الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

كان ، ومهما كان. ولا يهتم هذا الدين ، وهذا النبي «صلى الله عليه وآله» للدعاوى الفارغة التي يطلقها هذا أو ذاك ، وإنما يهتمان بتقييم الإنسان على أساس ما يقدمه على صعيد الواقع ، ونفس الأمر.

وأبو دجانة قد تعرض للامتحان ونجح فيه. أما غيره ؛ فقد أثبت الامتحان عدم جدارته ، أو استحقاقه لما يعد نفسه له ممن يتستر خلف دعاوى فارغة لا أكثر ولا أقل ، حتى إذا جد الجد رأيته يتعجل الهزيمة ، ويكون أبطأ من غيره في العودة ، أو لا يعود أصلا إلا بعد حسم الموقف.

فكان لا بد من إعطاء الضابطة للمسلمين جميعا ، وإفهامهم : أن الإسلام واقعي بالدرجة الأولى ، وأن مصب اهتماماته هو المضمون والمحتوى.

وأنه يقيم الإنسان على أساس أعماله ، لا على أساس دعاواه وأقواله ، ولا على أسس أخرى ، ربما لا يكون له خيار فيها في كثير من الأحيان. فطلحة ، وسعد ، وأبو بكر ، وعمر ، والزبير ، وعثمان الخ .. وإن كانوا من المهاجرين الذين ربما يعطون أو يعطيهم الناس امتيازا لذلك ؛ وإن كانوا قرشيين ؛ وكان لهم بالنبي «صلى الله عليه وآله» صلة من نوع ما بسبب أو نسب. إلا أن كل ذلك إذا لم يكن معه الإخلاص ، وإذا لم يكن الله ورسوله ، وجهاد في سبيله أحب إليهم من كل شيء حتى من أنفسهم ، فإنه يبقى منحصرا في نطاقه الخاص ، ولا ينبغي أن يتعداه إلى غيره ، بحيث يخولهم الحصول على امتيازات لا يستحقونها.

وأخيرا : فقد ذكر المؤرخون : أن سلمان الفارسي أيضا قد كان يقوم بنفس دور أبي دجانة في حماية الرسول «صلى الله عليه وآله» ، حيث جعل نفسه وقاية لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من وراء ظهره ، من سهام

٢٠١

الكفار ، وأذاهم ، ويقول : نفسي فداء لرسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

٣ ـ أم عمارة : ومقام فلان!! وفلان!!

وقاتلت أم عمارة ، نسيبة بنت كعب. وكان معها سقاء فيه ماء ، فلما رأت قلة من كان مع الرسول ، قامت تذب عنه مع هؤلاء القلة ، وجرحها ابن قميئة في عاتقها ، حينما اعترضته مع آخرين ، ممن كان يذب عن رسول الله «صلى الله عليه وآله».

بل لقد روى غير واحد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» نظر في أحد إلى رجل من المهاجرين يفر ، قد ألقى ترسه خلف ظهره ، فناداه : «يا صاحب الترس ، ألق ترسك ، وفر إلى النار» ؛ فرمى بترسه.

فقال «صلى الله عليه وآله» : «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان ، وفلان». وأراد ولدها عمارة الفرار ، فردته ، وأخذت سيفه ؛ فقتلت به رجلا ؛ فقال «صلى الله عليه وآله» : «بارك الله عليك يا نسيبة».

وكانت تقي النبي «صلى الله عليه وآله» بيديها ، وصدرها ، وثدييها (٢).

قال المعتزلي : «ليت الراوي لم يكنّ هذه الكناية ، وكان يذكر هما باسمهما ، حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة. ومن أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه ، ولا يكتم منه شيئا ؛ فما باله كتم اسم هذين

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٦.

(٢) قاموس الرجال ج ١١ ص ٣٨ عن القمي ، وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٢٢٦ و ٢٦٩ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٦٩ و ٢٧٣ ، وتفسير القمي ج ١ ص ١١٦ ، والبحار ج ٢٠ ص ١٣٤ و ٥٤.

٢٠٢

الرجلين»؟! (١).

ويرى المجلسي : أن المراد بهما هنا : أبو بكر وعمر ، إذ لا تقية في غيرهما ؛ لأن خلفاء سائر بني أمية وغيرهم من الخلفاء ، ما كانوا حاضرين في هذا المشهد ؛ ليكني بذكرهم تقية من أولادهم وأتباعهم (٢).

وهذا أيضا هو رأي محمد بن معد العلوي (٣).

ونزيد نحن : أن عثمان لما كان قد فر بإجماع المؤرخين ؛ فقد اضطروا إلى التصريح باسمه ، ثم حاولوا تبرير هذا الفرار بالتوبة عليه ، وغفران ذنبه.

ومع ذلك ، ومع أننا نجد روايات عديدة تصرح بأن آية : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٤) قد نزلت في عثمان ، وخارجة بن زيد ، ورفاعة بن المعلى ، أو في عثمان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان الأنصاريين (٥).

فإننا نجد رواية ذكرها ابن اسحاق تقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فلان!! وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان (٦).

ورواية أخرى عن عكرمة تقول : نزلت في رافع بن المعلى ، وغيره من

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٢٦ ، والبحار ج ٢ ص ١٣٣ عنه.

(٢) البحار ج ٢٠ ص ١٣٤.

(٣) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٣ و ٢٤.

(٤) الآية ١٥٥ من سورة آل عمران.

(٥) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ و ٨٩ عن مصادر كثيرة.

(٦) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٩ عن ابن جرير ، وابن المنذر.

٢٠٣

الأنصار ، وأبي حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر (١).

كما أن الواقدي نفسه قد كنى عن عثمان في فراره ب «فلان» (٢).

فترى أنهم يهتمون في التكنية حتى عن عثمان المجمع على فراره ، دون غيره ممن تذكرهم الرواية.

وبعد هذا ، فكيف لا يكنون عمن هم أعظم من عثمان ، وأجل عندهم؟

ويذكر أخيرا : أن لفلان وفلان!! فرارا آخر في عرض الجبل ، حينما جاءهم المشركون ، وندب الرسول المسلمين إلى قتالهم (٣) ، وقد ردهم الله عنهم من دون حاجة إلى ذلك ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

كما أن الظاهر : أن ابن عباس قد كنى عنهما ، حينما ذكر : أن الناس قد تركوا ثلاث آيات محكمات ، وأبوا إلا فلان بن فلان ، وفلان بن فلان (٤).

جهاد المرأة :

وفي إلماحة موجزة هنا نقول : إن من المعلوم : أنه ليس في الإسلام على المرأة جهاد ، إلا حينما يكون كيان الإسلام في خطر أكيد.

ولقد أدركت أم عمارة مدى الخطر الذي يتهدد الإسلام ، من خلال

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ عن ابن جرير.

(٢) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٧٧ مع هامشه.

(٣) نفس المصدر ص ٢٩٥.

(٤) راجع : المصنف ج ١ ص ٣٧٩ و ٣٨٠. وثمة تعبيرات أخرى عنهما بفلان وفلان. ذكرها في البحار ، وروضة الكافي ، لا مجال لذكرها هنا.

٢٠٤

الخطر الذي يتعرض له النبي «صلى الله عليه وآله» (١).

ولذلك فقد اندفعت للدفاع عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، بنفسها وولدها ، وكل وجودها. وليت شعري ، كيف لم يدرك هذه الحقيقة كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار؟! وكيف سمحوا للأنفسهم بالفرار في هذا الظرف الحرج والخطر جدا على مستقبل الإسلام ، الدين الحق؟!.

وقد كان المهاجرون يرون لأنفسهم ، ويرى لهم الناس امتيازا على غيرهم ، وأنهم في موقع المعلم والمرشد. وهم الذين عاشوا مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، واستفادوا من تعاليمه ، ورأوا من معجزاته أكثر من غيرهم. وإذا كانت هذه الأنصارية التي لا جهاد عليها ، والتي لم تعاشر النبي «صلى الله عليه وآله» ، ولم تر من معجزاته وكراماته ما رآه هؤلاء ، قد وقفت هذا الموقف الرسالي الرائد دونهم ، فمن الطبيعي أن يكون مقامها أفضل من مقام فلان وفلان من كبارهم.

كما أن من الطبيعي أيضا : أن يفر ذلك المهاجري إلى النار ، ويكون جهادها طريقها إلى الجنة. كما أننا سوف لا نصدق بعد هذا ما يقال ، من أن الفضل إنما هو بطول الصحبة للرسول ، أو بغير ذلك من عناوين ، بل سوف نصر على أن الفضل ـ كما قرره القرآن ـ إنما هو بالتقوى ، والعمل الصالح ، عن علم ووعي ، وعن قناعة وجدانية راسخة.

ملاحظة : ونشير أخيرا : إلى أن خروج أم عمارة إلى أحد لعله كان

__________________

(١) إذ لم يكن كل المسلمين ولا جلّهم ـ كما أظهرته حرب أحد ـ في مستوى وعي أمير المؤمنين «عليه السلام» وأنس بن النضر ، وأبي دجانة وأمثالهم.

٢٠٥

استثنائيا ، ولضرورة خاصة.

ومما يوضح لنا ذلك : أننا نجد امرأة من عذرة استأذنت الرسول في أن تخرج في جيش كذا وكذا ، فلم يأذن لها «صلى الله عليه وآله» ؛ فقالت : يا رسول الله ، إنه ليس أريد أن أقاتل ، إنما أريد أن أداوي الجرحى والمرضى ، أو أسقي المرضى.

قال : لو لا أن تكون سنة ، ويقال : فلانة خرجت ، لأذنت لك ، ولكن اجلسي (١).

وقد تكلمنا حول هذا الموضوع في غير هذا الكتاب. فليراجع (٢).

٤ ـ أم سليط :

وممن شارك في حرب أحد أيضا أم سليط ، فإنها كانت تزفر القرب ، أي تحملها على ظهرها ، تسقي الناس منها (٣).

٥ ـ حنظلة الغسيل :

واستشهد في أحد حنظلة بن أبي عامر الفاسق ، وكان قد دخل بزوجته

__________________

(١) حياة الصحابة ج ١ ص ٦١٨ ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٢٣ وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، ورجالهما رجال الصحيح (إنتهى).

وراجع : الاصابة ج ٤ ص ٤٨٧ و ٥٠٥ ، والإستيعاب بهامشها نفس المكان ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ١١٥.

(٢) راجع : الآداب الطبية في الإسلام فصل التمريض والمستشفى.

(٣) راجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٠٣.

٢٠٦

جميلة بنت عبد الله بن أبي ليلة أحد ، وخرج وهو جنب ، حين سمع الهائعة (١) ؛ فأعجله ذلك عن الغسل.

بل يقال : إنه كان قد غسل أحد شقيه ، فسمع الهائعة ؛ فترك غسله ، وخرج.

ويقال : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخبرهم : أن صاحبهم (حنظلة) لتغسله الملائكة.

كما ويقال : إنه استأذن النبي «صلى الله عليه وآله» في أن يقتل أباه أبا عامر الفاسق ، فلم يأذن له (٢).

ونقول :

١ ـ إن النبي كما منع حنظلة الغسيل من قتل أبيه ، كذلك هو قد منع ابن عبد الله بن أبي من قتل أبيه أيضا (٣).

ونقول : إنه إذا كان هدف الإسلام هو الحفاظ على إنسانية الإنسان ، وتكامله في مدارج الإنسانية ، فلا بد أن تكون مواقفه ووسائله منسجمة مع ذلك الهدف الأسمى ؛ لأن الوسيلة في نظر الإسلام لا تنفصل عن الهدف ، وإنما هي جزء منه.

إذا ، فلا بد أن يتعامل مع كل أحد حتى مع أبيه ، وولده ، وعشيرته ، وماله ، وكل ما يحيط به ، تعاملا إنسانيا صحيحا ، ومنسجما مع أهدافه تلك.

__________________

(١) الهائعة : الصوت المفزع.

(٢) الإصابة ج ١ ص ٣٦١ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٧ و ٤٢٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٠ و ٢٤١. وغير ذلك من المصادر الكثيرة.

(٣) الإصابة ج ١ ص ٣٦١.

٢٠٧

فإذا كانت علاقته بماله ، أو بأبيه ، أو بولده سوف تفصله عن هدفه ، أو تفرض عليه موقفا يتناقض معه ، أو يعيق عن الوصول إليه ، فلا بد من رفض تلك العلاقة وتدميرها ؛ لأن الإبقاء عليها إنما يعني تدمير الإنسانية ، والخروج عنها إلى ما هو أحط من الحيوان.

وهذا هو ما أشار إليه تعالى في قوله عمن اتخذ إلهه هواه (١) : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٢).

إذا ، فلا جامع ولا قدر مشترك بين الإنسان المسلم الذي يعتبر نفسه إنسانا ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، ويتصرف على هذا الأساس ؛ وبين غيره ممن رضي لنفسه أن يكون أضل من الأنعام ، ويتصرف على هذا الأساس ، ومجرد وجود علاقة نسبية بينهما لا يبرر تخلي هذا عن إنسانيته في سبيل إرضاء ذاك.

وأما إذا كانت مواقف ذلك الإنسان المنحرف وتصرفاته تساهم في تدمير الإنسانية أينما كانت ، وحيثما وجدت ، والقضاء على خصائصها ومنجزاتها ، سواء على صعيد الفرد أو المجتمع ، أو حتى الأجيال القادمة.

فإن من الطبيعي أن نرى ذلك الولد الإنسان : يهتم بالقضاء على هذا الوالد ، ويعمل في هذا السبيل بصدق ، وبجدية ، وإلا فإنه سيتضح لنا : أن إنسانيته لم تكتمل بعد ، أو على الأقل : إن وعيه الإنساني يحتاج إلى تعميق وتركيز. كما أن العاطفة التي تعتبر الوقود الذي يفجر طاقات الإنسان في

__________________

(١) راجع بحث العصمة في فصل بحوث تسبق السيرة بعد غزوة بدر.

(٢) الآية ٤٤ من سورة الفرقان.

٢٠٨

هذا السبيل ، تحتاج إلى شحن وإثارة من جديد.

فلا عجب إذا ، أن يستأذن بعض المسلمين في قتل آبائهم المنحرفين ، الذين يحاربون دين الله تعالى ، وإنما العجب من أن لا يفعلوا ذلك ؛ لأنهم حينئذ يكونون قد خالفوا مقتضى فطرتهم ، وما يحكم به عقلهم السليم.

هذا الحكم الذي أيده وأكده الإسلام ، دين الفطرة (١) ؛ حين قال في القرآن الكريم : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢).

٢ ـ وأما سر أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يأذن لهم بقتل آبائهم ، فقد قدمنا بعض ما يفيد في ذلك حين الكلام عن وحشي ، قاتل حمزة ، حيث أخبروه : أن محمدا لا يقتل أصحابه.

ونزيدهنا : أن نفس قتل الولد لوالده ليس أمرا طبيعيا ، ولا ينسجم مع مشاعر ونفسية الإنسان العادي ، الذي لم يترب تربية إلهية ، ولم ينصهر في حب الله تعالى.

نعم ، إذا أخلص ذلك الإنسان لله ، وانقطعت كل علائقه المادية الأرضية ؛ فإنه حينئذ يرى ذلك أمرا ضروريا ، وينساق إليه بعقله ، وبفطرته ، وبعاطفته

__________________

(١) راجع كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ٢ بحث : الحب في التشريع الإسلامي.

(٢) الآية ٢٤ من سورة التوبة.

٢٠٩

أيضا. وقليل ما هم.

ولربما يثور الإنسان العادي عاطفيا إذا رأى من قريبه وحبيبه موقفا سيئا يتنافى مع الفطرة والدين والعقل ، ولكن سرعان ما تشده العوامل الأرضية إليها ، ويعود ليزن الأمور بالموازين الأرضية المادية من جديد.

ولذلك رأينا : المسلمين ينهزمون جميعا في أحد ، وفي مواطن أخرى باستثناء أمير المؤمنين «عليه السلام» ، ويتركون نبيهم ، الذي هو في الحقيقة رمز وجودهم.

وهذا يدل : على أن الروابط الأرضية قد شدتهم إليها ، ولم يتمكنوا من التخلص منها ، ولا التغلب عليها. اللهم إلا من كان في مستوى رفيع من التربية الإلهية ؛ ووصل إلى حد : أن أصبح الله ورسوله ، وجهاد في سبيله ، أحب إليه من كل شيء ، وليس هو إلا أمير المؤمنين «عليه السلام» ، كما قلنا.

ولكي لا يعرّض النبي «صلى الله عليه وآله» والإسلام الذي هو واقعي بالدرجة الأولى هذا الإنسان إلى تجربة قاسية ومريرة ، ربما تكون أكبر منه ، وقد يخفق في الخروج منها بسلامة ومعافاة ، فقد أعفاه من هذه الأمور ، لطفا به ورفقا. والله هو اللطيف الخبير.

٦ ـ بين عبد الله بن جحش وابن أبي وقاص :

وقد دعا عبد الله بن جحش ربه : أن يقتل ، ويجدع أنفه ، وتقطع أذنه حتى إذا لقي الله ، وسأله : فيم جدع أنفك وأذنك؟ فيقول : فيك ، وفي رسولك ؛ فأمّن له سعد بن أبي وقاص. وهكذا جرى له.

ودعا سعد بن أبي وقاص ربه : أن يقتل أحد المشركين ، ويأخذ سلبه ؛

٢١٠

فأمّن عبد الله على دعاء سعد.

فشتان ما بين سعد وعبد الله ، فإن عبد الله قد جاء يطلب الموت ، وجاء سعد يطلب ما يرى أنه يفيد في استمرار تمتعه بمباهج الحياة ، وزبارجها وبهارجها.

ونعود فنذكّر هنا بما قاله المعتزلي ـ وهو يتحدث عن علي «عليه السلام» ـ : هذا يجاحش على السلب ، ويأسف على فواته ، وذاك لا يلتفت إلى سلب عمرو بن عبد ود ، وهو أنفس سلب ، ويكره أن يبز السبي ثيابه ، فكأن حبيبا ـ يعني أبا تمام ـ عناه بقوله :

إن الأسود أسود الغاب همتها

يوم الكرية في المسلوب لا السلب (١)

ونزيد هنا : أن الذي يجاحش على السلب ، ويدعو الله أن يقتل مشركا من أجل سلبه ، ويأتي إلى الحرب بهذه النفسية ، لا يتورع ـ حين يفوته ذلك ، ويواجه خطر الموت ـ من أن يفر من الحرب ، ويترك الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» لسيوف المشركين تنوشه من كل جانب ومكان!!

كما أن من تكون الدنيا عنده أهون من عفطة عنز ، ولا تساوي الخلافة عنده شسع نعله ، ويكون من الرسول والرسول منه ، ولا سيف إلا سيفه ، كيف ، ولماذا يفر يا ترى؟!

فلا عجب إذا إذا رأينا هذا يثبت ، ويتلقى السيوف بنحره وجسده ، وذاك يفر طلبا للسلامة ، ولأجل الاحتفاظ بالحياة.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٧ ملخصا.

٢١١

مواقف وبطولات سعد الموهومة :

ويذكرون لسعد بن أبي وقاص في حرب أحد فضائل وكرامات ، ومواقف وبطولات ، نعتقد أن يد السياسة قد ساهمت في صنعها ، ونذكر على سبيل المثال :

أنهم يقولون : إنه بعد أن عاد المسلمون إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» دافع سعد عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ورمى بين يديه بالسهام ، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يناوله النبل ، ويقول (١) : إرم فداك أبي وأمي ؛ فرمى دون رسول الله حتى اندقت سية قوسه.

وفي المشكاة عن علي «عليه السلام» : ما سمعت النبي «صلى الله عليه وآله» جمع أبويه لأحد إلا لسعد (٢).

بل يروي البعض : أنه قال له ذلك ألف مرة ، لأنه رمى ألف سهم (٣).

كما أن ابن عرقة رمى بسهم ، فأصاب ذيل أم أيمن ، فانكشف ، فضحك ، فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» سعدا بأن يرمي ، ودعا له بأن يسدد الله رميته ، ويجيب الله دعوته ؛ فرمى ابن عرقة في ثغرة نحره ؛ فانقلب

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٤١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩.

(٣) مجمع الزوائد ج ٦ ص ١١٣ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٤١ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٦٠ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩ ، وغير ذلك كثير.

٢١٢

لظهره ، وبدت عورته ، فضحك «صلى الله عليه وآله» (١).

ولكننا نشك فيما ذكر آنفا ، وذلك بملاحظة النقاط التالية :

١ ـ يقولون : سئل سعد عن سر استجابة دعائه دون الصحابة ، فقال : ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت ، ومن أين خرجت (٢).

أي لأنه قد جاء في الحديث : أن سر عدم استجابة الدعاء ، هو أن من كان مأكله وملبسه حراما فأنى يستجاب له (٣).

فأي ذلك نصدق؟!

هل نصدق أن استجابة دعائه كانت لدعائه «صلى الله عليه وآله» له؟!

أم نصدق أنها من أجل أنه لم يكن يأكل حراما؟!.

وحاول الحلبي أن يجيب : بأن دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» يرجع : إلى أنه دعا له أن يستجاب له بسبب عدم أكله للحرام ، وتمييزه للحرام عن غيره!! (٤).

وهو تأويل بارد ، كما ترى ، ولا نرى حاجة للتعليق عليه.

٢ ـ لا ندري إذا كان الوقت يتسع لرمي ألف سهم ، ولقول النبي «صلى الله عليه وآله» له ذلك ، وهو يناوله السهام في ذلك الوقت الحرج جدا؟!.

ولا ندري أيضا من أين حصل سعد على تلك السهام الألف التي رمى

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٢٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٢١٣

بها؟! ، وهل كانت تتسع كنانته ، وكنانة النبي «صلى الله عليه وآله» ـ لو كانت ـ لهذه الكمية؟!.

ولا نعرف أيضا إن كانت تلك السهام تصيب المشركين ؛ فيستجاب دعاء الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» له أم لا؟!

وإذا كانت تصيبهم ، فكم قتل سعد؟ وكم جرح؟! ولماذا لم ينهزم المشركون لهذه النكبة التي حلت بهم؟!.

٣ ـ إذا كان سعد مستجاب الدعوة ، فلماذا لم يدع الله ليفرج عن عثمان حين الحصار؟ أو ليهدي معاوية إلى الحق والتسليم لعلي «عليه السلام» ؛ ليحقن دماء عشرات الألوف من المسلمين ، ويجنب الأمة تلك الكوارث العظيمة التي تعرضت لها؟!.

وعندما عرض عليه أمير المؤمنين «عليه السلام» : أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، طلب منه أن يعطيه سيفا يميز بين الكافر والمؤمن (١) ؛ فلم لم يدع الله أن يعطيه سيفا كهذا ؛ فيستجيب الله له ، ما دام أنه كان مستجاب الدعوة؟!.

٤ ـ عن ابن الزبير : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قال للزبير ـ يوم الخندق ، حينما أتاه بخبر بني قريظة ـ : فداك أبي وأمي (٢) ، فأي الروايتين نصدق؟! أم نصدقهما معا؟! أم ننظر إليهما معا بعين الشك والريب ، لما نعلمه من تعمد الوضع والاختلاق لصالح هؤلاء؟! أعتقد أن

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٤ ص ٣١٥ عن صفين لنصر بن مزاحم.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩.

٢١٤

هذا الأخير هو الأمر المنطقي ، والطبيعي ، والمعقول.

واحتمال أنه «صلى الله عليه وآله» وإن كان قد قال ذلك للزبير يوم الخندق ، لكن عليا «عليه السلام» لم يسمعه ، فنقل ما سمعه فقط بالنسبة لسعد ، أو أنه «صلى الله عليه وآله» قد أراد تفدية خاصة لا يجدي ؛ إذ قد جاء في رواية أخرى قوله : فما جمع «صلى الله عليه وآله» أبويه لأحد إلا لسعد (١).

وهذا يدل على أنه يخبر عن علم ، وإلا لكان عليه أن يقول : إنه لم يسمع ذلك إلا بالنسبة لسعد ، كما أنه لو كان أراد تفدية خاصة لكان عليه البيان.

٥ ـ كيف يكون سعد قد قتل حبان بن العرقة في حرب أحد ، كما يقول الواقدي ، مع أن الواقدي نفسه وغيره يقولون : إن حبان بن العرقة قد رمى سعد بن معاذ في أكحله في غزوة الخندق ، فقال «صلى الله عليه وآله» : عرق الله وجهك في النار؟! (٢) فإن حرب الخندق كانت بعد أحد بالاتفاق.

إشارة هامة :

وأما لماذا حشد هذه الفضائل لسعد ، فذلك أمر واضح ، فإن سعدا قد كان من الفئة المناوئة لأمير المؤمنين «عليه السلام» ، وأهل بيته ، حتى لقد كتب «عليه السلام» لوالي المدينة : أن لا يعطي سعدا من الفيء شيئا (٣).

وحينما دخل عليه سعد يطالبه بعطائه رده مع صاحبيه ، بعد كلام طويل ، ولم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٢٦٩ و ٥٢٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٣ ، والإصابة ج ٢ ص ٣٧ و ٣٨.

(٣) إختيار معرفة الرجال ص ٣٩ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٢ و ٤١٣ عنه.

٢١٥

يعطه شيئا (١).

وحينما دعاه عمار إلى بيعة سيد الوصيين ، أظهر سعد الكلام القبيح (٢).

وأيضا فقد صارمه عمار المعروف بجلالة مقامه وعلو شأنه (٣).

كما أنه قد أخذ من بيت المال مالا ولم يؤده ، وعزله عمر عن العراق ، وقاسمه ماله (٤).

وكان ممن قعد عن علي «عليه السلام» وأبى أن يبايعه ، فأعرض عنه «عليه السلام» ، وقال (٥) : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٦). وسعد هو أحد الستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم ، فوهب حقه لابن عمه عبد الرحمن بن عوف (٧).

وشكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر بأنه لا يحسن يصلي (٨).

إذا ، فانحراف سعد عن علي «عليه السلام» ، وممالأته لأعدائه هو الذي

__________________

(١) صفين ص ٥٥١ و ٥٥٢ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٣١٣ عنه.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٥٣.

(٣) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ١١١ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٣١٣ و ٣١٤ عنه.

(٤) راجع : قاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٤ عن الأغاني ، وعن أنساب السمعاني.

(٥) راجع : قاموس الرجال ج ٤ ص ٣١٥ و ٣١٦. وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٩.

(٦) الآية ٢٣ من سورة الأنفال.

(٧) راجع على سبيل المثال : شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٨٨.

(٨) الاوائل ج ١ ص ٣١٠ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٣٦٠ ، وفي هامشه عن البخاري عن أبي عوانة والعقد الفريد ج ٦ ص ٢٤٩ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٥٩٦ ، والثقات ج ٢ ص ٢٢٠.

٢١٦

جعل لسعد هذه الشخصية ، ورزقه هذه الفضائل والكرامات. وهذا هو بعينه السر أيضا بما رزقه الكرماء طلحة بن عبيد الله من كرامات ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

ولعل أبا طلحة أيضا قد ارتزق فضائله وكراماته عن نفس هذا الطريق ، طريق العداء لعلي «عليه السلام» ، والانحراف عنه ، كما هو معلوم بالمراجعة (١).

كرامات طلحة :

ويذكرون لطلحة بن عبيد الله أيضا في أحد كرامات كثيرة ، نذكر منها :

١ ـ أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد سماه في أحد ب (طلحة الخير) ؛ لأنه أنفق سبعمائة ألف درهم (٢).

ولا ندري كيف وعلام أنفق طلحة سبعمائة ألف درهم ، التي كانت تكفي لتجهيز جيش بكامله ، يكون أضعاف أضعاف جيش المسلمين في أحد؟! أو ليس قد جهزت قريش جيشا مؤلفا من ثلاثة أو خمسة آلاف مقاتل معهم ثلاثة آلاف بعير ، ومئة فرس ، وسبعمائة دارع بخمسة وعشرين ألف دينار؟! (٣). أي بما يساوي ثلث المبلغ الذي يدّعى أن طلحة قد أنفقه؟

وعلى أبعد الأقوال : إنها أنفقت خمس مئة ألف درهم.

ومن الواضح : أن سبعمائة ألف درهم في تلك الأيام تعدل ميزانية دولة

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال للعلامة التستري ، وغيره من كتب التراجم.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٢ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٨.

(٣) تقدم ذلك في فصل : قبل نشوب الحرب ، فراجع.

٢١٧

بكاملها.

وكيف نصدق ذلك ، ونحن نرى ابن سعد يروي في الطبقات عن أنس : أن أبا بكر استعمله على الصدقة ، فقدم وقد مات أبو بكر ، فقال عمر (ر ض) : يا أنس ، أجئتنا بالظهر؟

قلت : نعم.

قال : جئتنا بالظهر ، والمال لك.

قلت : هو أكثر من ذلك.

قال : وإن كان هو لك. وكان المال أربعة آلاف فكنت أكثر أهل المدينة مالا (١).

فإذا كان أنس أغنى أهل المدينة بالأربعة آلاف ، وذلك في زمان عمر ، الذي اتسع فيه الأمر على الناس ، وحصلوا على الأموال الكثيرة.

فهل يمكن أن نصدق أن مهاجريا قدم المدينة بلا مال ، يصير من الثراء بحيث يبذل سبعمائة ألف درهم بعد فترة وجيزة جدا من قدومه؟!. ولا سيما في وقت كان يعاني فيه المسلمون صعوبات جمة ، حتى إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يربط الحجر على بطنه من الجوع (راجع حديث الغار ، حين البحث في ثروة أبي بكر).

ولماذا لم تنزل في طلحة آية تشيد بهذه الفضيلة له ، كما نزلت في علي «عليه السلام» حينما تصدق بالخاتم في الصلاة (٢) وحينما تصدق بأربعة

__________________

(١) حياة الصحابة ج ٢ ص ٢٣٥ ، وكنز العمال ج ٥ ص ٤٠٥.

(٢) تقدمت المصادر لذلك في أواخر الجزء الثالث من هذا الكتاب في فصل : هجرة

٢١٨

دراهم؟! إلى آخر ما تقدمت الإشارة إليه (١).

وبذلك يعلم أيضا : مدى صحة الأرقام الخيالية التي تذكر عن تجهيز عثمان لجيش العسرة ، وغير ذلك مما لا مجال لتتبعه. وسنتعرض لذلك كله في مواضعه إن شاء الله تعالى.

٢ ـ وأما روايات شلل إصبع طلحة ، وما أصابه في أحد ، فهي متناقضة ؛ فلا ندري هل شلت إصبعه؟ أو إصبعاه؟ أو يده؟ أو قطعت إصبعه؟! ثم هنالك الخلاف في عدد الجراح التي أصابته.

ونحن لا ننكر أن يكون طلحة قد أصيب ببعض الجراح. لكن ذلك لا يلزم منه عدم فراره.

بل يستظهر المظفر : أن شلل يده قد كان حين الفرار ، أو بسبب آخر.

وقد يستظهر ذلك من تعبير الشعبي ب (زعم) في قوله : (وزعم : أن طلحة وقى رسول الله بيده ؛ فضرب ، فشلت) (٢) فيظهر أن الشعبي يشك في ما زعم. وأما ما زعمه البعض من أنه «صلى الله عليه وآله» قد مسح على جسد طلحة ، ودعا له بالشفاء ، والقوة (٣) ، فلا ندري ما نقول فيه ، ونحن نرى أن يده لم تشف ، ولم يستجب الله ذلك الدعاء.

ولكن الذي شفي بدعاء النبي «صلى الله عليه وآله» حقا هو أمير

__________________

الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» حين الحديث عن ثروة أبي بكر.

(١) تقدمت المصادر لذلك في أواخر الجزء الثالث من هذا الكتاب في فصل : هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» حين الحديث عن ثروة أبي بكر.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣١.

(٣) دلائل الصدق ج ٣ ص ٢٥٩ بتصرف.

٢١٩

المؤمنين «عليه السلام» كما تقدم.

٣ ـ ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد وقع في إحدى الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق مكيدة ؛ فرفعه طلحة ، وأخذ بيده علي «عليه السلام».

وزاد في الاكتفاء : فقال «صلى الله عليه وآله» : من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة (١).

ولا ندري لماذا اختص طلحة الفار من الزحف بهذا الوسام ، دون علي «عليه السلام» ، الذي لم يثبت أحد سواه ، مع أنهما شريكان في مساعدته «صلى الله عليه وآله» على النهوض؟!. ثم إن كل من يعثر ويقع ، فإن من معه يبادرون إلى مساعدته ، ومعاونته على النهوض ؛ ولا يعتبرون ذلك عملا عظيما يستحق وساما كهذا.

٤ ـ ويقولون : ولما أصاب النبي «صلى الله عليه وآله» ما أصابه ، جعل طلحة يحمله ، ويرجع القهقهرى. وكلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه ، حتى أسنده إلى الشعب. أخرجه الفضائلي (٢).

ونحن لا نصدق أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تقهقر وفر كما تقهقر غيره ، وأخلى ساحة القتال.

وقد تقدم تكذيب الإمام الصادق «عليه السلام» لذلك.

كما أننا لا نرى أن ما جرى للنبي «صلى الله عليه وآله» قد أفقده القدرة على المشي ؛ ولذا فنحن لا نفهم وجه الحاجة لأن يحمله طلحة ثم يضعه ليدافع عنه.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٧.

٢٢٠