الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

علي عليه السّلام يناول فاطمة عليها السّلام سيفه :

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد ناول فاطمة «عليها السلام» سيفه ، وقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فوالله ، لقد صدقني اليوم. فجاء علي «عليه السلام» فناولها سيفه ، وقال مثل ذلك.

فقال «صلى الله عليه وآله» : لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حنيف ، وأبو دجانة (١).

ولكن ذلك غير صحيح ، وذلك :

١ ـ لأن الذي قتل معظم المشركين ، وقتل أصحاب الألوية ، وثبت في أحد ، ونادى جبرئيل باسمه ، وقتل أبناء سفيان بن عويف الأربعة إلى تمام العشرة ، هو علي «عليه السلام» وليس أبا دجانة ، ولا سهل بن حنيف ، ولا غيرهما.

٢ ـ ثم إن هذه الرواية متناقضة النصوص ؛ فعن ابن عقبة لما رأى رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيف علي «عليه السلام» مخضبا دما قال : إن تكن أحسنت القتال ، فقد أحسنه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، والحرث بن الصمة ، وسهل بن حنيف (٢). فأي الروايتين هو الصحيح؟

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤٤ عن ابن اسحاق ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥٥ ، وراجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٣٥ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٣ عن الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٢٤ ، وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وصححاه على شرط البخاري ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٣٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥٥.

٣٠١

٣ ـ لقد رد ابن تيمية قولهم : بأنه «صلى الله عليه وآله» قد أعطى فاطمة «عليها السلام» سيفه ، بأنه «صلى الله عليه وآله» لم يقاتل في أحد بسيف (١).

والصحيح في القضية هو ما ذكره المفيد رحمه الله : من أنه بعد أن ناول علي فاطمة سيفه وقال لها : خذي هذا السيف ؛ فلقد صدقني اليوم ، وأنشد :

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد ، ولا بلئيم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد

وطاعة رب بالعباد عليم

أميطي دماء القوم عنه فإنه

سقى آل عبد الدار كأس حميم

قال «صلى الله عليه وآله» : خذيه يا فاطمة ؛ فقد أدى بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش (٢).

فهذه الرواية هي الأنسب والأوفق بمساق الأحداث ، وبأخلاق وسجايا النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».

شماتة المنافقين وسرورهم بنتائج أحد :

ولما عاد النبي «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة ، وبكى المسلمون قتلاهم ، سر بذلك المنافقون ، واليهود ، وأظهروا الشماتة ، وصاروا يظهرون أقبح القول.

ومنه قولهم : ما محمد إلا طالب ملك ، وما أصيب بمثل هذا نبي قط ، أصيب في بدنه ، وأصيب في أصحابه. وعرف المسلمون عدوهم الذي في دارهم ، وتحرزوا منه.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥٥.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد ص ٥٤ ، والبحار ج ٢٠ ص ٨٨ عنه.

٣٠٢

وقالوا أيضا : لو كان من قتل عندنا ما قتل. وجعلوا يخذلون عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أصحابه ، ويأمرونهم بالتفرق عنه. واستأذنه عمر في قتل هؤلاء القائلين من المنافقين واليهود ، فقال «صلى الله عليه وآله» : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله؟

قال عمر : بلى ، ولكن تعوذوا من السيف ، وقد بان أمرهم ، وأبدى الله تعالى أضغانهم.

فقال «صلى الله عليه وآله» : نهيت عن قتل من أظهر ذلك. وأما اليهود فلهم ذمة فلا أقتلهم (١).

ونحن نشير هنا إلى ما يلي :

ألف : التمحيص :

إن المحن التي أصابت المسلمين في حرب أحد قد ميزت الخبيث من الطيب منهم ، وامتاز أدعياء الإيمان والمنافقون عن المؤمنين.

كما وعرفت درجات المؤمنين أنفسهم ، ومدى ثبات قدم كل منهم في الإيمان.

قال تعالى في مناسبة غزوة أحد : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٢).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥٤ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣١٧ و ٣١٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٣.

(٢) الآية ١٤٠ من سورة آل عمران.

٣٠٣

وفي ذلك أيضا : تعريف للمؤمنين أنفسهم بقدراتهم الإيمانية ، وملكاتهم النفسية تلك.

فلا بد إذا ، أن يسعى المقصرون لجبر ما فيهم من نقص ، وتكميل يقينهم ، وزيادة وعيهم الرسالي ؛ قال تعالى في آيات نزلت بمناسبة أحد : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١).

ويقول : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٢).

وخلاصة الأمر : أن ما جرى في أحد قد عرف المسلمين بحقيقة تركيبة مجتمعهم ، وأن فيه المؤمن والمنافق ، وعرفهم أيضا بطاقاتهم وقدراتهم ، ودرجاتهم الإيمانية.

وهذا أمر مهم جدا بالنسبة لخططهم المستقبلية ، ومهم أيضا بالنسبة لتعاملهم على الصعيد الداخلي مع بعضهم البعض ؛ لأن ذلك يجعلهم أكثر دقة ، وأشد حيطة ، حيث يحسبون لكل شيء حسابه ، فلا يأتيهم ما لا يتوقعون ، ولا يواجهون المفاجآت المحيرة. الأمر الذي لا بد أن يؤثر في نتائج مواقفهم ، وجعلها لصالحهم بنحو أدق وأحكم.

ب : أجواء النفاق ودوافعه :

إن النفاق لا يستدعي دائما : أن يكون المنافق يرغب في هدم هذا الدين

__________________

(١) الآية ١٤١ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١٥٤ من سورة آل عمران.

٣٠٤

الجديد ، ويترصد الفرصة لذلك.

بل ربما يكون ذلك خوفا من هذه الدعوة حينما يكون لها قوة وطول.

أو طمعا بنفع عاجل ، مادي ، أو معنوي.

أو عصبية وحمية لبلد ، أو قبيلة.

أو طمعا في أن تنجح الدعوة في التغلب على المصاعب التي تواجهها ، ويكون لهذا الشخص المنافق شأن فيها.

أو التزاما بتقليد اجتماعي ، ذي طابع معين.

أو حفاظا على مصالح لا يمكن الحفاظ عليها مع مناهضة الدعوة.

إلى غير ذلك مما لا مجال له هنا.

إذن ، فيمكن أن يكون نفاق ابن أبي ، وكثير من أصحابه ، إنما كان من أجل الحصول على ما في الإسلام من مغانم ؛ والابتعاد عما يواجهونه من متاعب ومغارم.

وقد يكون نفاقهم هذا يتخذ اتجاها لا ينسجم مع تسليط المشركين على المدينة ، لأن ذلك ولا شك لسوف يلحق الضرر بأولئك المنافقين أنفسهم. ولسوف يلحق الضرر بالتزاماتهم القبلية والاجتماعية ، وبمصالحهم بشكل عام. كما أن تسليط المشركين على بلدهم لا ينسجم مع التقليد الاجتماعي القائم آنذاك ، ولا مع غيرتهم وحميتهم ، وعصبيتهم.

نعم ، ربما تتغير هذه النظرة للمنافق ، ويتجاوز كل هذه الموانع ، إذا رأى : أن وجوده ومصالحه في خطر في المستقبل.

وإذا رأى أنه لا يمكنه الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحه إلا بالتعامل مع أعداء هذه الدعوة ؛ فيندفع إلى القيام بأي عمل يحفظ له الحد

٣٠٥

الأدنى مما تطمح نفسه إليه ، ويسعى من أجل الحصول عليه.

دعني أقتله يا رسول الله!!

ثم إننا نجد : أن عمر يستأذن النبي «صلى الله عليه وآله» في قتل هؤلاء المنافقين ؛ فلا يأذن له النبي «صلى الله عليه وآله» (وقد تقدم حين الكلام عن وحشي ، وفي موضع آخر بعض ما يرتبط بذلك).

ونجد مثل ذلك من عمر في خلال حياته مع النبي «صلى الله عليه وآله» الشيء الكثير ، وكأمثلة على ذلك نشير إلى :

١ ـ قصته مع الحكم بن كيسان (١).

٢ ـ قصته مع أبي سفيان (٢) حين فتح مكة.

٣ ـ ومع عبد الله بن أبي (٣).

٤ ـ ومع ذي الخويصرة (٤).

__________________

(١) حياة الصحابة ج ١ ص ٤١ ، وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ١٣٧.

(٢) حياة الصحابة ج ١ ص ١٥٤ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٦٦ عن الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ٤٦٩ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٤٨٤ عن البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، والبيهقي ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٠ ، وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٢ عن ابن أبي حاتم ، وفي فتح الباري ج ٨ ص ٤٥٨ : هو مرسل جيد ، وصحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩) ج ٣ ص ١٣٢.

(٤) حياة الصحابة ج ٢ ص ٦٠١ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦٢ عن الصحيحين ، ومناقب الخوارزمي ص ١٨٢.

٣٠٦

٥ ـ ومع حاطب بن أبي بلتعة (١).

٦ ـ ومع ذي الثدية (٢) وقيل باتحاده مع ذي الخويصرة ، وقيل : لا.

٧ ـ ومع شيبة بن عثمان (٣).

٨ ـ ومع الأعرابي الذي من بني سليم (٤).

٩ ـ ونجده يطلب في الحديبية أن يمكنه النبي «صلى الله عليه وآله» من نزع ثنيتي سهيل بن عمرو ، حتى يدلع لسانه.

وفي كل ذلك يمنعه النبي «صلى الله عليه وآله» ويردعه ، ويخبره : بأنه لا يرغب في ذلك.

وبالنسبة للحادثة الأخيرة مع سهيل بن عمر وقال له : فعسى أن يقوم مقاما تحمده. فكان مقامه هو ما ستأتي الإشارة إليه (٥).

فقد كان له موقف جيد في مكة حين وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» ،

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٨ ص ٣٠٣ عن أحمد ، وأبي يعلى والبزار ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٦٣ و ٤٦٤.

وراجع أيضا : والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٤ عن أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، وبقية الجماعة ما عدا ابن ماجة ، ومناقب الخوارزمي الحنفي ص ٧٤.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ١٥٥ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٢٦ عن أبي يعلى.

وقد روي هذا الحديث من وجوه كما في مجمع الزوائد.

(٣) الرياض النضرة المجلد الأول ج ٢ ص ٣٥٣.

(٤) المعجم الصغير ج ٢ ص ٦٤.

(٥) الإصابة ج ٢ ص ٩٣ ، والإستيعاب (مطبوع بهامش الاصابة) ج ٢ ص ١٠٩ و ١١٠ ، وتفصيل القضية فيه.

٣٠٧

حيث منع أهل مكة من الارتداد وسكّنهم ، وعظم الإسلام (١).

ولا ندري كيف خفيت على عمر خطورة تصرف كهذا؟!

وأن ذلك معناه : نقض الصلح ، وإعطاء نظرة سلبية عن النبي «صلى الله عليه وآله» وعن المسلمين ، وفسح المجال للدعاية المغرضة ضدهم ، وأنهم لا عهد لهم ولا ذمار. فحتى مع الرسل والمفاوضين يفعلون ذلك الأمر المهين والمشين ، الأمر الذي يرفضه حتى العرف الجاهلي ، فضلا عن الخلق السامي والنبيل.

كما أننا لا ندري ـ لو أنه فعل ذلك بسهيل بن عمرو ـ ماذا سوف يكون شعور ابنه عبد الله بن سهيل ، الذي هرب من أبيه إلى النبي «صلى الله عليه وآله» في بدر ، وكان يكتم أباه إسلامه؟!.

ثم ماذا سوف يكون شعور ابنه الآخر أبي جندل بن سهيل ، الذي جاء يرسف في الحديد إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الحديبية؟! أي في نفس الوقت الذي يريد فيه عمر : أن يفعل ما يفعل بأبيه سهيل.

وقد كان سهيل يضرب أبا جندل بغصن شوك. ولكنه مع ذلك قد ضن بهذا الأب أن يصيبه سوء ، كما ذكره مصعب الزبيري (٢).

نعم ، إننا لا ندري لماذا يصر عمر على النبي «صلى الله عليه وآله» في هذا الأمر ، الذي كرر النبي «صلى الله عليه وآله» له رأيه فيه مرات عديدة؟!

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع بهامش الاصابة) ج ٢ ص ١١٠ ، وراجع سير أعلام النبلاء ج ١ ص ١٩٤.

(٢) نسب قريش لمصعب ص ٣١٩ و ٣٢٠.

٣٠٨

وأوضح له : أنه لا يريد أن يتحدث الناس : أن محمدا يقتل أصحابه. بل لقد قال له في قصة ابن أبي : لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت لها آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته (١).

وإذا كان عمر يغار على مصلحة الإسلام إلى هذا الحد ، حتى إنه لينسى كلام النبي «صلى الله عليه وآله» له في ذلك مرات عديدة ، فلماذا فر في أحد قبل ذلك بقليل ، وترك الإسلام والنبي «صلى الله عليه وآله» في معرض الأخطار الجسام ، والأهوال العظام؟!

ولما ذا فر في خيبر ، وحنين الخ؟!.

ولما ذا لم يطع النبي «صلى الله عليه وآله» حينما أمره بأن يقتل ذا الثدية؟! (٢).

ولعل هذا هو سر قول النبي «صلى الله عليه وآله» له في قصة ابن أبي : أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟ مما يوحي بأنه «صلى الله عليه وآله» كان يشك في صحة عزمه على هذا الأمر كثيرا ، وقد أثبت الواقع صحة شكه «صلى الله عليه وآله» هذا.

ولماذا كان «صلى الله عليه وآله» يسند هذه المهمة إلى غير عمر ، إلا في قصة ذي الثدية ، وكانت النتيجة فيها ما هو معلوم؟!.

ولماذا لا نجد غير عمر من سائر الصحابة يهتم بهذا الأمر بالخصوص؟!.

أسئلة تبقى حائرة ، تنتظر الجواب المقنع والمفيد. وأين؟! وأنى؟!

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٥٨.

(٢) راجع القضية في الاصابة ج ١ ص ٤٨٤ و ٤٨٥ ، وقال : إن لقصة ذي الثدية طرقا كثيرة صحيحة.

٣٠٩
٣١٠

الفصل الخامس :

غزوة حمراء الأسد وإلى السنة الرابعة

٣١١
٣١٢

قريش تفكر في المدينة ، ثم تعدل عنها :

لقد كان من الطبيعي : أن يفكر المشركون في المدينة ونهبها ، وسلب نسائها ، بعد انتهائهم من معركة أحد.

وكان من الطبيعي أيضا أن يحسبوا : أن في المدينة خلقا كثيرا من الأوس والخزرج لم يحضروا الحرب ، وهم مسلمون.

وحتى اليهود ، والمنافقون ، مثل : ابن أبي وأصحابه ، فإن لهم في المدينة أهلا ونساء وعيالا وأطفالا. كما أن لهم بعيال ، وأطفال ، ونساء ، وحتى رجال المسلمين علاقات نسبية ، ومصالح مشتركة ، لا يمكن التخلي عنها ، أو تجاهلها بسهولة.

إذن ، فقد كان من الطبيعي أن يجد المشركون مقاومة شديدة في داخل المدينة لو هاجموها.

وأما الذين في خارجها .. فإنهم لن يسكتوا على هذا الأمر ، فالرسول «صلى الله عليه وآله» ، وأصحابه من ورائهم. وإن تحملوا خسائر كبيرة ـ سبعين قتيلا ، وسبعين جريحا ـ إلا أن من بقي منهم ، وهم أكثر من خمسمائة مقاتل ، إذا كانت القضية قضية شرف وعرض ومال ، ومستقبل ؛ فضلا عن كونها قضية دين فلسوف ـ يستميتون في الدفاع عند ذلك كله ..

٣١٣

ولم تنس قريش بعد : أنها قد هزمت في ابتداء المعركة ، وطار بها الرعب في آخرها من هؤلاء بالذات ، مع أنها تزيدهم عددا أضعافا كثيرة.

كما لا مجال لمقايسة ما كان عندهم من السلاح والعدة بما كانت تملكه هي من عدة وسلاح.

ولم تنس بعد أيضا : أنها لم تتغلب عليهم إلا بسبب تكتيك حربي ، يعتمد على عنصر المفاجأة استطاعت أن تستفيد منه حينما خالف الرماة صريح أوامر قائدهم ، مع اشتغال الباقين في الغنائم ، الأمر الذي جعلهم آمنين مطمئنين إلى أنه لا عدو بعد يواجههم.

هذا كله ، عدا أن قريشا قد كلت في هذه الحرب ، وتعبت ، وأصبحت قدراتها الآن أقل بكثير مما كانت عليه في بداية الحرب ، حيث واجهت الهزيمة أيضا. كما أنها ترغب في الاحتفاظ بهذا الانتصار الشكلي ، ولا تريد أن تخاطر به ، وتعرضه لاحتمالات الانتكاس والفشل الفاضح ؛ لأن هذا الانتصار الشكلي يتيح لها : أن تبذل محاولات جديدة في تضعيف تأثير مواقف المسلمين الشجاعة السابقة على القبائل في المنطقة ، وبالذات على مشركي مكة أنفسهم.

وأخيرا ، فلم لا تفكر في أن تتبع الخطة التي اتبعها المسلمون في بدر ، حيث لم يتبعوا المشركين حينما هزموهم؟ فلعل ذلك كان لأهداف بعيدة ، وحكم غابت عنها ، أدركها الآخرون ، ولم تستطع هي أن تدركها.

غزوة حمراء الأسد :

وفي اليوم الثاني من أحد : «خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأمر

٣١٤

من الوحي ـ كما في الرواية ـ إلى حمراء الأسد ، موضع على ثمانية أو عشرة أميال من المدينة ، حيث ندب أصحابه ، قائلا : «ألا عصابة تشد لأمر الله ، تطلب عدوها؟ فإنها أنكأ للعدو ، وأبعد للسمع» (١).

فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(٢)» (٣).

المجروحون فقط :

فخرج «صلى الله عليه وآله» في ستين راكبا (٤) ، أو سبعين (٥).

ويدل على أن عدتهم سبعون : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير : كان أبوك الزبير ، وأبو بكر. لما أصاب نبي الله ما أصاب ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : من يرجع في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا (٦).

ولكن الظاهر هو أن ذكر أبي بكر هنا قد جاء في غير محله ، لأن الذين خرجوا في هذه الغزوة كانوا خصوص المجروحين ، وكانوا سبعين رجلا كما تقدم.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٣٩ ، والبحار ج ٢٠ ص ٣٩.

(٢) الآية ١٣٩ من سورة آل عمران.

(٣) راجع : مجمع البيان ج ٢ ص ٥٠٩ ، والبحار ج ٢٠ ص ٢٢.

(٤) البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٠٥.

(٥) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٣٩.

(٦) البداية والنهاية ج ٤ ص ٥٠ و ٥١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥٧ ، والدر المنثور ج ٢ ص ١٠٢ عن سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل.

٣١٥

فقد روى القمي «رحمه الله» : أن جبرئيل «عليه السلام» نزل على النبي «صلى الله عليه وآله» ، فقال : يا محمد ، إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلا من به جراحة ؛ فأمر «صلى الله عليه وآله» مناديه أن ينادي بذلك (١).

ويؤيد ـ أن هؤلاء السبعين هم المجروحون ـ : قوله تعالى في هذه المناسبة : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ)(٢).

وقد قلنا : إنه إذا كان الذين خرجوا هم المجروحون فقط ، فلا معنى لذكر أبي بكر وعمر وغيرهما ، ممن لم يكن به جراح في الخارجين إلى حمراء الأسد. وعلى كل حال ، فقد خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالمجروحين من أصحابه ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وكان حامل لوائه علي «عليه السلام» ، وكانت قريش في الروحاء ، على بعد خمسة وثلاثين أو اثنين أو ثلاث وأربعين ميلا من المدينة حيث تلاوموا هناك فيما بينهم ، وقالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم. قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا شوكة.

فقال صفوان بن أمية : لا تفعلوا ، فإن القوم قد حربوا (٣) ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان.

أو قال لهم : إن محمدا وأصحابه الآن في حنق شديد مما أصابهم ، فوالله

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ١٢٥ ، والبحار ج ٢٠ ص ٦٤ عنه.

(٢) الآية ١٧٢ من سورة آل عمران.

(٣) حرب : اشتد غضبه.

٣١٦

ما أمنت إن رجعتم أن يجتمع جميع من كان قد تخلف عن أحد من الأوس والخزرج ، ويطؤوكم ويغلبوا عليكم ، والآن لكم الغلبة الخ ..

فبلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله» ، فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوة ، وأن يرعبهم.

ولكن من أين بلغه ذلك ومتى وصل إليه الخبر في خلال ليلة واحدة عن بعد أكثر من أربعين ميلا ، إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي؟!

وقد نصت رواية القمي المتقدمة على أن جبرئيل قد جاء بأمر من الله سبحانه إليه يأمره بالمسير إليهم.

وقدّم «صلى الله عليه وآله» ثلاثة نفر من أسلم ، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد وهم يأتمرون بالرجوع ، فبصروا بهما ، فرجعوا إليهما فقتلوهما.

ومضى «صلى الله عليه وآله» حتى نزل حمراء الأسد فدفن الرجلين ، وأقام هناك ثلاثة أيام. وأوقد المسلمون نارا عظيمة ـ خمسمائة نار ـ فذهب صيت عسكرهم ونارهم إلى كل جانب ، فكبت عدوهم بذلك.

ومر معبد الخزاعي ـ وهو مشرك ـ بعسكر المسلمين ، وهو في طريقه إلى مكة. وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله ، مسلمهم وكافرهم ، فأظهر تألمه مما أصاب المسلمين في أحد.

فلما بلغ أبا سفيان وأصحابه أخبرهم : أن محمدا يطلبهم في جمع لم ير مثله ، وأن هذا علي بن أبي طالب ، قد أقبل على مقدمته في الناس (١).

__________________

(١) البحار ج ٢٠ ص ٩٩ ، وإعلام الورى ص ٨٦.

٣١٧

وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه ، وقد ندموا على ما صنعوا ، وأنهم يتحرقون عليهم. وأن نواصي الخيل قد تدركهم قبل أن يرتحلوا.

فدب الرعب في قلوب المشركين ، وأسرعوا بالرحيل. والتقوا بركب من بني عبد القيس قاصدا المدينة ، فوعدهم أبو سفيان أن يعطيهم ما يرضيهم إذا هم أبلغوا رسول الله أن قريشا آتية لحربه.

وأرسل معبد يخبر رسول الله بحقيقة الأمر.

وبعد إقامة النبي «صلى الله عليه وآله» ثلاثة أيام عاد إلى المدينة.

أسيران يقعان في أيدي المسلمين :

وأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» في طريقه ذاك رجلين من قريش ، هما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص ، وأبو عزة الجمحي.

أما أبو عزة فقد كان أسر في بدر ، ثم منّ عليه «صلى الله عليه وآله» لبناته الخمس ، وأخذ عليه العهد أن لا يعود إلى حرب المسلمين ، وأن لا يظاهر عليه أحدا. فنقض العهد ، وألّب القبائل ، وشارك في معركة أحد.

فلما عادت قريش ، ونزلت في حمراء الأسد ، ساروا وتركوه نائما ، فأدركه المسلمون هناك ، وأخذوه إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فطلب الإقالة ، فرفض «صلى الله عليه وآله» ذلك حتى لا يمسح عارضيه بمكة ، ويقول : سخرت من محمد مرتين. ثم أمر «صلى الله عليه وآله» عليا ـ وقيل غيره ـ أن يضرب عنقه ، ففعل.

ولكن ابن جعدبة قال : ما أسر يوم أحد هو ولا غيره. ولقد كان المسلمون في شغل من الأسر. ولم ينكر قتله.

٣١٨

وقال ابن سلام : «قد قيل : إن النبي لم يقتل أحدا صبرا إلا عقبة بن أبي معيط يوم بدر» (١).

ولكن المشهور هو خلاف ذلك ، فهو المعتمد حتى يثبت خلافه.

أما ما ذكره بعضهم من : أن أبا عزة قد أسر يوم أحد.

فالظاهر : أن مقصوده منه ما ذكرناه ، لأن حمراء الأسد من تتمة معركة أحد. فلا مجال لإشكال المعتزلي بأن حال المسلمين في أحد لم يكن يساعد على أسر أحد (٢).

وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص ، فإنه انهزم في أحد ، ودخل المدينة ، فأتى منزل عثمان بن عفان ، ابن عمه.

فقال عثمان له : أهلكتني وأهلكت نفسك. ثم خبأه في بيته ، وذهب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليأخذ له أمانا.

وكان «صلى الله عليه وآله» قد علم به من طريق الوحي ، فأرسل عليا «عليه السلام» ليأتي به من دار عثمان ، فأشارت أم كلثوم زوجة عثمان إلى الموضع الذي صيره عثمان فيه ، فاستخرجوه من تحت حمّارة لهم ، وانطلقوا به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فشفع فيه عثمان ، فقبل منه «صلى الله عليه وآله» ، وأجله ثلاثا ، وأقسم إن وجده بعدها في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه ، فجهزه عثمان ، واشترى له بعيرا.

وسار «صلى الله عليه وآله» إلى حمراء الأسد ، وأقام معاوية هذا إلى

__________________

(١) طبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٤ و ٦٥.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٦.

٣١٩

اليوم الثالث ، ليعرف أخبار النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويأتي بها قريشا ، فلما كان في اليوم الرابع أخبرهم «صلى الله عليه وآله» : أن معاوية بات قريبا ، وأرسل زيدا وعمارا ، فقتلاه.

والصحيح عليا وعمارا ، كما في رواية الكافي.

وقال البلاذري عن ابن الكلبي : ويقال : إن عليا «عليه السلام» هو الذي قتل معاوية بن المغيرة (١).

ويذكر هنا : أن عثمان قد انتقم من أم كلثوم ، لدلالتها على ابن عمه.

بل يقال : إن ما فعله بها كان سببا في موتها في اليوم الرابع ، وبات ملتحفا بجاريتها (٢).

دوافع حمراء الأسد ونتائجها :

لقد اتضح مما تقدم بعض دوافع غزوة حمراء الأسد ، ونتائجها ، وللتذكير بذلك نعود فنقول :

لقد عرف الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» : أن نتائج حرب أحد ، لولا خروجه إلى حمراء الأسد سوف تكون :

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٣٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٦ و ٤٧ عن البلاذري ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦١ ، وليراجع الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٦٥ ط صادر ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٠٧ و ٤٠٨ ، والبحار ج ٢٠ ص ١٤٥ ، عن الكامل والمعتزلي ، وأشار إلى ذلك ابن هشام ، وتاريخ الخميس ، والسيرة النبوية لابن كثير ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٥١ وغير ذلك.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٢٥١ و ٢٥٣.

٣٢٠