر الخ ..».

ثم يذكر قضية غدر بني النضير ، وما جرى بينهم وبين المسلمين (١).

ونحن نستقرب أن يكون بنو قينقاع هم أول من استجاب لطلب قريش هذا ، لا سيما وأن قريشا قد كتبت لهم بعد بدر ، وكان نقض بني قينقاع للعهد بعد بدر أيضا. أما قضية بني النضير فقد كانت في السنة الرابعة بعد أحد ، كما يقولون. وسيأتي الكلام حول ذلك في جزء آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

كما أن المؤرخين يقولون : إن بني قينقاع لما كانت وقعة بدر ، أظهروا البغي والحسد ، ونبذوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي «صلى الله عليه وآله» : أن لا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه عدوه ، نبذوه إلى رسول الله «صلى

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٥٩.

٣١

الله عليه وآله» ، وكانوا أول من غدر من اليهود (١).

تصعيد التحدي :

قالوا : وكان بنو قينقاع أشجع وأشهر قوم من اليهود ، وأكثر اليهود أموالا وأشدهم بغيا ، وكانوا صاغة ، وكانوا حلفاء لعبد الله بن أبي ، وعبادة بن الصامت. فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم ، إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم (٢) ؛ فجلست عند صائغ منهم ، لأجل حلي لها ؛ فأرادوها على كشف وجهها ، فأبت. فعمد الصائغ ، أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، وهي لا تشعر.

فلما قامت انكشفت سوأتها ؛ فضحكوا منها ؛ فصاحت ، فوثب مسلم على من فعل ذلك ، فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين ، فغضب المسلمون.

وقال «صلى الله عليه وآله» : «ما على هذا قررناهم» ؛ فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتولى الله ورسوله ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار.

وتمسك ابن أبي بالحلف ، وأصر على الرسول «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٠٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٨ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج ٢ ص ٢ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٧٦ و ١٧٧.

(٢) راجع هذه القضية في : الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٣٧ و ١٣٨ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣ و ٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٨.

٣٢

بتركهم ، وقال : «إنه امرؤ يخشى الدوائر ، فنزل فيه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(١) إلى قوله تعالى : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٢)» (٣).

فجمعهم النبي «صلى الله عليه وآله» في سوقهم ، وقال لهم : يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ؛ فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم ، وعهد الله إليكم.

قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنّا قومك؟! ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت لهم فرصة. إنّا والله ، لو حاربناك ، لتعلمن أنا نحن الناس.

فأنزل الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ، قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(٤).

وقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ)(٥). كذا

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٥٦ من سورة المائدة.

(٣) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٠ و ٢٩١ عن : ابن اسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر ، وابن أبي شيبة.

(٤) الآيتان ١٢ و ١٣ من سورة آل عمران.

(٥) الآية ٥٨ من سورة الأنفال.

٣٣

يقول المؤرخون.

فتحصن بنو قينقاع في حصونهم ، فاستخلف «صلى الله عليه وآله» على المدينة أبا لبابة ، وسار إليهم ، ولواؤه الأبيض (أو راية العقاب السوداء) يحمله أمير المؤمنين «عليه السلام».

(وقولهم : بيد حمزة ينافيه ما تقدم وسيأتي من الأدلة الكثيرة على أن عليا «عليه السلام» كان صاحب لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كل مشهد).

وحاصرهم النبي «صلى الله عليه وآله» خمس عشرة ليلة ، ابتداء من النصف من شوال السنة الثانية ، أو في صفر السنة الثالثة ، (وهو بعيد بملاحظة : أنهم إنما غضبوا من انتصار المسلمين في غزوة بدر).

وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وكانوا أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ؛ فسألوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أن يخلي سبيلهم ، ويجليهم عن المدينة ، وأن لهم نساءهم والذرية ، وله الأموال والسلاح.

فقبل «صلى الله عليه وآله» منهم ، وفعل بهم ذلك ، وأخذ أموالهم وأسلحتهم ، وفرقها بين المسلمين ، بعد أن أخرج منها الخمس ، وأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات (بلد بالشام).

فيقال : إنه لم يدر عليهم الحول حتى هلكوا.

وفي نص آخر : أنهم أنزلوا من حصونهم وكتفوا ، وأراد «صلى الله عليه وآله» قتلهم ، فأصر ابن أبي عليه «صلى الله عليه وآله» : أن يتركهم له بحجة أنه امرؤ يخشى الدوائر فلا يستطيع أن يتركهم ، وهم أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوه من الأحمر والأسود ، على حد تعبيره ؛ فاستجاب النبي «صلى الله عليه وآله» إلى طلبه وإصراره ، وأجلاهم.

٣٤

ونزل في ابن أبي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(١) إلى قوله تعالى : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٢).

وقبل أن نمضي في الحديث لا بد من تسجيل النقاط التالية :

ألف : نزول الآية في ابن أبي :

إن نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) في ابن أبي محل شك ، وذلك لما يلي :

١ ـ إن ابن أبي لم يكن مؤمنا ، والآية تخاطب الذين آمنوا.

هذا بالإضافة إلى ذكر النصارى في الآية ، ولم يكن للنصارى دور في قضية بني قينقاع.

الا أن يقال : إن الخطاب للمؤمنين ، وذكر النصارى إنما هو لإعطاء قاعدة كلية ، وتحذير المؤمنين من موقف يشبه موقف ابن أبي ، فما فعله ابن أبي كان سبب نزول الآية في تحذير المؤمنين من موقف كهذا.

٢ ـ إن الظاهر بل المصرح به هو أن سورة المائدة قد نزلت جملة واحدة في حجة الوداع سنة وفاته «صلى الله عليه وآله» (٣) ، وقضية بني قينقاع إنما

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٥٦ من سورة المائدة.

(٣) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر في الصلاة ، والطبراني ، وأبي نعيم في الدلائل ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن أبي شيبة ، والبغوي في معجمه ، وابن مردويه ، وأبي عبيدة وغيرهم.

٣٥

كانت قبل أحد.

فهل تأخر نزول الآية عن مناسبتها ما يقرب من ثماني سنين؟!!.

حقيقة القضية :

ولعل السر في دعوى نزول مجموع الآيات في هذه المناسبة ، هو الخداع والتضليل للسذج والبسطاء ، وتشكيكهم في قضية الغدير ، التي كانت ولا تزال الشوكة الجارحة في أعين شانئي علي «عليه السلام» ومبغضيه.

فالظاهر هو : أن هذه الآيات قد نزلت لتحذير المسلمين من الاتجاه الذي كانت بوادره تظهر وتختفي بين الحين والآخر ، من الاندفاع نحو أهل الكتاب بصورة عامة.

حتى لقد كان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» نفسه يواجه بعض ما يعبر عن هذا الاندفاع نحو الثقافة اليهودية ، والخضوع لهيمنة فكر أهل الكتاب عموما!!

وقد رأى النبي «صلى الله عليه وآله» في يد عمر (رض) ورقة من التوارة ، فغضب ، حتى تبين الغضب في وجهه ، ثم قال : ألم آتكم بها بيضاء نقية؟! والله ، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي.

وفي رواية : أمهوكون فيها يا بن الخطاب؟ الخ ..

وفي أخرى : أن عمر نسخ كتابا من التوراة بالعبرية ، وجاء به ، فجعل يقرؤه على رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

__________________

(١) راجع مقدمة ابن خلدون ص ٤٣٦ ، وأضواء على السنة المحمدية ص ١٦٢ ، والإسرائيليات في التفسير والحديث ص ٨٦ ، وفتح الباري ج ١٣ ص ٢٨١

٣٦

وقد قدمنا هذا الحديث مع مصادره في المدخل لدراسة هذه السيرة ، فراجع.

وقد ازداد هذا الاتجاه نحو ثقافة أهل الكتاب ، عنفا وقوة بعد وفاة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله». وهذا موضوع هام جدا ، ومتشعب الأطراف ؛ حيث إن علامات التأثر بأهل الكتاب قد ظهرت بشكل أو بآخر في كثير من المجالات : العقائدية ، والفكرية ، والفقهية ، وغير ذلك.

وقد بحثنا فيما سبق هذا الموضوع ، وتوصلنا فيه إلى العديد من النتائج المذهلة على صعيد الفكر ، والسياسة ، والعقيدة ، والتشريع. فليراجع.

ب : حول الراية :

إن ما يبدو : هو أن الراية في هذه الحرب كانت سوداء ، لأن هذه هي راية حرب ، وغضب رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أهل الكفر والشرك والضلال ، يقول الكميت مشيرا إلى ذلك :

وإلا فارفعوا الرايات سودا

على أهل الضلالة والتعدي

وقد كانت رايته «صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة سوداء ، وكانت راية أمير المؤمنين «عليه السلام» في حربه لأعدائه سوداء أيضا ، ولعل في هذا إلماما إلى أن من يحاربهم «عليه السلام» لا يفترقون عمن حاربهم الرسول «صلى الله عليه وآله» فيما سبق.

وسنشير في أوائل غزوة أحد إلى أن حامل لواء النبي «صلى الله عليه

__________________

عن ابن أبي شيبة وأحمد ، والبزار ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٣٨٧ ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة التي أشرنا إلى طائفة منها في تمهيد الكتاب.

٣٧

وآله» في جميع حروبه هو أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فكل ما يذكر خلاف ذلك ما هو إلا عربدة وتضليل.

وأما أن راية العقاب كانت قطعة من برد لعائشة ، كما ذكره الحلبي (١) ، فنحن نشك في ذلك ، لأنه هو نفسه قد ذكر في وقعة خيبر : أن «المقريزي لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ، ذكر : أن العقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب. وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان ، وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن أبي طلحة ، من بني عبد الدار» (٢).

والعبارة مشوشة كما ترى ، ولكنها تدل على أي حال على أن العقاب لم تكن من مرط عائشة. ثم إننا لا ندري لماذا اختار برد عائشة ليكون راية له!!.

ج : الخمس :

١ ـ وقد تقدم : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد فرق السلاح والأموال التي غنمها من بني قينقاع على المسلمين ، مع أنها كانت مما أفاء الله عليه ، فهي له دون غيره.

ولكنه «صلى الله عليه وآله» آثر أن يفرقها بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، إعانة لهم ، ولطفا بهم ، وعطفا عليهم.

٢ ـ وقالوا : إن خمس بني قينقاع كان أول خمس قبضه رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٣).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٩ وج ٣ ص ٣٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ و ٣٦.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٧٤.

٣٨

وهذا محل شك أيضا ، فقد تقدم قولهم : إنه قد خمس ما غنمه المسلمون من المشركين في غزوة «قرقرة الكدر». وكذا قيل في غزوة بدر ، وفي سرية ابن جحش.

وتوجيه ذلك بأن المراد هنا : أنه أول خمس قبضه ، وفيما تقدم كان «صلى الله عليه وآله» لا يقبض الخمس ، وإنما يرده على المسلمين ، خلاف الظاهر ، خصوصا إذا أثبت البحث العلمي : أنه «صلى الله عليه وآله» قد بقي يقسم الخمس على المسلمين ، كما فعل في غزوة حنين ، فلعل الرواة قد رووا هذه الأوليات بحسب حضورهم. فالذي حضر هذه الغزوة ورأى النبي «صلى الله عليه وآله» قد خمس غنائمها ، لعله لم يحضر التي قبلها ، وكذا الحال بالنسبة للراوي الآخر في الغزوة الأخرى ، فلا بد من التحقيق حول هذا الموضوع.

د : بعض أهداف ونتائج حرب بني قينقاع :

إن حرب المسلمين لبني قينقاع ، وهم أشجع اليهود ، وأكثرهم مالا ، والقضاء عليهم معناه :

١ ـ أنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يفسح المجال لهم ـ كما يقول العلامة الحسني ـ لأن (يطمعوا به ، ويكتلوا حولهم من يشاركهم الرأي من المنافقين والأعراب) ، لأن صبر النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم ، وأمره للمسلمين بالتحمل مهما أمكن ، جعل اليهود يظنون : أن هذا ناتج عن ضعف وخور ؛ فاستمروا في تحرشاتهم (١).

__________________

(١) راجع : سيرة المصطفى ص ٣٧٩.

٣٩

٢ ـ أن يسهل القضاء على الآخرين من الأعداء ، ممن هم أقل منهم قوة وعددا ، وعدة ومالا ، لأنهم إذا رأوا أن أصحاب الشوكة لم يستطيعوا أن يأتوا بشيء ، فإنهم سوف يقتنعون بأنهم ـ وهم الأضعف ـ أولى أن لا يأتوا بشيء أيضا.

٣ ـ إن ما غنمه المسلمون من بني قينقاع ، من شأنه أن يزيد من طموح عدد من الناس من المسلمين للقضاء على أعدائهم ، ويسهل عليهم الوقوف في وجههم ؛ حيث يرتاح بالهم من جهة معاشهم ، ولا يبقى ما من شأنه أن يثير مخاوفهم ، ويستبد بتفكيرهم.

٤ ـ كما أن ذلك : إنما يعني التخلص من عدو داخلي ، يعرف مواضع الضعف والقوة ، وربما يكون أخطر من العدو الخارجي بكثير.

٥ ـ ثم إن القضاء على اليهود كان يتم على مراحل ، وذلك بطبيعة الحال أسهل وأيسر من القضاء عليهم فيما لو كانوا مجتمعين دفعة واحدة ، وفي صعيد واحد ، يعين بعضهم بعضا ، ويشد بعضهم أزر بعض.

٦ ـ والمسلمون أيضا ، إذا رأوا أنفسهم قد استطاعوا القضاء على أشجع اليهود ، وأكثرهم قوة ونفوذا ، فإنهم سوف يتشجعون للقضاء على من سواهم ، ولا يبقى مجال للخوف ولا للتردد.

ه : الحجاب :

إن قضية المرأة التي أرادوها على كشف وجهها ، قد يقال : إنها تدل على أن الحجاب كان مفروضا حينئذ ، أي في السنة الثانية للهجرة ، مع أن المعروف هو : أن الحجاب قد فرض بعد ذلك بعدة سنين.

٤٠