الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

١ ـ أن تستعيد قريش ثقتها بنفسها ، ويزيد ذلك من إصرارها على حرب المسلمين ، وتصلبها في موقفها تجاههم.

٢ ـ أن تستغل ذلك إعلاميا ، بحيث تضعف من مكانة محمد «صلى الله عليه وآله» في نفوس القبائل ، ويزيدون جرأة على مناجزته ومقاومته ؛ ويسهل عليهم الاستجابة لدعوة حربه.

٣ ـ أن يصبح سلطان النبي «صلى الله عليه وآله» في المدينة في معرض التزلزل والضعف ، بعد أن كان قد استقر وأدخل الرعب في نفوس كل مناوئيه في داخلها ، سواء من المنافقين أو من اليهود. وقد دل على ذلك شماتة المنافقين ، واليهود ، وإظهارهم السرور بما جرى.

٤ ـ أن يوجب ذلك تزلزل إيمان ذوي النفوس الضعيفة ، ويجعلهم عرضة لاصطياد الآخرين لهم.

٥ ـ توقف من كان مهيئا نفسيا للدخول في الدين الجديد عن الدخول فيه ، حتى تتضح له الأمور ، وينجلي الموقف. ولا سيما إذا كان إسلامه صوريا من أجل ضمان مصالحه ، أو للحصول على مكاسب من نوع ما ، حيث لا تبقى ثمة ضمانات للحصول على ذلك ، إن لم يكن أصبح يخشى العكس.

وعلى ضوء ما تقدم :

فقد جاءت حمراء الأسد ـ التي ربما تبدو للوهلة الأولى غير معقولة ـ فغيرت الكثير من النتائج المتقدمة ، وحولتها لصالح المسلمين ، لأن خروج هؤلاء الجرحى في أثر قريش ، وهم لا يزيدون على سبعين رجلا على ما

٣٢١

يظهر ، في حين لم يكن في هذه الغزوة طمع في مال ولا في غنائم ، قد أوضح لكل أحد : أن هؤلاء مستميتون في الدفاع عن دينهم وعقيدتهم ؛ وأن جراحهم تلك لم تحل دون إقدامهم على ملاحقة عدوهم ؛ فهم يطلبون الموت ويسعون إليه ، فالوقوف في وجه هؤلاء إنما يعني الوقوف أمام خيارين :

إما موت هؤلاء ، ولا يموتون إلا بعد أن يموت معهم كل من يقدرون عليه ، وإما موت عدوهم.

وإذا كان جرحاهم على استعداد لمثل هذا ، فما حال غيرهم ممن وراءهم ، ممن سوف لن يسكتوا عن إمدادهم ومساعدتهم؟!.

وإذا فخروج الجرحى كان هو الأصوب ، لأن رهبة العدو تكون أعظم ، وخوفه يكون أشد ، لأنه يعلم أن وراءهم من لا يحب الحياة أكثر منهم.

ولسوف يدرك عدوهم : أن ما جرى في أحد ليس إلا نتيجة نزوة عارضة ألمت ، ويصعب تكررها منهم ، بعد الذي أصابهم بسببها.

كما وتصير حجة من يريد التشكيك بقدرتهم الطبيعية على المواجهة ـ من المنافقين أو اليهود ـ ضعيفة وواهية ، يصعب تقبلها.

إذا ، فمواجهة المسلمين وهم في قدرتهم الطبيعية ، وحين لا يكون ثمة حالة استثنائية ـ كما جرى في أحد ـ سوف يكون عملا انتحاريا ، لا مبرر له ، ولا منطق يساعده.

ولا سيما بعد أن تعلم المسلمون هذا الدرس الصعب ، الذي كلفهم غاليا ، فإن احتمال حدوث حالة استثنائية بعده يكاد يلحق بالممتنعات.

ولذلك فقد أوقد المسلمون خمسمائة نار ، فكبت الله بذلك عدوهم ،

٣٢٢

وأرجع كل القبائل المحيطة بالمدينة إلى صوابها ، وأفهمها : أن عليها أن لا تغتر بما جرى في أحد.

كما أن عليها : أن تعرف : أنه لو كان ما جرى في أحد طبيعيا ، لما آثرت قريش الفرار من وجه سبعين من الجرحى. وهي التي ينبغي أن تكون أشد طغيانا وتجبرا ، وأكثر إقداما على المسلمين من ذي قبل.

وكان ينبغي ـ لو كان يمكنها ـ أن تغتنمها فرصة للقضاء على هذه القلة القليلة ، المنهكة ، والمثخنة بالجراح. وتقتل مصدر متاعبها وآلامها ، وأعني به رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما دام أنه في جماعة لا تستطيع أن تدفع عنه ، ولا عن نفسها شيئا.

ففي حمراء الأسد هزيمة نفسية وإعلامية لقريش ، كما أن في ذلك إعطاء الفرصة لسائر القبائل لتقييم معركة أحد تقييما صحيحا وسليما ، بعيدا عن الغرور والتضليل.

وهي أيضا إبطال لكيد المنافقين واليهود ، وتأييد لسلطان المسلمين في المدينة ، وربط على قلوبهم ، ورفع لمعنوياتهم.

وهذا معنى قوله «صلى الله عليه وآله» : «فإنها أنكاء للعدو ، وأبعد للسمع».

ويلاحظ أخيرا : أن معبد الخزاعي قد ذكر لقريش : أن عليا قد يدركهم قبل أن يرتحلوا ، فدعاهم ذلك إلى التعجيل بالرحيل ، قبل أن يدركهم أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب.

وهذا يؤكد على دوره الفريد والمتميز في إلحاق الهزيمة النكراء بجيش

٣٢٣

المشركين في أحد ؛ حتى صار يطلبه المشركون بثارات أحدية (١) أضيفت إلى ثاراتهم البدرية ، كما ورد التصريح به في أكثر من مورد في تأريخ الصدام فيما بين الحق والباطل بعد ذلك.

قتل الأسيرين :

وقصة قتل الأسيرين ، وملاحظة موقفه «صلى الله عليه وآله» منهما تعطينا : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعامل كل أحد ـ بالدرجة الأولى ـ على أنه إنسان. ثم يقاوم فيه شركه وانحرافه بالأساليب الإنسانية أولا أيضا.

أي أنه يعتبره يحوي سائر الخصائص الإنسانية ؛ فيتعامل معه على أساس الصدق ، والوفاء ، والأمانة وغير ذلك من خصائص إنسانية. وذلك من أجل تشجيع هذه الخصائص ، وإعطائها الفرصة للنمو والتكامل ، على أمل أن يكون ذلك موجبا لتسهيل مهمته التبليغية والإقناعية في المستقبل ، ومن ثم لتلافي الكثير من المشكلات التي لا مبرر لها ، وإنما تخلقها النزوات غير الإنسانية ، في طريق الدعوة إلى الله تعالى ، والإقناع بالحق والخير.

ولكنه حين يثبت له «صلى الله عليه وآله» : أن الطرف الآخر لا ينطلق في مجمل مواقفه من خصائص إنسانية ، وإنما من نزوات غير إنسانية ، ومن شيطنة ، ومكر ؛ فإنه «صلى الله عليه وآله» حينئذ يقف منه الموقف الحازم الذي لا بد منه. وهو يحسن إليه وإلى مجتمعه حينما يقضي على تلك الروح البهيمية ، والنزوات الشيطانية فيه ؛ لأن الله قد خلقه ليكون إنسانا ، لا

__________________

(١) البحار ج ٣٦ ص ٥٤ و ٥٥ وج ٤٣ ص ١٥٦ ، والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٢٠٣ ، وفي (ط أخرى) ج ١ ص ٣٨١ ، والعوالم ص ٢٥٠.

٣٢٤

ليكون حيوانا ، يحمل إنسانيته كل مشقات ومتاعب النزوات الحيوانية تلك.

كما أنه يكون قد أحسن لبناته اللواتي لن يكون في صالحهن : أن يكون المشرف على قضاياهن وشؤونهن مخلوقا لا يحمل ـ أو فقل ـ : لا أثر في حياته للخصائص والمزايا الأولية للإنسان.

وعليه ، فإذا قبل النبي «صلى الله عليه وآله» أن يمن على أبي عزة الجمحي في بدر من أجل بناته ، ثم رفض ذلك هنا ؛ فإنه لا يكون بين كلا موقفيه أي تناقض أو اختلاف ؛ بل هو مصيب في الحالتين ، وهو قد أحسن لبناته أول مرة ، وكان إحسانه لهن في هذه المرة أعم وأعظم.

هذا كله عدا عن أنه «صلى الله عليه وآله» يكون قد أعطى المثل الأعلى للمؤمن الواعي واليقظ ، الذي لا يخدع ولا يستغل فإنه : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

(راجع ما تقدم بعد بدر حول خصائص الشيعة).

وفاة أم كلثوم وملابساتها :

ويقولون : إن أم كلثوم بنت النبي ـ بل ربيبته (١) ـ قد توفيت في سنة تسع. ولكن ما يذكر في سبب وفاتها يؤكد : أنها قد توفيت في سنة ثلاث.

فقد جاء في نوادر جنائز الكافي خبر طويل ، تقدم شطر منه قبل صفحات قليلة ، ونعود فنلخصه هنا على النحو التالي :

إن عثمان قد آوى الذي جدع أنف حمزة [وهو معاوية بن المغيرة بن أبي

__________________

(١) كما بيناه في كتابنا : «بنات النبي «صلى الله عليه وآله» أم ربائبه» ، ثم في كتابنا الآخر : «القول الصائب في إثبات الربائب».

٣٢٥

العاص كما تقدم] وخبأه في مكان من داره ، وأمر أم كلثوم : أن لا تخبر أباها فقالت : ما كنت لأكتم النبي «صلى الله عليه وآله» عدوه.

وخرج عثمان إلى النبي «صلى الله عليه وآله». وعرف النبي ذلك بواسطة الوحي ؛ فأرسل عليا «عليه السلام» ليأتي به ؛ فلم يجده ؛ فجاء عثمان ، وطلب الأمان له بإلحاح ، فقال له «صلى الله عليه وآله» : إن قدرت عليه بعد ثالثة قتلته ؛ فأخذه عثمان ، فجهزه ، وانطلق.

وبعد ثلاث أرسل النبي «صلى الله عليه وآله» عليا وعمارا ، وثالثا ؛ ليقتلوه ؛ لأنه بات قريب المدينة ؛ فأتاه علي «عليه السلام» فقتله.

فضرب عثمان بنت النبي «صلى الله عليه وآله» ، وقال : أنت أخبرت أباك بمكانه ، فبعثت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ثلاث مرات تشكو ما لقيت والنبي «صلى الله عليه وآله» لا يستجيب.

وفي الرابعة : أرسل عليا «عليه السلام» ليأتي بها ؛ فإن حال بينه وبينها أحد ؛ فليحطمه بالسيف ، وأقبل النبي «صلى الله عليه وآله» كالواله إلى دار عثمان ، فأخرجها علي ؛ فلما نظرت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» رفعت صوتها بالبكاء ، وبكى النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأخذها إلى منزله ، وأرتهم ما بظهرها. وبات عثمان ملتحفا بجاريتها. وماتت في اليوم الرابع.

فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» فاطمة ؛ فخرجت ، ونساء المؤمنين معها ، وخرج عثمان يشيع جنازتها ؛ فلما نظر إليه «صلى الله عليه وآله» ، قال ثلاث مرات : من أطاف البارحة بأهله ، أو بفتاته ، فلا يتبعن جنازتها ، فلم ينصرف.

فلما كان في الرابعة ، قال : لينصرفن أو لأسمين باسمه.

٣٢٦

فأقبل عثمان متوكئا على مولى له ، فقال : إني أشتكي بطني.

قال : انصرف الخ .. (١).

ونفس هذه القضية ذكرها الواقدي ، والبلاذري ، وغيرهما ، إلى أن انتهى إلى أنهم أصابوه قد أخطأ الطريق ، فقتله عمار وزيد.

وذكروا : أنهم لما جاؤوا ليأخذوه من منزل عثمان ، أشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره عثمان فيه ؛ فاستخرجوه (٢).

ولكنهم لا يذكرون القسم الأخير من القضية ، لأسباب لا تخفى.

وجزم البلاذري بأن عليا «عليه السلام» هو الذي قتله (٣).

ولعل عائشة تشير إلى هذه القضية بالذات ، حينما قالت لعثمان عن رقية وأم كلثوم : «ولكن قد كان منك فيهما ما قد علمت».

فراجع ما ذكرناه : في ما تقدم حينما تحدثنا حول وفاة رقية رحمها الله. وإلى ذلك أيضا يشير ما ورد في دعاء شهر رمضان : «اللهم صل على أم

__________________

(١) راجع : الكافي ج ٣ ص ٢٥١ ـ ٢٥٣ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٠٨ و ٤٠٩ عنه. وراجع : الإستيعاب (مطبوع بهامش الاصابة) ج ٤ ص ٣٠١ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤.

(٢) راجع : قاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٣٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٦ و ٤٧ عن البلاذري ، وليراجع : الكامل لابن الأثير (ط دار صادر) ج ٢ ص ١٦٥ ، وبقية المصادر تقدمت قبل حوالي خمس صفحات.

(٣) أنساب الاشراف ج ٥ ص ١٦٤ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٧ و ٢٣٩ و ١٩٩ عن الجاحظ.

٣٢٧

كلثوم بنت نبيك ، والعن من آذى نبيك فيها» (١).

ويلاحظ هنا : أن التعبير ب «بنت نبيك» لا يدل على البنوة الحقيقية ، إذ قد يكون المقصود بالبنت : الربيبة ، فراجع ما ذكرناه في كتابنا : «بنات النبي أم ربائبه» ، وكتابنا الآخر : «القول الصائب في إثبات الربائب».

وبعد ما تقدم ، فإن كل الأصابع لا بد أن تمتد لتشير إلى عثمان ، حينما نقرأ رواية عبد الرزاق التي تقول : إن بعض بناته «صلى الله عليه وآله» جاءت تشكو زوجها ؛ فأمرها «صلى الله عليه وآله» بالرجوع (٢) ؛ لكن عليا «عليه السلام» ـ حسبما تقدم حين الكلام على تكنيته بأبي تراب ـ قد أقسم على أنه لم يغضب فاطمة الزهراء «عليها السلام» ولا أكرهها على أمر حتى قبضها الله تعالى. وهي أيضا كذلك.

فكل القرائن تشير إذا ، إلى صحة رواية جنائز الكافي ؛ وتقوي من مضمونها ، الأمر الذي يجعلنا نطمئن إلى أنها رضوان الله تعالى عليها قد توفيت بعد واقعة أحد ، وبالذات في قضية الذي جدع أنف حمزة سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه ؛ وأنها لم تقم مع عثمان إلا قليلا.

ثم إننا لا نستبعد صحة ما نقله في قرب الإسناد عن الصادق «عليه

__________________

(١) رجال المامقاني ج ٣ ص ٧٤ ، وقاموس الرجال ج ٦ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ وقال :

(أقول : أما الدعاء ، فذكره الشيخان في المقنعة ، والتهذيب ، عقيب تسبيح شهر رمضان ، ونسبه الأول إلى مجيء الآثار به ، لكن ليس في نسخته الفقرة ، نعم هي في الثاني).

(٢) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج ١١ ص ٣٠٠ ، وهامش ص ٣٠١ عن سعيد بن منصور.

٣٢٨

السلام» :

من أن عثمان لم يدخل بأم كلثوم (١) ، ويكون ذلك قرينة على أنها لم تعش معه مدة طويلة ، ويقرب ذلك أنها ماتت بعد أحد حسبما تقدم. ولعلها قد تزوجته لأيام قليلة فقط.

وأما أن أسماء بنت عميس قد غسلتها ، وهي قد عادت من الحبشة عام خيبر ؛ أي في سنة سبع ؛ فلعله اشتباه من الراوي.

ويكون المراد : أسماء بنت يزيد الأنصارية ؛ لكن الراوي زاد كلمة بنت عميس من عند نفسه جريا على ما استقر في نفسه ، بسبب شهرة بنت عميس ، وقد تقدم قبل وقعة أحد نظير ذلك في ولادة الإمام الحسن «عليه السلام» ، فليراجعه من أراد.

__________________

(١) رجال المامقاني ج ٣ ص ٧٣ و ٧٤ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ عن قرب الإسناد والخصال.

٣٢٩
٣٣٠

الباب الثاني

شخصيات وأحداث

الفصل الأول : أوسمة وهمية لزيد بن ثابت

الفصل الثاني : سلمان الفارسي حرا

الفصل الثالث : ولادة الإمام الحسين وبعض ما قيل حولها

الفصل الرابع : عبرة ومناسبة

الفصل الخامس : رجم اليهوديين ، حقيقة أم خيال

الفصل السادس : من متفرقات الأحداث

٣٣١
٣٣٢

الفصل الأول :

أوسمة وهمية لزيد بن ثابت

٣٣٣
٣٣٤

بداية :

إننا حين نتحدث عن بعض الشخصيات ، وما ينسب إليها من مواقف ويرتبط بها من أحداث ، فإن سبب ذلك يعود إما إلى أهمية ذلك الحدث بالذات ، أو لأن مناسبة البحث قد اقتضت ذلك أحيانا ، أو من أجل معرفة الدور الذي قامت به تلك الشخصية أو الذي أريد لها : أن تنال شرف انتسابه إليها ، لسبب سياسي ، أو غيره.

وليس هدفنا من حديثنا ذاك مجرد مجاراة المؤرخين ، ولا تكميل نقص لربما يجد البعض فيه مستمسكا للتقليل من أهمية الكتاب بصورة عامة ، ولا غير ذلك مما يدخل في نطاق الشكليات والهامشيات التي تستند إلى بواعث غير مسؤولة ، ولا هي ذات أهمية أو قيمة تذكر.

كما أن ذكرنا للحدث ، قد يكون مرده بالإضافة إلى ذلك : الرغبة في تسجيل تحفظ على ما أوردوه على أنه حقيقة وواقع ، أو تصحيح خطأ ، أو إبراز الجانب السياسي ، الذي هيمن على ذلك الحدث ، وأثر فيه. أو تسجيل عبرة نجدها جديرة بالتسجيل للاستفادة منها في الموقع المناسب.

هذا بالإضافة إلى أن جمع أطراف البحث ، وملاحقة عناصر متفرقة ووضعها في موضعها يساهم إلى حد كبير في تسهيل التعرف على ملامح

٣٣٥

الصورة التي تمس الحاجة للتعرف عليها ، وتتشوق النفوس إليها.

هذا ، إلى أمور أخرى لا تبتعد كثيرا عن هذا المنحى في مسارها العام.

وعلى هذا الأساس : فإننا قد أولينا قسطا من الأهمية لمتابعة الأحداث التي ترتبط ببعض الشخصيات التي عاشت في العصر النبوي وبعده وكان لها دور رئيس في صنع الأحداث ، وفي تهيئة الأجواء والظروف لها. على أمل أن نكون قد أسهمنا بدورنا في حصحصة الحق ، وكشف الزيف ، وإزالة الشبهات.

ونبدأ هنا بالحديث عن أمر ذكر : أنه يرتبط بزيد بن ثابت ، فعسى أن نجد فيه ، وفيما يأتي من فصول ما ينفع ويجدي ، فنقول :

الحدث المشكوك :

إن المطالع للتاريخ الإسلامي ، ولكتب التراث بصورة عامة ، يجد الكثير من الأمور التي أصبح لها من الشيوع والذيوع بحيث تبدو من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الجدل ، ولا يجوز أن تخضع للمناقشة.

وأصبح الكتّاب والمؤلفون يرسلونها إرسال المسلمات ويوردونها مستدلين بها على ما يرونها قادرة على إثباته ، أو الدلالة عليه. مع أن نفس هذه القضايا لو أخضعها الباحثون للبحث ، وللتحقيق والتمحيص ، لخرجوا بحقيقة : أنها من الأمور الزائفة والمجعولة ، التي صنعتها الأهواء السياسية ، والتعصبات المذهبية ، أو العرقية ، أو غيرها.

أو على الأقل لوجدوا الكثير مما يوجب الشك والريب فيها ، ومن ثم ضعفها ، ووهنها ، أو لوقفوا على كثير من موارد التحريف والتلاعب فيها.

٣٣٦

وقد يجوز لنا القول : إن ما يروى ، من أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أمر زيد بن ثابت بتعلم اللغة العبرانية أو السريانية ، يصلح مثالا لهذا الأمر ؛ ولأجل ذلك فقد رأينا من المناسب أن نشير إلى بعض ما تلزم الإشارة إليه في هذه القضية وغيرها ، تاركين الحكم في ذلك ، نفيا أو إثباتا ، إلى القارئ الكريم ، الذي يملك كامل الحرية في أن يقبل ، وفي أن يرد ، إذا اقتضى الأمر أيا من الرد ، أو القبول ، فنقول :

روايات تعلم زيد العبرانية أو السريانية :

تؤرخ بعض المصادر : أنه في السنة الرابعة للهجرة أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» زيد بن ثابت بتعلم السريانية أو العبرانية ، معللا ذلك : بأنه لا يأمن اليهود على كتابه (١) فقد روى الترمذي ، عن زيد بن ثابت ، قال : أمرني رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن أتعلم كتاب يهود ، قال : ما آمن يهود على كتاب.

قال : فما مر بي نصف شهر ، حتى تعلمته له.

قال : فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم.

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح (٢).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩١ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٦ ، وراجع : الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٧٦ ، وراجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٠.

(٢) الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٧ ، ٦٨ ، ومشكل الآثار ج ٢ ص ٤٢١ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٢١١ ، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٥٨٣

٣٣٧

وفي نص آخر : لما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة ، قال لي : تعلم كتاب اليهود ؛ فإني والله ما آمن اليهود على كتابي (١) ولم يذكر قوله : فلما تعلمته الخ ..

قال الترمذي : وقد روي من غير هذا الوجه ، عن زيد بن ثابت ، قال : أمرني رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن أتعلم السريانية (٢).

وفي نص آخر : عن زيد بن ثابت ، قال : قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إنه يأتيني كتب من ناس ، لا أحب أن يقرأها أحد ؛ فهل تستطيع أن تتعلم كتاب العبرانية ، أو قال : السريانية؟

فقلت : نعم.

قال : فتعلمتها في سبع عشرة ليلة (٣).

__________________

والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٠٣ و ٢٠٤ ، عن البخاري ، وعن الطحاوي في مختصره ومسند أحمد ج ٥ ص ١٨٦.

(١) طبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١١٥ ، ومنتخب كنز العمال ـ بهامش مسند أحمد ج ٥ ص ١٨٥ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٢١٦ عن أبي يعلى ، وابن عساكر ، وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣١٨ ومستدرك الحاكم ج ١ ص ٧٥ وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وصحيح البخاري ج ٤ ص ١٥٦ وليس فيه ذكر لمدة تعلمه.

(٢) الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٨.

(٣) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ١١٥ ، وكنز العمال ج ١٦ ص ٩ عن ابن عساكر ، وابن أبي داود في المصاحف ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣١ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٦ عن أحمد ، وأبي يعلى ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ ص ١٨٥ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٢١٦ ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ١٢٠ و ٢٠٤ وراجع : مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢٢ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٢٨.

٣٣٨

ومثله في نص آخر ، عن زيد بن ثابت ، لكنه جزم بأنه أمره بتعلم السريانية ولم يتردد في ذلك (١).

وفي رواية أخرى : عن زيد بن ثابت أيضا ، قال : أتي بي إلى النبي «صلى الله عليه وآله» عند مقدمه المدينة ، فعجب بي ، فقيل له : هذا الغلام من بني النجار ، قد قرأ مما أنزل عليك بضع عشرة سورة ، فاستقر أني ، فقرأت (ق) فقال لي : تعلّم كتاب يهود ، فإني ما آمن يهود على كتابي ، فتعلمته في نصف شهر (٢) ، إلى آخر ما تقدم في الرواية الأولى.

__________________

(١) راجع : كنز العمال ج ١٦ ص ٩ عن ابن عساكر وابن أبي داود ، وغيرهما وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٦ و ٤٤٧ عن أحمد ، وأبي يعلى ، ومسند أحمد ج ٥ ص ١٨٢ ، والاصابة ج ١ ص ٥٦١ ، ومشكل الآثار ج ٢ ص ٤٢١ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢٢ ، وتلخيصه للذهبي ـ بهامشه ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٢١١ ، ومنتخب كنز العمال ـ بهامش مسند أحمد ج ٥ ص ١٨٥ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٣٥٠ ، والإستيعاب ـ بهامش الاصابة ج ١ ص ٥٥٢ ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٠٣ و ٢٠٤ عن بعض من تقدم ، عن ابن أبي داود في المصاحف ، والأحكام الصغرى لأبي بكر ابن شيبة وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٩ وبهجة المجالس ج ١ ص ٣٥٦.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ ، ٤٦٥ ، وقال : كذا رواه ابن أبي الزناد ، وأحمد ، ويونس ، عن أبي داود وداود بن عمرو الضبي ، وسعيد بن سليمان الواسطي ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وعبد الله بن وهب ، وعلي بن حجر ، وحديثه عند الترمذي كذا ذكره السخاوي في الأصل الأصيل. وكنز العمال ج ١٦ ص ٨ عن ابن عساكر ، وغيره ، ومسند أحمد ج ٥ ص ١٨٦ والإصابة ج ١ ص ٥٦١ عن البخاري والبغوي وأبي يعلى ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، عن

٣٣٩

وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، قال : كان زيد بن ثابت يتعلم في مدارس ماسكة ، فتعلم كتابهم في خمس عشرة ليلة ، حتى كان يعلم ما حرفوا وبدلوا (١).

وقال الكتاني : قلت في بهجة المحافل لابن عبد البر : إنه تعلمها في ثمانية عشر يوما (٢).

وقالوا عن زيد بن ثابت : «وكان يكتب بالعربية والعبرانية» (٣) ، أو «السريانية» (٤).

وقال ابن الأثير الجزري : «كانت ترد على النبي «صلى الله عليه وآله» كتب بالسريانية ، فأمر زيدا ، فتعلمها» (٥).

وقال الذهبي : «قدم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وزيد صبي ذكي

__________________

البخاري. وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣١ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٨ ، و ٤٢٩ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٢٨ وراجع الثقات ج ١ ص ٢٤٦.

(١) كنز العمال ج ١٦ ص ٨ ، ٩ عن ابن عساكر ، وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٦ ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٠٤ عن ابن عساكر. وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٦ عن ابن سعد والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩١.

(٢) التراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٠٣ وراجع : سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٩ وبهجة المجالس ج ١ ص ٣٥٦.

(٣) تهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢١ ، وتلخيصه للذهبي بهامش ص ٤٢٢ منه ، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٥٨٣.

(٤) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٨ ص ١٦٠.

(٥) أسد الغابة ج ٢ ص ٢٢٢ ، وعنه في قاموس الرجال ج ٤ ص ٢٣٩ ، وتنقيح المقال ج ١ ص ٤٦٢ ، ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢١ عنه أيضا.

٣٤٠