الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)(١).

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)(٢).

وكذا قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا)(٣).

فإن هذا الطلب إنما يصح بعد فرض صحة المؤاخذة على النسيان والآيات في هذا المجال كثيرة ، ولا مجال لنقلها كلها.

كما أننا نجد بعض الآيات تنهى عن النسيان ، والنهي لا بد أن يكون عن أمر مقدور.

قال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)(٤).

وقال تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)(٥).

وإرادة الترك في الآيتين لا ينافي ما ذكرناه ، فإن المقصود به هو الترك عن نسيان ناشئ عن التساهل ، وعدم الاهتمام ، مع العلم بأن بإمكان المكلف أن لا ينسى ، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب ، وحينئذ فالعقاب على نسيان من هذا القبيل ليس قبيحا عقلا (٦).

ويقول البعض عن السهو : إنه «يمكن التحرز منه» (٧).

__________________

(١) الآية ٤٤ من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٤ من سورة السجدة.

(٣) الآية ٢٨٦ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٧٧ من سورة القصص.

(٥) الآية ٢٣٧ من سورة البقرة.

(٦) راجع : أوثق الوسائل ص ٢٦٢.

(٧) الدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١١٧.

١٢١

(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)

وقد نرى أن الله قد أشار إلى اختيارية النسيان حين قال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١).

فإن هذه الآية التي تتحدث عن نسيان آدم للميثاق الذي أخذ عليه قبل نشأته «عليه السلام» من الطين ، بالإقرار بالنبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم السلام» والمراد بالنسيان الترك أي أن النسيان ناشئ عن عدم القدرة على الإحتفاظ بالأمر ، بسبب عدم العلم به ، فإن من يعلم شيئا لا تصح عزيمته على الاحتفاظ به ، فوقع في النسيان بمقتضى هذه الآية الكريمة.

ودليل آخر على اختيارية النسيان وهو قوله «صلى الله عليه وآله» : رفع عن أمتي النسيان ، حيث إنه رفع امتنان وتسهيل. والرفع إنما يكون لما يقبل الجعل والوضع وهو المؤاخذة ، والمؤاخذة إنما تكون على أمر اختياري ومقدور ولو بواسطة القدرة على سببه ، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب كما قلنا.

العصمة في التبليغ وفي غيره :

وبعد ما تقدم نشير إلى أنه إذا ثبتت صفة العصمة له ، وتحققت فيه ، فلا يختص ذلك في مورد دون مورد ، لأن الملكة لا تتبعض ولا تتجزأ ، ولا يصح ما قالوه من أنه «صلى الله عليه وآله» معصوم في التبليغ فقط. وذلك ظاهر لا يخفى.

__________________

(١) الآية ١١٥ من سورة طه.

١٢٢

العصمة عن الذنب اختيارية أيضا :

سؤال يحتاج إلى جواب :

يعتقد المسلمون عموما (١) بعصمة جميع الأنبياء «صلوات الله عليهم» ، ويزيد شيعة أهل البيت «عليهم السلام» على ذلك : إعتقادهم بعصمة الأئمة الاثني عشر «عليهم السلام». وذلك لأنه يجب اتباعهم ، والاقتداء بهم ؛ ولا يعقل تجويز ذلك فضلا عن إيجابه ، إذا كانت المعاصي تصدر منهم ؛ لأن معنى ذلك هو تجويز ارتكاب المعاصي نفسها ، وهو غير معقول ، لأنها تخرج حينئذ عن كونها معاصي من جهة ، ولأن ذلك ينافي حكمة وسر إرسال الأنبياء «عليهم السلام» من الجهة الأخرى.

ولسنا هنا بصدد بيان التفاصيل الكاملة ، والبحث الشامل للأقوال المختلفة حول هذه القضية. وإنما نريد هنا ـ فقط ـ أن نجيب على السؤال التالي :

هل عصمة الأنبياء والأئمة «عليهم السلام» تعني : ـ كما يرى البعض ـ أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا الذنب ، ولا يقدرون على غير الطاعة ، فهم مجبرون على الطاعة ، مقهورون على الابتعاد عن المعاصي؟!.

وإذا كانوا مجبرين على ذلك ، فما هو وجه الفضل لهم؟!

ولماذا لم نجبر نحن على مثله؟!

__________________

(١) وإن كان بعضهم يناقش في عموم العصمة. ولكن الشيعة يعتقدون بعصمتهم «عليهم السلام» وتسديد الله تعالى لهم من حين ولادتهم إلى حين وفاتهم ، وليس في خصوص وقت النبوة.

١٢٣

ولماذا يعرضنا الله تعالى للوقوع فيما لا يرضى ، ثم يعاقبنا على ذلك بالعذاب في النار ، وحرماننا من الجنة؟!.

ثم إن من يكون مجبرا على الطاعة ، وعلى الابتعاد عن الذنب ، هل يحسن إثابته بالجنان ، وإبعاده عن العقاب والعذاب بالنيران؟!.

الجواب :

إن العصمة عن الوقوع في الذنوب والمعاصي اختيارية ، والكلام حول هذا يحتاج إلى شيء من التفصيل ، فنقول :

الإسلام والفطرة :

إن من يدرس تشريعات الإسلام ويتدبر تعاليم السماء ، يخرج بحقيقة قاطعة ؛ وهي : أن تلك التعاليم والتشريعات منسجمة كل الانسجام مع طبيعة الإنسان وفطرته ، لو لم تطغ على تلك الفطرة عوامل غريبة عنها وافدة عليها. حتى إنك لتجد بعض من عاش في الجاهلية ـ كجعفر بن أبي طالب ، على ما رواه عنه في الأمالي (١) وآخرين غيره ـ قد حرم على نفسه الكذب ، وشرب الخمر ، والزنى ، وعبادة الأوثان.

كما أن قيس بن الأسلت قد فارق الأوثان ، واغتسل من الجنابة ، وأمر بتطهر الحائض من النساء ، وأمر بصلة الرحم إلخ (٢). وعبد المطلب أيضا كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ،

__________________

(١) سيأتي في فصل : شخصيات وأحداث حين الحديث حول تحريم الخمر أسماء طائفة ممن حرموا الخمر على أنفسهم.

(٢) السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٩٠ و١٩١.

١٢٤

وينهاهم عن دنيئات الأمور ؛ وكان يعتقد بالآخرة ، ويوحد الله سبحانه ، وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها ، وجاءت بها السنة ، منها الوفاء بالنذر ، والمنع من نكاح المحارم ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤودة ، وتحريم الخمر ، والزنى ، وأن لا يطوف بالبيت عريان (١).

ولقد صرح القرآن ، وتعهد والتزم بأن يكون هذا الدين هو دين الفطرة ، بحيث لو ثبت منافاة أي من تشريعاته وتعاليمه لفطرة الإنسان لأمكن رفضه ، والحكم عليه بأنه غريب ودخيل ، وليس من تعاليم السماء في شيء. قال تعالى :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢).

وما ذلك إلا لأن الإنسان ـ على حد تعبير العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى ـ : «.. مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ، ورفع حوائجه ، وتهتف له بما ينفعه وما يضره في حياته.

قال تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٣).

فالدين الإسلامي هو ذلك النظام الذي يهدي الإنسان ويدله على ما فيه خيره وسعادته ، ويجنبه ما فيه شقاؤه وبلاؤه ؛ وهو يوافق ما ألهمه الله لنفس الإنسان ، وعرفها إياه ، وينسجم معه ؛ ويحتضن العقل ، ويحفظه ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٤ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج ١ ص ٢١.

(٢) الآية ٣٠ من سورة الروم.

(٣) الآية ٨ من سورة الشمس.

١٢٥

ويسدده من أن يزل أو أن يميل في إدراكاته وأحكامه ، نتيجة لطغيان الهوى ، أو تزيينات النفس لشهواتها حتى لقد قيل : العقل شرع من داخل ، والشرع عقل من خارج.

ولأجل ذلك نرى القرآن يعبر عمن لا يتبع الهدى ، ولا يسير على المنهاج القويم بقوله :

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(١).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(٢) صدق الله العلي العظيم.

فهو يعتبر أن من أطاع هواه ، واتبعه ، ولم يهتد بهدى العقل ، ولم يسمع الأوامر والزواجر الإلهية الموافقة لهدى العقل ـ يعتبره ـ كالأنعام ، التي تسيرها غريزتها وشهواتها ، ولا عقل لها تستنير بنوره ، وتهتدي بهديه ؛ ولا تنساق وراء شرع يرشدها إلى أحكام العقل.

بل لقد اعتبره أضل من الأنعام ، لأن الأنعام إذا تصرفت على خلاف مقتضيات العقل البشري ، كما لو افترست ، أو خربت ، أو أتلفت ، فإنها لا تلام ولا تحاسب ، لأنها إنما تصرفت بما يتوافق مع جبلتها وغريزتها وفطرتها ، وشهوتها ؛ لأن ذلك هو الذي يسيرها ، ويهيمن على سلوكها ؛ ولا

__________________

(١) الآية ٤٤ من سورة الفرقان.

(٢) الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.

١٢٦

عقل لها لتهتدي بهديه ، وتسترشد برشده. أما إذا تصرفت تصرفا عقلانيا أحيانا ، كما لو رأينا الذئب لا يعتدي على الشاة ، والسنور لا يلاحق الفأرة مثلا ، فلسوف نتعجب من ذلك ، ونتناقله في مجالسنا ، لأن ذلك على خلاف ما عهدناه من فطرته وجبلته ، وغريزته ، وإن لم يكن بدافع من عقله ، لأنه لا عقل له ، وإنما بسبب الدربة ، والعادة ، والإلف.

أما الإنسان ، فإنه لو ظلم ، أو كذب ، أو اغتاب ، أو أتلف ؛ أو فعل غير ذلك مما هو في غير مصلحته ، وعلى خلاف الدين ، والعقل ، فإنه يكون قد تصرف على خلاف مقتضيات فطرته وجبلته ، وانحرف عن مساره ، وخرج عن إنسانيته ، فهو إذن أضل من الأنعام.

أضف إلى ذلك : أننا حين نرى الأنعام لا تقتحم ما يضرها ، ونرى الإنسان لا يتورع عن اقتحام ما يضره ، ويهدم سعادته ، استجابة لشهوته وهواه ، وغريزته ، فلا بد أن نقول : إن الأنعام ـ ولا شك ـ أهدى منه وأرشد.

فاتضح مما تقدم : أن الإنسان مجبول على السعي إلى ما ينفعه ، والابتعاد عما يضره ، وأن أحكام الإسلام موافقة للفطرة وللطبيعة الإنسانية ، وأن ابتعاد الإنسان عما يضره ويشقيه ، وسعيه إلى ما فيه سعادته وراحته أمر فطري فيه ، لا يمكنه التخلف عنه ، ولا التخلص منه.

ولأجل ذلك نجد : أن الإنسان العاقل وإن لم يكن مؤمنا ـ نجده ـ بحكم فطرته لا يقدم على الأمور التي يقطع بضررها وفسادها ؛ فهو لا يقدم ـ مختارا ـ على شرب السم مثلا ؛ بل هو لا يتواجد في أمكنة يعلم أن تواجده فيها سوف يلحق به ضررا بالغا من نوع ما ؛ ولا يقدم على قتل

١٢٧

ولده ، أو ما شاكل ، إلا إذا قهر على ذلك وغلب عليه جسديا ، أو كان ثمة ما يهيمن على عقله ، كنوم أو غضب ، أو غير ذلك ، مما يمنع عقله من التأثير والفعالية ، ومن السيطرة على الموقف.

بل وحتى الطفل فإننا نراه يتجرأ على النار ، ولكنه بعد أن تؤلمه ، ويتيقن ذلك ، لا يقترب منها باختياره ، ألا أن تغلبه قدرة قاهرة ، أو يسيطر على عقله سلطان النوم ، أو أي سلطان قاهر آخر.

إذن فالبشر العقلاء ، حتى من لا يؤمن بالله منهم ، وحتى الأطفال ، معصومون عن شرب السم ، وعن الإلقاء بالنفس بالنار ، وعن كل ما يدركون إدراكا قاطعا ضرره ، وسوءه ؛ إلا إذا كان ثمة قوة قاهرة تغلب إرادتهم أو تزين لهم ، وتخدعهم ، أو تهيمن على عقولهم وتمنع من فعاليتها ، وتفقدها سيطرتها على الموقف.

عناصر لابد منها في العصمة :

وبالتأمل فيما تقدم يتضح : أن امتناع الطفل عن النار ، والعقلاء عن تناول السم ، يرتبط بالأمور التالية :

الأول : أن الإنسان مفطور على انتقاء ما يكرس راحته وسعادته وتكامله ، والابتعاد عما يوجب ضرره وبلاءه وشقاءه.

الثاني : إدراك واقع معين ، ثم تقييمه على ذلك الأساس بشكل قاطع ونهائي.

الثالث : قوة العقل ، وسيطرته على الموقف ، وتحكمه بكل القوى والدواعي النفسية والشهوية ، وقاهريته لها ، وتوجيهها إلى ما فيه خير

١٢٨

الإنسان وصلاحه وراحته وسعادته.

الرابع : الاختيار والإرادة ، وعدم التعرض للقهر الجسدي ، الذي ينتهي إلى سلب الاختيار منه ، وتعطيل إرادته.

فإذا تحققت هذه الأمور ، فإن الإنسان يكون معصوما عن الوقوع في ذلك الشيء الذي أدرك بشكل قاطع ضرره وبلاءه ، ويرى نفسه ملزما بالسعي نحو ما يوجب تكامله ورقيه وتأكيد إنسانيته.

ولا يمكن أن نتصوره بعد تكامل تلك العناصر المتقدمة فيه ، إلا أن يسير على النهج القويم ، والطريق المستقيم ، فاعلا لما أدرك خيره وصلاحه ، تاركا لما أدرك ضرره وبلاءه ، من كان ، ومهما كان.

وإذا كان الناس مختلفين في درجات إدراكهم ، سعة وعمقا ، وفي مستويات تفكيرهم ، وقوة وضعف سيطرة عقولهم على سائر القوى الباطنية الكامنة فيهم ، من الشهوات والغرائز ، ومختلفين من حيث نوعية المدركات أيضا ـ إذا كانوا كذلك ـ فإن من الطبيعي أن تكون درجات عصمتهم متفاوتة ، ومواردها مختلفة ، كل بحسب مدركاته ، وقناعاته ، وكفاءاته ، وقواه الكامنة فيه. ولذلك تجد العلماء في الأكثر أكثر التزاما من غيرهم ، بل ربما تجد من بينهم من لا تكاد تصدر منه أيه مخالفة طول حياته ، وذلك لكثرة مدركاتهم ، ولاختلاف نوعية ، وكيفية ، وعمق الإدراك لديهم ، بالنسبة إلى غيرهم.

بل إن الله قد أوجب على كل إنسان أن يكون معصوما ، وذلك لأنه قد كلف كل البشر بالطاعات كلها ، والاجتناب عن كل المعاصي ، وهذا التكليف يدل على أن بوسع كل مكلف أن لا يرتكب أية معصية أبدا ، لأن

١٢٩

القدرة شرط في صحة التكليف وإلا لكان عليه أن يستثني ، ويقول : اجتنبوا عن كل المعاصي إلا واحدة أو اثنتين مثلا ، لأنكم لا تقدرون عليها.

وهذا الاستثناء يخرج ذلك المورد عن أن يكون معصية من الأساس. وقد يكون أمثال سلمان الفارسي ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمار ، والشيخ المفيد ، والصدوق مثلا معصومين عن ارتكاب أية معصية أو مخالفة عن عمد وقصد.

نعم ، ربما يكون الفرق بين هؤلاء ، وبين النبي والإمام : أن النبي والإمام عليهم أفضل الصلاة والسلام لا تخطر في باله المعصية أصلا ، ولا يشتاق إليها ، لا نكشاف الواقع له ، ورؤيته مفسدته ومصلحته رأي العين ، هذا بالإضافة إلى أنه أوسع وأعمق معرفة بجلال وعظمة الله تعالى وملكوته وأشد إحساسا بحضور الله معه ، بخلاف سائر المكلفين ؛ فإنهم قد لا يعرفون علل كثير من الأحكام ، ولا اطلاع لهم على عظمة وجلال وملكوت الله بنسبة اطلاع الأئمة والأنبياء «عليهم السلام» ، فقد يشتاقون إلى بعض المعاصي ، ولكنهم يمتنعون عنها تعبدا وطاعة لله ليس إلا.

وخلاصة الأمر : أن مستويات الناس مختلفة ؛ فتختلف درجات التزامهم ، والعلماء عادة يكونون أكثر التزاما ؛ وإن كان ربما يوجد من بينهم من يضعف عقله أمام شهواته وغرائزه ، فيضعف التزامه ، وتقل نسبة معصوميته عنها في غيره ، وهؤلاء قليلون جدا بل ربما لا يوجدون في العلماء الحقيقيين ، ولذا نجد الله تعالى يتمدحهم بذلك فيقول : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(١).

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة فاطر.

١٣٠

التوضيح والتطبيق :

إن الأنبياء ، ثم الأئمة «عليهم السلام» ، بسبب التوفيقات والعنايات الإلهية وفوق كل ذلك بسبب الوحي والاتصال بالسماء ، وبسبب أنهم إنما انتقلوا من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة ، فلم يرثوا إلا الصفات الحميدة والكمالات الفريدة. نعم بسبب ذلك صاروا هم القمة في سعة إدراكهم لآثار ومناحي السلوك الإنساني ، والقمة أيضا في إدراك الواقع الذي يواجهونه ، وما يترتب عليه من آثار ونتائج ، إن سلبا وإن إيجابا على المدى البعيد والقريب على حد سواء ، إدراكا حقيقيا لا يقبل الشك ولا الترديد.

وهم القمة في الملكات والقوى الفكرية والنفسية الفاضلة ، وهم أحكم الناس حكمة ، وأعقلهم عقلا ، وأشجعهم شجاعة ، وأكمل الخلق ، وأفضلهم في كل الصفات الكريمة ، والأخلاق النبيلة العالية ، ولأنهم أيضا لا يمكن أن يشذوا عن مقتضيات الفطرة ، وسنن الجبلة الإنسانية. وحين يكون عقلهم من القوة بحيث لا تستطيع سائر القوى الباطنية من الشهوات والغرائز أن تخدعه ، وتسيطر عليه ، بل هو الأقوى دائما ، وهو الذي يتحكم بها ، وينظمها ، ويسيرها ، ويهيمن عليها.

فإذا كان الأنبياء والأئمة «عليهم السلام» كذلك ، فإنهم ـ ولا شك ـ سوف يكونون معصومين بحسب فطرتهم وجبلتهم عن الإقدام على أي ذنب أو عمل مشين ، كما لا يقدم الطفل على النار ، والعقلاء على تناول السم ، وعلى أي شيء يرونه مضرا بشخصيتهم ، وبوجودهم ، وبمصيرهم ، ومستقبلهم.

فكمال العقل إدراكه لما يضر وينفع ، وللحسن والقبح ، ومعرفته بالله

١٣١

سبحانه ، وعظمته وجلاله ، وإحاطته وقدرته ، وحكمته وتدبيره ، ثم معرفته بصدور الأمر والنهي ، مع عمق الإيمان لديه بالمعاد ، وبالعقاب والثواب.

نعم ، إن ذلك كله ، بالإضافة إلى ما قدمناه ، يجعل من الإقدام على فعل المعصية والقبيح أمرا غير متصور ولا مقبول لحصول المنافرة والمضادة بينه وبينها ، ولأجل ذلك فإننا إذا عرفنا شخصا ووقفنا على كل حالاته ، وملكاته ، وقدراته ، وأفكاره ، وطموحاته ، فإننا لا نصدق عليه ما ينسب إليه من أفعال لا تتناسب مع ما عرفناه عنه. وكلما تأكد لدينا رسوخ ذلك في نفسه ، وفي فكره ، واطلعنا على مستوى قدراته ؛ فإن تصديقنا بصدور ما لا ينسجم مع ذلك يصبح أبعد وأصعب.

وبعدما تقدم ، فإنه إذا كان الإنسان في صدد الابتعاد عن القبيح ، والالتزام بالحسن ؛ فإن التوفيقات الإلهية ، والعنايات الربانية سوف تشمله. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(١) ، (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(٢) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)(٣).

ولسوف يختار الله من هؤلاء الثلة أكملهم عقلا ، وأفضلهم نفسا ، وأجمعهم لخصال الخير والكمال ، ولكن علمه تعالى بهم ، واختياره لهم ليس فيه جبر لهم على أي شيء من فعل أو قول كما هو واضح.

وعليه ؛ فلا يلزم من العصمة الجبر والقهر ، بحيث يكون المعصوم غير

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة الحج.

(٢) الآية ٢٩ من سورة الأنفال.

(٣) الآية ١٧ من سورة محمد.

١٣٢

قادر على فعل المعصية تكوينا ، بل هي بمعنى أنها لا تصدر منه ، وعلى حسب التعبير العلمي : إنه لا يكون فيه مقتضي للمعصية ، ولا توجد فيه علتها المؤثرة ، بل لا يخطر في باله ارتكابها أصلا ، فيستحيل صدورها منه بهذا المعنى ليس إلا.

وهذا كما نقول : يستحيل أن يرمي الطفل نفسه في النار فإنه ليس بمعنى أنه لا يمكنه ذلك ، لأن ذلك مقدور له بالبداهة ؛ ولكن بمعنى أنه لا يفعل ذلك ولا يقدم عليه أصلا.

وكما نقول : يستحيل أن يصدر الظلم من الله ، ولا نقصد : أنه لا يقدر عليه ، إذ لا شك في أن الله تعالى يقدر على تعذيب أطوع الناس له.

وإنما نقصد أنه لا يفعله ؛ لأنه ينافي حكمته ، ولا ينسجم ولا يليق بشأنه وذاته تعالى شأنه.

وبعد كل ما تقدم ، فإن اختيار الله لبعض عباده ، وإظهار المعجزة على يده ، يكشف لنا عن أكمليته وعن عصمته ، إذ لا يعقل أن يختار الله لقيادة الأمة وهدايتها من تصدر منه الذنوب والمعاصي ، حسبما أشرنا إليه.

أفضل الخلق محمد صلّى الله عليه وآله :

ومما قدمناه نستطيع أن نفهم لماذا كان نبينا «صلوات الله وسلامه عليه» أفضل الخلق أجمعين ، حتى الأنبياء والمرسلين ؛ فإنه ، وإن كان الكل معصومين عن الذنوب ، وكلهم كان يدرك آثار الذنوب وعواقبها وآثارها ، ولهم معرفة واطلاع على جلال وعظمة وملكوت الله تعالى أكثر من غيرهم ، ولكن نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» كان أكثر عمقا وأصالة في إدراكه

١٣٣

لتلك الآثار ، وأبعادها ، وانعكاساتها على كل الأجيال ، في مختلف الآجال ، وعلى ذلك الجلال اللامتناهي ، والعظمة التي لا تقاس.

وما ذلك إلا لأنه كان الرجل الأكمل والأفضل والأول في كل شيء : في عقله ، في حكمته ، في عمق إدراكه ، في شجاعته ، في كرمه ، في حلمه ، في كل صفاته الحميدة التي هي صفات الإنسان الأول والمثال والقدوة.

إذا ، فيكون هو الأفضل من الكل ، لأن عصمته أكثر عمقا وأصالة ، وأبعد أثرا ، وأوسع أفقا. وعلى ذلك فهو أكثر تفاعلا وانسجاما مع الله في عباداته ، وأشد خشية له تعالى.

علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل :

كما أننا حين نواجه الحديث القائل : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (١) ، لا نستطيع أن نعتبره ناظرا إلى هؤلاء العلماء الذين نعرفهم ونعيش معهم ، والذين لا يمتنع أو فقل : يحتمل أن تصدر منهم بعض الهفوات ، ويرتكبوا بعض الصغائر ، إذ من غير المعقول أن يكون هذا الرجل الذي يحتمل في حقه أن يذنب ، مثل ذلك المعصوم ، الذي لا يحتمل في حقه ذلك ولا يصدر منه ، أو لا يخطر بباله الذنب أصلا.

وتوجيه ذلك بأن المراد : أنهم مثلهم من حيث المعرفة والعلم وسعة

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٢ وغوالي اللآلي ج ٤ ص ٧٧ والتحرير للعلامة الحلي ص ٣ للعلامة الحلي ص ٣ ومستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٢٠ والصراط المستقيم ج ١ ص ٢١٣ وراجع ص ١٣١ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٤١٣ ومنية المريد ص ١٨٢ وراجع اوائل المقالات ص ١٧٨.

١٣٤

الأفق ، لأنهم اطلعوا على ما لم يطلع عليه أولئك الأنبياء من أنواع المعارف الدينية ، والتاريخية وغيرها.

هذا التوجيه لا ينسجم مع منطق القرآن ، الذي يجعل ملاك الموازنة ، ثم التفاضل هو التقوى والعمل الصالح : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١).

وفي الحديث القدسي ما معناه : «لأدخلن الجنة من أطاعني ولو كان عبدا حبشيا ، ولأدخلن النار من عصاني ولو كان سيدا قرشيا».

فلا بد أن يكون المقصود بالعلماء الذين هم مثل أنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم ، أناسا معصومين كأولئك الأنبياء ، ويزيدون عليهم بإدراكهم ورؤيتهم رأي العين أثر كل حركة ، وكل تصرف على الأجيال وعلى الأمة. هذا مع كونهم قد عاصروا ، وعرفوا ، واطلعوا على تواريخ وعقائد وتحولات عصور وأمم ، وواجهوا ظروفا ومشاكل مختلفة ، تزيد على ما واجهه ، وعرفه أنبياء بني إسرائيل. بالإضافة إلى أنهم يملكون الطاقات والقدرات الهائلة التي تؤهلهم لاستيعاب كل المعارف ، وكل الأحداث وإدراكها ، والتفاعل معها ، ومعرفة أبعادها وآثارها ، مهما دقت أو جلت ، قربت أو بعدت ، ولتصير عصمتهم أكثر عمقا وأصالة ، وأكثر دقة ، وأبعد أثرا ، حسبما فصلناه.

ولم نجد في التاريخ أناسا من هذا القبيل ألا أولئك الذين جعلهم الرسول «صلى الله عليه وآله» أحد الثقلين ، وعدلا للكتاب العزيز ؛ وأوجب على الأمة التمسك بهم ، والاهتداء بهديهم ، والائتمار بأوامرهم ،

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

١٣٥

والانزجار بزواجرهم. الأمر الذي كشف لنا عن عصمتهم ، وهم الأئمة الاثنا عشر ، الذين أولهم أمير المؤمنين علي ، وآخرهم المهدي «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

وأما حديث «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل» ، فلعل المقصود به : أنهم مثلهم في حفظ الشريعة ، والوحي والدين ، فإنهم أمناء الله تعالى في أرضه ، وحجته في بلاده على عباده (١).

__________________

(١) راجع : الصراط المستقيم ج ١ ص ١٣١.

١٣٦

الفصل الرابع :

الخمس بين السياسة والتشريع

١٣٧
١٣٨

الخمس :

كنت قد وعدت القارئ الكريم بإيراد بعض التوضيحات حول تشريع الخمس في عهد الرسول «صلى الله عليه وآله» ، وحيث إن العلامة البحاثة الشيخ علي الأحمدي دام تأييده قد تصدى لبحث هذا الموضوع ، فنحن سوف نستفيد قدر الإمكان مما أورده ومع زيادات ، وإضافات في المتون والمصادر ، والمراجع بحسب ما رأينا أنه يناسب المقام ، فنقول :

قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(١).

معنى الغنيمة :

يرى علماء بعض فرق المسلمين : أن الغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار في ميدان الحرب والقتال.

ويرى الشيعة تبعا لأئمتهم «عليهم السلام» : أنها ـ كما فسرها اللغويون ـ هي مطلق المال المأخوذ بلا بدل.

قال اللغويون : الغنم : الفوز بالشيء من دون مشقة. وغنم الشيء ، فاز

__________________

(١) الآية ٤١ من سورة الأنفال.

١٣٩

به. والاغتنام : إنتهاز الفرصة. وغنم الشيء غنما : فاز به بلا مشقة ، وناله بلا بدل.

وعند الراغب : أن الغنم إصابة الشيء والظفر به ؛ ثم استعمل في كل مظفور به (١). هذا ما ذكره اللغويون في المقام.

وإذا راجعنا استعمالات كلمة «غنم» في الأحاديث ، والخطب ، فسوف نجد : أنها تستعمل في مطلق الحصول على الشيء. وحسبك شاهدا على ذلك قول علي «عليه السلام» : «من أخذ بها لحق وغنم» (٢). و «يرى الغنم مغرما والغرم مغنما» (٣) و «اغتنم من استقرضك» (٤) و «الطاعة غنيمة الأكياس» (٥).

وفي الحديث : «الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه» (٦) و «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» (٧).

وقال تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ)(٨).

__________________

(١) راجع : لسان العرب ، وأقرب الموارد ، ومفردات الراغب ، والقاموس ، ونهاية ابن الأثير ، ومعجم مقاييس اللغة ، وتفسير الرازي ، وغير ذلك من كتب اللغة.

(٢) نهج البلاغة الخطبة رقم ١١٨.

(٣) المصدر ، الحكمة رقم ١٥٠.

(٤) المصدر ، الكتاب رقم ٣١.

(٥) المصدر ، الحكمة رقم ٣٣١.

(٦) نهاية ابن الأثير مادة «غنم».

(٧) نفس المصدر.

(٨) الآية ٩٤ من سورة النساء.

١٤٠