الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-177-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

١
٢

٣
٤

الفصل الثالث :

الغنائم والأسرى

٥
٦

قسمة الغنائم :

وغنم المسلمون من المشركين مئة وخمسين من الإبل ، وعشرة أفراس ، وعند ابن الأثير : ثلاثين فرسا ، ومتاعا ، وسلاحا ، وأنطاعا ، وأدما كثيرا (١).

واختلف المسلمون في هذه الغنائم : هل تختص بالمهاجرين ، أو تتعداهم إلى من كان خلفهم من الجيش يقوم بمهمات أخرى. فأرجأ النبي «صلى الله عليه وآله» تقسيم الغنائم بسبب هذا الخلاف ، وجمع الغنائم ، وسلمها لعبد الله بن كعب ، وأمرهم بمعاونته في حملها وحفظها ، ونزل قوله تعالى ـ كما يقال ـ :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢).

ولم يقسم رسول الله «صلى الله عليه وآله» الغنائم إلا وهو في طريقه إلى المدينة ، وذلك من أجل أن تخف حدة الخلاف فيما بين أصحابه ، وتعود إليهم حالتهم الطبيعية ، بعيدا عن نزوات آمالهم الدنيوية.

__________________

(١) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ١٠٢ و١٠٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٨٣ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١١٨.

(٢) الآية ١ من سورة الأنفال.

٧

فقسمها بينهم آنئذ ، ولم يخرج منها الخمس.

النبي صلّى الله عليه وآله لم يأخذ الخمس في بدر :

وأما لماذا لم يأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» الخمس من غنائم بدر؟

فلعله لأنه أراد ـ بإذن من الله ، وسماحة من نفسه ، ومن أولي القربى ـ : أن يعطي المحاربين سهاما أوفر ، تأليفا لهم وترغيبا ، خصوصا وأنها أول حرب يخوضونها ضد المشركين ، ولا سيما بعد أن رأى حرصهم على الحصول على المال في هذه المناسبة بالذات ، كما أشرنا إليه ، وسيأتي توضيح ذلك أكثر حين الحديث عن الأسرى.

ونظير ذلك ما ورد من أن الحسنين «عليهما السلام» قد طالبا أباهما أيام خلافته بالخمس ، فقال لهما «عليه السلام» : هو لكم حق ، ولكنني محارب معاوية ، فإن شئتم تركتم حقكم منه (١).

كما أن من الممكن أن يكون عدم أخذه للخمس لأجل أن آية الخمس لم تكن قد نزلت بعد ، مما يعني : أن تشريع الخمس قد تأخر عن غزوة بدر ، حتى إننا نجد من يقول : إن أول خمس خمسه كان في غزوة بني قينقاع (٢).

ولكننا لا نطمئن إلى صحة ذلك ، لأن بعض النصوص تفيد : أن أول خمس أخذه «صلى الله عليه وآله» كان في سرية عبد الله بن جحش أي قبل بدر بأشهر.

بل نجد أن ابن عساكر يذكر في حديث مناشدة علي «عليه السلام»

__________________

(١) السنن الكبرى ج ٦ ص ٣٦٣.

(٢) الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢١١.

٨

لأصحاب الشورى قوله :

«نشدتكم بالله ، أفيكم أحد كان يأخذ الخمس مع النبي «صلى الله عليه وآله» قبل أن يؤمن أحد من قرابته غيري وغير فاطمة؟

قالوا : اللهم لا» (١).

فهذا النص يدل على أن تشريع الخمس كان في مكة في بدء الدعوة ، وحتى قبل أن يسلم أحد من أهل بيته «صلى الله عليه وآله».

ولكن في هذا النص إشكال ، وهو أن جعفر «رحمه الله» قد أسلم في بدء الدعوة أيضا ، وحمزة قد أسلم في حدود السنة الرابعة أو الخامسة ، وكذلك أبو طالب ، أي قبل ولادة فاطمة صلوات الله وسلامه عليها. ويمكن أن يجاب عن ذلك :

أولا : إن أبا طالب لم يكن ثمة بحاجة للمال ، وكذلك النبي «صلى الله عليه وآله» وخديجة. وقد كانوا في الشعب ينفقون من أموال خديجة ، وأبي طالب ، كما تقدم.

وأما جعفر ، فلم يعلم : أنه كان يستحق من الخمس ، فلعله كان مليا من المال ؛ كما أنه كان يعيش في بلاد الحبشة وكذا حمزة فلعله كان مليا أيضا.

__________________

(١) ترجمة الإمام علي «عليه السلام» من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٩٠ ، وراجع ص ٩٥ ، وراجع : مناقب الخوارزمي ص ٢٢٥ ، وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٢٢. وفي هامش ترجمة الإمام علي ج ٣ ص ٨٨ / ٨٩ مصادر كثيرة لحديث المناشدة.

وراجع أيضا : الضعفاء الكبير ج ١ ص ٢١١ وليس فيه كلمة (قبل أن يؤمن أحد من قرابته) واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٦٢.

٩

وثانيا : يمكن أن يكون الخمس قد شرع في بدء البعثة ، وقبل أن يسلم أحد من أهل بيته «صلى الله عليه وآله» ، فخمست خديجة أموالها ؛ فنال عليا من ذلك ما ناله ، وبعد أن ولدت فاطمة صارت تشاطر عليا في الخمس.

ولا يلزم من ذلك النص أن تكون فاطمة قد ولدت في أول البعثة ، أو قبلها ، كما ربما يتوهم.

النبي صلّى الله عليه وآله يرد الخمس على أصحابه أيضا :

وكما أنه لم يأخذ الخمس في بدر ، فإنه لم يأخذه في غيرها أيضا. فقد ورد أنه «صلى الله عليه وآله» قد رد الخمس على أصحابه في قصة حنين ، حيث : «تناول (أي النبي «صلى الله عليه وآله») من الأرض وبرة من بعير ، أو شيئا ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس ، وهو مردود عليكم» (١).

فهذا كان حال النبي «صلى الله عليه وآله» معهم ، ولكن غير النبي «صلى الله عليه وآله» قد استأثر بالفيء ومنعه أهله ، بل حرم ورثة النبي «صلى الله عليه وآله» من ميراثه ، كما هو معلوم. ولسوف نتكلم حول تشريع الخمس في الأرباح والأموال ، في فصل مستقل يأتي إن شاء الله ، بعنوان : «بحوث ليست غريبة عن السيرة».

__________________

(١) الموطأ ج ٢ ص ١٤ المطبوع مع تنوير الحوالك ، والأموال لأبي عبيد ص ٤٤٤ و٤٤٧ ، والفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ١٢٢ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٣١٦ و٣١٩ و٣٢٦ ، والثقات ج ٢ ص ٧٨.

١٠

إكتفاء الناس في عهد علي عليه السّلام :

أخرج أبو عبيد ، وغيره : «أن أمير المؤمنين عليا «عليه السلام» أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات. ثم أتاه مال من أصبهان.

فقال : اغدوا إلى عطاء رابع ، إني لست بخازنكم ، فقسم الحبال ، فأخذها قوم ، وردها قوم ، فأكرههم على أخذها» (١).

وهذا يعني : أن الناس قد وصلوا في عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى درجة من الكفاية ، حتى إنهم ليردون بعض العطاء.

وكيف لا يصلون إلى هذه الدرجة ، وأمير المؤمنين «عليه السلام» هو الذي يقول : «أنا أهنت الدنيا»؟ (٢).

وسيرته في بيت مال المسلمين أشهر من أن تحتاج إلى بيان؟!.

بينما نجد في عهد غيره : أن البعض ربما لا يجد ما يستر به نفسه ، سوى رقعتين ، يجمع إحداهما على فرجه ، والأخرى على دبره ، فكان يدعى : ذا الرقعتين (٣).

ملاحظة هامة : الخمس ، والطبقية :

وقد يطرح هنا سؤال ، وهو : هل صحيح أن تشريع الخمس لآل

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد ص ٣٨٤ ، وكنز العمال ج ٤ ص ٣٧٨ و٣١٨ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٣٦ ، وترجمة الإمام علي «عليه السلام» من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ١٨١ ، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ١٣٢.

(٢) البداية والنهاية ج ٨ ص ٥ عن البغوي ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٣١٠.

(٣) مصنف عبد الرزاق ج ٦ ص ٢٦٧ ، وراجع ٢٦٨ ، وسنن البيهقي ج ٧ ص ٢٠٩.

١١

الرسول معناه تبني مبدأ الطبقية ، والالتزام به؟! بل هو قبول بمبدأ التمييز العنصري ، كما يحلو للبعض أن يقول؟.

والجواب : أن المستفاد من الروايات أن الخمس ملك لله ولرسوله ، وللإمام «عليه السلام» ، والباقون من الأصناف المذكورة في الآية إنما هم موارد صرفه.

وفي الحقيقة ، فقد اعتبر الله فقراء العترة من عائلة الإمام «عليه السلام» ، فإن لم تكفهم سهامهم أتمها من عنده ، وإن بقي من سهامهم شيء كان الباقي للإمام «عليه السلام» ، ويصرف الإمام الخمس فيما ينوبه مما فيه حفظ كيان الدين وحفظ شؤون المسلمين.

والمال الذي يعطى لهؤلاء لا يعني سوى سد حاجتهم المادية ، بعد أن حرمت عليهم الزكاة ، كما كانت الزكاة لسد الحاجة المادية لغيرهم ، من دون أن تعطي لذلك الغير أي إمتياز.

غير أن في إعطاء هذا الخمس لهؤلاء تكريما للنبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وتأكيدا على قدسيته ومكانته في نفوس الناس ، مع عدم الانتقاص من حق ولا من مكانة أحد ، الأمر الذي يعطي للناس زخما عقيديا ، ومن ثم سلوكيا تحتاج إليه الأمة.

ويلاحظ اهتمام القرآن في هذا الأمر في غير مورد ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(١).

__________________

(١) الآية ٢ من سورة الحجرات.

١٢

ثم إنه تعالى قد أمر الناس بالصلاة والتسليم على رسوله الأكرم «صلى الله عليه وآله» وليس ذلك إلا لأجل أنه تعالى يريد أن يستفيد من ذلك في خدمة الدين والإنسان والإنسانية.

أضف إلى ما تقدم : أن هذا الإعطاء ليس بلا حدود ولا قيود ، بحيث يوجب أن تتكدس الأموال عند طائفة معينة ، مع حاجة الآخرين إليها. فلا يعطى لكل إلا بمقدار مؤونة سنته ، وما يرفع حاجته ، كما في الروايات والفتاوى. كما أن أمر سهم الإمام بيد الإمام أو المجتهد ، وكذا سهم السادة على بعض الفتاوى.

أما بالنسبة إلى الزكاة فليس الأمر كذلك ، إذ يمكن إعطاء مبالغ ضخمة منها لمستحقها ، بحيث ينتقلون من الفقر إلى الغنى دفعة واحدة.

ومن جهة ثانية ، فإن الخمس ـ إلى جانب أمور أخرى ـ قد ساهم مساهمة فعالة في حفظ الدين على مدى التاريخ ، فهو الذي حفظ ارتباط الناس بالمرجعية الدينية ، وساهم في بعث الثقة المتبادلة فيما بينهم وبينها ، وساعد الناس على التغلب على آثار إهمال ، واضطهاد الحكام لهم ، وسد الكثير من حاجاتهم ، وساهم في إنشاء المؤسسات التي تخدم المجتمع ، وترفع من مستواه روحيا ، وماديا وفكريا ، وجعل بإمكان القيادة الدينية ، وكذلك القاعدة الشعبية : أن تعيش حرة في تفكيرها ، وفي مواقفها ، من دون ارتباط بالحاكم الجائر ، أو خضوع له ، ولم يعد بإمكانه أن يمارس ضدهم أي ضغط يرونه في غير صالح الدين ، ولا أن يستعملهم أداة لتحقيق مآربه ، والوصول إلى غاياته. فهم لا يستمدون مكانتهم واعتبارهم ، ولا لقمة عيشهم منه ، ولا يفرض عليهم أي ارتباط به ، إلا في حدود الروابط العقيدية والدينية.

١٣

ومن هنا نعرف مدى تأثير الخمس في نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية ، بقيادة زعيمها آية الله العظمى ، والقائد الديني السيد روح الله الموسوي الخميني (قده) ، بالإضافة إلى العوامل الأخرى ، التي ساهمت أيضا في هذا النجاح.

ومن جهة ثالثة ، فإن حفظ هذا الدين يتطلب ذلك ، إذ إنه يساهم في إيجاد الشعور بالمسؤولية المباشرة عن حفظ هذا الدين والدفاع عنه لدى فئة بعينها.

ومن الطبيعي أن تكون أقرب الفئات إلى الشعور بهذه المسؤولية الكبرى هم أهل بيت النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ بدافع من الشعور الطبيعي. ويزيد هذا الشعور ويذكيه ، ويجعلهم أكثر اندفاعا إلى التضحية في سبيله جعل هذا الخمس بمثابة ضمانة لهم ، ولعوائلهم ، ووسيلة لتلبية حاجاتهم ، التي تفرضها مسؤولياتهم تلك.

ومن هنا فإننا نجد حتى العقائد الفاسدة ، والدعوات المريبة ، كالوهابية التي هي من أسخف العقائد ، قد استطاعت بالاستفادة من هذا النوع من العصبية أن تفرض وجودها ، وتحتفظ ببقائها ؛ حيث وجدت من يعتبرون أن وجودهم مرهون بوجودها ، ورأوا أن العصبية لها والحفاظ عليها مما لا بد منه في بقاء ملكهم وسلطانهم.

ومن ذلك كله يتضح أن العقيدة الحقة أولى بالاستفادة من ذلك ، ولكن في سبيل الخير والحق ، فجاء هذا التدبير الإلهي ليحفظ لها وجودها ، ويساعد على بقائها ، ويخفف من الأخطار الجسام التي سوف تواجهها.

وقد رأينا : أن المذاهب التي لم يرض عنها الحكام ، حينما ووجهت بأدنى مقاومة أو معارضة ، كان مصيرها التلاشي والاندثار ، لعدم وجود

١٤

ضمانات بقاء لها. أما مذهب أهل البيت ، الذي هو رسالة الله الصافية ، فإن فيه الكثير من الضمانات التشريعية والعملية التي تساعد على استمراره وبقائه في وجه أعتى القوى الظالمة ، والحاقدة ، حتى ولو استمر الاضطهاد له ولأتباعه القرون والقرون ، كما قد كان ذلك بالفعل.

وليكن ذلك هو أحد الأدلة على عظمة هذا الدين ، وعلى شمولية وصفاء الإسلام الحنيف.

بعض المتخلفين ، وغنائم بدر :

ألف : طلحة ، وسعيد بن زيد :

ويقولون هنا : إن طلحة وسعيد بن زيد لم يحضرا بدرا ، وذلك لأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أرسلهما ليتجسسا له خبر العير ؛ فرجعا إلى المدينة بعد خروجه «صلى الله عليه وآله» إلى بدر ، فخرجا إليها ، فوجداه قد عاد منها ؛ فضرب لهما النبي «صلى الله عليه وآله» بسهميهما من الغنائم (١).

ولكن ذلك لا يصح ، وذلك لما يلي :

١ ـ إننا نجد نصا آخر يقول : إنهما كانا في تجارة إلى الشام ، فقد ما بعد رجوعه «صلى الله عليه وآله» من غزوة بدر ، فضرب لهما «صلى الله عليه وآله» بسهميهما بعد رجوعهما (٢).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٧ و١٨٥ وغيره.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، والتنبيه والأشراف ص ٢٠٥ ، ولكنه ذكره بلفظ قيل. والإصابة ج ٢ ص ٢٢٩ ، والإستيعاب بهامشها ص ٢١٩.

١٥

ولكن الشق الأخير من النص لا يصح ، إذ لماذا يضرب لهما بسهميهما دون سائر من تخلف؟!

وهل لمن لا يحضر غزاة حق في غنائم تلك الغزاة شرعا؟!

وكيف رضي المسلمون إعطاء هذين الرجلين ، دون غيرهما ممن تخلف عن الحرب لعذر ، أو لغيره؟!.

وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» يتسامح مع المسلمين في الأموال ؛ فإنما كان يتسامح معهم بأمواله هو ، لا بأموال غيره. كما أنه كان يتسامح مع من حضر الحرب ، دون من لم يحضر.

٢ ـ إن السيوطي ـ تبعا لغيره ـ لا يقر بهذه الفضيلة لهما ، بل ينكرها على كل من عدا عثمان ، فهو يقول : وضرب لعثمان يوم بدر ، ولم يضرب لأحد غاب غيره ، رواه أبو داود عن ابن عمر ، قال الخطابي : هذا خاص بعثمان ، لأنه كان يمرض ابنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

وحتى بالنسبة لعثمان فسنرى أن ذلك أيضا لا يصح.

٣ ـ لقد جاء في حديث مناشدة علي «عليه السلام» لأصحاب الشورى وفيهم طلحة وعثمان قوله : «أفيكم أحد كان له سهم في الحاضر ، وسهم في الغائب؟

قالوا : لا» (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٨٥.

(٢) ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر ، بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٩٣ ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٦٢ ، والضعفاء الكبير ج ١ ص ٢١١ و٢١٢.

١٦

ويمكن أن يكون إعطاؤه سهما في الغائب من جهة أنه يكون في مهمة قتالية حينئذ ؛ أو أنه أعطاه «صلى الله عليه وآله» من سهمه الذي كان يرده على المقاتلين. هذا بالإضافة إلى أنه لم يتخلف إلا في غزوة تبوك.

فقد نص الزمخشري في فضائل العشرة على أنه «صلى الله عليه وآله» جلس في المسجد يقسم غنائم تبوك ، فدفع لكل واحد منهم سهما ودفع لعلي كرم الله وجهه سهمين ، ثم ذكر اعتراض زائدة بن الأكوع ، وجواب النبي «صلى الله عليه وآله» له بأن جبرائيل كان يقاتل في تبوك ، وأنه قد أمره بأن يعطي عليا «عليه السلام» سهمين (١).

ونلاحظ هنا : أن جعفر بن أبي طالب كان له أيضا سهم في الحاضر ، وسهم في الغائب ، فقد روي عن الإمام الباقر «عليه السلام» أنه قال : ضرب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم بدر لجعفر بن أبي طالب بسهمه ، وأجره (٢). وذلك لا ينافي ما تقدم بالنسبة لعلي «عليه السلام» ، فإن الذين ناشدهم علي «عليه السلام» لم يكن فيهم غير علي له هذه الخصوصية ، فلا يمنع أن يكون جعفر أيضا ـ الذي لم يكن معهم آنئذ ، لأنه قد استشهد في مؤتة ـ قد كانت له هذه الخصوصية أيضا ..

ب : عثمان بن عفان :

ويقولون : إن الرسول «صلى الله عليه وآله» قد أسهم لعثمان بن عفان في غنائم بدر ، لأن الرسول «صلى الله عليه وآله» قد أمره بالتخلف ليمرّض

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٤٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢١٦.

١٧

زوجته رقية بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فضرب له «صلى الله عليه وآله» بسهمه وأجره ، وعدوه من جملة البدريين (١).

ونحن لا نصدق ذلك لما يلي :

١ ـ ما تقدم من مناشدة علي «عليه السلام» لأصحاب الشورى ، وفيهم عثمان.

٢ ـ إن ثمة رواية أخرى تقول : إنه تخلف عن بدر ، لأنه كان مريضا بالجدري (٢) ، فأي الروايتين نصدق؟!

٣ ـ لماذا يضرب له بسهمه ، دون سائر من تخلف لعذر ، وكيف لم يعترض المسلمون المتخلفون على هذا الأمر ، ويطالبونه بحقوقهم ؛ وكيف رضي المسلمون المحاربون بذلك أيضا؟ وهل كل من تخلف على مريض يحق له أن يأخذ من الغنائم التي تحصل في الحرب التي لم يحضرها؟

٤ ـ إن بعض نصوص رواية عثمان تذكر : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد خلف أسامة بن زيد مع عثمان لأجل رقية. وأنه ـ يعني أسامة ـ قد كان له دور من نوع ما حينما جاء الخبر بانتصار المسلمين في بدر ، مع أن أسامة لم يكن له من العمر حينئذ أكثر من عشر سنين!!. ولم يضرب له النبي «صلى الله عليه وآله» بسهمه كعثمان!.

٥ ـ إننا نجد : أن عبد الرحمن بن عوف يعيّر عثمان بتخلفه عن بدر ، فقد لقي الوليد بن عقبة ؛ فقال له الوليد : ما لي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٦ و١٤٧ و١٨٥ وأي كتاب تاريخي آخر.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٨٥ و١٤٦.

١٨

فقال له عبد الرحمن : أبلغه : أني لم أفر يوم عينين ـ قال عاصم : يقول : يوم أحد ـ ولم أتخلف يوم بدر. ولم أترك سنة عمر.

فخبر الوليد عثمان.

فيقولون : إنه اعتذر عن تخلفه يوم بدر بتمريضه رقية (١).

وبمثل ذلك اعتذر ابن عمر ـ كما يقولون ـ لرجل كان يعترض على عثمان بمثل ذلك (٢).

ولكن ما ذكر من الاعتذار لا يجدي ؛ إذ كيف خفي هذا العذر على صحابي كبير ، كعبد الرحمن بن عوف ، ثم على ذلك الرجل الطاعن على عثمان؟!.

وإذ كان قد ضرب له بسهمه وأجره ؛ فهذه فضيلة كبرى ، لا يمكن أن تخفى على ابن عوف الذي كان حاضرا في بدر وأحد ، لا سيما وأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يوم المؤاخاة قد آخى بين عبد الرحمن وعثمان ، فكيف يعيره عبد الرحمن بما هو فضيلة له ، وهو الذي زف له الخلافة ، وآثره

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٦٨ وراجع ص ٧٥ ، والأوائل ١ ص ٣٠٥ و٣٠٦ ، ومحاضرات الأدباء للراغب المجلد الثاني ص ١٨٤ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٨٩ عن أحمد ، وابن المنذر ، والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٠٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢١ و٢٢ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٧٨ ، والغدير ج ٩ ص ٣٢٧ ، وج ١٠ ص ٧٢ عن أحمد وابن كثير وعن الرياض النضرة ج ٢ ص ٩٧.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٩٨ ، والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٢٩ ، ومسند أحمد ج ٢ ص ١٠١ ، والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٠٧ عن البخاري والغدير ج ١٠ ص ٧١ عن الحاكم وص ٧٠ عن أحمد ، وعن صحيح البخاري ج ٦ ص ١٢٢.

١٩

بها على سيد وخير الأمة بعد نبيها علي أمير المؤمنين «عليه السلام»؟!.

أم أنهم قد افتروا عليه في ذلك ، وطعنوا عليه بما كان الأجدر بهم أن يمتدحوه عليه؟!.

٦ ـ وحينما أشخص عثمان ابن مسعود من الكوفة ، وقدم المدينة ، وعثمان يخطب على منبر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فلما رآه عثمان قال : ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه ، يقيء ، ويسلح.

فقال ابن مسعود : لست كذلك ، ولكن صاحب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان (١) فهو يعرض بعثمان الذي تغيب عن هذين الموطنين معا.

٧ ـ وكذلك فقد دخل على سالم بن عبد الله رجل ، فطعن على عثمان بمثل ما تقدم من عبد الرحمن بن عوف ، ومن ذلك الرجل مع ابن عمر (٢).

فكيف خفيت هذه الفضيلة المزعومة لعثمان على هؤلاء جميعا يا ترى؟!

٨ ـ وأخيرا ، فإننا نستبعد أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد خلفه على ابنته ليمرضها ؛ فإن الظاهر : أن عثمان لم يكن مهتما كثيرا لحال رقية ، ولا لمرضها ـ وهو الذي قارف (٣) ليلة وفاتها ـ ومنعه رسول الله «صلى الله عليه وآله» من النزول في قبرها كما سيأتي في بحث وفاة رقية إن شاء الله تعالى.

ونرجح : أنه قد تخلف عن بدر في جملة من كرهوا الخروج مع النبي

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٦ والغدير ج ٩ ص ٣ عنه وص ٤ عن الواقدي.

(٢) الغدير ج ١٠ ص ٧٠ عن الرياض النضرة ج ٢ ص ٩٤.

(٣) قارف : قارب ، وقارف الذنب : قاربه.

٢٠