الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

حنين ، والزبير يوم الخندق ، ومحمد بن مسلمة يوم أحد ، والمغيرة يوم الحديبية ، وأبي أيوب الأنصاري ببعض طريق خيبر. وقد استمرت هذه الحراسة إلى أن نزل قوله تعالى في حجة الوداع : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١) ، فترك الحرس. هذا كله على فرض تسليم حراسة أبي بكر له (٢).

وما تقدم وإن كان ربما يكون للنقاش في بعضه مجال ، إلا أن السمهودي قال وهو يتحدث عن «أسطوان المحرس» :

«قال يحيى : حدثنا موسى بن سلمة ، قال : سألت جعفر بن عبد الله بن الحسين عن أسطوان علي بن أبي طالب ، فقال : إن هذه المحرس ، كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلي القبر ، مما يلي باب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، يحرس النبي صلى الله عليه وآله» (٣).

٣ ـ ويقول الأميني أيضا : إنه لو كان حديث سيف أبي بكر في حراسته للنبي «صلى الله عليه وآله» صحيحا ، لكان أبو بكر أولى وأحق بنزول القرآن في حقه من علي ، وحمزة ، وعبيدة ، الذين نزل فيهم : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)(٤) الآية.

وقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(٥).

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

(٢) الغدير ج ٧ ص ٢٠٢. ونقل ما ذكر عن : عيون الأثر ج ٢ ص ٣١٦ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٣٨٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣٤ ، وشرح المواهب للزرقاني ج ٣ ص ٢٠٤.

(٣) وفاء الوفاء ج ١ ص ٤٤٨.

(٤) الآية ١٩ من سورة الحج.

(٥) الآية ٢٣ من سورة الأحزاب.

١٠١

ولكان أحق من علي بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)(١) ، وغير ذلك من الآيات.

وكان حقا على رضوان الذي نادى يوم بدر :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

أن ينوه باسم أبي بكر وسيفه المشهور على رأس رسول الله ، حيث لم يجرؤ أحد سواه على القيام بذلك ، وبه حفظ رسول الله والدين (٢).

ج : أبو بكر في ساحة الحرب :

قولهم : إنه كان في العريش ينافيه :

١ ـ قولهم الآخر : إنه كان على الميمنة ، أو في الميمنة ، يوم بدر (٣).

٢ ـ وينافيه قولهم إن ولده عبد الرحمن قال له : يا أبت لقد أهدفت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك (٤).

٣ ـ وينافيه أيضا قولهم : إن عبد الرحمن دعا يوم بدر إلى البراز ، فقام إليه والده أبو بكر ليبارزه ، فقال له الرسول : متعنا بنفسك (٥). وقد تقدم

__________________

(١) الآية ٦٢ من سورة الأنفال.

(٢) راجع : الغدير ج ٢ ص ٤٦ ـ ٥١ ، وج ٧ ص ٢٠٢ و٢٠٣ بتصرف.

(٣) مغازي الواقدي ج ١ ص ٥٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٧٥.

(٤) الروض الأنف ج ٣ ص ٦٤ ، وفي مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٧٥ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٣٣٢ و٣٣٣ عن الكنز ج ٥ ص ٣٧٤ : أن ذلك كان يوم بدر.

(٥) سنن البيهقي ج ٨ ص ١٨٦ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٣٣٢ و٣٣٣ عن الحاكم عن الواقدي.

١٠٢

تعليق الإسكافي على هذه القضية. وستأتي أيضا في واقعة أحد إن شاء الله تعالى.

د : حرب الناكثين والقاسطين :

وأما عن إخبار النبي «صلى الله عليه وآله» لأمير المؤمنين «عليه السلام» بمحاربته للناكثين والقاسطين ، وبقتل ابن ملجم له ؛ فهو مع خصمه كالنائم على فراشه كما يدعون ، فلا يفيدهم شيئا ، ونكتفي هنا بتسجيل النقاط التالية :

١ ـ إن الإسكافي يقول : إن إخباره «صلى الله عليه وآله» إياه بقتال الناكثين والقاسطين إنما كان بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، ووضعت الجزية ، ودان العرب قاطبة له (١).

٢ ـ وأما إخباره «صلى الله عليه وآله» بأنه سوف يستشهد على يد ابن ملجم ، فإنما قال له ذلك في غزوة العشيرة ، حينما كناه بأبي تراب : إن أشقى الأولين والآخرين يخضب لحيته من رأسه ، لكنه لم يعين له وقت ذلك ، فلعله بعد شهر ، ولعله بعد سنوات.

٣ ـ إن من الممكن أن يحصل البداء في هذا الأمر ، على اعتبار : أن الإخبار إنما كان عن تحقق المقتضي ، من دون تعرض للموانع.

٤ ـ ولو سلمنا ذلك ، فكيف يكون كالنائم على فراشه ، مع أنه يمكن أن يتعرض بل تعرض بالفعل للجراح الكثيرة في أحد وغيرها بالإضافة إلى إمكانية تعرضه «عليه السلام» لكسر ، أو لقطع بعض أعضائه؟

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٨٧.

١٠٣

فهل تأكد لدى هؤلاء : أنه كان في مأمن من كل ذلك ، حتى أصبح عندهم مع خصمه كالنائم على فراشه؟!. ولماذا كان المسلمون يتمدحون شجاعته ، ويقرضها الله ورسوله في غير مقام ، كما في خيبر وأحد وبدر وغيرها. ولماذا يعتبرونها امتيازا له ، ومن أسباب فضله وعظمته عندهم؟ فلو كان ذلك صحيحا لكان الكل أشجع من علي حتى النساء.

٥ ـ إنهم يروون : أنه «صلى الله عليه وآله» قال للزبير : إنه سيقاتل عليا وهو له ظالم ، ونزل في حق طلحة قوله تعالى :

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ)(١).

ويروون أيضا قصة أحجار الخلافة التي يدّعون : أن أبا بكر كان في المقدمة فيها ، وغير ذلك من الروايات الكثيرة جدا في حق كثير من الصحابة.

كما أن النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه كان يعلم : بأن هذا الدين سيظهر ؛ ولسوف يدخل «صلى الله عليه وآله» مكة ظافرا ، وسيحصل المسلمون على كنوز كسرى وقيصر. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه. فهل بطل بذلك جهادهم؟! وذهب فضلهم ، وتقلصت شجاعتهم؟!

ه : حرب مانعي الزكاة :

وأما حرب أبي بكر لمانعي الزكاة ، فلم يكن بنفسه ، وإنما بغيره ، ومن أجل الحفاظ على مكانته وموقعه في الحكم. وذلك لأنهم أنكروا عليه

__________________

(١) الآية ٥٣ من سورة الأحزاب.

١٠٤

تصديه للخلافة ، وأخذه ما ليس له بحق ، وكذلك كان الحال في قتال من أطلقوا عليهم كلمة «أهل الردة».

وواضح : أن العناد في الرأي لا يدل على الشجاعة في القتال. فربما تجد الجبان يصر على رأيه الذي سوف ينفذه غيره أكثر من الشجاع.

و : ثباته حين وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله :

وأما عن ثباته حين وفاته «صلى الله عليه وآله» ، فنشير إلى ما يلي :

١ ـ يقول العلامة الأميني رحمه الله تعالى : إنه إذا كان الميزان في الشجاعة هو ما ذكر من ثباته عند موته «صلى الله عليه وآله» ، فإن أبا بكر يكون أشجع من النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه ، فإنه لم يثبت عند موت جماعة عاديين ، كعثمان بن مظعون ، حين قبله وهو يبكي ، وله شهيق ، والدموع تتحادر على خديه (١).

وعثمان أيضا كان أشجع من النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ لأن موت زوجته ، ابنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يمنعه عن مقارفة النساء ليلة وفاتها ، وكان «صلى الله عليه وآله» يبكي على ابنته (٢).

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢١٤ عن : سنن البيهقي ج ٣ ص ٤٠٦ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ١٠٥ ، والإستيعاب ج ٢ ص ٤٩٥ ، وأسد الغابة ج ٣ ص ٣٨٧ ، والإصابة ج ٢ ص ٤٦٤ ، وسنن أبي داود ج ٢ ص ٥٨ ، وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٨١. وثمة مصادر أخرى ذكرها العلامة الأحمدي في كتابه : التبرك ص ٣٥٥ فراجع.

(٢) الغدير ج ٢ ص ٢١٤ وج ٣ ص ٢٤ عن : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٤ ، ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٧ ، والإستيعاب ج ٢ ص ٧٤٨ ، وصححه ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤ و٤٨٩.

١٠٥

٢ ـ إن ما ذكروه من تخبيل عمر ، وإخراس عثمان ، وإقعاد علي الخ .. إن صح ، كان مانعا عن خلافتهم ـ على حد قول دحلان ـ لأنهم ما كان لهم تلك الشجاعة والثبات في الأمران ، اللذان هما الأهمان في أمر الإمامة ، فكيف قبلوا بخلافتهم ، وهم فاقدون لأهم أمر يحتاج إليه في الإمامة؟. وعن إقعاد علي «عليه السلام» نقول :

كيف؟ وقد قضى النبي «صلى الله عليه وآله» في حجره ، وهو الذي تولى غسله ، وكفنه ، ودفنه دونهم ، فنراه ما قعد عن ذلك ، ولا تقاعس عنه.

٣ ـ إن ما ذكر من ثبات أبي بكر حين موته «صلى الله عليه وآله» ، إنما يكون دليلا لو كان لموت النبي «صلى الله عليه وآله» أثر عليه ، وهو قد تحمل ذلك الأثر ، وقاوم تلك الصدمة.

مع أننا نجد أمير المؤمنين «عليه السلام» يواجهه بحقيقة : أن موت النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعنيه ، حتى اضطر أبو بكر إلى الاستشهاد بالناس على حزنه على النبي «صلى الله عليه وآله» (١).

وعلى كل حال ؛ فإن ما ذكروه لإثبات أشجعية أبي بكر لا يفيد شيئا في إثباتها ، ولا يسمن ولا يغني من جوع.

__________________

(١) حياة الصحابة ج ٢ ص ٨٤ ، وكنز العمال ج ٧ ص ١٥٩ عن ابن سعد.

١٠٦

الفصل الثالث :

ذو الشمالين ، وسهو النبي صلّى الله عليه وآله

١٠٧
١٠٨

ذو الشمالين :

قد تقدم أن ذا الشمالين قد استشهد في بدر.

ولكن ثمة رواية تنافي ذلك ، وملخصها : أن أبا هريرة ادعى ؛ أنه حضر مع النبي «صلى الله عليه وآله» يصلي الظهر أو العصر ؛ فسلم الرسول «صلى الله عليه وآله» في ركعتين ، فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو ، وكان حليفا لبني زهرة : أخففت ـ أو أقصرت ـ الصلاة أم نسيت؟

فقال «صلى الله عليه وآله» : ما يقول ذو اليدين؟.

قالوا : صدق يا نبي الله.

فأتم بهم الركعتين اللتين نقص.

وللرواية نصوص أخرى مختلفة ، ففي بعضها : أنه «صلى الله عليه وآله» أجاب ذا اليدين بقوله : كل ذلك لم يكن.

وفي بعضها : أنه «صلى الله عليه وآله» وقف متكئا على خشبة المسجد مغضبا ، وخرج سرعان من الناس يخبرون بقصر الصلاة.

وفي بعضها : أنه «صلى الله عليه وآله» قام يمشي ، فلحقه أبو بكر وعمر

١٠٩

وذو اليدين (١).

وفي بعض الروايات : صلى بهم الصبح ركعة ، فلما أخبره ذو الشمالين بذلك أخذ بيده يطوف به بين الصفوف ، يسألهم. ثم صلى «صلى الله عليه وآله» بالناس ركعة واحدة وسجد سجدتي السهو ، ثم سلم.

وفي الصحيحين : أنه لما اعترض الخرباق عليه «صلى الله عليه وآله» بذلك ، وشهد بعض الصحابة بصحة الاعتراض ، قام «صلى الله عليه وآله» غضبان يجر رداءه ، فدخل الحجرة ، ثم خرج عليهم ، ثم صلى ركعتين فسلم ، وسجد سجدتين. وكان ذلك في صلاة الظهر أو العصر.

وعند البزار : أنه بعد أن أتم النبي «صلى الله عليه وآله» صلاته ، دخل على بعض نسائه ، فلحقه ذو اليدين ، فسأله إن كانت الصلاة قصرت أم لا ، فأخذ بيده ، فخرج إلى القوم الذين كانوا صلوا معه ، فسألهم ، فأجابوه حسبما تقدم.

وقد وردت هذه الرواية في كتب الشيعة بأسانيد صحاح أيضا.

__________________

(١) صحيح البخاري الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو في الصلاة ، وصحيح مسلم في أبواب السهو ، وفتح الباري ج ٣ ص ٧٧ حتى ص ٨٣ ، والبخاري بهامشه ، ومصنف الحافظ عبد الرزاق ج ٢ ص ٢٩٦ و٢٩٧ و٢٩٩ ، ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٧١ و٢٨٤ و٢٣٤ ، وموطأ مالك ج ١ ص ١١٥ ، ونقل عن كنز العمال ج ٤ ص ٢١٥ و٢١٤ عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ١٨٦ ، والإستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ٤٩١ / ٤٩٢ ، والإصابة ج ١ ص ٤٨٩ و٤٢٩ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١٤٦ ، وسنن البيهقي ج ٢ ص ٢٣١ ، وسنن النسائي باب ما يفعل من سلم من الركعتين ناسيا وتكلم وغير ذلك.

١١٠

وقد رواها سماعة بن مهران ، والحسن بن صدقة ، وسعيد الأعرج ، وجميل بن دراج ، وأبو بصير ، وزيد الشحام ، وأبو سعيد القماط ، وأبو بكر الحضرمي ، والحرث بن المغيرة.

ونقول :

أولا : الروايات مضطربة ، وغير متوافقة ، كما يعلم بالمراجعة إلى مصادرها والمقارنة فيما بينها. ومعنى ذلك هو أنها لا يمكن أن تكون كلها صحيحة.

وثانيا : قال النووي بعد أن ذكر بعض نصوص الرواية : «وأشباه هذه الألفاظ المصرحة بأن أبا هريرة حضر القصة ، وهو مسلم. وقد اجتمعوا على أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر ، سنة سبع من الهجرة ، بعد بدر بسبع سنين.

وكان الزهري يقول : إن ذا اليدين هو ذو الشمالين ، وإنه قتل ببدر ، وإن قصته في الصلاة كانت قبل بدر الخ ..» (١).

أضف إلى ذلك : أن شعيب بن مطير قد أخبر عن أبيه : أنه التقى بذي اليدين وحدثه بما جرى في صلاة النبي «صلى الله عليه وآله» ، مع أن مطيرا متأخر جدا ولم يدرك زمن النبي «صلى الله عليه وآله» (٢).

وقد صرح بأن ذا اليدين هو ذو الشمالين في رواية وردت عن الإمام

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ١٨٦ ، وراجع : الدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١٠٩ ، وحول قتل ذي الشمالين في بدر راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١١٩.

(٢) راجع تهذيب الأسماء ج ١ هامش ص ١٨٦.

١١١

الصادق «عليه السلام» (١).

وكذا ورد في مصادر أخرى (٢). كما أن بعض الروايات الأخرى قد جمعت بين اللقبين (٣) فراجع.

وعليه ، فحكم صاحب الإستيعاب وغيره على القول باتحادهما أنه غلط ؛ إستنادا إلى رواية أبي هريرة المتقدمة (٤).

في غير محله ، بل العكس هو الصحيح : أي أن الظاهر : هو أن أبا هريرة هو الذي تصرف في الرواية ، وجعل نفسه مع الحاضرين لتلك الصلاة.

وأما رواية عمران بن الحصين ، الدالة على أن ذا اليدين هو الخرباق ، فلا تنافي ما ذكرناه ، إذ يجوز أن يكون الخرباق لقبا لذي الشمالين.

ووصفهم : الخرباق بالسلمي لا يضر ؛ لأن سليما كان أحد أجداد ذي

__________________

(١) الكافي للكليني ج ٣ ص ٣٥٧ ، والوسائل ج ٥ ص ٣١١ ، والدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١٠٩ و١١٠.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ قسم ١ ص ١١٨ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٨٥.

(٣) هي رواية مسند أحمد ، وكنز العمال عن عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٢٩٦ و٢٧١ و٢٧٤ و٢٩٧ و٢٩٩ ، وراجع إرشاد الساري ج ٣ ص ٢٦٧ ونقل قول الجوهري باتحادهما. في الإستيعاب في ترجمة ذي اليدين ، وكذا في الطبري ، وشرح موطأ مالك للسيوطي ، وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ١٨٦ ، وغير ذلك.

(٤) الإستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ٤٩١ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١٤٢ و١٤٥ و١٤٦ ، وراجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٨٥ عن التوشيح والإرشاد والفتح وغيرهم من شروح البخاري.

١١٢

اليدين أو ذي الشمالين (١).

وقد صرح ابن قتيبة باتحادهما ، وقال : وقد يقال : إن اسمه الخرباق.

في القاموس : «ذو اليدين الخرباق» (٢).

وثالثا : إن الروايات التي بين أيدينا تذكر أحداثا وتصرفات للنبي «صلى الله عليه وآله» تؤدي إلى أن تنمحي صورة الصلاة ؛ ومن المقطوع به : أن محو صورة الصلاة يوجب بطلانها ؛ لا سيما إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد استقبل الناس بوجهه ـ كما في بعض الروايات ـ فإن استدبار القبلة ، ولو ساهيا مبطل للصلاة.

لكن رواية الكليني قد صرحت : بأنه «صلى الله عليه وآله» ما برح من مجلسه (٣).

هذا كله لو قلنا : إن الكلام الاختياري لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة أيضا.

ورابعا : كيف قال «صلى الله عليه وآله» : كل ذلك لم يكن؟! فإنه إذا كان يجوز على نفسه السهو ، كان الأنسب أن يقول : ظني أن ذلك لم يكن.

إلا أن يقال : إنه إنما أخبر عن اعتقاده ، حيث إنه كان جازما بعدم وقوع السهو. وخطاب ذي اليدين له لم يوجب أي شبهة لديه ، بل بقي جازما مصرا على موقفه ، إلا أنه لما رأى إصرار ذي اليدين عاد وشك في الأمر.

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ قسم ١ ص ١١٨ ، والإصابة ج ١ ص ٤٨٩ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١٤١ و١٤٥.

(٢) راجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٨٥.

(٣) الكافي ج ٣ ص ٣٥٦.

١١٣

وخامسا : لماذا قام غضبان يجر رداءه؟

فهل غضب من قول ذي اليدين؟

فإن كان لأجل أنهم واجهوه بالحقيقة فهو لا يليق بشأنه «صلى الله عليه وآله» ، وإن كان لأجل أنه رآهم قد افتروا عليه ، واتفقوا على تكذيبه ، ونسبة ما لا يليق به إليه ، فلماذا عاد وأتم الصلاة بهم ، وسجد سجدتي السهو؟!

سادسا : لم نفهم كيف صحت الصلاة التي دخل في أثنائها إلى الحجرة ثم عاد ، ونحو ذلك.

روايات السهو عند الشيعة :

وأخيرا ، فإن الروايات عن أهل البيت في هذا الموضوع عديدة ، ومنها خمس معتبرات من حيث السند ، لكن ليس فيها ما يوجب الإشكال بما تقدم ، وقد كتب التستري رسالة في هذا الموضوع طبعت في أواخر ج ١١ من كتاب قاموس الرجال ، فليراجعها من أراد.

ولكن قد روى الشيخ في التهذيب عن زرارة قال : سألت أبا جعفر «عليه السلام» : هل سجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» سجدتي السهو قط؟

فقال : لا ، ولا يسجدهما فقيه.

ثم روى أحاديث تضمنت سهو رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ثم قال : الذي أفتي به ما تضمنه هذا الخبر ؛ فإن الأخبار التي قدمناها من أن النبي «صلى الله عليه وآله» سها ، فسجد ، فإنها موافقة للعامة (١).

__________________

(١) الدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١٠٧.

١١٤

وقد أورد على هذه الروايات ، بأنها من أخبار الآحاد روتها الناصبة والمقلدة من الشيعة ؛ فلا يصح الاعتماد عليها للاعتقاد ؛ لأنه يكون من أتباع الظن (١).

لماذا كان ما كان؟!

وقد يمكن للبعض أن يقول : إن ما حصل كان إسهاء من الله ، بمعنى أن الله تعالى قد تصرف بنفس نبيه ، لا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد سها فعلا ، بسبب طبيعته البشرية ، ويمكنه أن يوجه هذا الإسهاء بأن من الممكن أن يسهي الله نبيه الأعظم «صلى الله عليه وآله» لمصلحة تقتضي ذلك ، وحاله حاله من الجلالة والرسالة بما يلي :

١ ـ أن لا يغلو الناس فيه فيؤلهونه ، أو يثبتون له بعض الصفات التي ليست له.

أو فقل : إنه تعالى يريد أن يعرفهم : أن الرسول «صلى الله عليه وآله» ما هو إلا بشر مثلهم. فكل صفة تخرج به عن هذا تصبح في غير محلها ، ولا يمكن قبولها.

٢ ـ إن الله تعالى أراد أن يفقههم ، كما في رواية الحسن بن صدقة ، التي رواها الكليني (٢).

٣ ـ إن الله تعالى هو الذي أنساه رحمة للأمه ؛ ألا ترى لو أن رجلا صنع هذا لعير؟!

__________________

(١) الدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١١٣.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣٥٦.

١١٥

وقيل له : ما تقبل صلاتك. فمن دخل عليه اليوم ذاك ، قال : قد نسي رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وصارت أسوة إلخ (١).

وقد ورد شبيه ذلك في نومه «صلى الله عليه وآله» عن صلاة الصبح في السفر ، إن صحت الرواية.

ونحن نرى أنها غير صحيحة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قصور هذه التوجيهات :

ولكنها توجيهات لا تكفي ، فإن التعيير بذلك إنما يصح ممن لا يقع منه سهو أصلا ، أما من حاله في ذلك حال الآخرين فلا يقبل ذلك منه.

وأما بالنسبة للغلو في الرسول فمن الممكن أن يدفع ذلك بطرق أخرى لا يلزم منها محذور.

فقد كان يمرض ويصح ، ويحزن ، ويبكي ، ويبتسم ، ويأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، ويموت أو يقتل .. الخ.

وكذلك الحال بالنسبة إلى تعلم أحكام الإسهاء فإن ذلك ممكن بدون أن يبتلى به النبي ككثير من الأحكام الأخرى.

هذا بالإضافة إلى وجود مفسدة في هذا السهو ، وهو فقدان الثقة بتعليم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وبكل ما جاء به.

إيراد وجوابه :

وتوضيح هذا الإيراد الأخير كما يلي :

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٥٧.

١١٦

لربما يقال : إن فعل النبي «صلى الله عليه وآله» وقوله ، وتقريره ، حجة. وقضية الإسهاء تنافي ما اتفق عليه المسلمون من حجية فعله ، بل وتنافي حجية قوله أيضا. وهذا يبطل الوثوق به ، والاعتماد عليه ؛ وهو مناف لحكمة النبوة والرسالة (١).

ويمكن أن يجاب عن ذلك ، بأنه إنما ينافي حجية فعله وقوله لو أقر على سهوه وأخذ الناس الحكم الخطأ عنه ، وأما إذا لم يقره الله عليه ، بل بينه له وللناس بنحو ما ، فإنه لا مانع منه ، لا عقلا ولا شرعا (٢).

أما نحن فنقول : إن أحدا لا ينكر قدرة الله تعالى على التصرف بنبيه ، ولكننا نقول : إن حصول هذا الأمر أعني : إنساء الله تعالى لنبيه الأكرم «صلى الله عليه وآله» لمصلحة يراها ، يصطدم بمقولة : إن هذا ما هو إلا إحالة على مجهول ، وما ادعي من عدم إقرار الله تعالى له على السهو لا يكفي في حفظ كرامة النبي «صلى الله عليه وآله» ، والاطمئنان إلى ما يصدر عنه «صلى الله عليه وآله» ، بما يكون له طابع الفورية وعدم المهلة ، حيث لا تبقى فرصة لظهور الخلاف. كما أن ذلك يسيء إلى قداسة النبي «صلى الله عليه وآله» بنظر الناس ، وذلك ظاهر لا يخفى.

هذا ولا بأس بالتعرض هنا إلى العصمة عن السهو والنسيان والخطأ ، ثم العصمة عن الذنوب ، وأنها جميعا هل هي اختيارية أم لا؟!

فالبحث يقع في ناحيتين :

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ١ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٦.

(٢) راجع : فتح الباري ج ٣ ص ٨١.

١١٧

إحداهما : العصمة عن النسيان ، والسهو ، والخطأ.

والأخرى : العصمة عن الذنب.

فنقول :

العصمة عن السهو والخطأ والنسيان اختيارية :

أما العصمة عن السهو والخطأ والنسيان ، فهي اختيارية على ما يظهر ، وما جرى في قضية الصلاة ـ لو صح ـ فإنما هو إنساء من الله له «صلى الله عليه وآله» ؛ لمصلحة اقتضت ذلك لا نسيان منه «صلى الله عليه وآله».

ويمكن تقريب ذلك بما يلي :

١ ـ إن من يمرن نفسه على ألا ينسى ، أو على الضبط والتدقيق ، يصير أقدر على الحفظ ، وعدم النسيان ، وتقل نسبة خطئه بالمقايسة مع غيره ممن لا يبالي بالشيء حفظه أو نسيه ، زاد فيه ، أو نقص منه. فإذا كان ذلك الأمر من اختصاصه ، كان احتمال النسيان أو الخطأ فيه أقل. وكلما كان اهتمامه فيه أكثر ، كلما كان نسيانه له وخطؤه فيه أقل أيضا. وهذا الأمر يدرك بالوجدان ، ويعلم بالتجربة.

وهذا صادق بالنسبة إلى الإنسان العادي ، الذي نعرفه ونألفه. كما أنه كلما كانت الملكات والمدارك ، والقوى النفسية ، والفكرية وغيرها قوية لدى الشخص ، فإنه يكون أيضا أكثر سيطرة على ذاكرته ، وتصرفاته ؛ ويقل احتمال الخطأ ، والسهو ، والنسيان عنده. كالأم المرضعة ، فإن ذهولها عما أرضعت من الأمور التي لا يمكن أن تحصل في العادة.

ونبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» هو القمة في كل شيء. فهو

١١٨

الإنسان الأول الذي يمثل خلافة الله الحقيقية على وجه الأرض. وهو الإنسان الذي كان فانيا في الله ، وليس له هم ، ولا هدف إلا رضى الله سبحانه ، وتحقيق أهدافه تعالى على وجه الأرض ، فمن الطبيعي أن لا يصل إليه أحد ، ولا يدانيه مخلوق في الضبط والحفظ ، ولا سيما فيما يتعلق بهدفه الأسمى ، وفي عبادته لربه ، وطاعته له لا سيما وهو يراه حاضرا وناظرا. وذلك أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

هذا بالإضافة إلى أن ما يبذله النبي «صلى الله عليه وآله» من جهد في سبيل حفظ الدين وأحكامه ، يصبح سببا في أن يفيض الله تعالى عليه من ألطافه ويمده بالتسديد والتأييد ، وفقا للوعد الصادر عنه حيث يقول تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) ، وقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(٢) وقوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(٣).

٢ ـ هناك بعض الأمور التي توجب النسيان ، وبمقدور كل أحد أن يتجنبها ، ومن ثم يجنب نفسه ولا يعرضها لآثارها. وقد ذكرت بعض الروايات طائفة منها.

فمثلا : ذكر مما يوجب النسيان أكل الجبن ، وقراءة كتابة القبور وأكل الكزبرة ، وكثرة شرب الماء ، والعبث ببعض الأعضاء ، وكثرة الهم الناشئ في الأكثر من كثرة الذنوب ، ونحو ذلك.

__________________

(١) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.

(٢) الآية ٤٠ من سورة الحج.

(٣) الآية ٢٩ من سورة الأنفال.

١١٩

وهناك أمور تزيد في الذاكرة ، كعملية التذكر ، وكأكل الزبيب ، وأمور أخرى لا مجال لذكرها. وواضح أن القدرة على السبب تعبير قدرة على مسببه ؛ فيمكن أن يكلف الإنسان بأن لا ينسى الشيء الفلاني ؛ أو أن يزيد من نسبة حفظه وضبطه ، باعتبار قدرته على سبب ذلك. والتكليف بالمسبب الذي لا يقدر عليه الإنسان إلا بقدرته على سببه كثير في الشرع.

٣ ـ إن ثمة آيات كثيرة تلوم على النسيان ، بل في بعضها وعيد بالعقاب عليه ، أو جعل العقاب في الآخرة في مقابل النسيان الحاصل في الدنيا. ونذكر على سبيل المثال الآيات التالية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)(١) فإن سياق الآية ، والتعبير ب «ذكر» لا يناسب إرادة التجاهل من كلمة «نسي» ، كما يريد أن يدعيه البعض ، وكذلك الحال في الآيات التالية.

فالمراد هو الغياب عن الذاكرة ، بسبب التساهل والإعراض ، وعدم الاهتمام.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(٢).

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا)(٣).

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(٤).

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(٥).

__________________

(١) الآية ٥٧ من سورة الكهف.

(٢) الآية ١٣ من سورة المائدة.

(٣) الآية ١٥ من سورة الأعراف.

(٤) الآية ١٩ من سورة الحشر.

(٥) الآية ٦٧ من سورة التوبة.

١٢٠