الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

السكوت والتسليم.

٦ ـ ومن خصائصهم ـ يعني حجر بن عدي وأصحابه ـ : أنهم «يتشددون في الدين» (١) حتى لقد جعل ذلك من أسباب الطعن عليهم.

٧ ـ ورغم اضطهاد الحكام للشيعة ، فإنهم كانوا في بغداد أهل يسار (٢).

والظاهر : أن مرد ذلك إلى أنهم كانوا يبر بعضهم بعضا ، في مقابل حرمان الحكام لهم ، واضطهادهم إياهم. فكانوا يهتمون بقضاء حاجات بعضهم البعض ، وحل مشاكلهم ، وتيسير أمورهم.

٨ ـ ومن خصائصهم كذلك بعد صيتهم (٣) ، أي شيوع ذكرهم الحسن ، وهذا يعني أنهم كانوا مستقيمين في سلوكهم ، ومواقفهم ، وعلاقاتهم ، وغير ذلك.

٩ ـ ومن ذلك أيضا : محافظتهم على الصلاة في أول وقتها ، ويدل على ذلك قصة المأمون مع يحيى بن أكثم ، وفي آخرها قال له المأمون : «إن الشيعة أشد رعاية لأوقات الصلاة من المرجئة» (٤).

وأما غيرهم ، فقد روى مالك عن القاسم بن محمد ، أنه قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي (٥).

وقال الجاحظ : «وتفخر هاشم عليهم (أي على بني أمية) بأنهم : لم

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أحسن التقاسيم ص ٤١.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الموفقيات للزبير بن بكار ص ١٣٤ ، وراجع : عصر المأمون ج ١ ص ٤٤٥.

(٥) موطأ مالك ، (مع تنوير الحوالك) ج ١ ص ٢٧.

٨١

يهدموا الكعبة ، ولم يحولوا القبلة ، ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة ، ولم يختموا في أعناق الصحابة ، ولم يغيروا أوقات الصلاة» (١).

وهذا يدل على مدى تأثر الناس بسيرة وروحية حكامهم الأمويين.

١٠ ـ ومن خصائص الشيعة العلم والفقه.

١١ ـ الجود والكرم. ويدل على هذا ، وعلى سابقه : ما روي من أنه دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزبير ، وهو يومئذ بمكة فقال :

أصبحت كما قال الشاعر :

فإن تصبك من الأيام جائحة

لا أبك منك على دنيا ولا دين

فقال : وما ذاك يا أعرج؟

فقال : هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس ، وعبيد الله أخوه يطعم الناس ، فما أبقيا لك؟

فأحفظه ذلك ، فأرسل صاحب شرطته ، عبد الله بن مطيع ، وقال له : انطلق إلى ابني عباس ، فقل لهما : أعمدتما إلى راية ترابية قد وضعها الله ، فنصبتماها؟ بددا عني جمعكما ، ومن ضوى إليكما من أهل الدنيا ، وإلا فعلت وفعلت.

فقال ابن عباس : ثكلتك أمك ، والله ما يأتينا من الناس غير رجلين : طالب فقه ، أو طالب فضل. فأي هذين تمنع؟! فقال أبو الطفيل :

لا در در الليالي كيف تضحكنا

منها خطوب أعاجيب وتبكينا

ومثل ما تحدث الأيام من غير

يا ابن الزبير عن الدنيا تسلينا

__________________

(١) آثار الجاحظ ص ٢٠٥.

٨٢

كنا نجيء ابن عباس فيقبسنا

علما ، ويكسبنا أجرا ويهدينا

ولا يزال عبيد الله مترعة

جفانه ، مطعما ضيفا ومسكينا

فالبر ، والدين ، والدنيا بدارهما

ننال منها الذي نبغي إذا شينا

إن النبي هو النور الذي كشفت

به عمايات باقينا وماضينا

ورهطه عصمة في ديننا ولهم

فضل علينا وحق واجب فينا

ولست فاعلمه أولى منهم رحما

يا بن الزبير ولا أولى به دينا

ففيم تمنعهم عنا وتمنعنا

عنهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا

لن يؤتي الله من أخزى ببغضهم

في الدين عزا ولا في الأرض تمكينا (١)

فابن الزبير يعتبر راية العلم ، وراية الجود من الروايات الترابية التي اكتسبها أتباع أبي تراب منه «صلوات الله وسلامه عليه».

١٢ ـ ومن خصائص الشيعة ابتعادهم عن العصبية ، فقد قال كثير عزة ، حينما قتل آل المهلب بالعقر : ما أجل الخطب! ، ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف ، وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر ، ثم انتضحت عيناه باكيا.

فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك ، فدعا به ، فلما دخل عليه قال : «عليك بهلة الله ، أترابية وعصبية»؟! (٢).

وموقف أهل البيت «عليهم السلام» من العصبيات ، ومن التمييز القبلي

__________________

(١) الأغاني ط ساسي ج ١٣ ص ١٦٨ ، وأنساب الأشراف أيضا ج ٣ ص ٣٢.

(٢) الأغاني ج ٨ ص ٦.

٨٣

والعنصري ، معروف وواضح. والموقف المغاير من غيرهم واضح أيضا.

وهذا موضوع طويل الذيل ، لا مناص لنا من إرجاء الإفاضة فيه إلى فرصة أخرى (١).

١٣ ـ وكذلك ، فإن من خصائص الشيعة «رضوان الله تعالى عليهم» ، الابتعاد عن الشراب ، فقد ذكروا أن جماعة من الشعراء اجتمعوا ببغداد على نبيذ لهم ، وفيهم منصور النمري ؛ فأبى منصور أن يشرب معهم ، فقالوا : إنما تعاف الشراب لأنك رافضي (٢).

وقال الجاحظ : «لكل صنف من الناس نسك ، فنسك الخصي غزو الروم ونسك الخراساني الحج إلى أن قال : ونسك الرافضي ترك النبيذ وزيارة المشهد» (٣).

١٤ ـ قال الزمخشري : «ليلة الغدير معظمة عند الشيعة ، محياة فيهم بالتهجد ؛ وهي الليلة التي خطب فيها رسول الله بغدير خم على أقتاب الإبل ، وقال في خطبته : من كنت مولاه فعلي مولاه» (٤).

١٥ ـ ومن خصائص الشيعة براعتهم في الأدب والشعر.

١٦ ـ ومن خصائصهم أيضا الفاعلية والحيوية ، والنشاط في مجال العمل على مستوى التغيير في الأمة.

ويدل على هذا الأمر وسابقه قول ابن هاني الأندلسي في مدحه لأبي

__________________

(١) راجع كتابنا «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي».

(٢) الأغاني ج ١٢ ص ٢٣.

(٣) محاضرات الراغب المجلد الثاني ج ٤ ص ٤١٨.

(٤) ربيع الأبرار ج ١ ص ٨٤ و٨٥.

٨٤

الفرج الشيباني :

شيعي أملاك بكر إن هم انتسبوا

ولست تلقى أديبا غير شيعي

من أنهض المغرب الأقصى بلا أدب

سوى التشيع والدين الحنيفي (١)

١٧ ـ ومما يمتاز به شيعة أهل البيت الفصاحة الظاهرة ، وسلامة المنطق ، حتى إن نطقهم بالضاد العربية كان معروفا ومتميزا (٢).

١٨ ـ والإكثار من العبادة والصلاة أمر عرف به الشيعة أيضا ، ونذكر هنا : أنه لما أرسل عبيد الله بن زياد معقلا ، ليكشف له خبر مسلم بن عقيل انطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم. وجعل لا يدري كيف يتأتى الأمر. ثم إنه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد ، فقال في نفسه : «إن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة ، وأحسب هذا منهم».

ثم ذكر كيف احتال حتى كشف الأمر (٣).

١٩ ـ ومن ميزاتهم أيضا : الجمع بين الصلاتين ، بحيث تكون صلاة العصر بعد الزوال بقليل (٤).

٢٠ ـ وقال إبراهيم بن هاني : «من تمام آلة الشيعي : أن يكون وافر الجمة صاحب بازيكند» (٥).

__________________

(١) راجع : ديوان ابن هاني ، الطبعة الأولى. لكن في طبعة سنة ١٤٠٥ ه‍. ق ، دار بيروت ص ٣٨١ : من أصلح ، بدل من أنهض.

(٢) روضات الجنات ج ١ ص ٢٤٤.

(٣) الأخبار الطوال ص ٢٣٥.

(٤) مقاتل الطالبيين ص ٤٦٧.

(٥) البيان والتبيين ج ١ ص ٩٥.

٨٥

بازيكند : بفتح الزاي والكاف ، وضم الياء : نوع من الثياب.

٢١ ـ عن الإمام الصادق «عليه السلام» ، أنه قال : «إن أبي حدثني : أن شيعتنا أهل البيت كانوا خيار من كانوا منهم ؛ إن كان فقيه كان منهم ، وإن كان مؤذن كان منهم ، وإن كان إمام كان منهم ، وإن كان صاحب أمانة كان منهم ؛ وإن كان صاحب وديعة كان منهم. وكذلك كونوا ، حببونا إلى الناس ، ولا تبغضونا إليهم» (١).

٢٢ ـ قال المعتزلي ، وهو يتحدث عن سجاحة خلق أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ، وبشر وجهه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم ، ولين الجانب والتواضع : «وقد بقي هذا الخلق متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن. كما بقي الجفاء ، والخشونة ، والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك» (٢).

٢٣ ـ وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال : «إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي ، فيكون زينها ، أداهم للأمانة ، وأقضاهم للحقوق ، وأصدقهم للحديث ، إليه وصاياهم وودائعهم ، تسأل العشيرة عنه ؛ فتقول : من مثل فلان ، إنه لأدانا للأمانة ، وأصدقنا للحديث» (٣).

٢٤ ـ وقال الإمام الصادق «عليه السلام» لشيعته ـ فيما روي عنه ـ : «دعوا رفع أيديكم في الصلاة ، إلا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة ، فإن

__________________

(١) البحار ج ٧٤ ص ١٦٢ و١٦٣ ، وصفات الشيعة للشيخ الصدوق ص ٢٨.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٦.

(٣) الكافي ط قديم ج ٨ ص ٦٧٨.

٨٦

الناس قد شهروكم بذلك» (١).

٢٥ ـ وعن أبي عبد الله «عليه السلام» ، قال : «إن أصحاب علي «عليه السلام» كانوا المنظور إليهم في القبائل ، وكانوا أصحاب الودايع ، مرضيين عند الناس ، سهار الليل ، مصابيح النهار» (٢).

٢٦ ـ وقال المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس لأبي مروان الجزيري مرة يثني عليه وعلى أدبه : «لله درك ، قسناك بأهل العراق ففضلتهم ، فبمن نقيسك بعد» (٣).

٢٧ ـ ومن الأمور التي يعرف بها الشيعة هو أنهم يتختمون باليمين فقد ذكر إسماعيل البروسوي في عقد الدرر : «أن السنة في الأصل التختم في اليمين لكن لما كان ذلك شعار أهل البدعة (أي الشيعة) والظلمة ، صارت السنة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا» (٤).

وبعد أن ذكر الراغب : أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتختم بيمينه قال : وأول من تختم في يساره معاوية ، وقيل :

قالوا : تختم في اليمين وإنما

مارست ذاك تشبها بالصادق

وتقربا مني لآل محمد

وتباعدا مني لكل منافق

__________________

(١) البحار ج ٧٥ ص ٢١٥ ، والكافي ج ٨ ص ٧.

(٢) البحار ج ٦٥ ص ١٨٠ ط مؤسسة الوفاء ، وفي هامشه عن مشكاة الأنوار ص ٦٢ و٦٣.

(٣) بدائع البدائه ص ٣٥٦ ، ونفح الطيب ج ٣ ص ٩٥.

(٤) الغدير ج ١٠ ص ٢١١ عن روح البيان ج ٤ ص ١٤٢.

٨٧

الماسحين فروجهم بخواتم

اسم النبي بهن واسم الخالق (١)

٢٨ ـ وقالوا : السنة تسطيح القبور ، ولكن لما صار شعار الرافضة كان الأولى مخالفتهم إلى التسنيم (٢).

٢٩ ـ وعن الزرقاني : كان بعض أهل العلم يرخي العذبة من قدام ، من الجانب الأيسر. ولم أر ما يدل على تعيين الأيمن إلا في حديث ضعيف عند الطبراني ، ولما صار شعارا للإمامية ينبغي تجنبه لترك التشبه بهم (٣).

٣٠ ـ قد حكم الزمخشري بكراهة الصلاة على أهل البيت مستقلا لأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض (٤).

٣١ ـ وقال العسقلاني : «اختلف في السلام على غير الأنبياء «عليهم السلام» بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي ، فقيل يشرع مطلقا وقيل تبعا ، ولا يفرد لواحد ، لكونه صار شعارا للرافضة» (٥).

٣٢ ـ ومسك الختام نقول : قال الراغب : «إذا قيل أمير المؤمنين مطلقا

__________________

(١) محاضرات الراغب ، المجلد الثاني ج ٤ ص ٤٧٣ و٤٧٤.

(٢) رحمة الأمة باختلاف الأئمة (مطبوع بهامش الميزان للشعراني) ج ١ ص ٨٨ وراجع : المغني لابن قدامة ج ٢ ص ٥٠٥ ومقتل الحسين للمقرم هامش ص ٤٦٤ عنهما وعن المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ج ١ ص ١٣٧ والوجيز للغزالي ج ١ ص ٤٧ والمنهاج للنووي ص ٢٥ وشرح تحفة المحتاج لابن حجر ج ١ ص ٥٦٠ وعمدة القاري ج ٤ ص ٢٤٨ والفروع لابن مفلح ج ١ ص ٤٨١.

(٣) مقتل الحسين للمقرم هامش ص ٤٦٥ عن شرح المواهب ج ٥ ص ١٣.

(٤) الكشاف ج ٣ ص ٥٥٨.

(٥) فتح الباري ج ١١ ص ١٤٦.

٨٨

فهو أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» (١).

هذا ما حضرنا الآن مما يرتبط بهذا الموضوع ، ونأمل التوفيق لإتحاف القارئ بالمزيد من خصائصهم الحميدة ، وخصالهم الفريدة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

__________________

(١) محاضرات الأدباء ، المجلد الثاني جزء ٣ ص ٣٤١.

٨٩
٩٠

الفصل الثاني :

أبو بكر في العريش ، وشجاعة أبي بكر

٩١
٩٢

أبو بكر في العريش ، وشجاعة أبي بكر :

لقد رووا : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» سأل عن أشجع الناس ، فقالوا له : أنت ، فرفض ذلك ، وقرر هو نفسه : أنه لما كان يوم بدر جعلوا للنبي «صلى الله عليه وآله» عريشا ، فقالوا : من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟.

«فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر ، شاهرا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه ، فهو أشجع الناس» (١).

قال الحلبي الشافعي : «وبه يرد قول الشيعة والرافضة : أن الخلافة لا يستحقها إلا علي ، لأنه أشجع الناس». ثم استدل هو ودحلان على أشجعية أبي بكر : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أخبر عليا بأنه يقتل على يد ابن ملجم ، فكان إذا دخل الحرب ، ولاقى الخصم ، علم أنه لا قدرة له على قتله ، فهو معه كالنائم على فراشه. أما أبو بكر ؛ فلم يخبر بقاتله ، فكان إذا دخل

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٦ و٣٧ ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٤٧ وقال : فيه من لم أعرفه ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٧١ و٢٧٢ عن البزار وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٦١ عنهما ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٦ والفتح المبين لدحلان بهامش سيرته النبوية ج ١ ص ١٢٢ ، وعن الرياض النضرة ج ١ ص ٩٢.

٩٣

الحرب لا يدرون هل يقتل أو لا ، ومن هذه حالته يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره.

ومما يدل على شجاعته تصميمه على حرب مانعي الزكاة ، مع تثبيط عمر له عن ذلك.

وأنه حين توفي الرسول «صلى الله عليه وآله» طاشت العقول ، وأقعد علي ، وأخرس عثمان ، وكان أبو بكر أثبتهم.

وأما كونه لم يشتهر عنه في الحروب ما اشتهر عن علي ؛ فلأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يمنعه عن مبارزة الشجعان (١).

ويقول دحلان : «إن الشجاعة والثبات في الأمر هما الأهمان في أمر الإمامة ، لا سيما في ذلك الوقت المحتاج فيه إلى قتال أهل الردة وغيرهم» (٢).

وقالوا أيضا : «أبو بكر كان مع النبي «صلى الله عليه وآله» على العريش يوم بدر ، مقامه مقام الرئيس ، والرئيس ينهزم به الجيش ، وعلي مقامه مقام مبارز ، والمبارز لا ينهزم به الجيش» (٣).

هذا كل ما عند القوم من الأدلة على أشجعية أبي بكر من سائر الصحابة ، حتى علي «عليه السلام».

__________________

(١) راجع فيما تقدم : الفتح المبين لدحلان بهامش سيرته النبوية ج ١ ص ١٢٣ ـ ١٢٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٦ ، وعن تفسير القرطبي ج ٤ ص ٢٢٢.

(٢) الفتح المبين لدحلان بهامش سيرته النبوية ج ١ ص ١٢٤ ـ ١٢٦.

(٣) تاريخ بغداد للخطيب ج ٨ ص ٢١ ، والمنتظم لابن الجوزي ج ٦ ص ٣٢٧ ، وراجع : العثمانية للجاحظ ص ١٠.

٩٤

عدم صحة ما تقدم :

ونحن نقطع بعدم صحة كل ما تقدم ، أو عدم دلالته ، وبيان ذلك عدا عما تقدم من عدم صحة قضية العريش من أساسها ما يلي :

ألف : فرار أبي بكر في المواقف :

لقد أقر دحلان بأن الشجاعة والثبات هما الأهمان في أمر الإمامة. ونحن نجد أبا بكر يفر في غير مشهد. وفراره في خيبر وحنين وأحد معروف ، ولسوف يأتي ذكر مصادره في تلك الغزوات ، وعن فراره في غزوة خيبر (١) قال ابن أبي الحديد المعتزلي المعترف بخلافة أبي بكر يذكر فراره هو وعمر :

وما أنس لا أنس اللذين تقدما

وفرهما والفر قد علما حوب

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

ملابس ذل فوقها وجلابيب

إلى أن قال :

__________________

(١) أما بالنسبة لفراره في غزوة أحد ، فسيأتي ذلك مع مصادره الكثيرة جدا في الجزء السادس من هذا الكتاب. وبالنسبة لفراره في حنين سيأتي أيضا في غزوة حنين.

وأما بالنسبة لفراره في غزوة خيبر ، فهو أيضا سيأتي مع مصادر كثيرة.

وقد رواه البزار بسند صحيح ، ورواه أيضا الطبراني ، والإيجي ، والبيضاوي ، وابن عساكر فراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٤ ، والمواقف كما في شرحه ج ٣ ص ٢٧٦ ، وأقره شراحه ، والمطالع ص ٤٨٣ ، عن البيضاوي في طوالع الأنوار ، وترجمة علي بن أبي طالب من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ١ ص ٨٢ ، والغدير ج ٧ ص ٢٠٤. وسيأتي المزيد إن شاء الله تعالى.

٩٥

أحضرهما أم حضر أخرج خاضب

وذان هما أم ناعم الخد مخضوب

عذرتكما إن الحمام لمبغض

وإن بقاء النفس للنفس مطلوب

ليكره طعم الموت والموت طالب

فكيف يلذ الموت والموت مطلوب

وقال أيضا :

وليس بنكر في حنين فراره

ففي أحد قد فر قدما وخيبرا

ونقول لابن أبي الحديد : بل يلذ الموت لمن بلغ الدرجات العالية من اليقين والمعرفة بجلال وعظمة الله ، وما أعده لعباده الصالحين والمجاهدين في سبيله ، والناصرين لدينه. وكلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» حول الموت في سوح الجهاد خير شاهد على ذلك.

وفر أبو بكر أيضا في أحد.

ويقول الإسكافي : إنه لم يبق معه حينئذ سوى أربعة بايعوه على الموت ، وليس أبو بكر من بينهم (١) وسيأتي ذكر ذلك في غزوة أحد مع مصادره الكثيرة إن شاء الله تعالى.

وجبن أيضا في الخندق عن مبارزة عمرو بن عبد ود ، وفر أيضا في حنين ؛ حيث لم يبق معه «صلى الله عليه وآله» سوى علي «عليه السلام» ، والعباس ، وأبي سفيان بن الحارث ، وابن مسعود (٢).

والخلاصة : أن أبا بكر قد شهد المشاهد كلها ، وليس فقط لم تؤثر عنه أية بادرة تدل على شجاعة وإقدام ، ولم يبارز ، ولم يقتل ، ولا جرح أحدا ، بل

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٠٦ عن السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٩٣.

٩٦

ثبت عنه ما يدل على عكس ذلك تماما وهو الفرار في أكثر من موقف.

وكان يجبن الناس باستمرار ، ويشير بترك الحرب وبعد هذا ، فهل يعقل أن يكون رجل له هذه المواصفات شجاعا؟.

وإذ كان له عذر في بدر ، حيث جعلوه مع النبي «صلى الله عليه وآله» في العريش ـ المكذوب! ـ لا يفارقه ؛ فأين كان عنه في أحد ، وحنين ، وخيبر ، وغيرها؟ حينما كان النبي «صلى الله عليه وآله» يجد نفسه محاطا بالمشركين ، الذين يريدون إطفاء نور الله عز وجل. فهل كان أبو بكر في تلك الوقائع في عريش رئاسته ، وكان النبي «صلى الله عليه وآله» هو الجندي المحارب بين يدي رئيسه أبي بكر ، الذي ينهزم الجيش بانهزامه؟!.

وأين كان في خيبر حينما كشف ياسر اليهودي المسلمين ، حتى انتهى إلى موقف النبي «صلى الله عليه وآله» ، وقاتل «صلى الله عليه وآله» بنفسه. وأرسل إلى علي «عليه السلام» الذي كان في المدينة لرمد عينيه ؛ فجاءه.

وقتل مرحبا ، وفتح الله على يديه خيبرا ، وكان ما كان مما هو معروف ومشهور.

وفي أحد خلص العدو إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فدثّ (١) بالحجارة حتى وقع لشقه ، وشج في وجهه ، إلى آخر ما جرى. إلى غير ذلك من أمور.

وأما قولهم : إنه «صلى الله عليه وآله» كان يمنعه من القتال ، فهل منعه في أحد وحنين ، وخيبر ، وسائر المشاهد؟ وهل كان يمنعه ، ثم يباشر هو بنفسه القتال ، حتى يتعرض للإصابة بجسده الشريف؟!. كل ذلك دفاعا عن الرئيس ، أبي بكر ابن أبي قحافة؟!.

__________________

(١) دث : رمي بالحجارة.

٩٧

وأخيرا ، فقد قال الإسكافي عن أبي بكر : إنه «لم يرم بسهم قط ، ولا سل سيفا ، ولا أراق دما ، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ، ولا طالب ولا مطلوب».

وخلاصة كلام الإسكافي الطويل : أنه لا يمكن قياس أبي بكر برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ولا جعله رئيسا يهلك الجيش بهلاكه ؛ لأن النبي «صلى الله عليه وآله» هو صاحب الجيش ، والدين الجديد.

وهو الذي يراه عدوه وصديقه : أنه السيد والرئيس ، وهو الذي أحنق قريشا والعرب بدينه الجديد ، ثم وترهم بقتل رؤسائهم وأكابرهم. وهو الذي يرتبط به مصير الأمة ومصير المحاربين ..

أما أبو بكر ، فلا أثر له هنا ، ولا كان أعداء الإسلام يقصدونه بالقتل ، وإنما هو كأي مهاجري آخر ، مثل عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان ، وغيرهما. بل كان عثمان أبعد منه صيتا ، وأشرف مركبا ، فلم يكن قتله في إحدى تلك المعارك ليضعف الإسلام ، ولا تعفى آثاره ؛ فكيف يجعل كرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الذي كان وقوفه وقوف رعاية وتدبير ، وظهر وسند ، يحرس أصحابه ، ويدبر أمورهم ، ويعين مواقفهم ، وتوجب سلامته الطمأنينة لهم؟

ولو كان في أول المحاربين ، لا نشغلت نفوسهم بمصيره ، وشغلهم الاهتمام به عن عدوهم ، ولا يكون لهم فئة يلجأون إليها ، ومن يكون قوة وعدة لهم ، يعرف مواضع خللهم ، وإذا رأى مصلحة في إقدامه بنفسه أقدم.

ولو كان أبو بكر شريكا للنبي «صلى الله عليه وآله» بالنبوة وكانت العرب تطلبه مثله لصح قولهم. وأما وهو أضعف المسلمين جنانا ، وأقلهم عند العرب ترة ، ولا حارب أبدا ، بل هو أحد الأتباع ، فكيف يجوز أن يجعل بمقام ومنزلة

٩٨

رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

ثم ذكر الإسكافي قصة مبارزته لولده عبد الرحمن في أحد ، واعتبر أن قول الرسول «صلى الله عليه وآله» له : أمتعنا بنفسك ، كان لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال ، وأنه لو بارز لقتل. ثم ذكر قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(١) ، وآيات أخرى ، وأضاف أنه لو كان الجبان والضعيف يستحقان الرئاسة لتركهما الحرب ، لكان حسان بن ثابت أحق بها.

ولقد كانت قريش تريد قتل النبي «صلى الله عليه وآله» أولا وعلي «عليه السلام» ثانيا ، لأنه أشبه الناس به ، وأقربهم إليه ، وأشدهم دفعا عنه ، لأن قتل علي «عليه السلام» يضعف النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويكسر شوكته. وقد وعد جبير بن مطعم غلامه وحيشيا بالحرية إن هو قتل محمدا ، أو عليا ، أو حمزة ، ولم يذكر أبا بكر ، ولمقاربة حال علي «عليه السلام» لحال النبي «صلى الله عليه وآله» وجدنا النبي «صلى الله عليه وآله» يخاف ويحذر عليه ، ويدعو له بالسلامة والحفظ. إنتهى كلام الإسكافي باختصار (٢).

وقد فات الإسكافي أن يذكر بحال أبي بكر حين رأى سراقة مقبلا يجر رمحه ، وسراقة رجل واحد لم تذكر عنه شجاعة (٣).

وفاته أن يشير أيضا : إلى أنه لو صحت هذه المكرمة العظيمة لذكرها أبو

__________________

(١) الآية ٩٥ من سورة النساء.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٤.

(٣) تقوية الإيمان ص ٤٢.

٩٩

بكر ، أو أحد مناصريه في السقيفة ، حيث كان في أشد الحاجة إلى ذلك آنئذ ..

ب : حراسة أبي بكر للنبي صلّى الله عليه وآله :

وأما حديث أنه وقف بالسيف على رأس رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يهوي أحد من المشركين بسيفه إلا أهوى إليه ؛ فلا يمكن أن يصح أيضا وذلك للأمور التالية :

١ ـ إنه رغم ضعف إسناد هذه الرواية (١) يكذبها قولهم المشهور : إن سعد بن معاذ كان مع جماعة من الأنصار يحرسون الرسول «صلى الله عليه وآله» في العريش ، ويضيف البعض إليهم عليا أيضا (٢).

ولعلهم ذكروا عليا «عليه السلام» لما تقدم ، من أنه كان لا يغفل عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فكان يقاتل قليلا ثم يأتي إليه ليفتقده.

وإذا كان النبي وأبو بكر في داخل العريش ، وهؤلاء مع ابن معاذ يحرسونهما في خارجه ، فكيف وصل إليه المشركون ، وكان إذا أهوى أحدهم إليه أهوى إليه أبو بكر بالسيف؟.

ثم أليس حال هؤلاء الحراس أشد من حال أبي بكر ، الذي يوجد من يدافع عنه في الخارج ، وهو مطمئن البال في الداخل؟!.

٢ ـ يقول الأميني : أضف إلى ذلك : أن حراسة النبي لا تختص بأبي بكر ، ولا بابن معاذ ، فقد حرسه غيره في مواقع وغزوات أخرى ، كبلال ، وذكوان ، وسعد بن أبي وقاص بوادي القرى ؛ وابن أبي مرثد ليلة وقعة

__________________

(١) ضعف إسنادها الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤٦١.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٧١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٦ و١٦١.

١٠٠