الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

وكل ذلك يوضح حقيقة ما يقال عن إيمان أبي سفيان ، وولده معاوية ، وزوجته هند!!!

٩ ـ وأما عن شرب حمزة للخمر حين خروجه إلى أحد ، فقد أثبتنا أنه كذب ، فراجع ما قدمناه حين الكلام حول تحريم الخمر وذلك في سياق الحديث عن زواج علي «عليه السلام».

أما نحن فنشير إلى الأمور التالية :

ألف : موقف الرسول صلى الله عليه وآله من المثلة بحمزة :

إنهم يقولون : إنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها في واقعة أحد ، سأل «صلى الله عليه وآله» عن عمه حمزة بن عبد المطلب ، فالتمسوه ، فوجدوه على تلك الحالة المؤلمة ، حيث كانت هند أم معاوية ، وزوجة أبي سفيان قد مثلت به ؛ فجدعت أنفه ، وقطعت أذنيه ، وبقرت بطنه ، واستخرجت كبده ، فلاكتها ، ولم تستطع أن تسيغها ، إلى غير ذلك من ممارسات وحشية تجاه تلك الجثة الطاهرة. ـ تقدمت الإشارة إليها ـ فجاء «صلى الله عليه وآله» ، فوقف عليه ، فيقال : إنه «صلى الله عليه وآله» لما رآه في تلك الحالة قال :

«لو لا أن تحزن صفية ، وتكون سنة من بعدي ، لتركته حتى يكون في بطون السباع ، وحواصل الطير (١).

أو قال : لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى (٢) ، ولئن أظهرني

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٨ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤١ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٨٩ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١١٩ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٩٦.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ٢٨٨.

٢٦١

الله على قريش يوما من الدهر في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» (١).

والمسلمون أيضا قالوا : «والله ، لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر ، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب» (٢).

ويقال : إنه «صلى الله عليه وآله» بكى وشهق ، وقال : رحمة الله عليك ، لقد كنت فعولا للخير ، وصولا للرحم ، أم والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك.

فنزل جبريل بقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٣). فعفا رسول الله «صلى الله عليه وآله» وصبر.

وفي رواية ، قال : أصبر ، ونهى عن المثلة.

وفي أخرى : كفر عن يمينه (٤).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤١.

(٢) راجع : الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦ ، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٥٣ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ١٠١ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٦١ ، وسيرة ابن اسحاق ص ٣٣٥.

(٣) الآية ١٢٦ من سورة النحل.

(٤) راجع : الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ عن مصادر كثيرة وراجع : التفسير الكبير ج ٢٠ ص ١٤١ ، والجامع لأحكام القرآن ج ١٠ ص ٢٠١ ، وجامع البيان ج ١٤ ص ١٣١ ، وغرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج ١٤ ص ١٣٢ ، والتبيان ج ٦

٢٦٢

ونقول : إن بكاءه «صلى الله عليه وآله» على حمزة لا مانع منه ، وأما ما سوى ذلك مما ذكر آنفا ، فنحن نشك في صحته. ونعتقد أنه كقضية ممارسة عمل المثلة الشنيع المنسوب له «صلى الله عليه وآله» زورا وبهتانا ، قد وضع بهدف إظهار رسول الله «صلى الله عليه وآله» كأحد الناس ، الذين يتعاملون مع القضايا من موقع الإنفعال والعصبية للقبيلة والرحم ، ولتبرر بذلك جميع المخالفات التي ارتكبها ويرتكبها الحكام الظالمون.

كما أن ذلك يسقط قول وفعل الرسول «صلى الله عليه وآله» عن الاعتبار والحجية ، فلا يبقى لما ورد عنه «صلى الله عليه وآله» من ذم لمن يحبهم بعض الناس تأثير يذكر.

أما ما نستند إليه في حكمنا على هذه الأقاويل بالوضع والاختلاق ، فهو الأمور التالية :

__________________

ص ٤٤٠ ، ومجمع البيان ج ٦ ص ٣٩٣ ، ولباب التأويل للخازن ، ومدارك التنزيل (بهامشه) ج ٣ ص ١٤٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ٣٨٨ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١١٩ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٩٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦ ، والسيرة النبوية لدحلان بهامش الحلبية ج ٢ ص ٥٣ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٩٧ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ١٠٢ ، وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٢ ص ٥٢٩ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٦١ ، وسيرة ابن اسحاق ص ٣٣٥ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ١٣٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤١ ، والروايات بهذه المعاني تجدها في مختلف كتب الحديث والتاريخ التي تتعرض لغزوة أحد ، ولا يكاد يخلو منها كتاب كلا أو بعضا ، فراجع.

٢٦٣

١ ـ إن ذلك لا ينسجم مع روحية وأخلاق وإنسانية النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، ولا ينسجم حتى مع روح التدبير للأمور العامة ، من قبل أي إنسان حكيم ، مدبر للأمور ، ولا مع سياسة الأمم بالمعنى الصحيح والسليم للسياسة. وذلك لأنه لا مبرر لإبقاء حثة شهيد في الصحراء ، تصهرها أشعة الشمس ، عرضة للوحوش والسباع والطير ، ولا فائدة في إجراء كهذا.

إذ من الواضح : أن ذلك لا يعتبر انتقاما من قريش ، ولا أداء لحق ذلك الشهيد العظيم ، إن لم يكن إساءة وإهانة له ، بملاحظة أن إكرام الميت دفنه. ثم ، أوليست إنسانيته «صلى الله عليه وآله» وأخلاقه الرفيعة هي التي أملت عليه حتى أن يغيب جثث قتلى المشركين في قليب بدر ؛ فكيف بالنسبة لهذا الشهيد العظيم ، أسد الله وأسد رسوله؟!!

ويحاول البعض أن يدّعي : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقصد مدلول هذا الكلام ، وإنما هو يريد فقط أن يظهر مظلوميته ووحشية الطرف الآخر ، أبي سفيان وأصحابه. ولكنها محاولة فاشلة ، فإننا نجل النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» عن أمر كهذا ، ولا يجوز نسبته إليه ؛ لأن معناه : إمكانية التشكيك في كثير من أقواله ، ومواقفه ، وأفعاله «صلى الله عليه وآله».

أضف إلى ذلك : أن ما جرى لحمزة «عليه السلام» قد جرى مثله لغيره من الشهداء ، وإن كان ما جرى لحمزة «عليه السلام» أفظع وأبشع. فلماذا اختص غضبه «صلى الله عليه وآله» بما جرى لعمه وحسب؟!.

ثم إن المفروض بهذا النبي العظيم هو أن يظهر الجلد والصبر لا الجزع والحزن ، إلا بالنحو المعقول والمقبول ، وإلا فما وجه اللوم لغيره ممن فقد

٢٦٤

الأهل والأحبة ، إن تجاوز حده ، وظهر منه ما لا ينبغي في مناسبات كهذه؟!

٢ ـ قولهم على لسانه «صلى الله عليه وآله» : إنه إن ظفر بقريش فسيمثل بثلاثين مرفوض أيضا ؛ إذ هذه جثث قتلى المشركين أمامه ، وهي اثنان أو ثمانية وعشرون جثة ، بل وأكثر من ذلك ، كما يظهر من بعض النصوص ، فلماذا لا يمثل بها ، ويشفي غليل صدره منها؟!

ولم لم يبادر المسلمون ـ بدورهم ـ إلى التمثيل بتلك الجثث التي تركها أصحابها وفروا خوفا من أن يدال المسلمون منهم ، كما فروا من قبل في بدر؟!

٣ ـ أما نزول الآية الكريمة ردا عليه «صلى الله عليه وآله» وهي قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) فلا يصح أيضا ، لأن الآية مكية ؛ فإن سورة النحل قد نزلت في مكة ، وأحد قد كانت في السنة الثالثة من الهجرة (١).

والقول : بأن سورة النحل كلها قد نزلت في مكة إلا هذه الآيات إنما يستند إلى هذه الروايات بالذات ، فلا حجة فيه.

إن قلت : قد تحدثت السورة عن المهاجرين ، وهذا يناسب أن تكون السورة قد نزلت بعد الهجرة.

فالجواب : أنه لم يثبت أن المقصود هو الهجرة إلى المدينة فإن الهجرة إلى الحبشة كانت قد حصلت والمسلمون في مكة ، فلعلها هي المقصودة.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦ عن ابن كثير ، والقول بأن الآية مدينة لا عبرة به لأنه يستند إلى هذه الرواية.

٢٦٥

والقول : بأن ذلك مما تكرر نزوله (١) :

أولا : يحتاج إلى إثبات.

ثانيا : يلزمه أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» قد خالف الحكم الإلهي الثابت ، فاحتاج الله إلى تذكيره بأن موقفه هذا مخالف لنص تلك الآية التي لديه!!.

ثالثا : قد روي عن ابن عباس في قوله : (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) قال : هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ؛ ثم ذكر أنها نسخت ببراءة (٢).

وعن ابن زيد ، قال : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين ، فأسلم رجال ذوو منعة ، فقالوا : يا رسول الله لو أذن الله لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ؛ فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالجهاد (٣).

٤ ـ إن قولهم : إنه «صلى الله عليه وآله» قد نهى في هذه المناسبة عن المثلة محل نظر ؛ وذلك لما ورد عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ـ فذكر حديث العرنيين ـ وفي آخره ، قال : قال قتادة : وبلغنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان بعد ذلك يحث على الصدقة ، وينهى عن المثلة (٤).

ويقول العسقلاني ، عن ابن عقبة في المغازي : «وذكروا : أن النبي «صلى

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ عن ابن جرير ، وابن مردويه.

(٣) الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٤) راجع : صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ٣١ ، ونصب الراية للزيلعي ج ٣ ص ١١٨ عن البخاري ومسلم وسنن البيهقي ج ٩ ص ٦٩ ، ونيل الأوطار ج ٧ ص ١٥١.

٢٦٦

الله عليه وآله» نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة ، وإلى هذا مال البخاري ، وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي» (١).

فكلام قتادة السابق صريح في أنه «صلى الله عليه وآله» قد نهى عن المثلة بعد قضية العرنيين ، وكانت بعد قصة أحد ؛ لأنها كانت في حدود السنة السادسة (٢).

أضف إلى ذلك : ما ذكره سعيد بن جبير ، الذي أضاف في قصة العرنيين قوله : «فما مثل رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبل ولا بعد ، ونهى عن المثلة» (٣).

فمعنى ذلك هو أن رسول الله لم يمارس هذا الفعل الشنيع أصلا ، كما أنه قد نهى من كان بصدد ممارسته.

ونحن بدورنا لنا كلام في قصة العرنيين هذه ، حيث إننا نرفض أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد مثل بهم ، ولا سيما بملاحظة ما قدمناه آنفا ، عن سعيد بن جبير. وقد أنكر أبو زهرة ذلك أيضا (٤).

وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح : أخبرنا ابن أبي يحيى ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي بن حسين قال : لا والله ، ما سمل رسول الله عينا ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم (٥).

__________________

(١) فتح الباري ج ١ ص ٢٩٤.

(٢) راجع : المصنف ج ٩ ص ٢٥٩ ، والبخاري ، ومسلم ، وغير ذلك.

(٣) الإعتبار في الناسخ والمنسوخ ص ٢٠٨ ـ ٢١١ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٣٦٩.

(٤) أبو حنيفة لمحمد أبي زهرة ص ٢٥٠.

(٥) الأم ج ٤ ص ١٦٢.

٢٦٧

ولكن ما يهمنا هنا : هو أن ما ذكروه في قصة العرنيين يتنافى بشكل ظاهر مع كونه «صلى الله عليه وآله» نهى عن المثلة في أحد. ولو أغمضنا النظر عن ذلك ؛ فإن ما نقلناه عن العسقلاني آنفا يدل على أن نهيه «صلى الله عليه وآله» عن المثلة ، إنما كان في أواخر أيام حياته ؛ لأن سورة المائدة قد كانت من أواخر ما نزل عليه «صلى الله عليه وآله».

نعم ، يمكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد قطع أيدي وأرجل العرنيين من خلاف ، لأنهم مفسدون في الأرض. وذلك هو الحكم الثابت لمن يكون كذلك. ثم زاد الرواة وأصحاب الأغراض على ذلك ما شاؤوا.

٥ ـ إنهم يقولون : إن أبا قتادة جعل يريد التمثيل بقريش لما رأى من المثلة ؛ فمنعه «صلى الله عليه وآله» (١).

وهذا هو المناسب لأخلاقه وسجاياه «صلى الله عليه وآله». أما أبو قتادة فإنه إن صح ما نقل عنه يكون قد تصرف هنا بوحي من انفعاله وتأثره ، الناجم عن ثورته النفسية بسبب ذلك المشهد المؤلم.

كما أننا نشك في ما جاء في ذيل هذه الرواية ، الذي يذكر : أنه «صلى الله عليه وآله» قد قرّظ قريشا في هذه المناسبة ، حتى قال : إنه عسى إن طالت بأبي قتادة المدة أن يحقر أعماله مع أعمالهم (٢).

فإننا نعتقد أن هذه التقريظات من زيادات الرواة تزلفا للحكام

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤١ ، وراجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٩٠ و ٢٩١ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٧.

(٢) راجع المصادر المتقدمة.

٢٦٨

الأمويين ـ كما عودونا في مناسبات كثيرة ـ في مقابل علي «عليه السلام» ، وأهل بيته ، لفسح المجال أمام تنقصهم والطعن بهم ، ويكفي أن نتذكر هنا موقف قريش من علي «عليه السلام» وأهل البيت ؛ حيث نجده «عليه السلام» يصفها بأسوأ ما يمكن ، بسبب موقفها السيئ هذا.

يقول أمير المؤمنين «عليه السلام» : «فدع عنك قريشا ، وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبلي ؛ فجزت قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن عمي» (١).

هذا ولا بد أن لا ننسى هنا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لعلي «عليه السلام» : حربك حربي ، وسلمك سلمي (٢).

__________________

(١) راجع : نهج البلاغة ، شرح عبده ، باب الرسائل رقم ٣٦ ، وباب الخطب رقم ٢١٢ و ٣٢ ، وليراجع ص ١٦٧ وغير ذلك.

(٢) راجع : مناقب الإمام علي «عليه السلام» لابن المغازلي ص ٥٠ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٢٤ ، وينابيع المودة ص ٨٥ و ٧١ ، وكنز الفوائد ج ٢ ص ١٧٩ ط دار الأضواء ، والبحار ج ٣٧ ص ٧٢ وج ٤٠ ص ٤٣ و ١٧٧ و ١٩٠ ط مؤسسة الوفاء ، وروضة الواعظين ج ١ ص ١١٣ ، وتلخيص الشافي ج ٢ ص ١٣٥ ، وراجع ميزان الإعتدال ج ٢ ص ٧٥ ، وراجع لسان الميزان ج ٢ ص ٤٨٣ ففيهما حديث معناه ذلك أيضا ، وأمالي الطوسي ج ١ ص ٣٧٤ وج ٢ ص ١٠٠ ، وأمالي الصدوق ص ٣٤٣ ، وراجع إحقاق الحق (الملحقات) للمرعشي النجفي ج ٦ ص ٤٤٠ وج ٤ ص ٢٥٨ وج ٧ ص ٢٩٦ وج ١٣ ص ٧٠ عن مصادر كثيرة.

٢٦٩

وقال علي «عليه السلام» : «اللهم إني أستعديك على قريش [ومن أعانهم] ؛ فإنهم قد قطعوا رحمي ، وأكفأوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري» (١).

وقال «عليه السلام» : «ما لي ولقريش ، والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم» (٢).

ولأبي الهيثم بن التيهان كلام جيد حول موقف قريش من علي ، من أراده فليراجعه (٣).

وفيه يحلل أبو الهيثم سر عداء قريش لأمير المؤمنين «عليه السلام» ، وأنه إنما كان بسبب بغيها وحسدها له ، وعدم قدرتها على اللحاق به.

وقد ذكرنا شطرا كبيرا من النصوص الدالة على ذلك مع مصادرها في كتاب لنا بعنوان «الغدير والمعارضون».

هذا كله .. عدا عما كان في صدور قريش من حقد على بني هاشم عموما ، وعلى الأنصار أيضا. وقد مر في جزء سابق من هذا الكتاب في فصل سرايا وغزوات قبل بدر إلماحة عن موقف قريش من الأنصار فليراجع ذلك هناك.

وأخيرا ، قول : إن هذه كانت حالة قريش بعد طول المدة ، فكيف يحقر أبو قتادة أعماله مع أعمالها؟! وكيف يكون لها ذلك المقام المحمود عند الله تعالى؟!.

__________________

(١) راجع : الهامش ما قبل الأخير.

(٢) راجع : الهامش ما قبل الأخير.

(٣) الأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ٣١٦ و ٣١٧.

٢٧٠

ما هو الصحيح في القضية؟!

ولعل الصحيح هنا : هو قضية أبي قتادة المتقدمة ، وإن كان قد تزيد الرواة فيها تزلفا للحكام ، كما أشرنا.

يضاف إلى ذلك : ما رواه غير واحد عن أبي بن كعب (ر ض) ، قال :

لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة. فمثلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا ، لنربينّ عليهم.

فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(١) فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : نصبر ، ولا نعاقب ، كفوا عن القوم إلا أربعة.

وحسب نص ابن كثير : عن عبد الله بن أحمد : فلما كان يوم الفتح ، قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم ؛ فنادى مناد : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا ، ناسا سماهم ، فأنزل الله الخ .. (٢).

وعن الشعبي ، وابن جريج ما يقرب من هذا أيضا باختصار (٣).

__________________

(١) الآية ١٢٦ من سورة النحل.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ عن : الترمذي ، وحسّنه ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٢.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٢.

٢٧١

وفي رواية : أن المسلمين لما رأوا المثلة بقتلاهم قالوا : لئن أنالنا الله منهم لنفعلن ، ولنفعلن ، فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ) الآية ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : بل نصبر (١).

لكن ما تذكره هذه الروايات من أن الآية قد نزلت في هذه المناسبة محل نظر ، وذلك لما قدمناه من كونها مكية ، ويمكن أن يكون الرسول «صلى الله عليه وآله» عاد فذكرهم بالآية ، مبالغة منه «صلى الله عليه وآله» في زجرهم عن ذلك ، فتوهم الراوي : أن الآية قد نزلت في هذه المناسبة.

وأما القول بأن الآية قد شرعت المثلة ، ولكنها رجحت الصبر عليها .. فهو غير صحيح ؛ لأن المراد بالعقوبة هو ما بينته الآية الشريفة الأخرى التي تقول : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ..)(٢) ثم جاءت الروايات التي تنهى عن المثلة لتؤكد هذا المعنى.

ب : هند وكبد حمزة :

قد تقدم : أنه «صلى الله عليه وآله» لما بلغه محاولة هند أكل كبد حمزة فلم تستطع أن تسيغها ، قال : ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار ، أو نحو ذلك.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ عن ابن جرير ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وراجع : البحار ج ٢٠ ص ٢١ عن مجمع البيان.

(٢) الآية ٤٥ من سورة المائدة.

٢٧٢

قال الحلبي : «أي ولو أكلت منه ، أي استقر في جوفها لم تمسها النار» (١).

وهو تفسير غريب وعجيب حقا!! فإن ظاهر كلامه «صلى الله عليه وآله» : أن هندا من أهل النار ، وقد أبى الله أن يدخل شيئا من حمزة النار.

ولو صح تفسير الحلبي مع حكمهم بأن هندا قد أسلمت وستدخل الجنة ، لكان اللازم أن تسيغ ما أكلته من كبده ، ويستقر في جوفها ، لأن هندا ستدخل الجنة!! فلتكن تلك القطعة معها ، لتدخل الجنة كذلك!!.

نعم وهذا ما يرمي إليه الحلبي ، فإن له كلاما طويلا في المقام يدخل فيه هندا الجنة. وقد دفعه هواه إلى تفسير كلام النبي «صلى الله عليه وآله» بصورة جعلته يصبح بلا معنى ولا مدلول.

ج : المنع من البكاء على الميت :

لقد بكى النبي «صلى الله عليه وآله» على حمزة ، وقال : أما حمزة فلا بواكي له.

وبعد ذلك بكى على جعفر ، وقال : على مثل جعفر فلتبك البواكي.

وبكى على ولده إبراهيم ، وقال : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وبكى كذلك على عثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، وزيد بن حارثة ، وبكى الصحابة ، وبكى جابر على أبيه ، وبشير بن عفراء على أبيه أيضا ، إلى غير ذلك مما هو كثير في الحديث والتأريخ (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٤.

(٢) راجع : النص والإجتهاد ص ٢٣٠ ـ ٢٣٤ ، والغدير ج ٦ ص ١٥٩ ـ ١٦٧ ، ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ١٣٤ و ١٣٦ عن عشرات المصادر الموثوقة ،

٢٧٣

فكل ذلك فضلا عن أنه يدل على عدم المنع من البكاء ، فإنه يدل على مطلوبية البكاء ، وعلى رغبته «صلى الله عليه وآله» في صدوره منهم.

ولكننا نجد في المقابل : أن عمر بن الخطاب يمنع من البكاء على الميت ويضرب عليه ؛ ويفعل ما شاءت له قريحته في سبيل المنع عنه ، ويروي حديثا عن النبي «صلى الله عليه وآله» مفاده : أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه (١).

مع أننا نجد أنه هو نفسه قد أمر بالبكاء على خالد بن الوليد (٢).

__________________

والإستيعاب (بهامش الاصابة) ترجمة جعفر ج ١ ص ٢١١ ، ومنحة المعبود ج ١ ص ١٥٩ ، وكشف الأستار ج ١ ص ٣٨١ و ٣٨٣ و ٣٨٢ ، والاصابة ج ٢ ص ٤٦٤ ، والمجروحون ج ٢ ص ٩٢ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٨٩ وراجع ص ٢٥١ ، ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٨٩٤ و ٨٩٥ وراجع ص ٩٣٢ و ٩٣٣ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٥٧١ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٣٩٦ وج ٢ ص ٣١٣.

(١) راجع المصادر المتقدمة والغدير وغيره عن عشرات المصادر الموثوقة ، وكذا منحة المعبود ج ١ ص ١٥٨ ، وفي ذكر أخبار أصبهان ج ١ ص ٦١ عن أبي موسى ، والطبقات لابن سعد ج ٣ ص ٢٠٩ و ٣٤٦ و ٣٦٢. وراجع : تأويل مختلف الحديث ص ٢٤٥.

(٢) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٧٥ ، والاصابة ج ١ ص ٤١٥ ، وصفة الصفوة ج ١ ص ٦٥٥ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٩٦ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٤٦٥ عن الاصابة ، والمصنف ج ٣ ص ٥٥٩ ، وفي هامشه عن البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٤٧ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٧٩ ، والفائق ج ٤ ص ١٩ ، وربيع الأبرار ج ٣ ص ٣٣٠ ، وراجع : تاريخ الخلفاء ص ٨٨ ، وراجع : لسان العرب ج ٨ ص ٣٦٣.

٢٧٤

وقد بكت عائشة على إبراهيم (١) وبكى أبو هريرة على عثمان ، والحجاج على ولده (٢) وبكى صهيب على عمر (٣) وهم يحتجون بما يفعله هؤلاء.

وبكى عمر نفسه على النعمان بن مقرن ، وعلى غيره (٤) وقد نهاه النبي «صلى الله عليه وآله» عن التعرض للذين يبكون موتاهم (٥).

كما أن عائشة قد أنكرت عليه وعلى ولده عبد الله هذا الحديث الذي تمسك به ، ونسبته إلى النسيان ، وقالت : «يرحم الله عمر ، والله ، ما حدث رسول الله : إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، لكن رسول الله «صلى الله

__________________

(١) منحة المعبود ج ١ ص ١٥٩.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ ط صادر ص ٨١ ، وفي الثاني ربيع الأبرار ج ٢ ص ٥٨٦.

(٣) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٣٦٢ ، ومنحة المعبود ج ١ ص ١٥٩.

(٤) الغدير ج ١ ص ١٦٤ و ٥٤ و ١٥٥ ، عن الإستيعاب ترجمة النعمان بن مقرن والرياض النضرة المجلد الثاني جزء ٢ ص ٣٢٨ و ٣٢٩ حول بكاء عمر على ابن ذلك الأعرابي حتى بل لحيته.

(٥) راجع الغدير عن المصادر التالية : مسند أحمد ج ١ ص ٢٣٧ و ٢٣٥ وج ٢ ص ٣٣٣ و ٤٠٨ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٩٠ و ٣٨١ ، وصححه هو والذهبي في تلخيصه ، ومجمع الزوائد ج ٣ ص ١٧ ، والإستيعاب ترجمة عثمان بن مظعون ، ومسند الطيالسي ص ٣٥١.

وراجع : سنن البيهقي ج ٤ ص ٧٠ ، وعمدة القاري ج ٤ ص ٨٧ عن النسائي ، وابن ماجة ، وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٨١ ، وكنز العمال ج ١ ص ١١٧ ، وأنساب الاشراف ج ١ ص ١٥٧ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٣٩٩ و ٤٢٩ ، ومنحة المعبود ج ١ ص ١٥٩.

٢٧٥

عليه وآله» قال : إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه.

قالت : حسبكم القرآن : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١)» (٢).

وفي نص آخر ، أنها قالت : «إنما مر رسول الله «صلى الله عليه وآله» على يهودية يبكي عليها أهلها ، فقال : إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» (٣).

وأنكر ذلك أيضا : ابن عباس ، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن أراد المزيد ، فعليه بمراجعة المصادر (٤).

السياسة وما أدراك ما السياسة؟! :

ونشير هنا إلى ما قاله الإمام شرف الدين رحمه الله تعالى قال : «وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عن البلد في نياحتها على أبيها «صلى الله عليه وآله» ، وخروجها بولديها في لمة من نسائها

__________________

(١) الآية ١٦٤ من سورة الأنعام.

(٢) راجع صحيح البخاري (ط سنة ١٠٣٩) ج ١ ص ١٤٦ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٨١ ، وإختلاف الحديث للشافعي هامش الأم ج ٧ ص ٢٦٦ ، وجامع بيان العلم ج ٢ ص ١٠٥ ، ومنحة المعبود ج ١ ص ١٥٨ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٣٤٦ ، ومختصر المزني هامش الأم ج ١ ص ١٨٧ ، والغدير ج ٦ ص ١٦٣ عمن تقدم ، وعن صحيح مسلم ج ١ ص ٣٤٢ و ٣٤٤ و ٣٤٣ ، ومسند أحمد ج ١ ص ٤١ ، وسنن النسائي ج ٤ ص ١٧ و ١٨ ، وسنن البيهقي ج ٤ ص ٧٣ و ٧٢ ، وسنن أبي داود ج ٢ ص ٥٩ ، وموطأ مالك ج ١ ص ٩٦.

(٣) صحيح البخاري ج ١ ص ١٤٧.

(٤) راجع الغدير ، ودلائل الصدق ، والنص والإجتهاد ، وغير ذلك.

٢٧٦

إلى البقيع يندبن رسول الله ، في ظل أراكة (١) كانت هناك ، فلما قطعت بنى لها علي بيتا في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة ، يدعى : بيت الأحزان. وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة» (٢).

وأقول : إن من القريب جدا : أن يكون حديث : «إن الميت ليعذب ببكاء الحي» قد حرف عن حديث (البكاء على اليهودية المتقدم) ؛ لدوافع سياسية لا تخفى ؛ فإن السلطة كانت تهتم بمنع فاطمة «عليها السلام» من البكاء على أبيها.

فيظهر : أن هذا المنع قد استمر إلى حين استقر الأمر لصالح الهيئة الحاكمة ، ولذلك لم يعتن عمر بغضب عائشة ، ومنعها إياه من دخول بيتها حين وفاة أبي بكر ، فضرب أم فروة أخت أبي بكر بدرته ، وقد فعل هذا رغم أن البكاء والنوح كان على صديقه أبي بكر ، وكان هجومه على بيت عائشة ، وكان ضربه لأخت أبي بكر. وهو الذي كان يهتم بعائشة ويحترمها ، وهي المعززة المكرمة عنده ، ويقدر أبا بكر ومن يلوذبه ، ويحترم بيته بما لا مزيد عليه.

نعم ، لقد فعل كل هذا لأن الناس لم ينسوا بعد منع السلطة لفاطمة «عليها السلام» من النوح والبكاء على أبيها.

وناهيك بهذا الإجراء جفاء وقسوة : أن يمنع الإنسان من البكاء على أبيه ، فكيف إذا كان هذا الأب هو النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أعظم ، وأكمل ، وأفضل إنسان على وجه الأرض. ثم لما ارتفع المانع ، ومضت مدة

__________________

(١) الأراك : نوع شجر.

(٢) النص والإجتهاد ص ٢٣٤.

٢٧٧

طويلة ، وسنين عديدة على وفاة سيدة النساء «عليها السلام» ، ونسي الناس أو كادوا ، أو بالأحرى ما عادوا يهتمون بهذا الأمر ، ارتفع هذا المنع على يد عمر نفسه ، وبكى على النعمان بن مقرن الذي توفي سنة ٢١ ه‍ وعلى شيخ آخر ، وسمح بالبكاء على خالد بن الوليد ، الذي توفي سنة ٢١ أو ٢٢ حسبما تقدم.

وهذا غير ما تقدم قبل صفحات عن مصادر كثيرة : من النهي عن خمش الوجوه ، وشق الثياب ، واللطم ، والنوح بالباطل. فإنه غير البكاء وهياج العواطف الإنسانية الطبيعية. وذلك لأن الأول ينافي التواضع لله عز وجل والتسليم لقضائه ؛ أما الثاني فهو من مقتضيات الجبلة الإنسانية ، ودليل اعتدال سجية الإنسان. وشتان ما بينهما.

التوراة والمنع من البكاء على الميت :

ويبدو لنا أن المنع من البكاء على الميت مأخود من أهل الكتاب ؛ فإن عمر كان يحاول هذا المنع في زمن النبي «صلى الله عليه وآله» بالذات ؛ ولم يرتدع بردع النبي له إلا ظاهرا.

فلما توفي «صلى الله عليه وآله» ولم يبق ما يحذر منه ، صار الموقف السياسي يتطلب الرجوع إلى ما عند أهل الكتاب ، فكان منع الزهراء «عليها السلام» عن ذلك ، كما قدمنا.

وقد جاء هذا موافقا للهوى والدافع الديني والسياسي على حد سواء.

ومما يدل على أن ذلك مأخوذ من أهل الكتاب : أنه قد جاء في التوراة :

«يا ابن ، ها أنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة ؛ فلا تنح ولا تبك ، ولا

٢٧٨

تنزل دموعك ، تنهد ساكتا ، لا تعمل مناحة على أموات» (١).

د : حزن النبي صلّى الله عليه وآله على حمزة :

١ ـ إن من الثابت حسبما تقدم ، أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد حزن على حمزة وبكى عليه ، وأحب أن يكون ثمة بواكي له ، كما لغيره.

وواضح : أن حزن الرسول «صلى الله عليه وآله» هذا ورغبته تلك ليسا إلا من أجل تعريف أصحابه ، والأمة أيضا بما كان لحمزة من خدمات جلى لهذا الدين ، ومن قدم ثابتة له فيه ، وبأثره الكبير في إعلاء كلمة الله تعالى.

ويدلنا على ذلك : أنه «صلى الله عليه وآله» قد وصفه ـ كما يروى ـ بأنه كان فعولا للخيرات ، وصولا للرحم الخ .. (٢).

ولأن حزنه «صلى الله عليه وآله» عليه كان في الحقيقة حزنا على ما أصاب الإسلام بفقده ، وهو المجاهد الفذ ، الذي لم يكن يدخر وسعا في الدفاع عن هذا الدين ، وإعلاء كلمة الله.

وما ذلك إلا لأن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليهتم بالبكاء على حمزة ، ولا ليبكي هو «صلى الله عليه وآله» عليه لمجرد دوافع عاطفية شخصية ، أو لعلاقة رحمية ونسبية ، وإنما هو «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) حزقيال. الإصحاح ٢٤ الفقرة ١٦ ـ ١٨.

(٢) راجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ٩٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦ ، والسيرة النبوية لدحلان ، بهامش الحلبية ج ٢ ص ٥٣ ، والاصابة ج ١ ص ٣٥٤ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٤٨ ، والدر المنثور ج ٤ ص ١٣٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٢٨٨ ط دار الكتب العلمية ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١١٩ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٩٧.

٢٧٩

يحب في الله وفي الله فقط ، تماما كما كان يبغض في الله ، وفي الله فقط.

فهو «صلى الله عليه وآله» يحزن على حمزة بمقدار ما كان حمزة مرتبطا بالله تعالى ، وخسارته خسارة للإسلام. وإلا فكما كان حمزة عمه ، فقد كان أبو لهب عمه أيضا ، وعداوة أبي لهب للرسول «صلى الله عليه وآله» لا تدانيها عداوة ، فقد كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي «صلى الله عليه وآله» ، وأعظمهم إيذاء له.

وموقفه «صلى الله عليه وآله» من أبي لهب معروف ومشهور. ولكننا نجد في المقابل موقفه «صلى الله عليه وآله» من (سلمان) الذي كان «صلى الله عليه وآله» يحب أن يقال له : «سلمان المحمدي» بدلا من : «الفارسي» (١).

وقد قال «صلى الله عليه وآله» في حقه : «سلمان منا أهل البيت» (٢).

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٢ ص ٣٢٧ و ٣٤٩ ، وسفينة البحار ج ١ ص ٦٤٦ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٥.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٨ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٠ و ٢٠٤ ، وذكر أخبار أصبهان ج ١ ص ٥٤ ، والإختصاص ص ٣٤١ ، وبصائر الدرجات ص ١٧ ، والبحار ج ٢٢ ص ٣٢٦ و ٣٣٠ و ٣٣١ و ٣٤٨ و ٣٤٩ و ٣٧٤ ، وسفينة البحار ج ١ ص ٦٤٦ و ٦٤٧ ، والطبقات لابن سعد ج ١ ص ٥٩ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٣١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ ، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ١٠٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ ، ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٥١ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٦٨ ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٦ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٥ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٥ و ٤٢٤ ، ونفس الرحمن ص ٣٤ و ٣٥ و ٢٩ و ٤٣ عن مجمع البيان ، والدرجات الرفيعة ص ٢١٨.

٢٨٠