الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

قال الحلبي : «وهو يفيد : أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه ؛ لأنه إذا وقع يقع مغفورا. وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه.

وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة ، لا بالنسبة لأحكام الدنيا. ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر حد ، وكان بدريا».

وقال الحلبي أيضا : «وفي الخصائص الصغرى ، نقلا عن شرح جمع الجوامع : أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم» (١).

ورووا عنه «صلى الله عليه وآله» أيضا قوله : لن يدخل النار أحد شهد بدرا (٢).

__________________

وتفسير القمي ، وتفسير فرات ، وعون المعبود ج ٧ ص ٣١٠ و٣١٣ ، والدرجات الرفيعة ص ٣٣٦ ، وزاد المعاد لابن القيم ج ٣ ص ١١٥ ، وعمدة القارئ ج ١٤ ص ٢٥٤ ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٩ ، وترتيب مسند الشافعي ج ١ ص ١٩٧ ، والمحلى ج ٧ ص ٣٣٣ ، والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٥٠ و٥١ ، وأحكام القرآن للجصاص ج ٥ ص ٣٢٥ ، وجامع البيان ج ٢٨ ص ٣٨ ـ ٤٠ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٤٢ ، وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ١٨٠ ، والإصابة ج ١ ص ٣٠٠ ، والبرهان في تفسير القرآن ج ٤ ص ٣٢٣ والاعتصام بحبل الله المتين ج ٥ ص ٥٠٠ و٥٠١ ، والصافي (تفسير) ج ٥ ص ١٦١ ، ونهج السعادة ج ٤ ص ٢٨ ، ومعجم البلدان ج ٢ ص ٣٣٥ ، والمواهب اللدينة ج ١ ص ١٤٩ ، وبهجة المحافل ج ١ ص ١٨٨ و٤٠٠. وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ١٥ ص ٦٩ ، وعن تفسير الثعالبي ج ٤ ص ٢٨٩ ، وعن منهاج البراعة ج ٥ ص ١٠٦.

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٣ و٢٠٤ ، وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٢٣٧ و٢٣٨.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ٢٣٧ وسنده صحيح على شرط مسلم.

٦١

ونقول :

إذا كان شرب البدري للخمر لا يضر ، ولا يحتاجون للتوبة من الكبائر ، فليكن الزنى حتى بالمحارم غير مضر لهم أيضا ، وكذلك تركهم الصلاة ، وسائر الواجبات وغيرها!. وليكن أيضا قتل النفوس كذلك. ولقد قتلوا عشرات الألوف في وقعتي الجمل وصفين ، وقتلوا العشرات ، سرا وجهرا ، غيلة وصبرا. فإن ذلك كله لا يضر ، ولا يوجب لهم فسقا ، ولا عقابا!!

أضف إلى ذلك : أن ابن أبي مغفور له ، لأنه أيضا قد شهد بدرا حسبما روي (١).

وإذا صح ما ذكروه عن أهل بدر ، فلا يبقى معنى لتكليف البدريين بالشرائع والأحكام ، ولماذا يتعبون ويشقون ، ما دام أن دخول الجنة حاصل ومضمون لهم ، فليتنعموا في حياتهم الدنيا ، وليستفيدوا من لذائذها حلالا أو حراما!!.

أما دفاع علي «عليه السلام» عن الحق ، وإمعانه في قتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، بعد أن تناسوا أقوال الرسول «صلى الله عليه وآله» وإخباراته الصادقة عن هذه الفئات الضالة ، فقد اعتبروه جرأة منه على الدماء ، وأن سببه هو ما سمعه من أن الله رخص لأهل بدر في أن يفعلوا ما شاؤوا!! (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٣٥.

(٢) راجع : البخاري ج ٩ ص ٢٣ ط مشكول ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢٣٨ ، والغارات ج ٢ ص ٥٦٨ و٥٦٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١٠٠.

٦٢

ثم إننا لا ندري لماذا يعاقب البدري في الدنيا ، إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه قد منع عمر من عقاب حاطب الذي خان الله ورسوله ، وكتب للمشركين بأسرار المسلمين ، واحتج الرسول «صلى الله عليه وآله» لهذا المنع ـ حسبما يدّعون ـ ببدرية حاطب؟!

وإذا كان الله قد غفر لهذا البدري ، فلماذا يعاقب في الدنيا؟!

أليس عقابه حينئذ يكون بلا ذنب جناه؟

ولا خطيئة اقترفها؟!

والحقيقة هي أن الحلبي : لما رأى عمر قد أقام الحد على قدامة ، اضطر إلى عدم إسقاط العقاب الدنيوي عن أهل بدر ، ولو لا ذلك لكنا رأيناه يسقطه أيضا ، محتجا بإسقاط النبي «صلى الله عليه وآله» له عن حاطب. ولكن وبعد أن كان المعني هو عمر بالذات ، فلا بد من بناء الفقه والأحكام على أساس فعله ، وعدم الالتفات إلى فعل النبي «صلى الله عليه وآله» وقوله وتقريره!!

نعم ، لقد استنبط الحلبي كل هذه الأحكام من الحديث الشريف الذي عبر بكلمة : «(لعل) فليت شعري : كم كان سوف يستنبط من الأحكام لو أنه ثبت لديه الجزم بالمغفرة لهم كما ذكرته رواية أخرى»؟!.

ولكن الحقيقة هي أن حديث المغفرة لأهل بدر ـ لو صح ـ فلم يكن فيه كلمة «اعملوا ما شئتم». والمغفرة إنما هي بالنسبة لما سبق لهم من ذنب ، وإذا كانت هذه الفقرة ثابتة كان المراد بها : فليستأنفوا العمل ، فلسوف يجازون بحسب ما يعملونه فيما يأتي ، لا أن المغفرة تكون بالنسبة لما سوف يقترفونه بعد ذلك أيضا.

ولو كان قوله : «اعملوا ما شئتم» ثابتا ويراد به المغفرة للذنوب الآتية

٦٣

أيضا ، لاحتج به قدامة على عمر ، ليدرأ الحد عن نفسه. ولاحتج أيضا بموقف النبي «صلى الله عليه وآله» من حاطب ، كما أن من الصعب على عمر نفسه أن يقدم على مخالفة أمر نبوي بهذا الوضوح والمعروفية (١).

هذا كله بالإضافة إلى أن شيوع هذه الفقرة عن النبي «صلى الله عليه وآله» بما لها من هذا المعنى الذي يدعيه هؤلاء ، يلائم المصالح السياسية في أحيان كثيرة ، الأمر الذي يقوي الظن بأن للسياسة يدا في تأكيد ونشر هذا المعنى.

من هم أفضل من أهل بدر؟!

ونسجل هنا : أننا نجد سعد بن أبي وقاص يكاد يفضل جيشه في حرب المدائن على أهل بدر ، فيقول : «والله ، إن الجيش لذو أمانة ، ولو لا ما سبق لأهل بدر لقلت وأيم الله : على فضل أهل بدر ، لقد تتبعت من أقوام هنات وهنات فيما أحرزوا ، وما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم» (٢).

بل إن كعب بن مالك يفضل ليلة العقبة على بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها (٣).

نعم ، هذا هو شأن بدر عندهم ، وشأن غيرها. ولكنهم لم يحكموا لغير

__________________

(١) راجع حول عدالة الصحابة كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ٢.

(٢) حياة الصحابة ج ٣ ص ٧٥٨ عن تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٣٨.

(٣) البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٣ عن البخاري ، وأبي داود ، والنسائي ونحوه ، مفرقا ومختصرا ، وروى الترمذي بعضه ، والبيهقي ج ٩ ص ٣٣ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٤٧٥ عمن تقدم ، وعن الترغيب والترهيب ج ٤ ص ٣٦٦.

٦٤

البدريين بالجنة ، لأنه ليس فيهم من يهتمون بالمغفرة له وبإدخاله إلى الجنة. أو تفرض السياسة تبرير أعماله ومواقفه المخالفة للإسلام ، والقرآن ، والإنسانية! رغم أن سعدا حسب النص المذكور آنفا يرى أن في أهل بدر من صدرت منهم هنات وهنات أنزلت من مقامهم ، وخففت من ميزانهم. وهو على حق في ذلك ، فإن لكثير من أهل بدر مواقف وأفاعيل غريبة وعجيبة ، لسنا هنا في صدد الحديث عنها.

ابن الجوزي وحديث المغفرة للبدريين :

ويعجبني هنا ما قاله ابن الجوزي ، في تعليق له على حديث المغفرة لأهل بدر ، فهو يقول : «نعوذ بالله من سوء الفهم ، خصوصا من المتسمين بالعلم.

روى أحمد في مسنده : أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي ، وحيان بن عبد الله ، فقال أبو عبد الرحمن لحيان : قد علمت ما الذي حدا صاحبك ـ يعني عليا ـ قال : ما هو؟

قال : قول النبي «صلى الله عليه وآله» : لعل الله اطلع إلى أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم.

وهذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن ، حين ظن أن عليا «عليه السلام» إنما قاتل وقتل اعتمادا على أنه قد غفر له.

وينبغي أن يعلم : أن معنى الحديث : لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت ، فقد غفرت لكم.

فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك ، أتراه لو وقع من أهل بدر ـ وحاشاهم ـ الشرك ؛ إذ ليسوا بمعصومين ، أما كانوا يؤاخذون به؟

٦٥

فكذلك المعاصي.

ثم لو قلنا : إنه يتضمن غفران ما سيأتي ، فالمعنى : أن مآلكم إلى الغفران.

ثم دعنا من معنى الحديث ، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فعل ما لا يجوز اعتمادا على أنه سيغفر له؟! حوشي من هذا. وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال ، فكان على الحق.

ولا يختلف العلماء : أن عليا رضي الله عنه لم يقاتل أحدا إلا والحق مع علي.

كيف وقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : اللهم أدر الحق معه كيفما دار.

فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطا قبيحا ، حمله عليه أنه كان عثمانيا» (١) إنتهى.

عودة خيبة :

مهما يكن من أمر ، فقد رجع المحاربون المشركون إلى مكة بأسوأ حال من الحنق والغيظ ، فنهاهم أبو سفيان عن النوح على قتلاهم ، ومنع الشعراء من ندب القتلى ؛ لئلا يخفف ذلك من غيظهم ، ويقلل من عداوتهم للمسلمين. وحتى لا يبلغ المسلمين حزنهم ، فيشمتوا بهم.

وحرم أبو سفيان الطيب والنساء على نفسه ، حتى يغزو محمدا. وكذلك كان موقف زوجته هند ، التي اعتزلت فراشه وامتنعت عن الطيب.

ولما رجع المشركون طلبوا من أصحاب العير : أن يواسوهم في تلك

__________________

(١) صيد الخاطر ص ٣٨٥.

٦٦

العير ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)(١).

وقيل : نزلت هذه الآية في المطعمين في غزوة بدر ، الذين كانوا ينحرون الجزر حسبما تقدم ، ولعله هو الأنسب والأوفق بمفاد الآية.

عودة ظفر :

وأرسل النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» يبشر أهل المدينة بالنصر المبين ، فلم يصدق البعض ذلك في بادئ الأمر ، ثم تأكد لديهم أنه حق ، ففرح المؤمنون ، واستقبلوا الرسول «صلى الله عليه وآله» فرحين مسرورين.

ويقولون : إن زيد بن حارثة كان هو البشير ، فلم يصدقه الناس حتى اختلى بولده أسامة ، وأكد له ذلك.

وهذا لا يصح ، لأن أسامة كان حينئذ طفلا ، لا يتجاوز عمره العشر سنوات.

وفي الطريق إلى المدينة فقد المسلمون رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فوقفوا. فجاء «صلى الله عليه وآله» ومعه علي «عليه السلام».

فقالوا : يا رسول الله ، فقدناك؟

فقال : إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه ، فتخلفت عليه (٢).

ويقال : «إنه «صلى الله عليه وآله» قدم المدينة حينما كانوا مشغولين بدفن زوجة عثمان ، كما سيأتي الحديث عنه في فصل ما بين بدر وأحد إن شاء الله.

__________________

(١) الآية ٣٦ من سورة الأنفال.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٨٨.

٦٧

وقدم الأسارى المدينة بعد قدومه «صلى الله عليه وآله» بيوم ؛ ففرقهم بين المسلمين ، وقال : استوصوا بهم خيرا. إلى أن فداهم أهل مكة.

ثم أرسل «صلى الله عليه وآله» عبد الله بن رواحة مبشرا إلى أهل العالية ـ ما كان من جهة نجد من المدينة. وفي الطبقات العالية هم بنو عمرو بن عوف ، وخطمة ، ووائل ـ بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين ، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ـ ما كان في جهة تهامة» (١).

بعض نتائج حرب بدر :

لقد تقدم الكثير مما يمكن استخلاصه في هذا المقام. فلا نرى حاجة إلى الإطالة فيه ، فنحن نكتفي هنا بلمحة خاطفة ضمن النقاط التالية :

١ ـ إن قريشا التي كانت تحب الحياة قد واجهت في بدر ضربة روحية قاسية جدا ؛ وأصابها هلع قاتل ، وهي ترى أن حياتها مع هؤلاء المسلمين قد أصبحت في خطر حقيقي. وقد كان لهذا الخوف والهلع أثر لا ينكر على حروبها اللاحقة مع المسلمين ؛ فإن الخائف اللجوج بطبيعته ، يتخذ الاحتياطات كافة لتأمين النصر لنفسه مع احتفاظه بالحياة.

ولذا ، فقد حاولت قريش في حملاتها اللاحقة أن تكون أكثر دقة وتركيزا ، وأوسع حشدا واستعدادا ، من أجل القضاء على هذه الحركة التي تراها تهدد مصالحها وامتيازاتها في المنطقة ، إجتماعيا ، وسياسيا ، وإقتصاديا ، وغير ذلك.

__________________

(١) راجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٨٢.

٦٨

٢ ـ ومن الجهة الأخرى فقد قويت نفوس المسلمين بذلك ، وعادت لهم الثقة بأنفسهم بصورة ظاهرة ، وشجعهم هذا الانتصار غير المتوقع على مواجهة ما كان إلى الأمس القريب يرعبهم حتى احتماله ، فضلا عن التفكير فيه ، أو مواجهته. وقد كان هذا الانتصار في المستوى الذي صعب على بعض أهل المدينة التصديق به.

نعم ، لقد زادهم هذا الانتصار إيمانا ، ويقينا ، وثقة بدينهم ونبيهم. ولا سيما بملاحظة حجم الخسائر التي مني بها عدوهم.

٣ ـ ولقد أعانتهم تلك الغنائم التي حصلوا عليها إلى حد كبير على مواجهة مشاكلهم الإقتصادية الملحة ، كما أنها فتحت شهية الطامعين ، وجعلتهم على استعداد للمشاركة ، بل ويتطلعون إلى نظائرها في المستقبل.

٤ ـ ثم إنه قد أصبح ينظر إلى المسلمين في المنطقة على أنهم قوة فعالة ، لا بد أن يحسب حسابها ، وهابتهم القبائل ، وبدأت تخطب ودهم ، وتتقرب إليهم ، ولم يعد من السهل عليها أن تنقض ما أبرمته معهم من معاهدات.

بل وأصبحت تتوقع لهم انتصارات أخرى أيضا ، حتى ليقول اليعقوبي عن وقعة ذي قار ، التي كانت بعد بدر بأربعة أشهر :

«وأعز الله نبيه ، وقتل من قريش ، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله ، وحاربت ربيعة كسرى. وكانت وقعتهم بذي قار ، فقالوا : عليكم بشعار التهامي ، فنادوا : يا محمد ، يا محمد. فهزموا جيوش كسرى» (١).

وبعد هذا ، فإن من الطبيعي : أن يترك ذلك أثرا على محاولات قريش

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ط صادر ج ٢ ص ٤٦.

٦٩

للتحالف مع القبائل ضد المسلمين ، ويخفف من تحمس كثير منها إلى عقد مثل هذه التحالفات معها.

النجاشي يفرح لنتائج بدر :

ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر ، واستأصل وجوههم ورؤساءهم ، عرف النجاشي بالأمر من عين له ، ففرح فرحا شديدا ، وجلس على التراب ، ولبس ثيابا خلقة ، لأنه أراد شكر الله لأجل هذه النعمة ، وبشر المسلمين بذلك (١).

كلمة أخيرة :

ونشير هنا أيضا : إلى أن من إعجاز الإسلام : أنه «صلى الله عليه وآله» قد حارب أعتى القوى بأشواب (٢) من الناس ، لا تشدهم ولا تجمعهم أية رابطة سوى رابطة الدين ، وأمامهم عدو تشده إلى بعضه البعض عصبيات وأواصر مختلفة ، ومصالح مشتركة ، وليس من الطبيعي أن يتحقق النصر لقوم هم أشواب من الناس على فئة تكون على عكس ذلك تماما ، ولأجل ذلك قال عروة بن مسعود الثقفي للنبي «صلى الله عليه وآله» يوم الحديبية : «وإن تكن الأخرى (أي الحرب) فإني لأرى وجوها ، وأرى أشوابا من الناس ، خليقا أن يفروا عنك» (٣).

وهذا النوع من الناس هم الذين اعتبرهم أمير المؤمنين «عليه السلام»

__________________

(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٧٦ و٤٧٧.

(٢) أشواب : أخلاط.

(٣) المصنف ج ٥ ص ٣٣٥.

٧٠

الغوغاء ، الذين إذا اجتمعوا ضروا ، وإذا تفرقوا نفعوا (١).

وإن حربه لأعتى القوى وأكثرها تلاحما وتعاضدا بأشواب من الناس ، لم يكن في معركة واحدة ، ليقال : إنها ربما تكون صدفة ، خاضعة لبعض العوامل والظروف الاستثنائية ، بل استمر ذلك عدة سنوات. ولعل إلى ذلك يشير قوله تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)(٢).

موقف معاوية من أهل بدر :

وأخيرا .. فإننا نجد لمعاوية موقفا سياسيا من أهل بدر ، وذلك في قضية التحكيم في صفين ، حينما رفض أن يحكم رجلا من أهل بدر ، وقال : «لا أحكم رجلا من أهل بدر» (٣).

ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان يعلم : أن كثيرا منهم كان ملتزما بأحكام الشريعة ، صلبا في ذات الله ، ويرفض المساومة والمداهنة في الدين.

وقبل الحديث عن أحداث ما بين بدر وأحد ، لا بأس بأن نتكلم عن بعض الموضوعات التي ترتبط بما تقدم بنحو من الارتباط والاتصال ، وذلك في ضمن الفصل التالي.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكم ص ١٩٩.

(٢) الآية ٦٣ من سورة الأنفال.

(٣) أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٣.

٧١
٧٢

الباب الثاني

بحوث ليست غريبة عن السيرة

الفصل الأول : بعض خصائص الشيعة

الفصل الثاني : أبو بكر في العريش ، وشجاعة أبي بكر

الفصل الثالث : ذو الشمالين ، وسهو النبي صلّى الله عليه وآله

الفصل الرابع : الخمس بين السياسة والتشريع

٧٣
٧٤

الفصل الأول :

بعض خصائص الشيعة

٧٥
٧٦

بعض خصائص الشيعة :

تقدم معنا في غزوة بدر : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أمر أصحابه بأن لا يبدأوا المشركين بقتال.

وقلنا هناك : إن أمير المؤمنين عليا «عليه السلام» كان يأمر أصحابه أن لا يبدأوا أعداءه بقتال.

فقد جاء أنه «عليه السلام» نادى في الناس يوم الجمل : لا يرمين رجل بسهم ، ولا يطعن برمح ، ولا يضرب بسيف ، ولا تبدأوا القوم بالقتال ، وكلموهم بألطف الكلام.

قال سعيد : فلم نزل وقوفا حتى تعالى النهار ؛ حتى نادى القوم بأجمعهم : يا ثارات عثمان إلخ .. وبذلك أيضا أوصى «عليه السلام» أصحابه في صفين (١).

وأوصى الإمام الحسين «عليه السلام» أصحابه في كربلاء.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٨ ص ١٨٠ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥٠٣ عنه ، وراجع : تذكرة الخواص ص ٧٢ و٩١ ، والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٤٥ ، وج ٢ ص ٤٩٠ ، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٤٠ ، ومناقب الخوارزمي ص ١٨٣.

٧٧

نعم ، وقد :

١ ـ صار ذلك شعار الشيعة ، فإنهم كانوا لا يبدأون أحدا بقتال أيضا.

قال الجاحظ ، وهو يتحدث عن كردويه الأقطع الأيسر (وهو من بطارقة سندان الشجعان) وكان لا يضرب أحدا إلا حطمه ، وكان إذا ضرب قتل ، قال الجاحظ : «كان كردويه مع فتكه وإقدامه يتشيع ؛ فكان لا يبدأ بقتال حتى يبتدأ» (١).

٢ ـ كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد أسر أبا عزة الجمحي في بدر ، ثم من عليه لأجل بناته الخمس ، وأخذ عليه العهد أن لا يعود إلى حرب المسلمين ، وأن لا يظاهر عليه أحدا. لكنه عاد فنقض العهد ، وألب القبائل ، وشارك في معركة أحد ، فأسر ، وطلب العفو ، فرفض النبي «صلى الله عليه وآله» طلبه ؛ حتى لا يمسح عارضيه في مكة ويقول : إنه سخر من محمد مرتين.

ولسوف نتعرض لهذه القضية في آخر غزوة حمراء الأسد إن شاء الله.

وبذلك يكون النبي «صلى الله عليه وآله» قد ضرب المثل الأعلى للمؤمن اليقظ ، الذي لا يخدع ، ولا يستغل ، ولا مجال لأن يسخر منه أحد ؛ فهناك الكلمة المروية عن الرسول «صلى الله عليه وآله» ، والتي لا يجهلها أحد : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» (٢).

وقد شهد معاوية للحسين وأبيه أنهما لا يخدعان ، وذلك حينما قال

__________________

(١) البرصان والعرجان والعميان والحولان للجاحظ ص ٣٣٣.

(٢) مسند أحمد ج ٢ ص ١١٥ و٣٧٣ ، وراجع : فيض الباري ج ٤ ص ٣٩٦.

٧٨

لعبيد الله بن عمر : «إن الحسين بن علي لا يخدع ، وهو ابن أبيه» (١).

ولقد ورث شيعة أمير المؤمنين «عليه السلام» هذه الخصيصة عن إمامهم الذي ورثها عن مؤدبه ومربيه النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، فقد عرفوا على مر الزمن باليقظة المتناهية ، والنباهة العالية ، بالإضافة إلى صفات نادرة أخرى.

وكشاهد على ذلك نشير إلى ما ذكره التنوخي من أن الحسن بن لؤلؤ قد قال لمن أراد أن يحتال عليه : «أتعاطي علي ، وأنا بغدادي ، باب طاقي ، وراق ، صاحب حديث ، شيعي ، أزرق ، كوسج؟» (٢).

٣ ـ واشتهر الشيعة أيضا : بالدقة والتحري في أمور دينهم ، فقد كان أسد بن عمرو على قضاء واسط ، فقال : «رأيت قبلة واسط رديئة جدا ، وتبين لي ذلك ، فتحرفت فيها.

فقال قوم من أهل واسط : هذا رافضي.

فقيل لهم : ويلكم ، هذا من أصحاب أبي حنيفة ، كيف يكون رافضيا» (٣).

وقد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب : أن الجاحظ يذكر : «أن بني أمية قد حولوا قبلة واسط».

ويقول : «فأحسب أن تحويل القبلة كان غلطا» (٤).

__________________

(١) راجع : الفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٥٧.

(٢) نشوار المحاضرات ج ٥ ص ١٣ و١٤ ، وراجع : المنتظم لابن الجوزي ج ٧ ص ١٤٠.

(٣) تاريخ بغداد ج ٧ ص ١٦ ، ونشوار المحاضرات ج ٦ ص ٣٦.

(٤) رسائل الجاحظ ج ٢ ص ١٦ ، وراجع الجزء الأول من هذا الكتاب.

٧٩

وقلنا : إن الظاهر هو أنها قد حولت إلى بيت المقدس ؛ لأن عبد الملك قد بنى القبة على الصخرة ، وأمر الناس بالحج إليها ، والطواف حولها ، والسعي ، والنحر ، وغير ذلك من أمور الحج.

وقلنا : إننا نستقرب جدا أن يكون استحباب التياسر في القبلة لخصوص أهل العراق ، مرده ذلك ، وأنه حكم وقتي من دون إلزام فيه ، لئلا يقع المؤمنون في حرج في مقابل السلطة الغاشمة.

٤ ـ لقد كان الشيعة معروفين بشدة الغيرة على نسائهم ، ولذلك نجد زكريا القزويني يقول عن أهل المدائن : «أهلها فلاحون ، شيعة ، إمامية ، ومن عاداتهم : أن نساءهم لا يخرجون نهارا أصلا» (١).

وهذا الأمر موجود حتى الآن في بعض مدن الشيعة في إيران ، كما في قصبة خسرو شاه من توابع تبريز ، فإنك لا تكاد تجد امرأة في شوارع المدينة نهارا أصلا. كما ذكره لي بعض أهل العلم.

وليس هذا إلا اقتداء منهم بسيدتهم الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها» ، التي كانت لا تخرج إلا ليلا ، إلا إذا اضطرت إلى ذلك لخصومة سياسية أو إثبات حق ، أو نحو ذلك.

٥ ـ لقد كان حجر بن عدي وأصحابه معروفين بأنهم : «ينتقدون على الأمراء ، ويسارعون في الإنكار عليهم ، ويبالغون في ذلك» (٢). وهذا هو مذهب الشيعة ، وهذه هي عقيدتهم. على عكس غيرهم ممن يوجب

__________________

(١) آثار البلاد وأخبار العباد ص ٤٥٣.

(٢) البداية والنهاية ج ٨ ص ٥٤ عن ابن جرير وغيره.

٨٠