الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

السلام» ، قالا : «ما قسم علينا خمس منذ زمن معاوية إلى اليوم» (١).

ولما أمر عمر بن عبد العزيز بدفع شيء من الخمس إلى بني هاشم ، اجتمع نفر منهم ، وكتبوا إليه يشكره ، لصلته رحمه وفيه : إنهم لم يزالوا مجفوين منذ كان معاوية (٢).

كما أن زيادا كتب إلى والي خراسان من قبله ، الحكم بن عمرو الغفاري ، يقول له عن الغنائم الكثيرة التي أصابوها : «أما بعد ، فإن أمير المؤمنين كتب أن يصطفى له الصفراء والبيضاء ، ولا تقسم بين المسلمين ذهبا ولا فضة».

وزاد الطبري : «الروائع» (٣) على الصفراء والبيضاء.

ولكن الحكم رفض ذلك ، وقسم الغنائم ، فأرسل إليه معاوية من قيده ، وحبسه ، فمات في قيوده ، ودفن فيها ، وقال : إني مخاصم (٤).

حتى عهد عمر بن عبد العزيز :

وبقي الخمس في أيدي الأمويين يتصرفون فيه تصرف المالك ، حتى كان عهد عمر بن عبد العزيز ، فحاول أن يعيد للهاشميين بعض حقوقهم

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٢٨٨ ط أوربا.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي بهامشه ج ٣ ص ٤٤٢ ، وطبقات ابن سعد ط أوربا ج ٧ ص ١٨ ، والإستيعاب ج ١ ص ١١٨ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٦ ، والطبري ط أوربا ج ٢ ص ١١١ ، وابن الأثير ط أوربا ج ٣ ص ٣٩١ ، والذهبي ج ٢ ص ٢٢٠ ، وابن كثير ج ٨ ص ٤٧.

(٤) تهذيب التهذيب ج ٢ ص ٤٣٧ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٤٢.

١٦١

لمصلحة يراها ، فقسم فيهم بعض ذلك ، ووعدهم : أنه إن بقي لهم أعطاهم جميع حقوقهم (١).

لكن هذه المحاولة ـ كعهد عمر بن عبد العزيز نفسه ـ سرعان ما انتهت وبطل مفعولها ، وعادت الأمور لتسير في نفس الاتجاه الذي رسمه لها أعداء علي «عليه السلام» وأعداء أهل بيته ، كما يعلم بأدنى مراجعة لكتب السير والتاريخ.

آراء فقهاء أهل السنة في الخمس :

ولقد تضاربت آراء فقهاء أهل السنة تبعا لما فعله الخلفاء :

قال ابن رشد : واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة.

إحداها : أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية ، وبه قال الشافعي.

والقول الثاني : إنه يقسم على أربعة أقسام.

والقول الثالث : إنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام ، وإن سهم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وذي القربى سقط بموت النبي «صلى الله عليه وآله».

والقول الرابع : إن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير.

والذين قالوا يقسم أربعة أقسام أو خمسة اختلفوا في ما يفعل بسهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسهم القرابة بعد موته ، فقال قوم : يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس.

__________________

(١) راجع ذلك في طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٢٨١ ، ٢٨٥ ، ٢٨٧ ، ٢٨٩ ، والخراج ص ٢٥ ، وسنن النسائي باب قسم الفيء ج ٢ ص ١٧٨.

١٦٢

وقال قوم : بل يرد على باقي الجيش.

وقال قوم : بل سهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» للإمام ، وسهم ذي القربى لقرابة الإمام.

وقال قوم : بل يجعلان في السلاح والعدة ، واختلفوا في القرابة من هم (١).

أما ابن قدامة فقد ذكر : أن أبا بكر قسم الخمس على ثلاثة أسهم ، وذكر أن هذا هو قول أصحاب الرأي ، أبي حنيفة وجماعته ، فإنهم قالوا : يقسم الخمس على ثلاثة أقسام : اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل وأسقطوا سهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» بموته ، وسهم قرابته أيضا.

وقال مالك : الخمس والفيء واحد ، يجعلان في بيت المال.

ثم قال ابن قدامة : «وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر الآية ؛ فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئا ، وجعل لهما في الخمس حقا ، كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نص الكتاب. وأما حمل أبي بكر وعمر (رض) على سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت ، وحرك رأسه ، ولم يذهب إليه. ورأى أن قول ابن عباس ومن وافقه أولى ؛ لموافقته كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله» (٢).

ورأى أبو يعلى ، والماوردي : أن تعيين مصرف الخمس منوط باجتهاد

__________________

(١) بداية المجتهد حكم الخمس ج ١ ص ٤٠١.

(٢) المغني لابن قدامة ج ٧ ص ٣٥١ باب قسمة الفيء والغنيمة.

١٦٣

الخلفاء (١).

أهل البيت عليهم السّلام وشيعتهم وقضية الخمس :

يقسم الخمس عند أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم إلى ستة أقسام ، ثلاثة منها لله ولرسوله ، ولذوي قرباه ، يقبض النبي «صلى الله عليه وآله» هذه الأسهم في حياته ، ويعود أمرها إلى الأئمة الاثني عشر من أهل بيته بعد وفاته «صلى الله عليه وآله». والأسهم الأخرى هي لفقراء بني هاشم ، وأبناء سبيلهم ، ويتاماهم ، مع وصف الفقر.

وقالوا أيضا : يجب إخراج الخمس من كل مال فاز به المسلم من جهة العدى أو غيرهم. ولا يتوقف شيعة أهل البيت عند هذا ، بل يستدلون أيضا بالأحاديث الكثيرة الدالة على ذلك ، الواردة عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» ، الذين هم أحد الثقلين الذين أمرنا بالتمسك بهم ، وهم سفينة نوح ، وباب حطة ، هدانا الله جميعا إلى المزيد من محبتهم والتمسك بهم ومتابعتهم في أقوالهم وأفعالهم وما ذلك على الله بعزيز.

__________________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي باب قسم الفيء ص ١٢٦ ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص ١٢٥.

١٦٤

الباب الثالث

ما بين بدر وأحد

الفصل الأول : شخصيات وأحداث

الفصل الثاني : فاطمة وعلي عليهما السّلام ومناوؤهما

الفصل الثالث : قضايا وأحداث في المجال العام

الفصل الرابع : غزوات وسرايا

الفصل الخامس : غدر اليهود والإغتيالات الهادفة

الفصل الرابع : جزاء الغادر

الفصل الرابع : حروب علنية بين المسلمين واليهود

١٦٥
١٦٦

الفصل الأول :

شخصيات وأحداث

١٦٧
١٦٨

تمهيد :

لقد لاحظنا الأحداث التي بين بدر وأحد ، فوجدناها تنقسم إلى قسمين :

أحدهما : يسير في الاتجاه الشخصي بحسب الظاهر ، بمعنى أنه يدور حول أحداث مرتبطة بشخصيات معينة ، ولكنها في نهاية المطاف لا بد أن تؤثر على الجو العام ، أو استفيد منها للتأثير فيه بنحو ، أو بآخر.

الثاني : الأحداث التي تصب في سير الاتجاه العام مباشرة ، كالحروب ، والاغتيالات ، ونقض العهود ، وما شاكل.

ونحن نتحدث عن كلا القسمين ، ونقدم الحديث عن القسم الأول فنقول : إن الحديث سوف يشمل البحوث التالية :

١ ـ وفاة رقية زوجة عثمان ، والملابسات التي اكتنفت ذلك.

٢ ـ زواج عثمان بأم كلثوم ، ربيبة النبي «صلى الله عليه وآله».

٣ ـ هجرة زينب ، ربيبة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وما يرتبط بذلك.

٤ ـ زواج أمير المؤمنين بالزهراء «عليهما السلام» : ظروفه وملابساته ، ومناقشة بعض ما يذكر في ذلك. ويدخل في ذلك :

ألف : البحث حول أسطورة زواجه «عليه السلام» ببنت أبي جهل.

١٦٩

باء : البحث حول تأريخ تحريم الخمر.

والبحث في موضوع زواج علي «عليه السلام» وتوابعه نفرده في فصل مستقل سيأتي إن شاء الله تعالى.

٥ ـ أم سلمة في بيت النبي «صلى الله عليه وآله».

٦ ـ زواجه «صلى الله عليه وآله» بحفصة.

٧ ـ زواجه «صلى الله عليه وآله» بزينب بنت خزيمة.

٨ ـ سر تعدد زوجاته «صلى الله عليه وآله».

٩ ـ ولادة الإمام الحسن «عليه السلام».

وتمر في خلال ذلك مناقشات لا بد منها لما قيل أو يقال ، مما لا مجال لتجاهله والتجاوز عنه ، فنقول :

١ ـ وفاة رقية :

قيل : إن رقية ربيبة النبي «صلى الله عليه وآله» قد توفيت في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة في شهر رمضان ، يوم النصر ببدر.

وقيل : بل إن زيد بن حارثة جاء بشيرا بالنصر في حين كان عثمان واقفا على قبرها يدفنها.

وقال النووي : إنها توفيت في ذي الحجة (١).

ونحن نرجح : أنها توفيت بعد رجوعه «صلى الله عليه وآله» من بدر ، وذلك استنادا إلى ما يلي :

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٠٦.

١٧٠

١ ـ إن رواية : أن عثمان تخلف عن بدر ليمرضها محل شك ، وذلك لما تقدم من تعيير عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود وغيرهما له بتخلفه عن بدر ، فكيف خفي عليهم عذره ، بل وفضله إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد ضرب له بسهمه وأجره كما يقولون.

هذا عدا عن الرواية التي تقول : إنه تخلف لأنه كان مريضا بالجدري.

وقد تقدم كل ذلك وسواه في وقعة بدر ، فلا نعيد.

٢ ـ لقد ذكر النووي : أنها توفيت في شهر ذي الحجة بعد بدر (١).

وذكر ابن قتيبة : أنها توفيت لسنة وعشرة أشهر وعشرين يوما من مقدمه «صلى الله عليه وآله» المدينة (٢).

وهذا معناه : أنها توفيت في شهر محرم. وهو يعضد ما ذكره النووي آنفا ، وإن كان هذا أكثر دقة وتحديدا.

٣ ـ لقد روى ابن سعد ، وغيره : أنه «صلى الله عليه وآله» قال حينما توفيت رقية : الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون ، فبكت النساء على رقية ، فجاء عمر بن الخطاب ، فجعل يضربهن إلى أن قال : فقعدت فاطمة على شفير القبر تبكي ، فجعل يمسح عن عينها بطرف ثوبه (٣).

وردّ الواقدي هذه الرواية : بأن رقية قد توفيت ، والنبي «صلى الله عليه

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٠٦.

(٢) ذخائر العقبى ص ١٦٣.

(٣) راجع : طبقات ابن سعد ج ٨ ص ٢٤ و٢٥ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤ ، ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٨٩٥ ، ومنحة المعبود في تلخيص مسند الطيالسي ج ١ ص ١٥٩ ، وليراجع قاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٣٩ عن الكافي.

١٧١

وآله» غائب في بدر ، فلعل المراد غير رقية ، أو أنه «صلى الله عليه وآله» أتى قبرها بعد قدومه ، وبكاء النساء عليها بعد ذلك (١).

ولكن هذا لا يمكن قبوله ، فإن الرواية الآنفة صحيحة السند ، ويعضدها ما تقدم وما سيأتي.

وردها استنادا إلى ما شاع من تمريض عثمان لها ، لأجل تأكيد ما استقر في نفوسهم من أنه «صلى الله عليه وآله» قد ضرب لعثمان بسهمه وأجره ، ليس بأولى من العكس ، مع وجود التهمة في مستندهم هذا ، كما تقدمت الإشارة إليه في وقعة بدر.

٤ ـ وقد جاء بسند صحيح على شرط مسلم ، عن أنس : لما ماتت رقية بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، قال «صلى الله عليه وآله» : لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة. فلم يدخل عثمان القبر (٢).

وفي لفظ آخر ذكره البخاري ، عن أنس ، قال : شهدنا دفن بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ورسول الله «صلى الله عليه وآله» جالس على القبر ، فرأيت عينيه تدمعان ، فقال : هل منكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة : أنا ، فنزل في قبرها (٣).

__________________

(١) راجع المصادر المتقدمة.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٧ ، وتلخيصه هامش نفس الصفحة للذهبي ، وسكت عنه ، وليراجع : الإستيعاب هامش الإصابة ج ٤ ص ٣٠١ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤ ، وفتح الباري ج ٣ ص ١٢٧ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٧٠ و٢٢٩ ، وعن تاريخ البخاري الأوسط ، والروض الأنف ج ٣ ص ١٢٧.

(٣) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ١ ص ١٥٢ و١٤٦ ، ومشكل الآثار ج ٣

١٧٢

وحكم جمع بأن ذكر رقية في الرواية وهم ، أو خطأ ، استنادا إلى ما تقدم من كون رقية قد توفيت ، والنبي «صلى الله عليه وآله» في بدر (١).

وجوابه كجواب سابقه. وليس هذا بأولى من العكس ، بل العكس هو المتيقن ، حسبما قدمنا آنفا ، وفي وقعة بدر.

والمراد بالمقارفة هنا : المجامعة ، كما جزم به ابن حزم وغيره.

كلام ابن بطال وغيره :

وقد علق ابن بطال على حديث المقارفة هذا بقوله : «أراد النبي «صلى الله عليه وآله» أن يحرم عثمان النزول في قبرها.

وقد كان أحق بها ؛ لأنه كان بعلها. وفقد منهم علقا لا عوض منه ؛ لأنه حين قال «عليه السلام» : «أيكم لم يقارف الليلة أهله» سكت عثمان ، ولم يقل :

__________________

ص ٢٠٢ و٢٠٤ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤ ، والإستيعاب بهامشها ج ٤ ص ٣٠١ ، والمعتصر من المختصر لمشكل الآثار ج ١ ص ١١٣ و١١٤ ، وسنن البيهقي ج ٤ ص ٥٣ ، ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٧ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ١٢٦ و٢٢٨ ، وذخائر العقبى ص ١٦٦ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٣ ص ٤١٤ ، وعن تاريخ البخاري.

(١) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ ص ٣٠١ ، ونهاية ابن الأثير ج ٤ ص ٤٦ ، وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ٢٦ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤ و٤٨٩ عن أبي عمر وابن سعد ، وعن البخاري ولكن قد رأينا أن البخاري لم يصرح بأنها أم كلثوم ، نعم قد ذكر الرواية في رقية في تاريخه ، ثم ناقشها بما ذكروه. والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٩٧ عن البخاري ، وفتح الباري ج ٣ ص ١٢٧ عنه و١٢٦ عن غيره ، والروض الأنف ج ٣ ص ١٢٧ ، وذخائر العقبى ص ١٦٦.

١٧٣

أنا ؛ لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ، ولم يشغله الهم بالمصيبة ، وانقطاع صهره من النبي «صلى الله عليه وآله» عن المقارفة ؛ فحرم بذلك ما كان حقا له ، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره ، وهذا بين في معنى الحديث.

ولعل النبي «صلى الله عليه وآله» قد كان علم ذلك بالوحي ؛ فلم يقل له شيئا ؛ لأنه فعل فعلا حلالا ، غير أن المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله ، حتى حرم ما حرم من ذلك ، بتعريض دون تصريح» (١).

وقال ابن حبيب : «إن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان : أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة ؛ فتلطف «صلى الله عليه وآله» في منعه النزول في قبر زوجته بغير تصريح» (٢).

وللعلامة الأميني ههنا كلام جيد ذكر فيه : أن النبي الداعي للستر على المؤمنين ، والداعي للإغضاء عن العيوب ، والناهي عن التجسس بنص القرآن العظيم عما يقع في الخلوات ، يخرج هنا عن سجيته ، ويخالف طريقته (٣) ، ويعرض بعثمان هذا التعريض الذي فضحه وحرمه مما هو حق له. الأمر الذي يدل على أن ما اقترفه عثمان كان أمرا عظيما ، لا مجرد كونه فعل أمرا حلالا ، ربما يكون قد اضطر إليه بسبب طول مرض زوجته ، كما قد يحلو للبعض (٤) أن يعتذر ؛ فإن ذلك لا يستدعي من النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) الروض الأنف للسهيلي ج ٣ ص ١٢٧ و١٢٨.

(٢) فتح الباري ج ٣ ص ١٢٧.

(٣) المراد : أن الشارع هو الذي أوجب على رسول الله أن يبادر للتصدي والمواجهة.

(٤) المصدر السابق.

١٧٤

وآله» أن يقف هذا الموقف الحازم (١). انتهى ملخصا.

ونقول :

لعل عثمان قد ارتكب في حق رقية ذنبا عظيما جدا لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا عنه ، بل نجد نصا في الكافي يقول : إن رقية لما قتلها عثمان ، وقف النبي «صلى الله عليه وآله» على قبرها ؛ فرفع رأسه إلى السماء ، فدمعت عيناه ، وقال للناس : إني ذكرت هذه وما لقيت ؛ فرققت لها ، واستوهبتها من ضمة القبر (٢).

ولعل مما يشير إلى ذلك ، ما رواه في تقريب أبي الصلاح ، عن تاريخ الثقفي : أن عثمان لما خطب ، وقال : ألست ختن النبي على ابنتيه؟

أجابته عائشة : بأنك كنت ختنه عليهما ، ولكن كان منك فيهما ما قد علمت (٣).

وبعد كل ما تقدم ، فهل يمكن أن نصدق : أنه «صلى الله عليه وآله» قال : إنه لو كان عنده ثالثة ، أو عشرة ، أو أربعون أو .. لكان زوجها لعثمان؟! (٤).

أكاذيب وأباطيل :

والأكاذيب والأباطيل ههنا كثيرة ، نشير منها إلى ما يلي :

١ ـ هناك رواية تقول : إنه بعد موت رقية ، رأى النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) الغدير ج ٨ ص ٢٣٣.

(٢) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٣٩.

(٣) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٤٠ عن تقريب ابن الصلاح.

(٤) راجع : الغدير ج ٨ ص ٢٣٣ و٢٣٤.

١٧٥

وآله» عثمان مهموما لهفان (أو أنه يبكي بكاء شديدا) ؛ فسأله «صلى الله عليه وآله» ؛ فقال : وهل دخل على أحد ما دخل عليّ؟.

ماتت ابنة رسول الله التي كانت عندي ، وانقطع ظهري ، وانقطع الصهر بيني وبينك ، فبينما هو يحاوره إذ قال النبي «صلى الله عليه وآله» : يا عثمان ، هذا جبريل «عليه السلام» يأمرني عن الله أن أزوجك أختها أم كلثوم ، على مثل صداقها ، وعلى مثل عشرتها ؛ فزوجه إياها (١).

عجيب!! أو ليس هذا النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه هو الذي حرم عثمان من الدخول في قبر رقية ؛ لأنه رفث إلى جارية في نفس ليلة وفاتها؟!

أو ليس عثمان هو الذي عيرته عائشة بأنه كان منه في رقية وأختها ما قد علم؟!.

أو ليس هو الذي قتل رقية ، حسبما جاء في رواية الكافي؟!.

٢ ـ ورواية أخرى مفادها : أن أبا هريرة دخل على رقية ، فأخبرته : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان عندها آنفا ، وسألها «صلى الله عليه وآله» كيف تجد عثمان ، فقالت : بخير.

قال : أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا (٢).

__________________

(١) راجع : مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٩ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٦١٢ و٦١٣ عن ابن المسيب ، وذخائر العقبى ص ١٦٥ و١٦٦ عن ابن عباس وأبي هريرة ، وقال : أخرجهما الفضائلي.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٨ ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٨١ ، وسيرة مغلطاي ص ١٦ و١٧ ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ ص ٤ عن الحاكم ، وابن عساكر.

١٧٦

ونحن لا نزيد هنا على ما قاله الحاكم ، وأيده الذهبي في تلخيصه : «هذا حديث صحيح الإسناد ، واهي المتن ، فإن رقية ماتت سنة ثلاث (١) من الهجرة عند فتح بدر ، وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر» (٢).

هذا مع غض النظر عن المناقشة الكبيرة في أن يكون عثمان من أشبه أصحابه به خلقا ؛ فإن المراجعة لسيرة عثمان وأخلاقه وسلوكه ، لا يمكن أن تؤيد هذا بوجه من الوجوه ، ونحيل القارئ إلى مورد واحد يكشف عن خلق عثمان ، وهو قضيته مع عمار بن ياسر حين بناء المسجد ..

هذا كله مع غض النظر عما ظهر منه أيام خلافته من أمور نقمها الصحابة عليه ، حتى انتهى بهم الأمر إلى أن قتلوه من أجلها.

وثمة روايات أخرى حول عثمان وزواجه برقية وأم كلثوم ، تعرض لها العلامة الأميني في الغدير ، فمن أرادها فليراجعها (٣). فإنه رحمه الله قد جاء بما هو كاف وشاف ، فجزاه الله خير جزاء وأوفاه.

كلمة أخيرة حول رقية وعثمان :

ويذكرون أخيرا : أن رقية كانت قبل عثمان متزوجة بابن أبي لهب ، وقد فارقته بالطلاق.

وثمة رواية تقول : إن المبادرة للطلاق كانت من جانب آل أبي لهب ،

__________________

(١) الصحيح : سنة اثنتين.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٨ ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة.

(٣) راجع : الغدير ج ٥ ص ٣٢٦ ، وج ٩ ص ٣٥١ و٣٥٢ و٣٠٣ و٣٧٢ و٣٧٤ ، وموارد أخرى لا مجال لذكرها.

١٧٧

انتقاما منها ومن أبيها ، لأنها صبت إلى دينه. وهذه الرواية هي المعروفة.

ولكننا نجد في مقابل ذلك ، رواية حسنة الإسناد تقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي طلب من عتبة طلاق رقية ؛ وسألته رقية ذلك ، فطلقها (١).

ونحن وإن كنا لا نستغرب خبث نفوس آل أبي لهب ، ولا يبعد أن تكون قد تعرضت عندهم للأذى ، ولربما يستفاد ذلك من طلبها هي الطلاق ، إلا أننا ربما نجد في هذه الرواية الثانية : دلالة على أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يسعى إلى أن لا يقر مسلمة مع مشرك ، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

ومهما يكن من أمر ، فإن عثمان قد تزوجها بعد طلاق ابن أبي لهب لها .. ويظهر أن ذلك كان في الإسلام ؛ كما تدل عليه الروايات المتقدمة (٢).

وإن كان البعض يحاول أن يدّعي أنه تزوجها في الجاهلية (٣) ولكن ما تقدم يدفعه.

ويدفعه أيضا أن ابن شهرآشوب يذكر : أن عثمان قد عاهد أبا بكر أن يسلم إذا زوجه النبي «صلى الله عليه وآله» رقية (٤) ، وكانت رقية ذات جمال

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢١٦ و٢١٧ عن الطبراني. قال الهيثمي : وفيه زهير بن العلاء ، ضعفه أبو حاتم ، ووثقه ابن حبان ، فالإسناد حسن.

(٢) راجع : ذخائر العقبى ص ١٦٢ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٩٧ عن الدولابي ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٠٦.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٧٥ عن الدولابي.

(٤) مناقب ابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٢.

١٧٨

رائع (١) ، ومن أحسن البشر (٢).

فلعل النبي «صلى الله عليه وآله» زوجه إياها تألفا له على الإسلام ، فأسلم.

ويكون معنى قولهم ـ وإن كان ذلك بعيدا ـ إنه كان قد تزوجها في الجاهلية : أنه تزوجها في جاهليته هو ، ثم أسلم ، وفاء بعهده لأبي بكر.

ولسوف يأتي بعض الكلام حول هذا أيضا ، حين الكلام عن زواج علي «عليه السلام» بفاطمة إن شاء الله.

٢ ـ زواج عثمان بأم كلثوم :

قال البعض : إن عثمان قد تزوج بأم كلثوم في ربيع الأول من سنة ثلاث ، وبنى بها في جمادى الآخرة (٣).

ولكن روي عن الصادق «عليه السلام» : أن أم كلثوم ماتت ولم يدخل بها عثمان (٤).

وكان أبو بكر وعمر قد خطبا أم كلثوم ، فلم يزوجهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٥) ، فلما ماتت رقية خطب عثمان حفصة بنت عمر ، فأبى عمر

__________________

(١) المواهب اللدنية ج ١ ص ١٩٧ ، وذخائر العقبى ص ١٦٢.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٧ ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ٤٨٩ ، والإستيعاب بهامشها ج ٤ ص ٤٨٧.

(٤) رجال المامقاني ج ٣ ص ٧٣ و٧٤ عن قرب الإسناد ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤٠٦ ، وقريب منه خبر الخصال كما في ص ٤٠٧ من القاموس للتستري.

(٥) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٩.

١٧٩

أن يزوجه ، فبلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فتزوج هو حفصة ، وزوج عثمان أم كلثوم (١).

وعن عائشة : أنه «صلى الله عليه وآله» جاء أم كلثوم بعد ثلاث ، فسألها عن زوجها ، فقالت : خير رجل.

فقال : أما إنه أشبه الناس بجدك إبراهيم ، وأبيك محمد.

ونقول : إنه عدا عن الرواية المتقدمة المروية عن الإمام الصادق «عليه السلام» ، التي ترفض أن يكون عثمان قد دخل بأم كلثوم ؛ فإنهم أيضا قد حكموا على خبر عائشة هذا بأنه : موضوع (٢).

هذا كله مع غض النظر عما تقدم ، من أن أخلاق عثمان لم تكن توافق أخلاق رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأن الصحابة إنما قتلوه لأجل ذلك.

وأما سؤال : إنه كيف يزوجه أم كلثوم وهو قد عرف سوء معاملته لرقية؟

فسيأتي جوابه حين الكلام على تعدد زوجاته «صلى الله عليه وآله». ولسوف يأتي إن شاء الله في أواخر غزوة أحد بعض ما يتعلق بمعاملة عثمان لأم كلثوم ، حين الكلام عن سبب وفاتها رحمها الله تعالى.

٣ ـ هجرة زينب ربيبة النبي صلّى الله عليه وآله :

إنه بعد شهر من وقعة بدر كانت هجرة زينب ربيبة النبي «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة. حيث أرسل «صلى الله عليه وآله» زيد بن حارثة ،

__________________

(١) ذخائر العقبى ص ١٦٥ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٩٧. وقال : أخرجه الخجندي.

(٢) لسان الميزان ج ٢.

١٨٠