الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

وذلك بأن يكون قد خطر له «عليه السلام» أن يخطب بنت أبي جهل لمصلحة رآها ، فاستشار رسول الله «صلى الله عليه وآله». فلم ير منه تشجيعا ، فانصرف عن ذلك.

وقد ألمحت رواية إلى ذلك ؛ فذكرت : أن عليا «عليه السلام» خطب ابنة أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام ، فاستشار علي «عليه السلام» رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فقال «صلى الله عليه وآله» : أعن حسبها تسألني؟

قال علي : قد أعلم ما حسبها ، ولكن أتأمرني بها؟

قال : لا ، فاطمة بضعة مني ، ولا أحب أنها تحزن أو تجزع.

قال علي : «لا آتي شيئا تكرهه» (١).

ونقول في الجواب :

إن هذه الرواية قاصرة عن إفادة المعنى المقصود ، لا سيما وأنها تشتمل على التناقض في مضمونها ، إذ لا معنى للخطبة ، ثم الاستشارة ، بل الاستشارة تكون قبل الخطبة ، لا سيما بملاحظة قوله : أتأمرني بها الخ ..

كما أنها لا تزال تتهم الزهراء «عليها السلام» بأنها تحزن وتجزع من فعل الأمر المحلل يضاف. إلى ذلك كله أن هناك ما يدل على تحريم النساء على علي «عليه السلام» في حياة فاطمة كرامة وإجلالا لها «صلوات الله وسلامه عليها» .. فلماذا يخالف علي «عليه السلام» هذا الحكم الثابت؟!.

__________________

(١) كنز العمال ج ١٦ ص ٢٨٠ عن أبي يعلى ، والمصنف ج ٧ ص ٣٠١ ، وفتح الباري ج ٩ ص ٢٨٦ بأسناد صحيح عن الحاكم.

٢٨١

إلا أن يقال : إنه لم يكن عالما به ، قبل هذه الحادثة. وقد علم به بعدها ..

ولكنه قول غير مقبول ، بملاحظة : أنه «عليه السلام» باب مدينة علم الرسول «صلى الله عليه وآله» ، وهو أيضا الإمام المعصوم الذي لا يحتمل في حقه الجهل بتكاليف نفسه.

وأخيرا ، فإن كلام ابن عباس الذي قدمناه في جوابه لعمر بن الخطاب يؤيد هذه الرواية أيضا.

ولربما تكون فاطمة قد عرفت بقول عمر ، عن النبي «صلى الله عليه وآله» : «إنه سيغضب لابنته» ؛ فاشتكته إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لا أنها اشتكت عليا «عليه السلام» غيرة من خطبته امرأة أخرى. فإن فاطمة أجل وأرفع ، وأعمق إيمانا من أن تفكر في أمر كهذا.

٢٨٢

الفصل الثالث :

قضايا وأحداث في المجال العام

٢٨٣
٢٨٤

تحويل القبلة :

وقد جاء في الروايات : أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قد كان بعد حرب بدر (١).

وفي تفسير القمي : أن ذلك كان بعد الهجرة بسبعة أشهر.

وصحح صاحب تفسير الميزان : أن ذلك كان في رجب.

وقيل : في النصف من شعبان.

وعنه «صلى الله عليه وآله» : إن ذلك قد كان بعد سبعة (تسعة) عشر شهرا. وقد صرف إلى الكعبة ، وهو في صلاة العصر (٢) ، ولتراجع سائر الأقوال في كتب التاريخ والسيرة.

وكان «صلى الله عليه وآله» حين قدم المدينة يتوجه إلى بيت المقدس ، فصار اليهود يعيرونه ، ويقولون : أنت تابع لنا ، تصلي إلى قبلتنا.

فاغتم رسول الله «صلى الله عليه وآله» من ذلك غما شديدا ، وكان قد

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ص ٢١٥ أبواب القبلة باب ٢ حديث ١ و٢ و١٢ و١٧ ، وفي هوامشها إشارة إلى مواضع عديدة من الكتاب وإلى مصادر كثيرة أيضا. وراجع أيضا : قصار الجمل ج ٢ ص ١٢١.

(٢) قصار الجمل ج ٢ ص ٢١ ، ووسائل الشيعة ج ٣ ص ٢٢٠.

٢٨٥

وعد بتحويل القبلة ، فخرج في جوف الليل يقلب وجهه في السماء ، ينتظر أمر الله تعالى في ذلك ، وأن يكرمه بقبلة تختص به.

فلما أصبح وحضرت صلاة الظهر ـ وقيل العصر ـ وكان في مسجد بني سالم ، صلى الظهر بهم ركعتين ؛ فنزل جبرائيل ، فأخذ بعضديه ، فحوله إلى الكعبة ، فاستدارت الصفوف خلفه ؛ فأنزل الله عليه :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(١).

فصلى ركعتين إلى الكعبة.

فقالت اليهود ، الذين شق عليهم ذلك ، والسفهاء : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (٢).

ويقال : إن المسجد الذي جرى فيه ذلك سمي ب «مسجد القبلتين».

وقيل : بل سمي به مسجد آخر ، بلغ المصلين فيه تحول النبي إلى الكعبة ، فتحولوا هم أيضا في وسط صلاتهم ، فسمي مسجدهم بذلك.

تفسير وتحليل :

وجاء في بعض الأخبار عن الإمام العسكري «صلوات الله وسلامه

__________________

(١) الآية ١٤٤ من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٤٢ من سورة البقرة ، وراجع فيما تقدم : البحار ج ١٩ ص ١١٤ و١٩٥ و٢٠٢ ، وإعلام الورى ص ٧١ ، وتفسير القمي ج ١ ص ٦٣ ، وراجع أيضا : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢٨ ـ ١٣٠ ، وتفسير الميزان ج ١ ص ٣٣٣ و٣٣٤ عن الفقيه ، ومجمع البيان ، والوسائل ج ٣ أبواب القبلة ، الباب الأول والثاني.

٢٨٦

عليه» : أن هوى أهل مكة كان في الكعبة ؛ فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفه ، باتباع القبلة التي كرهها ، ومحمد يأمر بها.

ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس ، أمرهم بمخالفتها ، والتوجه إلى الكعبة ؛ ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه ، فهو مصدقه وموافقه الخ .. (١).

ولا يخفى أن ما ذكر في هذه الرواية هو من حكم تحويل القبلة ، وفوائده ، لا أنه هو السبب الأول والأخير لذلك.

هذا كله على فرض صحة الرواية ، وإلا فقد جاء بسند موثوق ما مفاده : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يجعل الكعبة خلف ظهره في مكة ، بل كان يستقبلها هي وبيت المقدس معا. ولكنه في المدينة استقبل بيت المقدس دون الكعبة حتى حول إليها (٢).

وهذه الرواية لا توافق الرواية الأولى تماما ، لأنه في مكة كان يستقبلهما معا ، فلم يتضح موافقه من مخالفه ، إلا في صورة التوجه نحو الكعبة في الجهة المخالفة لبيت المقدس.

مناقشات لا بد منها :

وربما يقال : كيف يغتم «صلى الله عليه وآله» لتعيير اليهود؟ فإن وجود حكم شرعي موافق لهم ، لا يوجب غمه «صلى الله عليه وآله» ، ولا فعالية تعييرهم إياه ؛ إذ ما أكثر الأحكام التي هي من هذا القبيل ؛ فلماذا اختاروا منها تعييره في موضوع القبلة فقط؟!.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١ ص ٣٣٣ ، وليراجع : البحار ج ١٩ ص ١٩٧.

(٢) راجع : الوسائل ج ٣ ص ٢١٦.

٢٨٧

ولو قبلنا : أنهم فعلوا ذلك ، فإنه «صلى الله عليه وآله» إذا كان يعلم أن في هذا الحكم مصلحة ، فإنه يأنس به ، ويرتاح له ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ولذا فهو لا يغتم لتعيير أحد.

ويمكن الجواب عن ذلك : أنه يمكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» يرى : أن ذلك يهييء الفرصة لأعداء الإسلام لفتنة المؤمنين عن دينهم ، وصد غيرهم عن التوجه إليه ، والدخول فيه ؛ فهو حينئذ يغتم ويهتم لذلك. وينتظر الإذن من الله بتحويل القبلة لتفويت الفرصة على أعدائه ، الذين سوف لن يدعوه وشأنه ، والذين يعيشون في المتناقضات ، فإذا صلى إلى قبلتهم عيروه ، وإذا تحول عنها ، فسيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. وهذه هي طبيعة الإنسان الذي لا يرى نفسه مسؤولا عن مواقفه وحركاته وكلماته ، ولا ينطلق في مواقفه إلا من موقع السفه ، وعدم التثبت.

البراء بن معرور لم يصل لغير الكعبة :

ويذكر هنا : أن البراء بن معرور خرج في سفر مع بعض قومه ، فقال لهم : «يا هؤلاء ، قد رأيت ألا أدع هذه البنية (يعني الكعبة) مني بظهر ، وأن أصلي إليها».

فقالوا له : والله ، ما بلغنا : أن نبينا يصلي إلا إلى الشام ، وما نريد أن نخالفه.

فأصر البراء على الصلاة إلى الكعبة ، فكان يصلي إليها ، وهم يصلون إلى الشام ، حتى قدموا مكة ، فسأل النبي «صلى الله عليه وآله» عن ذلك ، فقال «صلى الله عليه وآله» : «لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها».

٢٨٨

فرجع البراء إلى قبلة النبي «صلى الله عليه وآله» ، فصلى إلى الشام ، وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات.

ولما حضره الموت أوصى أن يدفن ، وتستقبل به الكعبة ، ففعلوا. وكانت وفاته في صفر قبل قدوم النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة مهاجرا بشهر (١).

ملاحظة :

ونحن نلاحظ هنا : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يحكم ببطلان عمل البراء ، ولا لامه على ما فعله ، ولا أمره بالصلاة إلى جهة الشام ، غاية ما هناك أنه أعلمه أنه قد استعجل الأمر.

وقد يستفاد من هذا : أن موافقة الحكم الإنشائي مقبولة إلى حد ما ، ومجزية أيضا ، بل يمكن أن يدعى أن النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه كان يمتثل هذا الحكم الإنشائي ، فكان يتوجه إلى بيت المقدس ، جاعلا الكعبة بين يديه ، ثم في المدينة نسخ الاتجاه إلى بيت المقدس من الأساس ، بجميع مراتبه ، ولم يكن يمكن استقبال الكعبة وبيت المقدس معا ، فلم يكن ثمة خيار في ترك بيت المقدس ، إلى الكعبة.

إلا أن يقال : إنه ليس في المقام حكم إنشائي ، بالنسبة إلى الكعبة ، بل كان الحكم بالتوجه إليها فعليّا ، إما على نحو التشريك مع لزوم التوجه إلى بيت المقدس حيث لا مندوحة ، وإما على نحو التخيير كذلك أيضا لمصلحة وقتية في ذلك.

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ ص ١٧٣ و١٧٤ ، والإستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ١٣٦ و١٣٧ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ١٦٠ و١٦٧.

٢٨٩

تحول المصلين كيف كان :

وهنا أيضا رواية تقول : إنه لما أخبر بنو عبد الأشهل بتحويل القبلة ، وهم في الصلاة ، وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس ، تحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة ، فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين (١).

وفي رواية أخرى : أن جبرائيل أخذ بيد النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فحول وجهه إلى الكعبة ، وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء ، والنساء مقام الرجال إلخ .. (٢).

وهذا يعني : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد ذهب مع جبرائيل إلى الناحية الأخرى من المسجد ، وكذلك المصلون من الرجال ، ثم جاء النساء إلى مكانهم ، فوقفن هناك.

وهكذا جرى في بني عبد الأشهل أيضا.

وهذا يدل على أن الانتقال الذي حصل في المسجد من ناحية إلى ناحية لم يقدح في صحة صلاتهم تلك ، ما دام أن تحولهم هذا قد كان بأمر من الله وفي طاعته.

ولكن ذلك لا يدل على عدم قادحية هذا المقدار من السير في سائر الصلوات في الظروف العادية ، لاحتمال اختصاص هذا التسامح بهذه الصلاة دون غيرها على الإطلاق.

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ص ٢١٦ ، والتهذيب ج ١ ص ٤٤.

(٢) الوسائل ج ٣ ص ٢١٩ ، ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٧٨.

٢٩٠

ثأر قريش بأرض الحبشة :

ولما بلغ النجاشي نصر رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بدر فرح فرحا شديدا ، ولكن مشركي قريش حين أصابتهم تلك الهزيمة القاتلة في بدر ، قالوا : إن ثارنا عند ملك الحبشة ، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد ، فنقتلهم بمن قتل منا ؛ فأرسلوا عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، ومعهما الهدايا والتحف.

فعرف الرسول «صلى الله عليه وآله» بالأمر ، فأرسل إلى النجاشي كتابا يوصيه فيه بالمسلمين.

ويقولون : إن حامل الكتاب كان عمرو بن أمية الضمري (١).

ولكن ذلك محل شك ؛ فإن عمروا لم يكن قد أسلم بعد ، لأنه إنما أسلم بعد أحد (٢) وهو إنما حمل كتابا آخر أرسله النبي «صلى الله عليه وآله» سنة ست أو سبع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (٣).

وعلى كل حال ، فقد رفض النجاشي طلب عمرو بن العاص ، فرجع من مهمته خائبا خاسرا ؛ لأن المسلمين كانوا عند ملك لا يظلم عنده أحد ، على حد تعبيره «صلى الله عليه وآله» عنه حسبما تقدم.

ولأن النجاشي كان مسلما سرا ، كما يظهر من فرحه بنتائج حرب بدر.

هذا ، وتذكر هنا أمور تدل على إسلام عمرو بن العاص حينئذ ، وقد

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠١.

٢٩١

أضربنا عنها ، لأن من الثابت أنه لم يسلم إلا بعد سنوات من ذلك ، وإنما يراد إثبات فضيلة له لا تثبت.

نهاية أبي لهب :

وبعد واقعة بدر بأيام كانت نهاية أبي لهب لعنه الله تعالى ، فقد أصيب بالعدسة ، فقتلته. وهي بثرة من جنس الطاعون ، تخرج في موضع من الجسد ، تقتل صاحبها غالبا.

وقد تركه ابناه ليلتين ، أو ثلاثا بلا دفن ، حتى أنتن ، وعابهم البعض على ذلك ، فاستحيوا ، ودفنوه بأن وضعوه إلى جنب جدار ، ثم قذفوا الحجارة عليه حتى واروه (١).

وهكذا فلتكن نهاية الظالمين والمشركين شرا وخزيا ، وما هم عليه من الشرك في الشر أعظم وأعظم ، ولعذاب الآخرة أخزى.

غلبة الروم على الفرس :

وفي السنة الثانية من الهجرة أيضا ، كانت غلبة الروم على فارس.

ويقال : إن ذلك كان في نفس اليوم الذي التقى فيه الرسول بالمشركين في بدر ، فنصر عليهم.

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٢٨ ، وطبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٧٣ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٠٨ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٢ ، ومجمع الزوائد ج ٦ عن البزار والطبراني ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٨٧ و٥٨٨ عنهم ، وعن دلائل أبي نعيم ص ١٧٠.

٢٩٢

وفرح المسلمون بانتصار الروم هذا ؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب ، وفارس مجوس لا كتاب لهم (١).

وقد ذكر الله ذلك في كتابه العزيز ، فقال : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللهِ)(٢).

إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون مراد الآية الأخيرة : أنهم يفرحون بنصر الله لهم في بدر ، لا بنصر الروم على الفرس.

رهان أبي بكر :

ويذكرون هنا قضية ملخصها : أن المشركين كانوا يحبون غلبة الفرس ، لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون غلبة الروم ، لأنهم أصحاب كتاب ؛ فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في مكة بأن الروم سيغلبون الفرس ، فقامر أبو بكر المشركين : إن ظهر الروم فله كذا ، وإن ظهر الفرس فلهم كذا إلى خمس سنين. (وذلك قبل أن يحرم القمار) ؛ فأمره رسول الله «صلى الله عليه وآله» بزيادة المدة معهم ، فزادها.

فلما ظهرت الروم قمر أبو بكر ، وحصل على ما أراد من المشركين ، وعند كثيرين : أنهم ظهروا عليهم في الحديبية ، لا في بدر (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٨.

(٢) الآيات من أول سورة الروم.

(٣) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٠ و١٥١ عن أحمد ، والترمذي ، وحسنه النسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه ، وابن

٢٩٣

مناقشة رواية الرهان :

ونحن لا نصدق هذه الرواية :

أولا : لتناقض صورها. ونكتفي بذكر التناقضات التي أشار إليها العلامة الطباطبائي مع بعض الزيادات ، قال أيده الله :

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ، ففي بعضها : أن المقامرة كانت بين أبي بكر وأبي بن خلف ، (وفي بعض المصادر (١) : أمية بن خلف).

وفي بعضها : أنها كانت بين المسلمين والمشركين ، كان أبو بكر من قبل المسلمين ، وأبي من قبل المشركين.

وفي بعضها : أنها كانت بين الطائفتين. وفي بعضها : بين أبي بكر والمشركين كما في هذه الرواية.

وفي بعضها أن الأجل المضروب : ثلاث سنوات.

وفي بعضها : خمس.

وفي بعضها : ست.

وفي أخرى : سبع.

ثم الأجل المضروب أولا انقضى بمكة ، وهو سبع سنين ؛ فمادهم أبو

__________________

مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٨ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٨ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٦٩ عن بعض من تقدم وعن ابن جرير ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٢ ، وغير ذلك.

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٨.

٢٩٤

بكر سنتين بأمر النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فغلبت الروم. وفي بعضها خلافه.

ثم في بعضها : أن الأجل الثاني انقضى بمكة.

وفي بعضها : أنه انقضى بعد الهجرة. وكانت غلبة الروم يوم بدر.

وفي بعضها : يوم الحديبية.

وفي بعضها : أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر ، وهو مائة قلوص ، وجاء به إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فقال : إنه سحت ، تصدق به (١). إنتهى ما أورده العلامة الطباطبائي.

ومن التناقضات : أن الخطر في بعضها : أربعة قلائص.

وفي بعضها : خمس.

وفي بعضها : عشر.

وفي أخرى : مئة.

إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تظهر بالمراجعة والمقارنة.

وثانيا : قال العلامة الطباطبائي أيضا :

«والذي تتفق فيه الروايات : أنه قامرهم ؛ فقمرهم. وكان القمار بإشارة

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٦ ص ١٦٣ ، وللوقوف على المزيد من التناقضات ، راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٠ ـ ١٥٣ عن مصادر أخرى غير ما قدمناه في هامش الصفحة السابقة ، مثل ما نقله عن : ابن جرير ، وأبي يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، والترمذي وصححه ، والدار قطني في الأفراد ، والطبراني ، وأبي نعيم في الدلائل ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن الحكم في فتوح مصر ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٦٩.

٢٩٥

النبي «صلى الله عليه وآله». ووجه ذلك (أي في نفس الرواية كما في بعض نصوصها) بأنه : كان قبل تحريم القمار ؛ فإنه قد حرم مع الخمر في سورة المائدة ، وقد نزلت في آخر عهد النبي «صلى الله عليه وآله».

وقد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر والميسر : أن الخمر كانت محرمة في أول البعثة ، وكان من المعروف عن الدين أنه يحرم الخمر والزنى. على أن الخمر والميسر من الإثم بنص آية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)(١).

والإثم محرم بنص آية : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ)(٢).

والأعراف من العتائق النازلة بمكة ؛ فمن الممتنع : أن يشير النبي «صلى الله عليه وآله» بالمقامرة.

وعلى تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي «صلى الله عليه وآله» ، يشكل قوله لأبي بكر ، لما أتى بالخطر إليه : إنه سحت ، ثم قوله : تصدق به ؛ فلا سبيل إلى تصحيح شيء من ذلك بالموازين الفقهية. وقد تكلفوا في توجيه ذلك بما يزيد الأمر إشكالا.

ثم إن ما في الرواية : أن الفرس كانوا عبدة أوثان ، لا يوافق ما كان عليه القوم ؛ فإنهم وإن كانوا مشركين ، لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا» (٣).

__________________

(١) الآية ٩٠ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٢٣ من سورة الأعراف.

(٣) تفسير الميزان ج ١٦ ص ١٦٣ و١٦٤.

٢٩٦

هذا كله عدا عن أن قول النبي «صلى الله عليه وآله» لأبي بكر : إنه سحت ، يدل على أن القمار كان محرما ، ولو لا ذلك لم يكن المأخوذ به سحتا.

مع أن المدّعى هو أن التحريم كان بعد بدر والحديبية معا ، لأن التحريم قد جاء في سورة المائدة النازلة بعد ذلك حسب زعمهم.

تتميم وتعقيب :

ونقول : إن كلام سيدنا العلامة هنا صحيح ، إلا أنه يمكن الإجابة على الفقرة الأخيرة من كلامه ، فيقال : إن عبارة الرواية ، هكذا : «كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على الفرس ؛ لأنهم أصحاب كتاب».

فمن غير البعيد : أن يكون قوله : «لأنهم أصحاب أوثان» راجع للمشركين ، أي أن سبب محبة المشركين لغلبة الفرس ، هو كون المشركين أصحاب أوثان لا كتاب لهم ؛ فأشبهوا الفرس في عدم الكتاب لهم ، فهم يميلون إليهم. وعلة محبة المسلمين لغلبة الروم هو كون المسلمين أصحاب كتاب ، أي والروم كذلك.

سد الأبواب في المسجد إلا باب علي عليه السّلام :

ومن القضايا الجديرة بالتسجيل هنا ، قضية أمر الرسول «صلى الله عليه وآله» بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، غير باب علي أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فنقول :

يظهر أن هذه القضية قد حصلت قبل استشهاد حمزة ، وقبل وفاة رقية.

ويدل على ذلك :

٢٩٧

١ ـ عن أمير المؤمنين «عليه السلام» : لما أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسد الأبواب التي في المسجد ، خرج حمزة يجر قطيفة حمراء ، وعيناه تذرفان ، يبكي ؛ فقال : ما أنا أخرجتك ، وأنا أسكنته ، ولكن الله أسكنه (١).

٢ ـ وبهذا المعنى رواية أكثر تفصيلا عن سعد بن أبي وقاص ، فراجع (٢).

٣ ـ عن أبي الحمراء ، وحبة العرني ، قال : لما أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسد الأبواب التي في المسجد شق عليهم.

قال حبة : إني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب ، وهو يجر قطيفة حمراء ، وعيناه تذرفان يقول : أخرجت عمك ، وأبا بكر وعمر ، والعباس ، وأسكنت ابن عمك الخ .. (٣).

لكن ذكر العباس في الرواية في غير محله. لأن العباس لم يأت إلى المدينة إلا بعد سنوات من استشهاد حمزة ، فلا بد أن يكون ذلك من إقحام الرواة.

٤ ـ في نص آخر ، عن أمير المؤمنين «عليه السلام» ، قال : قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : انطلق فمرهم ، فليسدوا أبوابهم. فانطلقت ، فقلت لهم ، ففعلوا إلا حمزة.

__________________

(١) الغدير ج ٣ ص ٢٠٨ عن أبي نعيم في فضائل الصحابة. ورواه السمهودي في وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٧٧ عن يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد الله بن مسلم الهلالي عن أخيه ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٥٢.

(٢) ملحقات إحقاق الحق ج ٥ ص ٥٦٠ عن أرجح المطالب (ط لاهور) ص ٤٢١ عن أبي سعد في شرف النبوة ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٤٦.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ١٢٢ ، والإصابة ج ١ ص ٣٧٣ ، وإحقاق الحق ج ٥ ص ٥٧٠ عن أرجح المطالب ص ٤٢١ عن ابن مردويه ، وفضائل الخمسة ج ٢ ص ١٤٩.

٢٩٨

فقلت : يا رسول الله ، فعلوا إلا حمزة.

فقال رسول الله : قل لحمزة : فليحول بابه.

فقلت : إن رسول الله يأمرك أن تحول بابك ؛ فحوله ، فرجعت إليه ، وهو قائم يصلي ، فقال : ارجع إلى بيتك (١).

٥ ـ هناك رواية أخرى عن حذيفة بن أسيد ، تذكر : أن رقية كانت حينئذ على قيد الحياة بالإضافة إلى حمزة ، ففيها ـ أنه بعد أن أرسل «صلى الله عليه وآله» إلى أبي بكر وعمر فأمرهما بسد أبوابهما ؛ ففعلا «أرسل إلى عثمان ـ وعنده رقية ـ فقال : سمعا وطاعة ، ثم سد بابه» ـ.

إلى أن قال : «فقال له النبي (أي لعلي) : أسكن طاهرا مطهرا. فبلغ حمزة قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي.

فقال : يا محمد ، تخرجنا وتمسك غلمان بني عبد المطلب؟

فقال له نبي الله : لا ، لو كان الأمر لي ما جعلت من دونكم من أحد ، والله ما أعطاه إياه إلا الله ، وإنك لعلى خير من الله ورسوله ، أبشر ؛ فبشره النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فقتل يوم أحد شهيدا» (٢).

__________________

(١) كنز العمال ج ١٥ ص ١٥٥ و١٥٦ عن البزار ، ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٧٨ ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١١٥ بإسناد رجاله ثقات ، إلا حبة العرني وهو ثقة ، وذكره الأميني في الغدير ج ٣ ص ٢٠٩ عن المجمع ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤٦.

(٢) مناقب الإمام علي لابن المغازلي ص ٢٥٤ و٢٥٥ ، والطرائف لابن طاووس ص ٦٢ ، وكشف الغمة ج ١ ص ٣٣١ و٣٣٢ ، وعمدة ابن بطريق ص ١٧٨ ، ونقله في إحقاق الحق ج ٥ ص ٥٦٨ و٥٦٩ عن المناقب لعبد الله الشافعي ، وعن أرجح المطالب ص ٤١٥ عن ابن مردويه وابن المغازلي.

٢٩٩

نحن نستبعد جرأة حمزة على النبي «صلى الله عليه وآله» بهذا النحو ؛ فلا بد أن يكون قد تساءل عن سر هذا التصرف ، كما تساءل غيره ؛ فأجابه بأن الأمر قد جاء من قبل الله تعالى.

٦ ـ في رواية أخرى عن رجل من أصحاب رسول الله : أنه خرج مناديه «صلى الله عليه وآله» يأمرهم بسد أبوابهم ، فلم يقم أحد ، وفي الثالثة :

خرج ، فقال : سدوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب ، فخرج الناس مبادرين ، وخرج حمزة بن عبد المطلب يجر كساءه حين نادى سدوا أبوابكم الخ ..

إلى أن قال : فقالوا : سد أبوابنا وترك باب علي ، وهو أحدثنا؟!

فقال بعضهم : تركه لقرابته.

فقالوا : حمزة أقرب منه ، وأخوه من الرضاعة ، وعمه الخ .. (١).

ولكننا نجد في مقابل ذلك ، ما يدل على أن هذه القضية قد كانت بعد فتح مكة ، إذ قد جاء في بعض رواياتها ذكر للعباس عم النبي «صلى الله عليه وآله» ، والذي لم يقدم المدينة إلا بعد الفتح.

١ ـ فعن أبي سعيد الخدري : وأخرج رسول الله عمه العباس ، وغيره من المسجد ، فقال له العباس : تخرجنا ، ونحن عصبتك ، وعمومتك ، وتسكن عليا؟!

فقال : ما أنا أخرجتكم وأسكنته ، ولكن الله أخرجكم وأسكنه (٢).

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٧٨ و٤٧٩ عن ابن زبالة ، ويحيى.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١٧ ، وراجع : وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٧٩ عن يحيى ، وكشف الغمة ج ١ ص ٣٣٢.

٣٠٠