الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

كما أننا لا نعرف أين ذهب عنه «صلى الله عليه وآله» أصحابه الثلاثون الذين فاؤوا إليه ، ثم لحقهم من لحقهم؟!

وأين كان عنه سلمان ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، وعمار ، وأخوه ووصيه علي بن أبي طالب «عليه السلام»؟!

ولم لا يدافعون عنه ، ويحمونه من ملاحقة المشركين ، حتى يضطر طلحة لأن يرجع القهقرى ، وهو حامل رسول الله «صلى الله عليه وآله». ثم يدافع عنه كلما أدركه أحد من المشركين؟!

كما أنه لم يثبت تاريخيا عودة من كانوا في أعلى الجبل إلى ساحة الحرب ـ وطلحة منهم ـ بل الثابت خلافه ، كما سنرى إن شاء الله.

إشارة هامة :

ويقولون : «إنه لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس ، تخوفوا أن يدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي ، فآوي إليه ، وأتهود معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر ، أو حدث حادث.

وقال الآخر : أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني في الشام ، وأتنصر معه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ)(١)» (٢).

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة المائدة.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٨ ، وتفسير الخازن ج ١ ص ٥٠٣ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٢٩١ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي.

وراجع : ودلائل الصدق ج ٣ ص ٢٠٤ ، وطرائف ابن طاووس ص ٤٩٤ ، وقاموس الرجال ج ٥ ص ١٦٩ عنه.

٢٢١

وقد روى ابن طاووس في الطرائف ، والعلامة في نهج الحق هذه الرواية عن السدي ، الذي روى عنه ابن جرير ، وابن أبي حاتم وغيرهما. وقد صرح السدي بأن الرجلين هما عثمان وطلحة. وأنهما استأذنا النبي «صلى الله عليه وآله» ، وألحا عليه في ذلك.

كما أن رواية أخرى عن عكرمة تقول : «كان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام» (١) ، فقد صرحت الرواية باسم طلحة في تفسير نفس هذه الآية.

والرجل الآخر قد اختلف فيه ، فقال عكرمة هو الزبير ، وقال السدي هو عثمان.

ثم إن لطلحة هذا هنات وهنات ، ومواقف عجيبة وغريبة ، ويكفي أن نذكر : أن عمر بن الخطاب قد أخبر حين حضرته الوفاة بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» مات وهو عليه ساخط ، لأنه قال : «إنه سيتزوج نساء النبي من بعده ، فنزلت فيه : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)(٢)» (٣).

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩١ عن ابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) الآية ٥٣ من سورة الأحزاب.

(٣) الغدير ج ١٠ ص ١٢٧ ، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٢٨ ، وعن فيض القدير ج ٤ ص ٢٩٠ ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠٦ ، وتفسير البغوي ج ٥ ص ٢٢٥ ، وتفسير الخازن ج ٥ ص ٢٢٥ ، وتفسير الآلوسي ج ٢٢ ص ٧٤ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٦٠ وج ٣ ص ١٧٠. وليراجع الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٤ عن ابن أبي حاتم عن السدي وعن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن سعد.

٢٢٢

ومن أراد المزيد ، فليراجع قاموس الرجال وغيره ؛ ليقف على بعض مواقف طلحة وأفاعيله. وحسبنا ما ذكرناه هنا ، وقد يأتي المزيد مما يتعلق بهذا الموضوع إن شاء الله.

تجميع القوى ، وإعادتها إلى مراكزها :

قد ذكرنا فيما تقدم : أنه بعد أن صار الرسول يدعو المسلمين إليه ، صاروا يرجعون إليه زرافات ووحدانا ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، وحرص النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» على أن يرجع بهم إلى مراكزهم الأولى ؛ لأن ذلك سوف يجعل الجبل من خلفهم ؛ فيخلصون الحرب إلى جهة واحدة (١). تماما كما هي الخطة الأولى. وكانت الجراح قد أرهقت عليا ـ كما تقدم ـ حتى بلغت نيفا وستين جراحة ـ كما عن أنس بن مالك ـ بين طعنة ، ورمية ، وضربة.

وفي رواية : نيفا وأربعين أو نيفا وسبعين. وفي رواية : تسعين (٢).

ويحتمل أن تكون : كلمتا تسعين وسبعين : إحداهما تصحيف للأخرى لتقارب الرسم فيما بينهما ، مع عدم وجود النقط للكتابة في السابق. ويبدو أنه في هذه اللحظات الحرجة ، وبعد أن رجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بعض من انهزم من أصحابه وبقاء أصحاب الصخرة في موقعهم ، خائفين أن تصل إليهم قريش.

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ١١٦ ، والبحار ج ٢ ص ٥٤.

(٢) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٠٩ ، والبحار ج ٢٠ ص ٢٣ عنه وص ٥٤ و ٧٠ و ٧٨ ، وتفسير القمي ج ١ ص ١١٦ ، وعن الخصال ج ١ ص ٣٦٨ ، وعن الخرائج.

٢٢٣

نعم ، في هذه اللحظات يبدو أن الله قد أنزل على القادمين الراجعين إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، التائبين ، أمنة نعاسا ، لكي يطمئنوا إلى نصر الله ولطفه.

أما أصحاب الصخرة ، أو كثير منهم ، فقد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية. وهؤلاء كانوا ـ في الأكثر ـ من المنافقين.

والخلاصة : أن النعاس في الحرب يكون من الإيمان والاعتقاد بالله ، وفي الصلاة يكون من الشيطان. وهكذا كان ؛ فقد بلغ الرسول وتلك الثلة من المسلمين المجاهدين ، سفح جبل أحد ، واستقروا فيه ، ولم يجاوزوه. فأرعب ذلك المشركين ، لما رأوه من عودة المسلمين إلى مراكزهم الأولى ، وتجميع صفوفهم ، وارتفاع معنوياتهم من جديد. وإن كان لا تزال ثلة منهم فوق الجبل ، وهم أصحاب الصخرة ، ومنهم أبو بكر ، وعمر ، وطلحة ، وغيرهم ؛ فخاف المشركون أن يدال المسلمون منهم من جديد ، ويفعلوا بهم كما فعلوا في ابتداء الحرب ، ففضلوا إنهاء الحرب ، والانسحاب بسلام ، وهكذا كان. وحينئذ أعلن أبو سفيان انتهاء الحرب ، وأشرف على الجبل ، ونادى بأعلى صوته : أعل هبل.

وحيث إن المسألة لم تعد مسألة شخصية ، وإنما يريد أبو سفيان أن يعتبر هذا النصر الظاهري وإن كان ينطوي على الرعب القاتل ، مؤيدا لدينه ولإلهه هبل ، فقد أجابه النبي «صلى الله عليه وآله» (١) ـ وقيل عمر ـ : «وقد صرحت بعض

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٣١ ، ومجمع البيان ج ٢ ص ٥٠٩ ، والبحار ج ٢٠ ص ٢٣ عنه.

٢٢٤

الروايات بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد علّم عمر ما يقول» (١).

وفي رواية : أن النبي «صلى الله عليه وآله» علّم عليا «عليه السلام» ، فأجابه (٢) : الله أعلى وأجل.

فقال أبو سفيان : أنعمت فعال ، إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر.

فقال : لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار.

وفي نص لأبي هلال العسكري : نادى أبو سفيان : أعل هبل.

فقال عمر : الله أعلى وأجل.

فقال : إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب فقال : إنها (٣).

فجواب عمر هذا ، وتصديقه لأبي سفيان لا ندري ما يعني به؟ وكيف نفسره؟!.

ثم سأل أبو سفيان : إن كان النبي «صلى الله عليه وآله» حيا ، فأمرهم النبي «صلى الله عليه وآله» : أن لا يجيبوه.

ثم سأل ـ كما قيل ـ عن أبي بكر ، وعن عمر ، فكذلك (٤).

فيقال : إن أبا سفيان قال حينئذ : أما إن هؤلاء قد قتلوا ، وقد

__________________

(١) راجع : تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٣ عن البخاري.

(٢) تفسير القمي ج ١ ص ١١٧ ، والبحار ج ٥٦ عنه وص ٩٧ عن اعلام الورى وفيه : أن أبا سفيان سأل عليا «عليه السلام» عن حياة النبي «صلى الله عليه وآله».

(٣) الأوائل ج ١ ص ١٨٤ و ١٨٥ ، وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٢.

(٤) وإن كنا نشك في ذكرهما هنا : فقد تعودنا أن نجد هذا التعاقب في كثير من الروايات ، ولعله بهدف الإيحاء بأن الزعامة بعد النبي «صلى الله عليه وآله» كانت لأبي بكر ، ثم لعمر ، ثم لعثمان ، ولكن عثمان لم يذكر هنا لغيابه وفراره.

٢٢٥

كفيتموهم ، ولو كانوا أحياء لأجابوا. فعند ذلك ـ كما يقولون ـ لم يملك عمر نفسه ، وأخبرهم : أنهم أحياء ، فطلب أبو سفيان من عمر أن يأتيه ، فقال «صلى الله عليه وآله» لعمر : إئته ، فانظر ما شأنه. فجاءه ، فسأله : إن كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد قتل.

فقال عمر : اللهم لا ، وإنه ليسمع كلامك الآن.

قال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة ، وأبر (١).

ثم واعدهم أبو سفيان بدرا في العام القادم ، وانصرف.

ولكن إذا كان عمر بن الخطاب قد أجاب أبا سفيان على قوله : أعل هبل.

وكان ذلك قبل هذا الكلام ، فإن أبا سفيان الذي خاطب عمر ، وسمع صوته ، ورأى مكانه ، لا يمكن أن يدّعي : أن عمر قد مات بعد ذلك بدقائق ، إلا إذا فرض أنه سمع صوته ، ولم يعرفه ولم يره ، بسبب وجود موانع من رؤيته له.

ولكنه فرض لا يصح ، لأن أبا سفيان قد صرح في كلامه بأنه إنما يخاطب ابن الخطاب بالذات.

ومهما يكن من أمر ، فقد جاء علي «عليه السلام» إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بعد أن انتهت الحرب ، فغسل وجهه ، وضمدت جراحه فاطمة «عليها السلام».

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤٠ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٤ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠٥ ، والكامل ج ٢ ص ١٦٠ ، والثقات ج ١ ص ٢٣٢ ، وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٤ و ٤١٥.

٢٢٦

ومثّل نساء المشركين في قتلى المسلمين فجدعن الأنوف والآذان ، إلا أنهن لم يمثلن بحنظلة ابن أبي عامر ، لأن أباه طلب منهن تركه ، فتركنه له.

وتشاوروا في نهب المدينة ؛ فأشار صفوان بن أمية بالعدم ؛ لأنهم لا يدرون ما يغشاهم (١).

وأرسل النبي «صلى الله عليه وآله» عليا أمير المؤمنين «عليه السلام» في آثارهم ؛ لينظر ؛ فإن كانوا قد ركبوا الإبل ، وجنبوا الخيل ؛ فهم يريدون مكة ، وإن كان العكس ، فهم يريدون المدينة ، فلا بد من مناجزتهم فيها ؛ فذهب «عليه السلام» ، وعاد ، فأخبره بأنهم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل (٢).

ولكن البعض يقول : إن سعد بن أبي وقاص هو المرسل في هذه المهمة ، وإنه لما رجع رفع صوته بأنهم قد جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل.

فجعل النبي «صلى الله عليه وآله» يشير إليه : خفّض صوتك ، فإن الحرب خدعة. فلا تر الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم ؛ فإنما ردهم الله تعالى.

ويقول الواقدي : إنه «صلى الله عليه وآله» أوصى سعدا بأنه إن رأى القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك ، ولا تفت في أعضاد المسلمين (٣).

ونسب مثل ذلك إلى علي «عليه السلام» ، وأنه رفع صوته بالخبر ، مع

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٥.

(٢) راجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٣٢ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠٥ و ٢٠٦ ، والكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٦١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤٠.

(٣) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٩٨ و ٢٩٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٣٢.

٢٢٧

أنه «صلى الله عليه وآله» كان قد أوصاه بخلاف ذلك (١).

ونحن نجلّ عليا «عليه السلام» عن أن يكون قد ارتكب مثل هذه المخالفة ، فقد تعودنا منه الوعي الكامل ، والطاعة المطلقة للرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وقد تقدم : أنه «صلى الله عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام» في خيبر : إذهب ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فمشى هنيئة ثم قام ولم يلتفت للعزمة ، ثم قال : على ما أقاتل؟! الخ ..

ولعله لأجل هذه الانضباطية المطلقة منه «عليه السلام» في تنفيذ أوامر الرسول نجده «صلى الله عليه وآله» ينهى ذلك الذي أرسله في رسالة إلى علي «عليه السلام» ، الذي سار في مهمة عسكرية ـ ينهاه ـ عن أن ينادي عليا من خلفه (٢).

فهذه القضية بسعد أشبه منها بعلي ، وإن كان يمكن أن يكون قد أرسلهما معا.

فمقصود المحرفين هو أن يقولوا : إن المخالفة تصدر من علي «عليه السلام» كما تصدر من غيره ، وأنه لا كبير فرق فيما بينهم. ولكن الله يأبى إلا أن يظهر الحق ، ويتم نوره.

ومن جهة أخرى نلاحظ : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد صرح

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠٦ و ٢٠٧ ، والكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٦٠ و ١٦١.

(٢) البحار ج ٧٣ ص ٢٢٣ و ٣٢٥ ط مؤسسة الوفاء عن قرب الإسناد ص ٧٦ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٢١٧.

وراجع : حياة الصحابة ج ١ ص ٩٧ ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٥ ، وعن كنز العمال ج ٢ ص ٢٩٧.

٢٢٨

بمعرفته بنوايا جيش الأعداء ، وأعطى دلائل تشير إلى تلك النوايا وهي دلائل دقيقة وعميقة ، لا يدركها الناس العاديون ، حيث جعل ركوبهم الإبل دليلا على أمر آخر ..

وقد استعد لمواجهة كلا الاحتمالين بالقرار المناسب ، فكيف ينسبون إليه ـ والعياذ بالله ـ أنه يجهل بأمور بديهية ، مثل قصة تأبير النخل ونحوها ، مما هو مختلق ومكذوب؟

ونلاحظ أيضا : أن تفرق جيشه من حوله حتى لم يبق معه سوى علي «عليه السلام» لم يضعفه ، ولم يفقده القدرة على اتخاذ القرار الصحيح في مواضع الشدة ، فيعلن لعلي بهذا القرار الذي يشير إلى أنه لم يكن في تلك اللحظات الصعبة يفكر بنفسه ، بل بما هو أهم وأولى وأكثر حساسية بالنسبة لحفظ الكيان العام ألا وهو حفظ حرمة المدينة من أن ينتهكها الجيش الغازي.

ومهما يكن من أمر ، فإنه بعد انتهاء المعركة خرج علي «عليه السلام» حتى ملأ درقته ماء من المهراس ، فجاء به رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليشرب ؛ فوجد له ريحا ، فعافه ولم يشرب. وغسل الدم عن وجهه.

ويقال : إن فاطمة «عليها السلام» كانت تغسل جراحاته وتضمدها ، وهو «صلى الله عليه وآله» يقول : إشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه (١).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤١ و ٤٣٧ عن المواهب اللدنية ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٧ و ٢٣٦ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٥٧ و ١٥٨ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠٠ و ٢٠١ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٩٠ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٧ ، وفي السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٦ و ٢٣٧ : أن سعدا هو الذي أتاه بالماء ، فشرب منه ودعا له. ولكن الصحيح هو أنه علي (عليه السلام) لتضافر الروايات عليه.

٢٢٩

وبعد انتهاء الحرب أرسل عليا «عليه السلام» إلى المدينة ليبشر أهلها : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» حي سالم (١).

وهنا أمور لا بأس بالإلماح إليها للتتميم ، والتوضيح ، والتصحيح ، وهي :

ألف : فاطمة أم أبيها :

إننا حينما نقرأ هذه الفقرات حول تضميد فاطمة «عليها السلام» جراحات رسول الله «صلى الله عليه وآله» نتذكر أنها ـ كما رواه الإمام الصادق «عليه السلام» ـ كانت تلقب : بأم أبيها (٢).

وما ذلك إلا لأنها كانت بمنزلة الأم في حنانها ، وعطفها ، ورعايتها له «صلى الله عليه وآله» ، وسهرها على راحته وسعادته ، وكانت تفرح لفرحه ، وتحزن لحزنه.

ومن الواضح : أن الأم إنما تتحمل المتاعب ، وتصبر على الصعاب في سبيل ولدها ، وهي تتمنى حياته. (أما الولد ، فإنه إذا رعى شؤون والديه ، وتحمل بعض المتاعب في سبيلهما ، فإنما يفعل ذلك وهو يتوقع ، أو يتمنى وينتظر موتهما).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤٠.

(٢) راجع : الإستيعاب (مطبوع بهامش الاصابة) ج ٤ ص ٣٨٠ ، وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٣٥٧ ، والبحار ج ٤٣ ص ١٩ ، وكفاية الطالب ص ٣٦٩ ، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٣٢ ، وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١١٩ ، والاصابة ج ٤ ص ٣٧٧ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٢٠ ، ومقاتل الطالبيين ص ٤٦ ، وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٤٤٠ لكنه صحف كلمة (أبيها) ب (ابنها) فراجع.

٢٣٠

لقد كانت فاطمة «عليها السلام» ، بمنزلة الأم ، لأنها كانت تريد حياته «صلى الله عليه وآله» ، وتريد أن تبقى معه ولا تفارقه ، حتى إنها حينما أخبرها ، وهو على فراش الموت : أنها أول أهل بيته لحوقا به ضحكت واستبشرت ، فراجع كتب الحديث والتاريخ (١).

وقد تحدثنا عن معنى هذه الكلمة : «أم أبيها» في كتابنا «مأساة الزهراء عليها السلام» (٢) فراجع.

ب : النبي صلّى الله عليه وآله والمسلمون في الجبل!

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» لما صعد الجبل علت عالية من قريش الجبل ؛ فقاتلهم عمر ، ورهط من المهاجرين ، حتى أهبطوهم من الجبل ، ونهض «صلى الله عليه وآله» إلى صخرة في الجبل ليعلوها ؛ فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة ، ونهض به حتى استوى عليها ، وكان بطلحة

__________________

(١) راجع : حلية الأولياء ج ٢ ص ٣٩ ، وصفة الصفوة ج ٢ ص ١٢ ، وخصائص أمير المؤمنين «عليه السلام» للنسائي ص ١١٩ ، وفي هامشه عن مصادر كثيرة ، وراجع : ينابيع المودة ص ١٧٣ ، والصواعق المحرقة ص ١٨٨ ، وكنز العمال ج ١٣ ص ٩٢ و ٩٣ ، والاصابة ج ٤ ص ٣٧٨ ، وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٢٠ وراجع : البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٣٢ ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٦٠ ، وعن مسلم في فضائل الصحابة وعن أبي داود أيضا ، ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٣٦١ و ٣٦٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٦ ، وإحقاق الحق ج ١٠ ص ٤٣٩ حتى ص ٤٥٢ عن مصادر كثيرة.

(٢) مأساة الزهراء عليها السلام ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٠.

٢٣١

عرج ، فتكلف الإستقامة ؛ لئلا يشق على النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فذهب عرجه (١).

ونقول :

أولا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» ومن معه لم يبلغوا الصخرة ، ولا الغار ، ولا المهراس ، ولا الدرجة المبنية من الشعب ، وذلك لما يلي :

١ ـ لقد صرح الواقدي بأن المسلمين ـ ولا بد أن يكون المراد المقاتلين منهم ـ لم يصعدوا الجبل. وكانوا في سفحه ، لم يجاوزوه إلى غيره ، وكان فيه النبي «صلى الله عليه وآله» (٢).

٢ ـ وفي رواية لأحمد : «وجال المسلمون جولة نحو الجبل ، ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغار ، إنما كان تحت المهراس» (٣).

٣ ـ إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يبلغ الدرجة المبنية من الشعب (٤).

٤ ـ قال ابن اسحاق : «فلما انتهى النبي «صلى الله عليه وآله» إلى فم الشعب ، خرج علي بن أبي طالب (ر ض) حتى ملأ درقته من المهراس» (٥).

وجاء بالماء ، فغسل وجهه كما سيأتي.

__________________

(١) الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٥٨ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٦ و ٢٣٧ و ٢٣٨ ، والترمذي وصححه ، والرياض النضرة ، وأحمد ، وأبو حاتم ، وراجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٢٩.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٢٧٨.

(٣) وفاء الوفاء ج ٤ ص ٣١٥ وج ٣ ص ٩٣٠.

(٤) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٩٢.

(٥) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٩٠ ، ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٤٣.

٢٣٢

٥ ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يبرح ذلك اليوم شبرا واحدا ، حتى تحاجزت الفئتان (١).

فإن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليفر من وجه عدوه ، ويصعد إلى الجبل ويعتصم به ، ويترك عدوه يصول ويجول كيفما يشاء.

وقد أنزل الله في الفارين قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ، وينعى عليهم عملهم ذاك ، ويؤنبهم عليه.

كما أننا لا نصدق أن يرتكب الرسول «صلى الله عليه وآله» هذا الأمر في الوقت الذي كان يدعو فيه الفارين في أخراهم إلى العودة إلى مراكزهم. ولا يمكن أن تحدثه نفسه بالفرار من الزحف في أي من الظروف والأحوال.

٦ ـ قد تقدم أن الصباح بن سيابة قد سأل الإمام الصادق «عليه السلام» عما يذكرونه من هذا ، فهو يقول له «عليه السلام» : «فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» صار إليه؟

قال : والله ما برح مكانه» (٢).

ثانيا : قولهم إن عمر ورهطا من المهاجرين قد قاتلوا المشركين حتى أهبطوهم من الجبل ، لا ندري أنصدقه؟!

أم نصدق قول الواقدي : «وصل رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى الشعب مع أصحابه ، فلم يكن هناك قتال»؟ (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٤٠ ، وشرح النهج للمعتزلي ، والبحار ج ٢٠ ص ٩٦ عن إعلام الورى.

(٢) إعلام الورى ص ٨٣ ، والبحار ج ٢٠ ص ٩٦.

(٣) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٨١.

٢٣٣

أم نصدق قولهم : إن سعدا وحده قد ردهم بسهم ، قتل به أربعة منهم؟ (١) عجيب!! أربعة!!.

وثالثا : إنهم يقولون : إنه لما رأى أصحاب الصخرة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وضع أحدهم سهما في قوسه ، وأراد أن يرميه «صلى الله عليه وآله».

فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا ، وفرح بهم ؛ لأنه رأى من يمتنع به ، واجتمعوا حوله (٢).

وفي رواية : لما نادى كعب بن مالك ، يبشر الناس بحياة الرسول «صلى الله عليه وآله» نهضوا إليه (أي أصحاب الصخرة) فيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، والحارث بن الصمة (٣).

ونسجل هنا ما يلي :

١ ـ إن ذكر علي هنا غلط عفوي أو عمدي بلا ريب ؛ لأنه «عليه السلام» لم يفر مع هؤلاء إلى الجبل ، ولا أصعد فيه حتى بلغ الصخرة ؛ بل كان مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، يدافع عنه ، ويكافح وينافح. بإجماع المؤرخين.

٢ ـ لا ندري ما معنى قولهم : إنه «صلى الله عليه وآله» فرح بهم ؛ لأنه رأى من يمتنع به؟! فهل منعوه قبل الآن؟! ولو كانوا قد منعوه ، فما هو المبرر لكونهم على الصخرة فوق الجبل؟!. وهل يمتنع بهم.

__________________

(١) السيرة الحلبية ص ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠١ و ٢٠٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٧.

(٣) الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٢٩.

٢٣٤

وبعضهم قال لهم ـ وهم على الصخرة ـ : يا قوم ، إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم ، قبل أن يأتوا إليكم ؛ فيقتلوكم (١). وبعضهم قال غير ذلك حسبما تقدم!!.

٣ ـ إنه يظهر : أن طلحة لم يكن مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، ولا عاد إليه ، لا هو ولا سعد ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا الزبير ، ولا الحارث بن الصمة بعد فرارهم في الجولة الأولى. وإنما عاد إليه أولئك الثلاثون فقط على الظاهر ، أو معهم غيرهم ممن هو غير معروف ولا مشهور.

٤ ـ إنه يظهر مما تقدم ، ومن قول ذلك القائل : ارجعوا إلى قومكم الخ .. ومن قولهم : إن عمر مع رهط من المهاجرين!! قد قاتلوا الذين علوا الجبل ، وغير ذلك ـ يظهر من ذلك ـ : أن أكثر الذين كانوا على الصخرة فوق الجبل كانوا من المهاجرين ، وفيهم بعض الأنصار ، ولم يرد ذكر لأنصاري باسمه إلا للحارث بن الصمة ، كما تقدم.

٥ ـ ولا نريد أن نسمح لأنفسنا بالاسترسال في هذا المجال ، حتى لا تتقاذفنا الظنون حول صحة وسلامة نية ذلك الذي أراد أن يرمي النبي «صلى الله عليه وآله» بسهمه ، بزعم أنه لم يكن عارفا له.

وقد سماه الواقدي : ب (أبي بردة بن نيار). فلعله كان عن غفلة حقيقية منه. ولعله كان من المنافقين ـ في بادئ الأمر ـ فأراد انتهاز هذه الفرصة للتخلص من النبي «صلى الله عليه وآله» ، بحجة أنه لم يعرفه ؛ إذ لا ندري إن كان فيهم بعد من يملك الجرأة على رمي سهم على رجل يحتمل أنه من

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠١.

٢٣٥

المشركين بعد أن جرى ما جرى!!

وقد بذل المنافقون محاولات مشابهة ، فقد نفّروا برسول الله «صلى الله عليه وآله» ناقته ليلة العقبة ؛ بهدف قتله.

ولأجل هذا فنحن لا نستطيع أن نوافق عمر بن الخطاب على إخباره أبا سفيان والمشركين بحياة النبي ، مع أنه «صلى الله عليه وآله» قد نهاه عن ذلك ، وفي موقع حساس وخطير كهذا!!.

ج : روايات لم تثبت :

إنهم يقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد رمى بالنبل ، حتى اندقت سية قوسه (١).

وأنكر ذلك البعض على اعتبار أنه «صلى الله عليه وآله» لو كان رمى لكان «صلى الله عليه وآله» أصاب ، ولنقل ذلك إلينا ؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله (٢).

ويقولون أيضا : إنه «صلى الله عليه وآله» قد قتل أبي بن خلف بحربة طعنه بها.

ونحن نستبعد ذلك أيضا ؛ لأنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يباشر القتل بيده ؛ لعلمه بأن أهل بيت المقتول لا تصفو نفوسهم للقاتل عادة ، ولا يتبعونه بإخلاص.

ومع أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يباشر ذلك ، فإننا نجد هندا

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٥٧.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٨.

٢٣٦

وغيرها يذكرون : أنه قاتل الأحبة ، فكيف لو كان باشر قتلهم بيده؟!

ولكن عليا «عليه السلام» قد تحمل هذه المسؤولية ، لأن عدم اتباعهم ومحبتهم له ، لا يبرر خروجهم من الإسلام ، فلو أرادوا أن يحقدوا على الإسلام بسبب ما فعله علي «عليه السلام» لوجدوا أنفسهم أمام تأنيب الضمير ، ومحاسبة الوجدان ، ولكن كرههم للنبي «صلى الله عليه وآله» يوجب خروجهم عن دائرة الإسلام بالكلية ، والله هو العالم بواقع الحال.

د : عمر في قفص الاتهام :

إن لنا هنا أسئلة لا بد أن نوجهها إلى عمر بن الخطاب ، ونطلب منه الإجابة عليها بصراحة ، وهي التالية :

١ ـ لماذا أخبر أبا سفيان والمشركين بوجود النبي «صلى الله عليه وآله» في ظرف حرج وحساس كهذا ، مع أنه «صلى الله عليه وآله» قد نهاه عن ذلك؟

٢ ـ قد جاء عن ابن واقد : أن ضرار بن الخطاب الفهري قد ضرب عمر بن الخطاب بالقناة يوم أحد ، حينما جال المسلمون تلك الجولة ، وقال له : يا بن الخطاب ، إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك (١).

لماذا ما كان ليقتله؟ أليس هو الذي أذل قريشا كما يدّعون ، وعز به الإسلام كما يزعمون وإن كنا قد أثبتنا عدم صحة ذلك.

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٨٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٧٤ وج ١٥ ص ٢٠ عن الواقدي والبلاذري وابن اسحاق ، وراجع : طبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٣ ، وفيه أن هذه يد له عند عمر ، كان عمر يكافئه عليها حين استخلف. وراجع البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٧ عن ابن هشام.

٢٣٧

أو ليس ضرار هذا كان يطلب الأكابر من الأوس والخزرج ليشفي بقتلهم غليل صدره؟! (١).

ألم يكن أكثر قتلى المشركين في بدر قد قتلوا بيد المهاجرين؟! فلم لا يشفي غليله من أكابر المهاجرين ، ولا سيما ممن هم مثل عمر بن الخطاب؟!.

٣ ـ وخالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول : لقد رأيتني ، ورأيت عمر بن الخطاب رحمه الله حين جالوا ، وانهزموا يوم أحد ، وما معه أحد ، وإني لفي كتيبة خشناء ؛ فما عرفه منهم أحد غيري ؛ فنكبت عنه ، وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه موجها إلى الشعب (٢).

لماذا هذه المراعاة من خالد لعمر ، ومحافظته عليه ، ثم هو يوجهه إلى الشعب؟! وما هو السر الذي جعل خالدا يهتم في أن لا يلتفت إلى عمر أحد ، وهو الذي كان شديدا على المسلمين حسبما تقدم؟!

ودعوى ابن أبي الحديد : أن سر ذلك هو النسب الذي بينهما ، يرده أن رابطة الدين هي الأقوى ، أو ليس ابن أبي بكر قد برز لقتال أبيه كما يدّعون؟

٤ ـ لماذا يهنئ أبو سفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين ، ويقول له : «أنعمت عينا ، قتلى بقتلى بدر»؟! (٣).

وما معنى قول أبي سفيان له : إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب ، فأجابه عمر بقوله : إنها. فما هو الذي أيده فيه ؛ ووافقه عليه يا ترى؟

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٩٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٣.

(٣) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج ٥ ص ٣٦٦.

٢٣٨

وكيف يمكن الربط بين هذه الكلمات وبين قوله : «قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار»؟!

هل خشي عمر أن يكون قد سمعه أحد من المسلمين يهنئ أبا سفيان فأراد التعمية عليهم بهذه الكلمات؟!

أم أنه أراد السخرية بالحقيقة القرآنية الثابتة ليزيد من فرحة أبي سفيان؟! أم أنه قصد معنى يخالف ما قصده أبو سفيان؟! .. إن سائر القرائن التي بأيدينا لا تؤيد هذا الاحتمال الأخير كما رأينا وسنرى.

٥ ـ لماذا كان عمر أبّر لأبي سفيان من ابن قميئة كما تقدم؟ أو ليس ابن قميئة يقاتل أعداء أبي سفيان ويفنيهم ، ويقتحم الغمرات ، ويواجه السيوف ، والنبال ، والرماح في الدفاع عن المشركين بزعامته ، ويدافع عن مصالحهم ، ويعمل من أجل قهر عدوهم؟! وعمر أليس عدوا لأبي سفيان ، ونصيرا لعدوه؟ ومقويا له عليه؟!.

وقد حاول البعض توجيه ذلك ، بأن من الممكن أن يكون أبر بلحاظ صدقه ؛ وإخباره بالواقع.

ونقول : إن هذا غير معقول ، فإن عبارة أبي سفيان قد صرحت بصدق عمر ، كما صرحت ببره ، فلو كان المراد بالبر الصدق لم يصح منه التصريح بهما معا.

أو فقل : لم يحسن منه ذلك على الأقل.

فالمراد به : ما يعود بالفائدة عليه ، وعلى جيشه ، وهو هنا : تمكنه من الظفر بالنبي «صلى الله عليه وآله» وقتله ، أما قول ابن قميئة فإنه يؤدي إلى نجاة الرسول «صلى الله عليه وآله» وهذا ما يرى فيه أبو سفيان أعظم

٢٣٩

الضرر عليه.

٦ ـ لماذا لم يعترض هو ، ولا أبو بكر ، ولا طلحة ، ولا غيرهم من كبار المهاجرين ، الذين فروا وكانوا على الصخرة ، على من قال : إنه يريد أن يوسط ابن أبي لدى أبي سفيان ؛ وطلب منهم الرجوع إلى دينهم الأول؟! أو نحو ذلك من كلام ، يدل على رغبتهم في الارتداد عن الإسلام ، وممالأة المشركين ، والاتفاق معهم؟.

أسئلة لا تزال ولسوف تبقى تنتظر الجواب المقنع والمفيد.

العباس في أحد :

في قضية أحد رواية تفيد : أن العباس كان ممسكا بعنان فرس النبي «صلى الله عليه وآله» يقوده. ثم إن النبي «صلى الله عليه وآله» لما صعد الجبل ، أو أراد أن يصعده نزل عن الفرس ، وصعد. وكان يلتفت إلى الجوانب ؛ فسألوه عن سبب ذلك ؛ فأقبل على علي ، فقال : هل عندك خبر من عمك؟ فأخبره علي بما وقع ، فبكى «صلى الله عليه وآله» هو والأصحاب (١).

ولكن هذا لا يمكن أن يصح ؛ لأن العباس لم يحضر حرب أحد. وتعلل على قريش بما جرى عليه في بدر.

فمن أين جاء وأمسك بعنان فرس النبي «صلى الله عليه وآله»؟!

ولو كان ذلك صحيحا ، كيف قبلت قريش منه أن يعود ليسكن مكة عدة سنوات بعد ذلك؟!.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٦ و ٤٣٧ عن الينابيع.

٢٤٠