الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

يأمر رسوله إلى علي «عليه السلام» : أن لا يناديه من خلفه (١).

وهو بعد ذلك كله ، من أهل البيت ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وإن رغمت أنوف الحاقدين والشانئين.

وأما بالنسبة للصحابة ، فلو أردنا استقصاء مخالفاتهم في هذا المجال ، لملأنا عشرات الصفحات من أحداث ، ومن مصادر لها. والحر تكفيه الإشارة.

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى :

ويروون ـ عن علي «عليه السلام» (!!) ـ أنه قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ؛ وسقانا من الخمر ؛ فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ؛ فقدموني ، فقرأت : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(٢) ، ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٣).

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٢١٧ وغيره ، والبحار ج ٧٣ ص ٢٢٣ و٣٢٥ عن قرب الإسناد ص ٧٦.

(٢) الآية ٤٣ من سورة النساء.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ١٦٤ و١٦٥ عن عبد بن حميد وأبي داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، والحاكم وصححه ، ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ١٤٢ وليس فيه تصريح بأن عليا «عليه السلام» قد شربها معهم ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٥ ص ٢٠٠ عن الترمذي والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٢٣٨ ، وراجع جامع البيان

٢٦١

وعن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، صنع علي لهم طعاما وشرابا ، فأكلوا ، وشربوا ، ثم صلى علي بهم المغرب ؛ فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، حتى خاتمتها ؛ فقال : ليس لي دين ، وليس لكم دين ، فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(١).

وعن علي ، أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ، ورجل آخر ، شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن : فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، فخلط فيها ؛ فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٢).

وعن الحاكم عن علي «عليه السلام» : دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر ، فحضرت صلاة المغرب ، فتقدم رجل وقرأ قل يا أيها الكافرون ، فالتبس عليه فنزلت (٣)

وفي رواية أخرى عن علي «عليه السلام» : أن رجلا من الأنصار دعاه ،

__________________

للطبري ج ٢ ص ٣١٢ ، وج ٥ ص ٦١ ، وفتح القدير ج ١ ص ٤٧٢ ، وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠ ، ولباب النقول ص ٦٣ ، وتفسير الخازن ج ١ ص ٣٥٨ ، وراجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٨ و٧٩ وليس فيه تصريح بالاسم لكن صرح به الأشخر اليمني في شرحه بهامشه ، وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٨ ، ورمز للعديد من المصادر المتقدمة وعن سعيد بن منصور.

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١٦٥ عن ابن المنذر ، وفتح القدير ج ١ ص ٤٧٢.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ١٦٥ عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وجامع البيان للطبري ج ٥ ص ٦١ ، وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠ قال : وهكذا رواه أبو داود والنسائي.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٠٨ وج ٤ ص ١٤٢ ، وتلخيص الذهبي بهامشه ، وراجع تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠ عن ابن أبي حاتم.

٢٦٢

وعبد الرحمن بن عوف ، فسقاهما قبل أن تحرم الخمر ، فأمهم علي في المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون ؛ فخلط فيها ، فنزلت الخ .. (١).

وفي بعض الروايات : أنه قرأ : «قل يا أيها الكافرون ؛ فلم يقمها» (٢). ورواية أخرى لا تصرح باسم أحد ، لكنها تقول : فشربها رجل ، فتقدم ، فصلى بهم ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، فنزلت الخ .. (٣).

وفي رواية أخرى عن عوف : فشربها رجلان ؛ فدخلا في الصلاة ، فجعلا يهجران كلاما ؛ لا يدري عوف ما هو (٤).

المناقشة :

ونقول : إن ذكر علي «عليه السلام» في الرواية المذكورة لا يصح ، بل إن الرواية بمجملها محل شك وشبهة لدينا ، ونستند في حكمنا هذا إلى ما يلي :

أولا : إن الروايات المتقدمة فيها العديد من موارد التنافي والتناقض.

١ ـ فهل الذي صنع الطعام هو عبد الرحمن بن عوف؟ أم هو علي «عليه السلام»؟! أم هو رجل من الأنصار؟!

٢ ـ وهل الذي صلى بهم إماما هو علي «عليه السلام»؟ أم عبد الرحمن

__________________

(١) راجع : سنن أبي داود ج ٣ ص ٢٢٥ ، وتفسير الخازن ج ١ ص ٣٥٨.

(٢) أسباب النزول ص ٨٧ ، وجامع البيان للطبري ج ٢ ص ٢١٢.

(٣) راجع : تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٠٠ ، والغدير ج ٦ ص ٢٥٢ و٢٥٣ عنه ، وجامع البيان للطبري ج ٧ ص ٢٢ ، وتفسير النيسابوري بهامشه ج ٢ ص ٣٢٢ ، وتفسير الرازي ج ٦ ص ٤٠.

(٤) تفسير الطبري ج ٢ ص ٢١١.

٢٦٣

بن عوف ، أم هو فلان الذي لم يسم؟!

٣ ـ وهل قرأ القارئ في الصلاة : قل يا أيها الكافرون إلى آخرها ،

ثم قال : ليس لي دين ، وليس لكم دين؟

أم أنه قرأ : قل يا أيها الكافرون : أعبد ما تعبدون؟!

أم أنه قرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون؟!

أم أنه قرأ : ونحن عابدون ما عبدتم؟! (١).

أم أنه قرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين ، كما جاء في بعض الروايات؟! (٢).

أم أنه جعل يهجر كلاما في الصلاة ، لا يدري عوف ما هو؟! ..

٤ ـ وهل كان الحاضرون ثلاثة أشخاص فقط : علي ، وعبد الرحمن بن عوف ، ورجل من الأنصار؟

أم كانوا خمسة أشخاص : أبو بكر وعمر ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد؟!

أم أن الشارب كان رجلا واحدا ، كما هو ظاهر النص الأخير ، وهو ظاهر رواية الحاكم؟!

__________________

(١) تلخيص المستدرك للذهبي بهامش نفس المستدرك ج ٤ ص ١٤٢.

(٢) تفسير جامع البيان للطبري ج ٥ ص ٦١ ، وراجع : تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠ ، وتفسير الرازي ج ١٠ ص ١٠٧ ، وتفسير الخازن ج ١ ص ١٤٦ ، وتفسير النسفي بهامشه ، والكشاف ج ١ ص ٥١٣ و٢٦٠ ، وغير ذلك.

٢٦٤

٥ ـ وهل كان الذي شربها رجل واحد ، ودخل في الصلاة ، أم شربها رجلان ، ودخلا في الصلاة؟! ..

وكما يقولون : لا حافظة لكذوب ..

وثانيا : قد تقدم أن الخمر قد حرمت في مكة قبل الهجرة ، وذكرنا لذلك العديد من الدلائل والشواهد ، مثل رواية معاذ بن جبل (١) ، وأم سلمة (٢) ، وأبي الدرداء .. وغير ذلك.

وثالثا : قال الحلبي الشافعي : إن الخمر قد حرمت ثلاث مرات (٣) ، وروى أحمد ذلك عن أبي هريرة أيضا (٤).

والمقصود : إن كان أنها قد حرمت أولا في مكة في أول البعثة ، فلا تصح الرواية المتقدمة ، وإن كان المقصود أنها قد حرمت في سورة البقرة ، ثم في سورة النساء النازلتين في أول الهجرة ، فإننا نقول :

إن النحاس يرى : أن سورة النساء مكية ، وقال علقمة : إن قوله تعالى : يا أيها الناس حيث وقع إنما هو مكي (٥) .. وعليه ، بل وحتى على تقدير نزولها

__________________

(١) روايته موجودة أيضا ـ عدا عما تقدم ـ في البحار ج ٢ ص ١٢٧ ح ٤ ، وقصار الجمل ج ١ ص ١٨٣ ، وج ٢ ص ٢٣ و١٢ وراجع ص ٢٢ ، عن الوسائل العشرة باب ١٣٦ ح ٨.

(٢) رواية أم سلمة توجد أيضا في الدر المنثور ج ٢ ص ٣٢٦ عن البيهقي.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦١.

(٤) فتح القدير ج ٢ ص ٧٥ ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٧ عن المواهب اللدنية.

(٥) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٥ ص ١ ، والغدير ج ٨ ص ١١ عنه ، وراجع : الإتقان ج ١ ص ١٢.

٢٦٥

أول الهجرة ، فإن التحريم يكون قد سبق وقوع القصة المتقدمة التي يرون أنها قد حصلت في المدينة في سنة ثلاث ، أو أربع ، أو في سنة ست الخ .. حسبما تقدمت الإشارة إليه.

ورابعا : إن المروي عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» ، وعن الضحاك : أن المراد في قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(١) : هو سكر النوم (٢).

وخامسا : قد روى القطان في تفسيره ، عن الحسن البصري ، قال : إن عليا لم يقبل أن يشرب معهم في دار أبي طلحة ، بل خرج من بينهم ساخطا على ما يفعلون ، قال الحسن : «والله الذي لا إله إلا الله هو ، ما شربها قبل تحريمها ، ولا ساعة قط» (٣).

نعم .. وهذا هو الذي ينسجم مع خلق علي «عليه السلام» ، ووعيه ، وهو الذي تربى في حجر الرسالة ، وكان يلازم النبي «صلى الله عليه وآله» ملازمة الظل لصاحبه ..

وسادسا : قال الحاكم : «إن الخوارج تنسب هذا السكر ، وهذه القراءة

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة النساء.

(٢) راجع : نور الثقلين ج ١ ص ٤٠٠ و٤٠١ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٣٧٠ ، ومجمع البيان ج ٣ ص ٥٢ ، وقول الضحاك في مختلف تفاسير أهل السنة فعدا عما تقدم راجع تفسير الخازن ج ١ ص ٣٥٩ ، وتفسير الرازي ج ١٠ ص ١٠٩ ، وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠ ، وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٠١ ، وعن ابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٥٠٠ عن ابن شهرآشوب ، عن القطان في تفسيره ..

٢٦٦

إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، دون غيره ، وقد برأه الله منها ؛ فإنه راوي هذا الحديث» (١).

وذلك لأن رواية الحاكم ليس فيها أنه «عليه السلام» قد شربها ، كما أنها تنص على أن غيره هو الذي صلى بهم ، وعلى حسب نص الجصاص :

عن علي قال : دعا رجل من الأنصار قوما ؛ فشربوا من الخمر ؛ فتقدم عبد الرحمن بن عوف لصلاة المغرب ؛ فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، فالتبس عليه ، فأنزل الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا ..) الخ .. (٢).

إتهام بريء آخر :

وأخيرا فإننا نجد في بعض الروايات تسجيل اتهام ضد بريء آخر ، ألا هو عثمان بن مظعون ، وأنه كان فيمن شرب الخمر ، حتى نزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الخ .. (٣).

وقد رد العلامة الأميني على ذلك بقوله : «هذا افتراء على ذلك الصحابي العظيم. وقد نص أئمة التاريخ والحديث على أنه ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية ، وقال : لا أشرب شرابا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن أنكح كريمتي» (٤).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٠٧.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٠١.

(٣) راجع الغدير ج ٦ هامش ص ٢٥٤ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٣١٥ و٣١٧ و٣١٨.

(٤) الغدير ج ٦ هامش ص ٢٥٣ ، وأشار إلى مصدرين لما ذكره وهما : الإستيعاب ج ٢ ص ٤٨٢ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٣١٥.

٢٦٧

ونزيد نحن : أن عثمان بن مظعون قد مات قبل هذه القضية بمدة طويلة كما هو معلوم.

سر الافتراء :

ولا نريد أن نفيض في بيان سر حياكة هذه الأكاذيب ، فإنه قد كان ثمة تعمد لإيجاد شركاء لأولئك الذين ارتكبوا هذه الشنيعة ، ممن يهتم أتباعهم بالذب عنهم ، فلما لم يمكنهم تكذيب أصل القضية عمدوا إلى إشراك أبرياء معهم ، ليخف جرم أولئك من جهة ، وسعيا في تضعيف أمر هؤلاء من جهة أخرى ..

ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ، وينزه أولياءه ، ويطهرهم ، ويصونهم من عوادي الكذب والتجني .. وليذهب الآخرون بعارها وشنارها ، وليكن نصيب محبيهم وأتباعهم ، والذابين عنهم بالكذب والبهتان ، الخزي والخذلان وسبحان الله ، وله الحمد ، فإنه ولي المؤمنين ، والمدافع عنهم ..

خطبة علي عليه السّلام بنت أبي جهل :

وتحكى ههنا قصة خطبة علي «عليه السلام» بنت أبي جهل ، ومن حقها أن تذكر في السنة الثامنة من الهجرة ، ولكن بما أنها لا ريب في أسطوريتها كما سيتضح ، فإننا نذكرها هنا ونبين كذبها ، لمناسبة واضحة بين الحديث عن زواجه «عليه السلام» بفاطمة ، وخطبته لغيرها ؛ فنقول :

الحديث الموضوع :

في البخاري وغيره ، عن المسور بن مخرمة ، قال : سمعت رسول الله

٢٦٨

«صلى الله عليه وآله» يقول ، وهو على المنبر : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، إلا أن يريد ابن أبي طالب : أن يطلق ابنتي ، وينكح ابنتهم ؛ فإنما هي بضعة مني ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها.

وفي البخاري وغيره أيضا ، عن المسور : أن فاطمة أتت رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقالت : يزعم قومك : أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل.

فسمعته حين تشهد يقول : إني أنكحت أبا العاص بن الربيع ، فحدثني وصدقني ، وإن فاطمة بضعة مني ، وإني أكره أن يسوءها. والله ، لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد ، فترك علي الخطبة.

وفي رواية أخرى لمسلم والبخاري وغيرهما : أن المسور قال : سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» على المنبر وهو يخطب في ذلك ، وأنا محتلم ، فقال : إن فاطمة مني ، وأنا أخاف أن تفتن في دينها ..

إلى أن قال : وإني لست أحرم حلالا ، ولا أحل حراما ، ولكن والله ، لا تجتمع بنت رسول الله ، وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا.

وذكر مصعب الزبيري : أن عليا خطب جويرية (١) بنت أبي جهل ، فشق ذلك على فاطمة ، فأرسل إليها عتاب : أنا أريحك منها ؛ فتزوجها ؛ فولدت له عبد الرحمن بن عتاب.

__________________

(١) ويقال : اسمها العوراء. ويقال : جرهمة. ويقال : جميلة. ويقال : الحيفاء. راجع فتح الباري ج ٧ ص ٦٨.

٢٦٩

وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يغار لبناته غيرة شديدة ، كان لا ينكح بناته على ضرة (١).

وعند الحاكم : أن عليا خطب بنت أبي جهل ؛ فقال له أهلها : لا نزوجك على فاطمة (٢).

وعند ابن المغازلي : أنه «عليه السلام» خطب أسماء بنت عميس ؛ فأتت فاطمة إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فقالت : إن أسماء بنت عميس متزوجة عليا.

__________________

(١) راجع هذه النصوص في : صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف. وكتاب الخمس وكتاب المناقب ، وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٤١ ، وفي فضائل فاطمة ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٨ ، وحلية الأولياء ج ٢ ص ٤٠ ، وسنن البيهقي ج ٧ ص ٦٤ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٥٨ و١٥٩ ، وغوامض الأسماء المبهمة ص ٣٤٠ و٣٤١ ، وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٦١٦ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٢١ ، والمصنف ج ٧ ص ٣٠١ و٣٠٢ و٣٠٠ بعدة نصوص ، وفي هامشه عن عدد من المصادر ، ونسب قريش ص ٨٧ و٣١٢ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٦ ، وج ٩ ص ٢٨٦ ، وتهذيب التهذيب ج ٧ ص ٩٠ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٨ و٥١ وج ٤ ص ٦٤ ـ ٦٦ ، ومحاضرة الأدباء المجلد الثاني ص ٢٣٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٨ ، وتلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٦ ، ونقل عن سنن أبي داود ج ٢ ص ٣٢٦ ، وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٤ ، ونزل الأبرار ص ٨٢ و٨٣ ، وفي هامشه عن صحيح البخاري ج ٢ ص ٣٠٢ و١٨٩ وج ٣ ص ٢٦٥ ، وعن الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٩٨.

(٢) فتح الباري ج ٩ ص ٢٨٦.

٢٧٠

فقال : ما كان له أن يؤذي الله ورسوله (١).

وقد نظم مروان بن أبي حفصة هذه القصة في قصيدة يمدح بها الرشيد ، فكان مما قال :

وساء رسول الله إذ ساء بنته

بخطبته بنت اللعين أبي جهل

فذم رسول الله صهر أبيكم

على منبر بالمنطق الصادع الفصل (٢)

المناقشة :

ونحن نعتقد ـ كما يعتقد ابن شهرآشوب (٣) ـ أنه لا ريب في كذب هذه الرواية ، وذلك استنادا إلى ما يلي :

أولا : إن الروايات مختلفة ومتناقضة ، كما يظهر بالمراجعة والمقارنة.

أضف إلى ذلك : أن ما جاء في هذه الروايات لا ينسجم مع ما تقدم في بحث تكنية علي «عليه السلام» بأبي تراب : من أنه «عليه السلام» لم يسؤ فاطمة قط.

وثانيا : عن بريدة : أنه لما استلم علي «عليه السلام» الغنائم من خالد بن الوليد في غزوتهم لبني زبيد ، حصلت جارية من أفضل السبي في الخمس ، ثم صارت في سهم آل علي ، فخرج عليهم علي «عليه السلام» ورأسه يقطر ، فسألوه ؛ فأخبرهم : أنه وقع بالوصيفة التي صارت في سهم آل علي.

__________________

(١) مناقب الإمام علي لابن المغازلي ص ٣٦٥.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٦٥.

(٣) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٤.

٢٧١

فقدم بريدة في كتاب من خالد على النبي «صلى الله عليه وآله» ، وصار يقرؤه عليه بريدة ، ويصدق (أي بريدة) ما فيه ، فأمسك «صلى الله عليه وآله» بيده ، وقال : يا بريدة أتبغض عليا؟

قال : نعم.

فقال «صلى الله عليه وآله» : لا تبغضه ، وإن كنت تحبه فازدد له حبا ، فو الذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة.

وفي نص آخر : فتكلم بريدة في علي عند الرسول ، فوقع فيه ، فلما فرغ رفع رأسه ، فرأى رسول الله غضب غضبا لم يره غضب مثله إلا يوم قريظة والنضير ، وقال : يا بريدة ، أحب عليا ، فإنه يفعل ما آمره. وكذا روي عن غير بريدة (١).

__________________

(١) راجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٨ عن الطبراني ، وخصائص النسائي ص ١٠٢ و١٠٣ ، ومشكل الآثار ج ٤ ص ١٦٠ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٩ و٣٥٠ و٣٥١ ، وسنن البيهقي ج ٦ ص ٣٤٢ وقال : رواه البخاري في الصحيح ، وحلية الأولياء ج ٦ ص ٢٩٤ ، وسنن الترمذي ج ٥ ص ٦٣٢ و٦٣٩ ، وكنز العمال ج ١٥ ص ١٢٤ و١٢٥ و١٢٦ ـ ٢٧١ ، ومناقب الخوارزمي الحنفي ص ٩٢ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١٠ و١١١ على شرط مسلم ، وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه وسكت عنه ، والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٤٤ و٣٤٥ عن أحمد والترمذي ، وأبي يعلى وغيره بنصوص مختلفة. والغدير ج ٣ ص ٢١٦ عن بعض من تقدم ، وعن كنز العمال ج ٦ ص ١٥٢ و١٥٤ و٣٠٠ ، وعن نزل الأبرار للبدخشي ص ٢٢ ، والرياض النضرة ج ٣ ص ١٢٩ و١٣٠ ، وعن مصابيح السنة للبغوي ج ٢ ص ٢٥٧. والبحر الزخار ج ٦ ص ٤٣٥ ، وجواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للصعدي (مطبوع بهامش المصدر السابق) نفس الجلد والصفحة ، عن البخاري والترمذي.

٢٧٢

وفي الرواية التي عند المفيد رضوان الله عليه : «فسار بريدة ، حتى انتهى إلى باب النبي «صلى الله عليه وآله» ، فلقيه عمر ، فسأله عن حال غزوتهم ، وعن الذي أقدمه ؛ فأخبره : أنه إنما جاء ليقع في علي ، وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه ، فقال له عمر : امض لما جئت له ؛ فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي» (١).

وثالثا : وفي محاورة بين عمر وابن عباس ، كان مما قاله ابن عباس له : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا من قد علمت ، والله ، إنه ما غير ولا بدل ، ولا أسخط رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيام صحبته له.

فقال : ولا في ابنة أبي جهل ، وهو يريد أن يخطبها على فاطمة رضي الله عنها؟

قلت : قال الله في معصية آدم «عليه السلام» : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٢) ؛ فصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه. وربما كانت من الفقيه في دين الله ، العالم بأمر الله ، فإذا نبه عليها رجع وأناب.

فقال : يا ابن عباس ، من ظن أنه يرد بحوركم ، فيغوص فيها معكم حتى بلغ قعرها ؛ فقد ظن عجزا (٣).

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٩٣ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ١٧٣ عنه.

(٢) الآية ١١٥ من سورة طه.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٥١ ، ومنتخب كنز العمال ج ٥ ص ٢٢٩ بهامش مسند أحمد ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٢٤٩ عنه عن الزبير بكار في الموفقيات ، وقاموس الرجال ج ٦ ص ٢٥.

٢٧٣

فابن عباس يصارح الخليفة بأن عليا لم يغضب الرسول ، ولا أراد ذلك ، ولا عزم عليه ، ثم هو قد أنكر قضية بنت أبي جهل ، واعتبرها من الخواطر التي ربما تمر ، ولا يقدر أحد على دفعها ، وصدقه بذلك عمر.

ويلاحظ هنا : مهارة ابن عباس في تكذيب هذه القضية ، حيث لم يواجه الخليفة الثاني صراحة بذلك ، وإنما جاءه من الطريق المعقول والمقبول عنده ، وقطع عليه كل طريق حتى قال له : «من ظن أنه يرد بحوركم الخ ..».

ويكاد النقيب أبو جعفر محمد بن أبي زيد ، الذي وصفه ابن أبي الحديد بأنه منصف ، ولا يمكن اتهامه بالتشيع ـ كما تقدم في غزوة بدر ـ يكاد يصرح بأن عمر هو الذي أوحى للناس بأن النبي قد غضب من علي في هذه القضية ، فهو يقول عنه :

«ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل ؛ فأوهم أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كرهه لذلك ، ووجد عليه» (١).

ورابعا : إننا في نفس الوقت الذي نجد فيه النبي «صلى الله عليه وآله» يقرر : أنه لا يتصرف في هذا المورد من موقع الولاية ، وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، حيث يقول في خطبته : «إني لست أحرم حلالا ، ولا أحل حراما» ، نجده يفرض على علي أن يطلق ابنته ، إن أراد تزوج ابنة أبي جهل ؛ مع أن الله قد جعل الطلاق بيد الزوج ، وليس للزوجة ولا لأبيها حق فرض ذلك عليه.

ثم هو ينهى عليا عن الزواج بالثانية ، مع أن الله تعالى أحل الزواج من

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٨.

٢٧٤

مثنى وثلاث ورباع (١).

وإذا كان يحرم على علي الزواج في حياة فاطمة لخصوصية لها (٢).

وكان هذا الحكم لم يبلغ إلى علي «عليه السلام» حتى ذلك الوقت ؛ فهو لا يستحق هذا التشهير القاسي.

وإن كان «صلى الله عليه وآله» قد بلغه إياه ، فلماذا يقدم علي الذي نصت آية التطهير على طهارته من كل رجس ، على أمر محرم عليه ، حتى يضطر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى اتخاذ هذا الموقف منه؟

ولماذا يعمد إلى إيذاء فاطمة ، وهو يسمع قوله «صلى الله عليه وآله» :

فاطمة بضعة مني يؤذيها ما يؤذيني؟!

وكيف نوجه بعد هذا قوله «صلى الله عليه وآله» : لو لا أن الله خلق عليا ، لم يكن لفاطمة كفؤ ، آدم فمن دونه؟!

بل إن الله تعالى هو الذي اختار عليا لفاطمة ، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها؟! (٣).

ثم ألم يكن لدى علي «عليه السلام» من الأدب والاحترام بمقدار ما كان لبني المغيرة ؛ فيستأذونه «صلى الله عليه وآله» ، ولا يستأذنه علي «عليه السلام»؟!

ثم إننا لا ندري ما حقيقة إيمان ، وجمال ، ومزايا بنت أبي جهل ـ التي

__________________

(١) راجع : تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٧.

(٢) كما احتمله العسقلاني في فتح الباري ج ٩ ص ٢٨٧.

(٣) تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٧.

٢٧٥

كانت من الطلقاء (١) ـ حتى جعلت عليا يقدم على خلق مشكلة بهذا الحجم له ، ولبني المغيرة ، وحتى للنبي «صلى الله عليه وآله» نفسه.

ولماذا لم يكلم النبي «صلى الله عليه وآله» عليا سرا ، ويطلب منه صرف النظر عن هذا الأمر؟!. أم أنه فعل ذلك ، فرفض علي ، حتى اضطر إلى فضحه ، وتأليب الناس ضده بهذه الصورة؟! (٢)

وكذلك الحال بالنسبة لبني المغيرة ، لماذا لا يردعهم سرا عن تزويجه؟! أم أنه فعل ذلك ، فلم يرتدعوا إلا بهذه الطريقة؟!. وإذا كانوا لا يرتدعون ؛ فلماذا يستأذنون؟!.

واعتذار العسقلاني عن ذلك بأنه «صلى الله عليه وآله» أراد من خطبته على رؤوس الأشهاد : أن يشيع ذلك الحكم ، ويأخذوا به على سبيل الإيجاب ، أو الأولوية (٣).

لا يمكن قبوله ، فقد كان يمكن أن يشيع هذا الحكم بالطرق الأخرى التي تشيع فيها سائر الأحكام ، لا سيما وأنه ليس من الأحكام العامة التي يبتلي بها عامة المكلفين.

وأيضا ، فإن ذلك لا يتناسب مع كلمات النبي القاسية على المنبر ، ولا مع تعريضاته القوية المشعرة بأن عليا قد ارتكب أمرا عظيما .. هذا مع العلم بأنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن من عادته أن يواجه أحدا بما يعاب به ؛

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٩١.

(٢) تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٨.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٦٨.

٢٧٦

فكيف يعلن به على المنبر.

حتى إنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يقدح بشهود المدّعي بصورة صريحة ، بل هو يدعو المتحاكمين إلى الصلح (١).

بل إنه «صلى الله عليه وآله» كان إذا بلغه عن أحد شيء يكرهه لا يصرح باسمه ، حتى ولو كان من جملة المنافقين ، فحين بلغه قول زيد بن اللصيت ، وهو من المنافقين ، من أحبار اليهود : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته. قال «صلى الله عليه وآله» : «إن قائلا قال : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدري أين ناقته ، وإني والله الخ ..» (٢).

واعتذار العسقلاني أيضا عن ذلك : بأنه لعله مبالغة في رضا فاطمة «عليها السلام» ، لأنها أصيبت بأمها وإخوتها ، فكان إدخال الغيرة عليها يزيد من حزنها (٣).

لا يصح أيضا ؛ فإن رضا شخص لا يبرر تنقص شخص آخر على أمر مباح بل مستحب.

وكذلك فإن كون فاطمة «عليها السلام» قد أصيبت ، لا يبرر منع زوجها من العمل بما هو مباح له .. وهل لم يصب أحد بأقربائه سواها؟ وهل كل من أصيبت بأقربائها تمنع زوجها من الزواج بأخرى؟!. لا سيما بعد مرور السنوات العديدة على ذلك!!

__________________

(١) راجع : الوسائل ج ١٨ ص ١٧٥ والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري «عليه السلام» ص ٦٧٣ و٦٧٤.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٧٤.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٦٩ ، وراجع : ج ٩ ص ٢٨٧.

٢٧٧

ولماذا لا يطلب العسقلاني من أبي بكر أن يبالغ في رضا فاطمة ، حينما أصيبت في أبيها سيد البشر ، فحرمها أبو بكر من إرثها ، وعاملها بما هو معروف لدى كل أحد ، حتى ماتت «عليها السلام» وهي هاجرة له ، وأوصت أن تدفن ليلا ولا يحضر جنازتها هو ولا الخليفة عمر؟.

ثم هناك تعريضه بعلي «صلى الله عليه وآله» ، وأنه حدثه ولم يصدقه ..

لا ندري كيف؟ ومتى؟ وأن أبا العاص (الذي بقي على شركه حتى أسلم مع طلقاء مكة كرها ، أو طمعا ، والذي صرح الصادق «عليه السلام» بنفاقه كما نسب إليه) (١) قد حدثه ، فصدقه ، كيف؟ ومتى؟ وفي أي مورد؟!.

وبعد ، فما معنى : أن لا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله عند رجل؟ وقد جمع عثمان بين رقية وأم كلثوم بنتي بل ربيبتي رسول الله ، وبين فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس ، ورملة بنت شيبة ، وأم البنين بنت عيينة بن حصن ، الذي كان من المنافقين.

ولو صحت خطبة علي لبنت أبي جهل فلماذا تتأذى فاطمة من العمل بحكم إلهي مشرع في القرآن وعلى لسان أبيها؟!.

ولماذا لا تكون مثال المرأة المؤمنة الراضية والمطمئنة؟

وأين هو إيمانها القوي وثباتها؟!.

ولماذا لا تكون كأي امرأة أخرى تواجه قضية كهذه؟!.

وكيف بلغ بها الأمر أن أصبح أبوها يخشى عليها الفتنة في دينها؟!

أكل ذلك من أجل أن زوجها يريد التزوج من امرأة أخرى؟!.

__________________

(١) مستطرفات السرائر ص ٤٧٠.

٢٧٨

ثم ألم تسمع قول أبيها : جدع الحلال أنف الغيرة؟ (١)

ولو كانت لم تسمع ذلك فلم لا يذكر لها أبوها ذلك حينما اشتكت من زوجها ، أو على الأقل لماذا لا يتذكر هو ذلك ، قبل أن يصعد المنبر ويتكلم بذلك الحماس ، وتلك العصبية والقسوة؟!.

وهل يتناسب ذلك مع حكمته ونبل أخلاقه ، وسمو نفسه ، وما عرف به من الكظم والحلم؟!.

وهذا المأمون يجيب ابنته على شكواها من قضية كهذه بقوله : إنا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه الله تعالى. فهل كان المأمون أعلى نفسا ، وأكرم أخلاقا منه «صلى الله عليه وآله»؟! والعياذ بالله (٢).

وخامسا : قال السيد المرتضى : «وبعد ، فأين كان أعداؤه «عليه السلام» من بني أمية وشيعتهم عن هذه الفرصة المنتهزة؟! وكيف لم يجعلوها عنوانا لما يتخرصونه من العيوب ، والقروف؟! وكيف تمحلوا الكذب ، وعدلوا عن الحق ؛ وفي علمنا بأن أحدا من الأعداء متقدما لم يذكر ذلك ، دليل على أنه باطل موضوع» (٣).

وسادسا : وبعد كل ما تقدم : كيف يقول النبي «صلى الله عليه وآله» لبنت أبي جهل ، (بنت عدو الله) ، على المنبر ، وهو الذي منع الناس من أن

__________________

(١) محاضرات الأدباء المجلد الثاني ص ٢٣٤.

(٢) راجع : تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٦ ـ ٢٧٩ ، ومقالا للشيخ إبراهيم الأنصاري في مجلة الهادي سنة ٥ عدد ٢ ص ٣٠ ـ ٣٣ بعنوان أسطورة تزوج علي ببنت أبي جهل ، وتنزيه الأنبياء للسيد المرتضى ص ١٦٨.

(٣) تنزيه الأنبياء ص ١٦٩ ، وراجع : تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٧٩.

٢٧٩

يقولوا لعكرمة أخيها : (ابن عدو الله) ، وقال كلمته الخالدة : يأتيكم عكرمة مهاجرا ؛ فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي؟! (١).

وسابعا : إن المسور بن مخرمة قد ولد في السنة الثانية للهجرة ، فكيف يقول : إنه سمع النبي «صلى الله عليه وآله» يخطب على المنبر وهو (يعني المسور) محتلم؟!.

ووجه ذلك ابن حجر : بأن المراد بالاحتلام كمال العقل (٢).

وهذا التوجيه يخالف كلا من اللغة والعرف ، فلا يقال لطفل عمره ست سنين : إنه محتلم. مهما كان له من الدراية ، ومن العقل والفطنة (٣).

الرواية الأقرب إلى القبول :

وأخيرا ، فإن السيد المرتضى يرى : أن هذه الأسطورة إنما رواها الكرابيسي البغدادي ، صاحب الشافعي ، والكرابيسي معروف بنصبه وانحرافه عن أمير المؤمنين «عليه السلام» (٤).

ولعلك تقول : إن الرواية بكيفيتها المتقدمة لا ريب في بطلانها وافتعالها ، إلا أننا لا نمانع في أن يكون لها أصل سليم عن كل ما قدمناه ، ولا يتنافى مع روحية ، وعصمة النبي «صلى الله عليه وآله» ، ووصيه ، وبضعته الزهراء «عليها السلام».

__________________

(١) راجع : مقال الأنصاري في مجلة الهادي سنة ٥ عدد ٢ ص ٣٢.

(٢) فتح الباري ج ٩ ص ٢٨٦. راجع : مقال الأنصاري أيضا.

(٣) راجع مقال الأنصاري أيضا.

(٤) تنزيه الأنبياء ص ١٦٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٦٤ و٦٥.

٢٨٠