الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

عليه المظفر. ثم ما ذكره ابن عباس ، وعلق عليه الرازي ، وأجابه المظفر.

٤ ـ ما تقدم في فرار سعد.

٥ ـ عن كليب قال : خطبنا عمر ، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ، ويقول : إنها أحدية.

ثم قال : تفرقنا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم أحد ؛ فصعدت الجبل ، فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد.

فقلت : لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد ، إلا ضربت عنقه. فنظرت ، فإذا رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، والناس يتراجعون إليه ، فنزلت : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)(١).

وفي نص آخر : لما كان يوم أحد هزمناهم (٢) ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني : أنزو كأنني أروى (٣).

وفي لفظ الواقدي : إن عمر كان يحدث ، فيقول : لما صاح الشيطان : قتل محمد ، قلت : أرقى الجبل كأنني أروية (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٠ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٥٨ ، وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٢ عن ابن المنذر ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٤٩٧ عن الكنز ج ١ ص ٢٣٨ ، وفتح القدير ج ١ ص ٣٨٨.

(٢) لعل الصحيح : هزمنا ففررت. كما يقتضيه سياق الكلام.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ عن ابن جرير ، وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٢ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٥٨ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٤٩٧ ، وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٢ ، وجامع البيان ج ٤ ص ٩٥ ، والتبيان ج ٣ ص ٢٥ و ٢٦.

(٤) شرح النهج ج ١٥ ص ٢٢.

١٨١

ونحن هنا لا ندري من أين جاء ذلك اليهودي الملعون ، الذي نقل عنه عمر قوله : قتل محمد!! مع أنه «صلى الله عليه وآله» قد رفض مشاركة اليهود في هذه الحرب ، كما رفض ذلك في غيرها. كما أننا لا ندري كيف نفسر تهديد عمر لهذا اليهودي بالقتل ، مع أنه هو نفسه قد فر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأسلمه لأعدائه ، فأين كانت حماسة عمر عنه في الدفاع عن النبي «صلى الله عليه وآله» ضد المشركين؟! ولم لم يقتل أحدا منهم؟ ولا حتى طيلة السنوات العشر ، في عشرات الغزوات والسرايا التي اشترك فيها؟!. إن ذلك لعجيب حقا ، وأي عجيب!!.

٦ ـ قال المعتزلي : قال الواقدي : لما صاح إبليس : إن محمدا قد قتل ، تفرق الناس.

إلى أن قال : وممن فر عمر وعثمان (١).

لكن يلاحظ : أن اسم عمر قد حذف من المطبوع من مغازي الواقدي ، وأثبته المعلق في هامش الصفحة على أنه قد ورد في بعض نسخ المغازي دون بعض (٢).

فليراجع ذلك بدقة ، فقد تعودنا منهم مثل هذا الشيء الكثير!!

٧ ـ وبعد أن ذكر الواقدي اعتراض عمر على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، في قضية الحديبية ، قال عن النبي «صلى الله عليه وآله» :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٤ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٥٨ ، وراجع : غرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٤ ص ١١٣.

(٢) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٧٧.

١٨٢

«ثم أقبل على عمر ، فقال : أنسيتم يوم أحد ؛ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم»؟! (١).

٨ ـ ما سيأتي من عدم قتل خالد لعمر ، حينما كان عمر منهزما.

٩ ـ وجاءته امرأة أيام خلافته ، تطلب بردا من برد كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت له ، فأعطى المرأة ، ورد ابنته.

فقيل له في ذلك ، فقال : إن أب هذه ثبت يوم أحد ، وأب هذه فر يوم أحد ، ولم يثبت (٢).

١٠ ـ وقد اعترف عمر برعبه من علي «عليه السلام» حينما تبع الفارين وهو يقول لهم : شاهت الوجوه ، وقطت ، وبطت ، ولطت ، إلى أين تفرون؟ إلى النار؟

ويقول : بايعتم ثم نكثتم؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل الخ .. (٣).

وقد اعترف الجاحظ بفرار عمر في عثمانيته أيضا فراجع (٤).

١١ ـ وعلى كل حال ، فإن فرار عمر من الزحف يوم أحد ، وحنين ، وخيبر ، معروف ، ويعده العلماء من جملة المطاعن عليه ؛ لأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر الموبقة ، ولم يستطع المعتزلي أن يجيب على ذلك ، بل اعترف به ، واكتفى بالقول : «وأما الفرار من الزحف ، فإنه لم يفر إلا متحيزا

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٤ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٥٨ ، ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٦٠٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٢.

(٣) البحار ج ٢٠ ص ٥٣ ، وتفسير القمي ج ١ ص ١١٤ و ١١٥.

(٤) العثمانية ص ١٦٩.

١٨٣

إلى فئة ، وقد استثنى الله تعالى ذلك ؛ فخرج به عن الإثم» (١).

ولكن قد فات المعتزلي : أن ما جرى يوم أحد ، لا يمكن الاعتذار عنه بما ذكر ، لعدم وجود فئة لهم إلا الرسول «صلى الله عليه وآله» نفسه ، وقد تركوه ، وفروا عنه ، ولأن الله تعالى قد ذمهم على هذا الفرار ، وعلله بأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا ، ثم عفا عنهم ، ولو كان لا إثم في هذا الفرار ؛ فلا حاجة إلى هذا العفو.

هذا ، وقد حقق العلامة الطباطبائي «رحمه الله» : أن المراد بالعفو هنا معنى عام ، يشمل العفو عن المنافقين أيضا ، فراجع (٢).

وقد كان ثمة حاجة إلى التسامح في هذا الفرار ، لأنه الأول من نوعه ، ويأتي في وقت يواجه الإسلام فيه أعظم الأخطار داخليا وخارجيا ، مع عدم وجود إمكانات كافية لمواجهتها ، ومواجهة آثار مؤاخذتهم بما اقترفوا. واستمع أخيرا إلى ترقيع الرازي الذي يقول : ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي «صلى الله عليه وآله» (٣). بارك الله في هذا الثبات ، لكن لا في ساحة المعركة ، بل فوق الجبل (!!).

ثم إننا لا ندري ما الفرق بين أن يكون المنهزم في أول الناس أو في وسطهم ، أو في آخرهم؟!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١٧٩ و ١٨٠.

(٢) راجع تفسير الميزان ج ٤ ص ٥١.

(٣) التفسير الكبير ج ٩ ص ٥١.

١٨٤

وما الفرق بين أن يبعد في هزيمته وبين أن لا يبعد!!.

فرار الزبير :

وبعد هذا فلا نرى حاجة لإثبات فرار الزبير في أحد ، بعد أن عرفنا أنه لم يثبت سوى أمير المؤمنين «عليه السلام». أو علي وأبو دجانة ، وغير ذلك من نصوص تقدمت مع مصادرها. وإن كان ثمة محاولات لإظهار الزبير على أنه فارس الإسلام ، ورجل الحرب الذي لا يبارى ولا يجارى ، حتى إننا لنجد عمر بن الخطاب يعتبره يعدل ألف فارس.

وعند مصعب الزبيري!! : أنه أشجع الفرسان ، وعلي أشجع الرجالة. بل ويدعون : أنه قد افتتح إفريقية وحده (١).

مع أن مما لا شك فيه : أن إفريقية قد فتحت على عهد عثمان في سنة سبع أو ثمان وعشرين على يد عبد الله بن سعد بن أبي سرح!! (٢).

ونحن نعرف : أن الهدف هو إيجاد شخصيات بديلة ، أو في قبال الإمام علي «عليه السلام» الذي هو أشجع البشر بعد ابن عمه محمد «صلى الله عليه وآله». ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ، ويرد كيد الخائنين للحقيقة والتاريخ.

فرار عثمان :

وأما عثمان ، فلا يختلف في فراره في أحد اثنان. وهو موضع إجماع المؤرخين ، وكان يعير به. وقد رجع بعد ثلاثة أيام ، فقال له رسول الله «صلى

__________________

(١) راجع لباب الآداب لأسامة بن منقذ ص ١٧٣ ـ ١٧٥.

(٢) راجع : تاريخ الطبري وفتوح البلدان.

١٨٥

الله عليه وآله» : لقد ذهبتم فيها عريضة!! (١).

وعن ابن عباس وغيره : إن آية : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)(٢) نزلت بعثمان (٣).

بل في بعض النصوص : أن طلحة أراد أن يتنصّر ، وعثمان أراد أن يتهود (٤).

__________________

(١) راجع : تفسير المنار ج ٤ ص ١٩١ ، والجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ٢٤٤ ، وفتح القدير ج ١ ص ٣٩٢ ، وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٤ ، وتفسير التبيان ج ٣ ص ٢٦ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٠٣ ، والإرشاد للشيخ المفيد ص ٥٠ ، والبحار ج ٢٠ ص ٨٤ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢١ عن الواقدي لكن مغازي الواقدي المطبوع لم يصرح بالأسماء بل كنى عنها في ج ١ ص ٢٧٧ لكن في الهامش قال : في (نسخة عمر وعثمان) ، والكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٥٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٧ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٥ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ و ٨٩ عن ابن جرير وابن المنذر ، وابن اسحاق وراجع : سيرة ابن اسحاق ص ٣٣٢ ، وجامع البيان ج ٤ ص ٩٦ ، وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٤ ص ١١٣ ، والتفسير الكبير للرازي ج ٩ ص ٥٠ و ٥١ ، وأنساب الاشراف ج ١ ص ٣٢٦. وراجع عن فراره يوم أحد وتخلفه يوم بدر : محاضرات الراغب ج ٣ ص ١٨٤ ، ومسند أحمد ج ٢ ص ١٠١ وج ١ ص ٦٨ ، والصراط المستقيم للبياضي ج ١ ص ٩١.

(٢) الآية ١٥٥ من سورة آل عمران.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ ، وفتح القدير ج ١ ص ٣٩٢ ، وراجع : جامع البيان ج ٤ ص ٩٦.

(٤) قاموس الرجال ج ٥ ص ١٦٩.

١٨٦

لم يثبت من المهاجرين سوى علي عليه السّلام :

يقول حسان بن ثابت عن الأنصار ، مشيرا إلى فرار المهاجرين :

سماهم الله أنصارا لنصرهم

دين الهدى ، وعوان الحرب يستعر

وجاهدوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات فما خافوا ولا ضجروا

والناس إلب علينا ثم ليس لنا

إلا السيوف وأطراف القنا وزر

ولا يهرّ جناب الحرب مجلسنا

ونحن حين تلظى نارها سعر

وكم رددنا ببدر دونما طلبوا

أهل النفاق وفينا أنزل الظفر

ونحن جندك يوم النعف من أحد

إذ حزبت بطرا أشياعها مضر

فما ونينا وما خمنا ، وما خبروا

منا عثارا وجل القوم قد عثروا (١)

وأخيرا فقد تقدم : أن أبا بكر ، وسعدا ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير كلهم من المهاجرين.

وهناك نص يقول : إنه لم يثبت أحد من المهاجرين إلا رجل واحد ، وسبعة من الأنصار قتلوا كلهم. ولا ريب في أن هذا المهاجري هو علي «عليه السلام» ، للإجماع.

والنص هو : أخرج الإمام أحمد ، عن أنس : أن المشركين لما رهقوا النبي «صلى الله عليه وآله» يوم أحد ـ وهو في سبعة من الأنصار ، ورجل من قريش ـ قال : من يردهم عنا ، وهو رفيقي في الجنة؟

فجاء رجل من الأنصار ؛ فقاتل حتى قتل.

__________________

(١) ديوان حسان بن ثابت ص ٥٧.

١٨٧

فلما رهقوه أيضا قال : من يردهم عنا ، وهو رفيقي في الجنة؟ ..

فأجابه أنصاري آخر ، وهكذا ، حتى قتل السبعة.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ما أنصفنا أصحابنا (١).

سر الاختلاف في من ثبت :

وبعد ، فإننا يمكن أن نفهم : أن رجعة المسلمين إلى المعركة بعد هزيمتهم لم تكن دفعة واحدة ، وإنما رجع الأول فرأى عليا ، ثم يرجع آخر ؛ فيرى عليا وأبا دجانة مثلا ، ثم يرجع آخر فيرى خمسة ، وهكذا ؛ فكل منهم ينقل ما رآه. حتى وصل العدد لدى بعض الناقلين إلى ثلاثين.

كما أن ما يؤثر عن بعض الصحابة من مواقف نضالية ؛ لعله قد كان بعد عودتهم إلى ساحة القتال.

ثبات أبي دجانة :

ولعل ذكر أبي دجانة في بعض الأخبار ، مرجعه ذلك. وإلا ، فإننا نجد ابن مسعود ينكر ثباته ، فقد قال : انهزم الناس إلا علي وحده. وثاب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» نفر ، وكان أولهم : عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٥٣٣ ، وتقدمت الرواية عن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٨ إلا أن فيه : رجلين من قريش. وكذا في تاريخ الخميس أيضا.

(٢) قاموس الرجال ج ٥ ص ٧. ولكن يبدو أن في الإرشاد تحريفا ، فراجع ص ٥٠ منه ، وقارنها مع ما نقله عنه في البحار ج ٢٠ ، وقاموس الرجال.

١٨٨

ولكن يعكر على هذه الرواية : أنه قد جاء في المطبوع من كتاب الإرشاد للمفيد : أن أبا دجانة قد ثبت هو وسهل بن حنيف ، كانا قائمين على رأسه ، بيد كل واحد منهما سيف ليذب عنه (١).

وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا (٢).

ونحن لا نستبعد : أن يكون أبو دجانة قد ثبت ، ولكن لا كثبات علي «عليه السلام». وإنما حارب أولا بسيفه ، ثم لما فر المسلمون صار يقي النبي «صلى الله عليه وآله» بنفسه ، ويترّس عليه (٣) ، كما تقدم عن سلمة بن كهيل أيضا ؛ حيث كان علي «عليه السلام» يصد الكتائب ، ويجندل الأبطال ، حتى نزل في حقه :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

أو أن أول عائد إليه «صلى الله عليه وآله» هو عاصم بن ثابت كما تقدم ، فصار هو وسهل بن حنيف يذبان عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أن كثر المسلمون.

وبعد عودة المسلمين من فرارهم أعطاه «صلى الله عليه وآله» السيف بحقه ، ومنعه عمر ، والزبير ، وأبا بكر ، عقابا لهم ، وتقديرا واهتماما في عودة أبي دجانة إلى ساحة الحرب ، ومجال الطعن والضرب معززا ومكرما.

__________________

(١) وفي ربيع الأبرار ص ٨٣٣ و ٨٣٤ : أن عمارا كان بين يدي النبي «صلى الله عليه وآله» يذب عنه ، والمقداد كان عن يمينه «صلى الله عليه وآله».

(٢) البحار ج ٢٠ ص ٨٣ ، والإرشاد للمفيد ص ٥٠.

(٣) تفسير فرات ص ٢٤ و ٢٥ ، والبحار ج ٢٠ ص ١٠٤ و ١٠٥.

١٨٩

إلا أن يقال : إن أبا بكر وعمر لم يعودا إلى الحرب بعد فرارهما أصلا ، فلا بد أن يكون عرض السيف على أبي دجانة وعليهم قد كان في المواجهة الأولى.

نظرة في شعر حسان المتقدم

وأمام تصريحات المؤرخين الكثيرة جدا ، والمقطوع بصحتها وتواترها ، لا يسعنا قبول قول حسان المتقدم ، الذي يقول فيه : إن الأنصار قد ثبتوا ، وينسب الفرار إلى خصوص المهاجرين.

إلا أن يكون مراده : أن المهاجرين أو أكثرهم لم يرجعوا إلى ساحة القتال ، واستمروا فوق الجبل ، والذين ثابوا إلى الحرب هم خصوص الأنصار.

ولعل كرّة العدو عليهم قد ضعضعتهم ، فانهزموا ، ثم لما علموا بحياة الرسول «صلى الله عليه وآله» كروا على عدوهم من دون أن يصعدوا الجبل ، ولعل هذا هو الأقرب والأظهر.

تأويلات سقيمة للفرار :

ويقول البعض هنا ما ملخصه : إن فرقة استمروا في الهزيمة حتى المدينة ، فما رجعوا حتى انقضى القتال.

وفرقة صاروا حيارى حينما سمعوا بقتل النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فصار همّ الواحد منهم : أن يذب عن نفسه ، ويستمر في القتال إلى أن يقتل.

وفرقة بقيت مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، ثم تراجعت إليهم الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي.

وما ورد في الاختلاف في العدد ، فمحمول على تعدد المواطن في

١٩٠

القصة ؛ فقولهم : (فروا) أي بعضهم ، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم (١).

ونحن لا نريد أن نطيل في الرد على ذلك ؛ فإن ما تقدم مما دل على أنه لم يثبت إلا فلان ، أو فلان وفلان ، وأن هذا قد فر ، وذاك كذلك ، وهكذا ، يدفعه. وإلا لكان الفرار منحصرا في الثلاثة بعثمان وصاحبيه.

كما أنه لو صح ما ذكره فلا يبقى لعتاب الله لهم جميعا بقوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)(٢) معنى ولا فائدة.

لماذا كانت الهزيمة؟!

١ ـ إن من الواضح : أن السبب الأول لما لحق بالنبي «صلى الله عليه وآله» وللهزيمة التي لحقت بالمسلمين ، وما جرى عليهم من النكبات ، والقتل الذريع ، حتى لقد قتل منهم سبعون ، وجرحت أعداد هائلة ـ أيضا ـ هو : أنهم عصوا ، وتنازعوا ، ففشلوا.

قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ)(٣)(بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(٤).

وتصريح القرآن بأنهم قد عصوا وتنازعوا من بعد ما كان النصر منهم

__________________

(١) راجع : وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٠.

(٢) الآية ١٥٣ من سورة آل عمران.

(٣) الحس : القتل على وجه الاستيصال.

(٤) الآية ١٥٢ من سورة آل عمران.

١٩١

قاب قوسين أو أدنى ، يكذب ما يدّعيه البعض : من أنهم قد تخيلوا انتهاء أمد أمر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وإن هذا اجتهاد منهم (١).

فإنه لو كان اجتهادا لما كان معصية ، مع أن القرآن يصرح بالمعصية. والقول بأن المراد بالمعصية : المخالفة مطلقا ، ولو عن اجتهاد ؛ خلاف ظاهر كلمة : (عصيتم). فالنصر كان معهم ، وحليفهم حتى تنازع الرماة ، لأن بعضهم كان يريد الدنيا ، وبعضهم يريد الآخرة.

أضف إلى ذلك : أن أمر الرسول كان صريحا لهم في أن لا يتركوا مراكزهم ، حتى يرسل إليهم ، حتى ولو رأوهم مهزومين ، أو حتى لو رأوهم يغنمون ، ولذا قال رفقاؤهم : لا نخالف أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فكيف يصح بعد هذا أن يقال : إنهم تخيلوا انتهاء أمد أمره «صلى الله عليه وآله»؟!.

وهكذا ، فقد كانت معصية بعض الرماة ، وتنازعهم سببا في كل ما نال المسلمين من كوارث ونكبات آنئذ ، قد أشرنا ولسوف نشير إن شاء الله الى شطر منها.

٢ ـ وأيضا ، فقد كان لاغترارهم بأنفسهم ، وبكثرتهم ، أثر كبير في حلول الهزيمة بهم ، فقد قالوا للنبي «صلى الله عليه وآله» : قد كنت في بدر في ثلاثمئة رجل ؛ فأظفرك الله بهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، نتمنى هذا اليوم ، وندعو الله له ، وقد ساقه الله إلى ساحتنا هذه (٢).

__________________

(١) البوطي في : فقه السيرة ص ٢٦١.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢١١ ، وسيرة المصطفى ص ٣٩٦.

١٩٢

وقد أشار الله تعالى في سورة آل عمران إلى هذا التمني للموت. فراجع الآيات (١).

وواضح : أن الاغترار بالكثرة يفقد العناصر المشاركة شعور الاعتماد على النفس ، ويجعلهم يعيشون روح التواكل ، واللامسؤولية.

٣ ـ ثم إن الله تعالى ما زال يؤيد المسلمين بنصره ، حتى عصوا الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، طمعا في الدنيا ، وإيثارا لها على الآخرة. فكان لا بد في هذه الحالة من إعادة التمحيص لهم ، وابتلائهم ؛ ليرجعوا إلى الله تعالى ، وليميز الله المؤمن من المنافق ؛ وليزداد الذين آمنوا إيمانا ؛ لأن الإنسان ربما يغفل عن حقيقة العنايات الإلهية ، والإمدادات الغيبية ، حين يرى الانتصارات تتوالى ، فينسب ذلك إلى قدرته الشخصية.

ولأجل ذلك نجد : أنهم حين غلبوا شكوا في هذا الأمر ، وقالوا : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)؟

فجاءهم الجواب القاطع : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).

نعم ، لا بد إذا من إعادتهم إلى الله تعالى ، وتعريفهم بحقيقة إمكاناتهم ، وقدراتهم. ولسوف نعود عن قريب لبحث هذه النقطة إن شاء الله تعالى.

ومن جهة ثانية ، فقد تقدم في غزوة بدر كلام هام للعلامة الطباطبائي «رحمه الله» ، وفيه مقارنة بين بدر وأحد وغيرها ، وبيان لسر الانتصار أولا ، ثم ما ظهر من أمارات الضعف أخيرا ، فليراجع.

٤ ـ وإن الانضباطية ـ خصوصا حين يكون القائد حكيما ، فكيف إذا

__________________

(١) الآيات ١٤٣ و ١٥٢ و ١٥٣ من سورة آل عمران.

١٩٣

كان نبيا ـ هي أساس النجاح. ولربما تكون مخالفة أفراد معدودين سببا في دمار جيش بكامله ، كما كان الحال في قضية أحد.

٥ ـ كما أن عناية الله تعالى بهم ، وتسديده لهم ، لا يعني إلغاء جميع الأسباب الطبيعية كلية ، كما لا يعني أن هذه العناية ، وذلك الإمداد مطلق غير مشروط ؛ بل هو مشروط قطعا بالسعي من قبلهم نحو الهدف الأسمى ، والبذل والتضحيات التي تؤهلهم لأن يكونوا موضعا لعنايات الله وألطافه ، (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(١). أو على الأقل لا بد لاستمرار هذه العناية الإلهية من حفظ الحد الأدنى من الارتباط بالقيادة ، وتنفيذ أوامرها. وإلا لم يكن لهذه المواقف والحرب أثرها النفسي ، والاجتماعي ، والتربوي المطلوب.

٦ ـ قد ظهر مما تقدم : أن الذين تركوا مراكزهم قد ظنوا ـ أو ظن بعضهم ـ : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيغلّ ، أي يخونهم ، فلا يقسم لهم.

وهذا يدل : على أن من بين هؤلاء من لم يكن على درجة حسنة من المعرفة والوعي ، ولربما الإيمان أيضا. ولو كان كذلك ، فلا أقل من أن أخلاقياته وروحياته ، بما في ذلك الإعراض عن الدنيا والإيثار ، لم تكن بالمستوى المطلوب ، إن لم نقل : إنه منافق يظهر الإيمان لأجل مصالح يراها ، ويبطن الكفر.

ولعل الآية تشير إلى ظنهم السيء هذا ، وتقرعهم عليه بأنه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢).

__________________

(١) الآية ٧ من سورة محمد.

(٢) الآية ١٦١ من سورة آل عمران.

١٩٤

الفصل الثالث :

في موقع الحسم

١٩٥
١٩٦

الرعب القاتل :

قد تقدم معنا : أن عمر بن الخطاب قد كان وهو فار مرعوبا من أمير المؤمنين «عليه السلام» ، الذي تبع الفارين ، وهو يقول لهم : شاهت الوجوه ، وقطت ، ولطت ، وبطت. إلى أين تفرون؟ إلى النار؟

ويقول : بايعتم ، ثم نكثتم ؛ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل الخ ..

ولكنهم قد استمروا في هزيمتهم لا يلوون على شيء ، والرسول يدعوهم في أخراهم. حتى بلغوا الجبل ، وبلغوا صخرة فيه.

وفشا في الناس : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قتل ؛ فقال بعض المسلمين ، من أصحاب الصخرة في الجبل : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ؛ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا. وقال أناس من المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى دينكم الأول.

وفي النهر : أن فرقة قالوا : نلقي إليهم بأيدينا ، فإنهم قومنا ، وبنو عمنا (١).

وهذه الكلمة تدل دلالة واضحة على أن هذه الفرقة كانت من المهاجرين ، لا من الأنصار. فجاءهم أنس بن النضر ، فقال لهم : إن كان

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٧ ، وراجع : البحار ج ٢٠ ص ٢٧ ، وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٤ ص ٩٦.

١٩٧

محمد قد قتل ؛ فما تصنعون بالحياة بعده؟! فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه.

ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، يعني المسلمين. وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعني المنافقين. ثم قاتل حتى قتل.

وقد تقدمت بعض مصادر هذه القضية حين الكلام عن فرار طلحة.

وقيل : إن حمزة هو الذي قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر ، أبو سفيان وأصحابه. وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم (١).

وهذا يعني : أن حمزة قد قتل بعد فرار الصحابة عن الرسول «صلى الله عليه وآله».

وقد تقدم : أنه قد قتل بعد أصحاب اللواء ؛ فلا مانع من أن يكون الناس قد انهزموا ، فقتله وحشي وهو عائد من بعض حملاته. ثم صار علي «عليه السلام» يدفع كتائب المشركين عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما تقدم.

عودة المسلمين إلى القتال :

ثم إن كعب بن مالك كان أول من عرف النبي «صلى الله عليه وآله» ، رأى عينيه تزهران من تحت المغفر ، فصاح : يا معشر المسلمين ، أبشروا ؛ فهذا رسول الله. فأمره النبي بالسكوت ؛ لحراجة الموقف وخطورته. ثم صار المسلمون يفيئون إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» زرافات ووحدانا ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٦.

١٩٨

وجعل «صلى الله عليه وآله» يذرهم ويحضهم على القتال ؛ فقاتلوا على قلتهم خير قتال.

ولكن الذين كانوا على الجبل فوق الصخرة لم يعودوا ـ أو أكثرهم ـ إلى القتال ، ولا تركوا مركزهم. وقبل أن نستمر في الحديث عن المعركة الحاسمة ، لا بأس بالإلماح إلى بعض المواقف البطولية التي سجلها بعض المسلمين ، مع محاولة التركيز على بعض الجوانب الإيجابية فيها ، ثم نشير إلى بعض المختلقات في هذا المجال ، ولا سيما حول طلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، فنقول :

مواقف وبطولات :

١ ـ مع أنس بن النضر ، وابن السكن وأصحابه :

إن موقف أنس بن النضر ليدل على فهمه العميق للإسلام ، وإدراكه أن الإسلام لا يرتبط بالشخص والفرد ، حتى ولا بالنبي نفسه ، الذي جاء به من عند الله من حيث هو شخص وفرد (١).

تماما على عكس الرؤية التي كانت لدى الذين فروا ، حتى انتهوا إلى الصخرة. فالحق ـ عند أنس هذا ـ لا يعرف بالرجال ، وإنما تعرف الرجال بالحق.

قال أمير المؤمنين : «إنك لم تعرف الحق ، فتعرف من أتاه ، ولم تعرف

__________________

(١) وإن كان الارتباط به من حيث هو رسول وقائد حرب ، ومعلم ، أمر ضروري ولا بد منه.

١٩٩

الباطل ، فتعرف من أتاه» (١).

وهذه النظرة على درجة من البعد والعمق ، فإنه إذا تجسد الدين بالشخص ، فإن القضاء على ذلك الشخص يكون كافيا في القضاء على ذلك الدين. وهذه هي إحدى السياسات التي ينتهجها أعداء الله والإنسان في حربهم لله ورسوله ، على مدى الأجيال.

هذا ، ولا يقل موقف ابن السكن والرجال الخمسة الأنصاريين عن موقف أنس ؛ فإنه لما تفرق القوم عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهاجمه المشركون ، قال «صلى الله عليه وآله» : من رجل يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله؟

فقام زياد بن السكن ـ أو ولده عمارة ـ في خمسة من الأنصار ، فقاتلوا حتى قتلوا ، ثم جاءت فئة ؛ ففرقوا القوم عن رسول الله «صلى الله عليه وآله».

٢ ـ أبو دجانة :

وقد تقدم : أن أبا دجانة كان أول عائد مع عاصم بن ثابت ، وقد ترس على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وصار يقيه بنفسه من وقع السهام ، وهو منحن عليه لا يتحرك ، حتى كثر في ظهره النبل ، حتى استحق أن يعطيه رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيفا ، ويمنعه غيره ممن فر ، إهانة لهم ، وتكريما له.

وما ذلك إلا لأن الإسلام ونبي الإسلام ، لا يضيعان عمل عامل ، أيا

__________________

(١) نهج البلاغة الحكمة رقم ٢٦٢.

٢٠٠