الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه ؛ وليثبت للناس : أن قريشا لا تزال قادرة على التحرك ، وأيضا ليشد قلوب المهزومين في بدر.

فلما كان على بريد من المدينة (والبريد اثنا عشر ميلا) نزل هناك ، فاتصل ببعض بني النضير من اليهود ، ثم أرسل بعض أصحابه إلى بعض نواحي المدينة ، فحرقوا بعض النخل ، ووجدوا رجلين فقتلوهما ، وهما : معبد بن عمرو وحليف له ، ثم انصرفوا راجعين ؛ فنذر الناس بهم ؛ فخرج «صلى الله عليه وآله» في طلبهم لخمس خلون من ذي الحجة ، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون بجرب السويق (١) تخففا للهرب ، فجعل المسلمون يأخذونه ، ولم يدركهم المسلمون ، فعادوا إلى المدينة بعد خمسة أيام (٢).

غزوة ذي أمر :

وفي أول سنة ثلاث للهجرة ، أو لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول ، كانت غزوة ذي أمر ، ولربما تكون هي غزوة غطفان. جمع فيها دعثور بن محارب في ذي أمر ، جمعا من بني ثعلبة بن محارب لحرب الرسول ، أو ليصيبوا من أطراف المدينة ، فخرج الرسول «صلى الله عليه وآله» إليهم ، وأصاب أصحابه «صلى الله عليه وآله» رجلا يقال له : جبار (أو حباب) ، فأسلم ، ودلهم على الطريق إليهم ؛ فسمعوا بمسير الرسول «صلى الله عليه

__________________

(١) السويق : قمح أو شعير يغلى ثم يطحن ليسف إما بماء ، أو عسل ، أو لبن.

(٢) راجع فيما تقدم : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٧٥ ـ ١٧٧ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٠ و٤١١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١١ وغير ذلك.

٣٢١

وآله» ؛ فهربوا في رؤوس الجبال (١).

ويذكر هنا : أنه أصاب الرسول «صلى الله عليه وآله» مطر كثير ، فنزع «صلى الله عليه وآله» ثوبيه ، ونشرهما على شجرة ، واضطجع بمرأى من المشركين. واشتغل المسلمون في شؤونهم ، فنزل إليه دعثور (زعيم المشركين الغطفانيين) حتى وقف على رأسه ، ثم قال : من يمنعك مني اليوم؟

فقال «صلى الله عليه وآله» : الله.

ودفع جبريل في صدره ، فوقع على ظهره ، ووقع السيف من يده ، فأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» السيف ، وقال له : من يمنعك مني؟.

قال : لا أحد ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. فأعطاه «صلى الله عليه وآله» سيفه ؛ فرجع إلى قومه ، وجعل يدعوهم للإسلام.

ونزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ)(٢) الآية.

ولعل هذه هي نفس غزوة ذي القصة ، التي يقال : إنها في المحرم سنة ٣

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٢ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٤ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٩١.

(٢) الآية ١١ من سورة المائدة ، وراجع في قضية دعثور تاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٣ ، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ١٨ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٩١ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٣ ص ١٦٨ و١٦٩.

٣٢٢

للهجرة. كما يظهر من المقارنة بينهما.

سرية القردة :

وفي جمادى الأولى ، في السنة الثالثة ، كانت غزوة القردة ، وكان أميرها زيد بن حارثة ، في أول إمارة له.

وذلك : أن نعيم بن مسعود قدم المدينة مشركا ، فشرب الخمر مع بعض أصحابه ، وذلك قبل تحريم الخمر (مع أننا قد قلنا فيما سبق : أن الخمر كانت قد حرمت في مكة) ، وأخبرهم بالعير (١).

وذلك : أن قريشا قالت : «قد عور علينا محمد متجرنا ، وهو على طريقنا».

وقال أبو سفيان ، وصفوان بن أمية : إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا.

فاتفقوا بعد بدر على العدول عن طريقهم المعتاد إلى الشام ، وسلوك طريق العراق ، فخرج جماعة فيهم صفوان ، وأبو سفيان في تجارة أكثرها من الفضة. فبعث «صلى الله عليه وآله» إليهم زيدا ، فلقيهم على ماء يقال له : (القردة) ؛ فأصاب العير وما فيها ؛ وأعجزه الرجال ، ورجع بالغنيمة إلى الرسول «صلى الله عليه وآله» ، فخمسها ، فبلغ الخمس عشرين ألفا ، وقسم الباقي للسرية (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٥ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٦ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٥ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٨ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٤٥ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٨٢.

٣٢٣

وقفات مع ما تقدم :

ألف : الأعمى والقضاء :

بالنسبة لاستخلاف ابن أم مكتوم على المدينة في غزوة بني سليم ، وغيرها : نشير إلى ما ذكره البعض من أن رواية أبي داود تقول : إنه إنما استخلفه على الصلاة ؛ لأنه ضرير ، لا يجوز له الحكم بين الناس في القضايا والأحكام ؛ لأنه لا يدرك الأشخاص ، ولا يثبت الأعيان ، ولا يدري لمن الحكم ، وعلى من يحكم (١).

ولكننا لا نرتضي هذا الكلام : وذلك لما يلي :

١ ـ إن تولي ابن أم مكتوم للمدينة لا يعني إصداره الأحكام وتوليه منصب القضاء ، لأن من الممكن حل مشاكل الناس بطريقة الصلح بين المتخاصمين ، أو على أن يكون قاضي تحكيم يرضى بحكمه الخصمان ، خصوصا بملاحظة قصر فترة غيابه «صلى الله عليه وآله» عن المدينة في سفراته تلك ، أو بأن يوكل من له صلاحية القضاء بين الناس ، ويكون هو الوالي العام الحافظ للنظام ، والمنفذ لتلك الأحكام.

٢ ـ إن القول بأن المراد من تولي ابن أم مكتوم المدينة من قبل النبي «صلى الله عليه وآله» هو توليه خصوص الصلاة بعيد جدا ، وهو لا ينسجم مع إطلاق عباراتهم ، مثل قولهم : (إستخلفه على المدينة) أو (ولاه المدينة) أو نحو ذلك ، خصوصا إذا لاحظنا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد استخلفه

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٥.

٣٢٤

عليها اثنتي عشرة مرة ، أو أكثر.

٣ ـ إن الاستدلال على عدم جواز تولي الأعمى للقضاء بما ذكر ، مدفوع بأن طريق معرفة الأشخاص والأعيان لا ينحصر بالنظر والرؤية ؛ فيمكنه إثبات ذلك بالشهود ، أو بالإقرار ، أو بغير ذلك من وسائل. وليكن نفس توليته «صلى الله عليه وآله» لابن أم مكتوم (لو ثبت كون القضاء داخلا في ولايته) اثنتي عشرة مرة ، دليلا على جواز تولي الأعمى للقضاء.

ب : من أهداف تلك السرايا والغزوات :

إن العرب قد رأوا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» الذي خرج بالأمس إلى المدينة لاجئا ، لا قوة له ، قد أصبح هو وأصحابه يقفون في وجه قريش ، ويجلون اليهود ـ كما سنرى ـ ويرسلون السرايا تتهدد المسالك ، ويقتلون ، ويأسرون.

وعرفوا : أن ثمة قوة يجب أن يحسب لها حسابها ، ولا بد من التفكير مليا قبل الإقدام على أي عمل تجاهها في المنطقة. ولكن الغرور كان يستولي على بعض تلك القبائل ، إلى حد التفكير في الدخول في حرب مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، على حد تعبير البعض (١).

فكان «صلى الله عليه وآله» يبادر إلى الهجوم ، بمجرد أن يعرف : أنهم قد جمعوا واستعدوا له ، أو أنهم يستعدون للإغارة على أطراف المدينة ، أو بعد حصول الإغارة والإفساد منهم ، الأمر الذي يدلنا على أن تلك

__________________

(١) سيرة المصطفى ، ص ٣٨٣.

٣٢٥

الغزوات والسرايا كانت وقائية بالدرجة الأولى ، وتستهدف أمورا :

١ ـ إفشال مؤامرات الأعداء ، ورد كيدهم إلى نحورهم.

٢ ـ إن ذلك منه «صلى الله عليه وآله» كان يمثل حربا نفسية للمشركين ؛ إذ ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، خصوصا إذا كان انكسارهم بعد التعبئة الكاملة والشاملة منهم لحرب هذه الفئة بالذات.

فإذا كانت هزيمتهم على يده «صلى الله عليه وآله» ، وفي عقر دارهم ، وفي أوج قدرتهم واستعدادهم ؛ فسوف تتحطم معنوياتهم ، ويجعلهم ذلك في المستقبل مضطرين لأن يتريثوا كثيرا ، قبل أن يقرروا أي موقف لهم تجاهه. وهذا مصداق آخر لكونه «صلى الله عليه وآله» قد نصر بالرعب.

٣ ـ ثم هناك الصدي والتأثير الإعلامي على المشركين في المنطقة ، وعلى قريش بالذات ؛ فإذا انهزم المشركون في المنطقة وقريش روحيا ونفسيا ، فإن هزيمتهم العسكرية سوف تكون أسهل وأيسر ، وقد سئل أمير المؤمنين «عليه السلام» : بأي شيء غلبت الأقران؟

فقال : «ما لقيت رجلا إلا أعانني على نفسه».

قال الرضي : يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب (١).

ج : العتق والصلاة :

يلاحظ : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد أعتق الغلام يسارا ، حيث رآه يصلي.

__________________

(١) نهج البلاغة ، بشرح محمد عبده ، قسم الحكم ، رقم ٣١٨.

٣٢٦

وقد رأينا في الحديث أن الإمام السجاد «عليه السلام» كان يعتق مواليه بعد أن يذكرهم بذنوبهم (١).

كما أنه قد أعتق غلاما له ، لأنه أكل كسرة خبز كان قد أعطاه إياها ، حين وجدها ملقاة (٢).

ورأينا أيضا أن الإمام الحسن «عليه السلام» رأى غلاما يطعم كلبا ، فاشتراه من سيده ، وأعتقه (٣).

وعن أبي البلاد ، قال : قرأت عتق أبي عبد الله «عليه السلام» : هذا ما أعتق جعفر بن محمد ، أعتق فلانا غلامه لوجه الله ، لا يريد منه جزاء ولا شكورا ، على أن يقيم الصلاة ، ويؤدي الزكاة ، ويحج البيت ، ويصوم شهر رمضان ، ويتولى أولياء الله ، ويتبرأ من أعداء الله. شهد فلان ، وفلان ، وفلان (٤).

ولعل سر عتقه «عليه السلام» لهم في هذه المناسبات ، ولا سيما في مناسبة أنه رآه يصلي يعود إلى : أن العتق في مناسبة كهذه يهدف إلى ربطهم بالصلاة ، ودفعهم إلى الالتزام بها ، ولا سيما حينما تطرح كقضية حاسمة في أسعد لحظات حياتهم ، اللحظات التي ينالون فيها حريتهم ، التي هي في الحقيقة عنوان هويتهم ووجودهم.

وهذا ما سوف يدفعهم لاكتشاف واقع وحقيقة الصلاة ، ثم التفاعل معها بشكل جدي وعميق ، ولتكون من ثم سببا في تكاملهم الإنساني ،

__________________

(١) البحار ج ٤٦ ص ١٠٣ ، وإقبال الأعمال.

(٢) تاريخ جرجان ص ٤١٨.

(٣) البحار ج ٤٤ ص ١٩٤ ، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٧٥.

(٤) مستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٧٨ ، والبحار ج ٤٧ ص ٤٤.

٣٢٧

وسعيهم إلى الالتزام بسائر التعاليم الأخلاقية والإنسانية الإسلامية.

وقد لا حظنا في رواية : أبي البلاد : أن الإمام «عليه السلام» قد جعل إقامة الصلاة ، وأداء الزكاة ، والحج ، والصيام ، ثمنا لحرية ذلك الرجل .. وقرن ذلك بالتولي لأولياء الله ، والتبري من أعداء الله تعالى .. مع علمهم بأن هذا الالتزام هو نفس ما فرضه الله تعالى عليهم في دينه ، وليس في ذلك ما يعود بأي نفع دنيوي للإمام «عليه السلام» ..

فإن ذلك يشير : إلى حقيقة الأهداف السامية التي يعيش الإمام «عليه السلام» ويجاهد ويضحي من أجلها ..

ولا بد أن يتأكد لديهم المغزى العميق لحقيقة الربط بين العبودية الحقيقية لله ، وبين الحرية الحقيقية من كل التأثر والخضوع لكل ما ومن سواه.

كما أن ذلك يجعل هذا الإنسان يرى في شخصية النبي «صلى الله عليه وآله» مثلا جديدا للإنسان الهادف ، الذي يعيش من أجل هدفه ، ويفنى فيه بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

ويعرفه : أنه لا يهدف إلى استعباد أحد ، بل لا يمكن أن يكون ذلك هدفا له ، ما دام أن هدفه الأسمى هو ـ فقط ـ إعلاء كلمة الله تعالى ، وذلك تحت شعار : إن من يصبح عبدا لله بحق ، فهو جدير بالحرية حقا.

وكذلك الحال كان بالنسبة لما قدمناه عن الإمام الحسن ، والإمام السجاد عليهما الصلاة والسلام ، وقد أشرت إلى هذا الموضوع في مقال مستقل (١).

__________________

(١) البحث هو بعنوان : «الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد» في كتابنا : «دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام» ج ١ ص ٧٧.

٣٢٨

د : التورية بالغزوات :

لقد رأينا أيضا : أنه «صلى الله عليه وآله» في غزوة بحران لم يظهر وجها للسير ، وذلك لا يختص بهذه الغزوة! إذ قد كان من عادته «صلى الله عليه وآله» : أنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها (١).

ومعنى ذلك : هو أنه «صلى الله عليه وآله» أراد تفويت الفرصة على عيون العدو وجواسيسه ، إن كان له ثمة عيون وجواسيس ، وعلى المنافقين الذين يوادون من حاد الله ورسوله ، وكذلك على اليهود الذين كانوا لا يألون جهدا ، ولا يدخرون وسعا في مساعدة أعدائه ضده ، ولا أقل من أنهم كانوا يهتمون في أن يفوته أعداؤه ، ولا يتمكن من الظفر بهم. وأسلوب إخفاء أمره «صلى الله عليه وآله» في فتح مكة كان رائعا جدا.

ولسوف يأتي التعرض له في موضعه من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى.

ه : قريش في مواجهة الأخطار :

إن سرية زيد بن حارثة للاستيلاء على قوافل قريش قد جاءت في سياق السياسة القاضية بالمحاصرة الاقتصادية لقريش وباسترجاع الأموال التي تمالأ المشركون على حرمان المسلمين منها ؛ حيث اضطروهم إلى ترك أوطانهم ، وديارهم ، وأموالهم ، والهجرة إلى موضع يجدون فيه الحرية ، والأمن.

وقد سمعنا كلام صفوان ، وأبي سفيان ، الذي يوضح لنا : أن قريشا قد

__________________

(١) المصنف ج ٥ ص ٣٩٨ ، والمنتقى لابن تيمية ج ٢ ص ٧٦٥.

٣٢٩

أصبحت تعتبر حربها مع النبي والمسلمين حربا مصيرية ، ومعركتها معه معركة حياة أو موت. ولم يكن ذلك ليخفى على النبي «صلى الله عليه وآله» ، فكان دائما على استعداد لكل طارئ ، ويتتبع كل تحركات العدو بدقة متناهية ، وقد طوقهم من جميع الجهات تقريبا.

ويكفي أن نذكر هنا قول صفوان بن أمية لقريش : «إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا ؛ فما ندري كيف نصنع بأصحابه؟ وهم لا يبرحون الساحل. وأهل الساحل قد وادعوهم ؛ فما ندري أين نسكن. وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا ، فلم يكن لنا بقاء. وحياتنا بمكة تقوم على التجارة إلى الشام في الصيف ، والى الحبشة في الشتاء» (١).

و : مناقشة قضية دعثور :

وأما قصة دعثور مع الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ؛ فإننا وإن كنا لا نستبعد وقوعها ..

ولكن قولهم : إن آية : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ ..)(٢) قد نزلت في هذه المناسبة ، لا يصح. وذلك :

أولا : إنه إذا كان المراد : أن الآية قد نزلت مباشرة حين وقوع قضية دعثور ، كما هو ظاهر التفريع بالفاء.

فيرد عليه : أن الآية في سورة المائدة ، وهي قد نزلت في أواخر حياته «صلى الله عليه وآله» مرة واحدة.

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ١٩٧.

(٢) الآية ١١ من سورة المائدة.

٣٣٠

وغزوة ذي أمر كانت ـ كما يقولون ـ في أوائل السنة الثالثة للهجرة.

ومن غير المعقول : أن يحتفظ «صلى الله عليه وآله» بآيات تبقى معلقة في الهواء ـ إلى عدة سنوات ـ ثم يجعلها في سورة نزلت حديثا.

ثانيا : إن الآية تذكر :

١ ـ أن «قوما» قد هموا بأن يبسطوا أيديهم إلى المسلمين ، ودعثور شخص واحد ، ولم نعهد إطلاق كلمة «قوم» على الواحد.

وقول البعض : إن قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)(١) ، يشمل سخرية فرد من فرد ، لا يصح ؛ لأنه إنما يشمله بالملاك ، لا بالظهور اللفظي ، والآية التي نحن بصددها إنما هي إخبار عن حادث وقع ، وليس فيها شمول ملاكي ، كما هو ظاهر.

إلا أن يقال : إن نسبة ذلك إلى القوم باعتبار رضاهم بفعل دعثور هذا وهو كما ترى.

٢ ـ ومن جهة أخرى فإنها قد عبرت عن النبي «صلى الله عليه وآله» بضمير الجمع ، ولم نعهد التعبير عن الرجل الواحد بضمير الجمع إلا في مقام التعظيم ، وبضرب من التجوز.

وهو هنا يمتن على المسلمين جميعا بأن الله قد صرف عنهم من هموا ببسط أيديهم إليهم ، ولو كان المقصود هو النبي «صلى الله عليه وآله» فقط ، فلماذا يعبر عنه بضمائر الجمع؟

وقد يجاب عن ذلك : بأن ذهابه «صلى الله عليه وآله» ، وفقده ، يكون

__________________

(١) الآية ١١ من سورة الحجرات.

٣٣١

سببا لذهابهم وتشتتهم ، وضعفهم ، وبسط اليد إليه بسط لها إليهم ؛ لأنه قائدهم ، وبه قوام اجتماعهم.

إلا أن يقال : إن ذلك خلاف المفهوم من الآية ، وفيه نوع من التجوز والادعاء ؛ فلا يعتمد عليه إلا بدليل.

ثالثا : قال الحسني : «وموضع التساؤل في هذه القصة : أن النبي «صلى الله عليه وآله» هل كان ينفرد عن أصحابه في غزواته؟! وهل يتركه أصحابه وحيدا في تلك الفلاة ، والمشركون على مقربة منهم؟! وهب أنه ذهب إلى الشجرة ليجفف ثيابه من المطر ، ولكن كيف تركه ذلك الجيش المؤلف من (٤٥٠) مقاتلا؟ وخفي عليهم ذلك الرجل الذي تحدر من الجبل لاغتياله ، وهو بعيد عن أصحابه الخ ..»؟ (١).

ويمكن المناقشة في هذا بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تخلف عن الجيش الراجع من غزوة بدر ليمرض عليا «عليه السلام» كما تقدم في موضعه.

إلا أن يقال : إنه في بدر قد تخلف في موضع أمن ، لا في موضع مخافة.

وأما الإيراد على ذلك بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تخلف في بعض غزواته ، ليسابق زوجته عائشة (٢) فهو لا يصح ، لأننا نعتقد أنها مجرد قصص مختلقة وخيالية ، لا أساس لها من الصحة كما سيأتي.

__________________

(١) سيرة المصطفى ص ٣٨٤.

(٢) راجع : صفة الصفوة ج ١ ص ١٧٦ عن أحمد ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٠ ، ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٢٧ ، وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣٠ ، وعن النسائي وابن ماجة.

٣٣٢

وخلاصة الأمر : إن تخلف النبي «صلى الله عليه وآله» عن جيشه إلى مكان قريب ، ليجفف ثوبه ، مع الإحساس بالأمن ، ليس بالأمر المستهجن ، ولا النادر الوقوع ، لا سيما إذا كان يريد حاجة يطلب فيها الستر عن أعين الناس.

وقد كان أفراد الجيش ينفصلون عن الجيش قليلا لقضاء بعض حاجاتهم. ولعل الآية قد نزلت فيمن يهم الرواة إبعاد التهمة عنهم ، فلفقوا هذه المناسبة لإبعاد الشبهة عمن يحبون.

٣٣٣
٣٣٤

الفصل الخامس :

غدر اليهود والإغتيالات الهادفة

٣٣٥
٣٣٦

مع عقائد اليهود وآثارها :

قبل أن نبدأ بالحديث عن العمليات العسكرية التي جرت بين المسلمين واليهود فيما بين بدر وأحد ، نود أن نشير باختصار إلى بعض عقائد اليهود ، ثم إلى بعض ما يرتبط بمواقفهم وخططهم ، ومؤامراتهم على الإسلام ، وعلى المسلمين ، فنقول :

١ ـ عنصرية اليهود :

اليهود شعب عنصري ، مؤمن بتفوق عنصره على البشر كافة. والناس عندهم لا قيمة لهم ولا اعتبار ، وإنما خلقوا لخدمة الإسرائيليين وحسب. فكل الناس إذا يجب أن يكونوا في خدمتهم ، وتحت سلطتهم ، كما يقول لهم تلمودهم.

فقد جاء في التلمود ما ملخصه : أن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة.

وأن اليهودي جزء من الله.

ومن ضرب يهوديا فكأنه ضرب العزة الإلهية.

والشعب المختار هم اليهود فقط ، وأما باقي الشعوب فهم حيوانات.

ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ، ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود

٣٣٧

على أعدائهم.

ويلزم التلمود الإسرائيليين بأن يكونوا دنسين مع الدنسين ، ويمنع من تحية غير اليهودي إلا أن يخشوا ضررهم ، ولا يجيزون الصدقة على غير اليهودي ، ويجوز لهم سرقة ماله ، وغشه ، كما أن على الأمميين أن يعملوا ، ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل.

ويجيز التلمود التعدي على عرض الأجنبي ، لأن المرأة إن لم تكن يهودية فهي كالبهيمة.

ولليهودي الحق في اغتصاب غير اليهوديات.

ولا يجوز لليهودي الشفقة على غيره.

ويحرم على اليهودي أن ينجي غيره (١).

إلى آخر ما هنالك ، مما لا يمكن الإحاطة به في هذه المناسبة.

نعم ، هذه هي نظرة اليهود لغيرهم ، وهذه هي حقيقة ما يبيتونه تجاه كل من هو غير يهودي.

وقد نعى الله تعالى عليهم هذه النظرة السيئة ، فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)(٢).

فهو يؤكد لهم : أنهم كغيرهم من الخلق ، يعذبهم الله بذنوبهم ، ولا فضل

__________________

(١) راجع : الكنز المرصود ص ٤٨ ـ ١٠٦ ، ومقارنة الأديان (اليهودية) لأحمد شلبي ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤ عنه وعن : التلمود شريعة بني إسرائيل ٢٢ ـ ٢٥ و٤٠ ـ ٤٤ و٦٥.

(٢) الآية ١٨ من سورة المائدة.

٣٣٨

لهم على غيرهم ؛ لأن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.

٢ ـ اليهود وحب الحياة الدنيا :

واليهودي أيضا يؤمن بالمادة ، ويرتبط بها بكل وجوده وطاقاته ، فهو يحب المال وجمعه حبا جما ، وهو يعيش من أجله ، ويعمل في سبيله بكل ما أوتي من قوة وحول ؛ فهو من أجل المادة ولد ، وفي سبيلها عاش ويعيش ، وعلى حبها سوف يموت. ولأجل ذلك فلا ينبغي أن نستغرب إذا رأينا : أن ارتباطهم بالناس مصلحي ونفعي ، وأن المال واللذة هما المنطق الوحيد لهم في كل موقف ، والمقياس للحق وللباطل عندهم.

ولا يجب أن نعجب أيضا إذا رأينا : أن الشيوعية ، وهي التفكير الداعي إلى اعتبار المادة هي أساس الكون والحياة ، وهي المحرك ، والمنطلق ، وهي الغاية ، وإليها ستكون النهاية ، وهي المعيار والمقياس الذي لا بد أن يهيمن على كل شؤون الحياة والإنسان والكون ، وكل نظمه وقوانينه ، وعلاقاته.

نعم ، لا عجب إذا رأينا : أن هذا التفكير يبدأ من اليهود ، وإليهم ينتهي (١).

__________________

(١) الخطر اليهودي ص ٦٧ وفيه : أن أعضاء المجلس الشيوعي الذي كان يحكم روسيا سنة ١٩٥١ كان يتألف من سبعة عشر عضوا كلهم يهود صرحاء باستثناء ثلاثة هم : ستالين ، وفيرشيلوف ، ومولوتوف. وهؤلاء الثلاثة زوجاتهم يهوديات ، وفيهم يهودي الأم ، أو الجدة ، أو صنيعة مجهول النسب من صنائع اليهود ، كما أن المنظر الأكبر للشيوعية هو اليهودي كارل ماركس.

٣٣٩

٣ ـ أكثر اليهود لا يؤمنون بالبعث :

واليهودي يكره الموت ، وهو يتمنى لو يعمر ألف سنة ، قال تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)(١).

ولعل سر ذلك يعود إلى أن توراة اليهود المحرفة الحاضرة لم تشر بشكل واضح إلى البعث والقيامة ، وإنما ورد حديث عن الأرض السفلى ، والجب التي يهوى إليها العصاة ، ولا يعودون (وإن الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد).

ويقول البعض : إن الكتاب المقدس نفسه يعد الحياة الدنيا وحدها هي عالم الإنسان ، وليس هناك اعتقاد بعد ذلك في بعث وجنة أو نار ؛ وثوابهم وعقابهم مقصوران على الحياة الدنيا.

وعلى العموم ، فإن فكرة البعث لم تجد لها أرضا خصبة لدى اليهود ، وقد حاول بعض طائفة الفريسيين القول بها ، ولكن هذه المحاولة لقيت معارضة شديدة ، أما باقي الفرق اليهودية ، فلم تعرف عنها شيئا.

وإذا كان الإنسان لا يعتقد بالبعث ، ويؤمن بأن الجزاء ليس إلا في هذه الدنيا ، فمن الطبيعي أن يسعى إلى المنكرات واقتراف الآثام (٢).

ملاحظة : هذا ، وقد تفاقم فيهم حبهم للدنيا حتى بلغ بهم الحرص عليها : أن حرمهم من الاستفادة من الأموال التي يجمعونها ، فتجد الكثيرين

__________________

(١) الآية ٩٦ من سورة البقرة.

(٢) راجع : أحكامهم هذه في كتاب ، مقارنة الأديان (اليهودية) ص ١٩٩ و٢٠٠ ، واليهود في القرآن ص ٣٧.

٣٤٠