الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

مع أمير المؤمنين «عليه السلام» (١).

وكان «عليه السلام» صاحب لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بدر ، وفي كل مشهد (٢) ، وسنثبت ذلك في غزوة أحد إن شاء الله تعالى.

فما يقال : من أنه كان لرسول الله «صلى الله عليه وآله» في بدر أكثر من لواء : مع مصعب بن عمير ، أو الحباب بن المنذر ، في غير محله ، إلا أن يكون مرادهم : أن لواء المهاجرين كان مع مصعب ، ولواء الأنصار كان مع الحباب ، ونحو ذلك.

وأما تفريقهم بين الراية واللواء في محاولة لرفع التنافي ، فهو أيضا محاولة فاشلة ؛ لأن كلا منهما قد ورد أنه كان مختصا بأمير المؤمنين «عليه السلام» ، كما يتضح من مراجعة النصوص في المصادر المشار إليها في

__________________

(١) مناقب الخوارزمي ص ١٠٢ ، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم النبيل ، مخطوط في مكتبة كوبرلي رقم ٢٣٥ ، ومسند الكلابي في آخر مناقب ابن المغازلي ص ٤٣٤ ، ومناقب ابن المغازلي نفسه ص ٣٦٦ ، والإستيعاب هامش الإصابة ج ٣ ص ٣٣ و ٣٤ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١ ، وتلخيصه للذهبي بهامشه ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٥. ونقل ذلك عن : شرح النهج للمعتزلي ط أولى ج ٢ ص ١٠٢ ، وجمهرة الخطب ج ١ ص ٤٢٨ ، والأغاني ط دار الكتب ج ٤ ص ١٧٥ ، وتاريخ الطبري ط دار المعارف ج ٢ ص ٤٣٠.

(٢) ترجمة الإمام أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ، بتحقيق المحمودي ج ١ ص ١٤٥ ، وذخائر العقبى ص ٧٥ عن أحمد في المناقب ، وطبقات ابن سعد ج ٣ قسم ١ ص ١٤ ، وكفاية الطالب ص ٣٣٦ عنه ، وفي هامشه عن : كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٨ عن الطبراني ، والرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٢ ، وقال : أخرجه نظام الملك في أماليه.

٣٠١

الهامش (١).

وسيأتي مزيد من التوضيح لذلك في واقعة أحد إن شاء الله تعالى.

أضف إلى ذلك : أن ابن سعد وابن إسحاق قد ذكرا : أن الراية قد اتخذت بعد وقعة بدر ، وبالذات في وقعة خيبر (٢).

هذا لو سلم وجود اختلاف بين اللواء والراية ، وإلا فقد نص جماعة من أهل اللغة على ترادفهما (٣).

هدوء ما قبل العاصفة :

وبعد أن عبأ النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه ، قال لهم : غضوا أبصاركم ، ولا تبدؤوهم بالقتال ، ولا يتكلمن أحد (٤).

وسكت المسلمون ، وغضوا أبصارهم ، امتثالا لأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأثر هذا الموقف في قريش بشكل واضح ، حتى إن أحدهم حين جال بفرسه حول المسلمين ؛ ليعرف إن كان لهم مدد ، أو كمين ، رجع للمشركين ، وقال : «ما لهم كمين ، ولا مدد. ولكن نواضح يثرب حملت الموت الناقع. أما ترونهم خرسا لا يتكلمون؟ يتلمظون تلمظ الأفاعي ، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم؟! وما أراهم يولون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتل بعددهم».

__________________

(١) راجع المصادر في الهامشين السابقين.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٧.

(٣) المصدر السابق ص ١٤٧ و ١٤٨.

(٤) المصدر السابق.

٣٠٢

فشتمه أبوجهل ؛ لأنه رآه يجبن أصحابه.

وقال أبو جهل يشجع أصحابه مشيرا إلى قلة عدد المسلمين : «ما هم إلا أكلة رأس ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد».

وأرسل رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المشركين يقول لهم : «معاشر قريش ، إني أكره أن أبدأكم بقتال ، فخلوني والعرب وارجعوا ؛ فإن أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري».

ويقال : إن عتبة بن ربيعة رجح للمشركين قبول ذلك ، فرماه أبوجهل بالجبن ، وأنه انتفخ سحره (١) لما رأى محمدا وأصحابه ، وأنه خاف على ابنه أبي حذيفة الذي هو مع محمد.

فلما بلغ عتبة قول أبي جهل ، قال : سيعلم مصفر أسته (٢) من انتفح سحره : أنا ، أم هو؟ وتحمس لذلك ، ولبس درعه ، هو وأخوه شيبة وولده الوليد وتقدموا يطلبون البراز.

ونحن هنا نشير إلى الأمور التالية :

ألف : سر رعب المشركين :

إن المشركين كانوا يدركون مدى تصميم المسلمين على الحرب ، وأنهم

__________________

(١) انتفاخ السحر : كناية عن الجبن. والسحر : الرئة.

(٢) والظاهر أنه يرميه بالأبنة ؛ فإن الأنصار كانوا يرمونه بذلك. راجع : مجمع الأمثال ج ١ ص ٢٥١ عند قولهم : أخنث من مصفر أسته ، والبرصان والعرجان ص ١٠٢ و ١٠٣ متنا وهامشا ، والغدير ج ٨ ص ٢٥١ عن صواعق ابن حجر ص ١٠٨ عن الدميري في حياة الحيوان ، وراجع : الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة ج ١ ص ١٨٨.

٣٠٣

على استعداد لأن يموتوا جميعا ، بعد أن يقتلوا بعددهم على الأقل في سبيل دينهم وعقيدتهم.

وهذا من شأنه أن يبعث الرعب في قلوب المشركين ، الذين يقاتلون من أجل البقاء في هذه الدنيا ، والتمتع بلذاتها وخيراتها حسب زعمهم.

وإذا كان المسلمون ساكتين واجمين ، فإن ذلك يزيد الجو رهبة ، ويؤكد ويزيد الخوف والرعب في قلوب المشركين ، الذين سوف تزيد حيرتهم حيث لا شيء يشير إلى طبيعة الحرب التي سوف يخوضونها ، ومستواها ، والاتجاه والطابع الذي سوف يعطونها إياه.

وأما قول أبي جهل عن المسلمين : ما هم إلا أكلة رأس الخ .. فهو لا يدل على عدم الرعب لدى المشركين ، لأنه لم يقل ذلك إلا على سبيل التشجيع لأصحابه. ولا سيما بعد أن رأى ترددهم وجبنهم عن المواجهة.

أضف إلى ذلك : أننا لا بد أن نتذكر هنا : أنه تعالى في بعض مراحل المواجهة قد قلل المشركين في أعين المسلمين ، وقلل المسلمين في أعين المشركين ؛ ليقضي أمرا كان مفعولا ، ولسوف يأتي الكلام في هذا في أواخر الفصل التالي إن شاء الله تعالى.

ب : نظرة في عروض النبي صلّى الله عليه وآله على المشركين :

لقد حاول النبي «صلى الله عليه وآله» أن يكلم المشركين من الزاوية التي ينظرون منها ، وتتلاءم وتنسجم مع فكرهم ومنطقهم ، وتتلاقى مع مصالحهم التي يدعون أنهم جاؤوا يحاربون من أجلها. وذلك حينما قال لهم : «فإن أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا». فإن هذا ينسجم مع حبهم للرياسة

٣٠٤

والزعامة ، الذي كان من القوة والطغيان فيهم بحيث جعلهم يؤثرون تلك الرئاسات والزعامات على كل علاقاتهم النسبية والقبلية ، ويحاربون قومهم ، وحتى آباءهم وأبناءهم في سبيلها.

ثم هو يقول لهم : «وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري». وهذا ينسجم أيضا مع محبتهم للسلامة والحياة ، ومع مصالحهم الإقتصادية.

وذلك يعوض ما يرونه في رجوعهم عن حربه من تنازل ، واعتراف بقوته وشوكته.

مع إمكان تلافيهم ذلك بإظهار بعض الأعذار التي تحفظ لهم ماء الوجه بحسب نظرهم.

ولكن طغيان قريش ، وغطرستها يأبيان عليها الانصياع للمنطق الواعي ، والرأي السليم ، فتصر على الحرب والقتال ، ومواجهة نتائجها الساحقة لها ولكبريائها الزائف ، وصلفها الأحمق والمقيت.

ج : النبي صلّى الله عليه وآله لا يبدأ القتال :

ثم إننا نجد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يبدأ القتال ، ويأمر المسلمين أن لا يبدأوا به ، ويحاول أن يعطي الطرف الآخر الفرصة ، ويقدم له خيارات كلها فيها مخرج مشرف له ؛ فإذا أبى ذلك ، وطغى وبغى ، واعتدى على المسلمين ، فإن من حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأن يردوا كيد المعتدي ، من كان ، ومهما كان.

وهكذا كان أمير المؤمنين «عليه السلام» مع أعدائه ، سواء في حياة النبي «صلى الله عليه وآله» ، أو بعد وفاته. ثم كان هو حال الحسين عليه

٣٠٥

السلام مع جيش يزيد «لعنه الله» ، بل إن ذلك كان هو شعار شيعة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم ، اقتداء بإمامهم ، الذي يقتدي بالنبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

ولسوف تأتي الإشارة إلى ذلك حين الحديث حول خصائص الشيعة بعد الانتهاء من غزوة بدر مع أبحاث أخرى في فصل : «بحوث ليست غريبة عن السيرة» إن شاء الله تعالى. وقد تقدمت أيضا إشارة إلى ذلك.

النبي صلّى الله عليه وآله في العريش :

ويقولون : إنهم صنعوا للنبي «صلى الله عليه وآله» عريشا من جريد النخل فكان فيه وأبوبكر معه ، وليس معه غيره.

ويدّعون أيضا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد وافق على أن يضعوا نجائب وركائب مهيأة عنده ، فإن انتصر فهو المطلوب وإن كانت الأخرى ركب النجائب ، ولحق بمن وراءهم من الصحابة في المدينة (١).

ولكن ذلك لا يصح بأي وجه ؛ فقد قال المعتزلي : «قلت : لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا ، وليس تلك الأرض ـ أعني أرض بدر ـ أرض نخل؟ والذي كان معهم من سعف النخل ، يجري مجرى السلاح يسير جدا.

قيل : إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف ، والباقون

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٢٢ و ٢٧٩ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٤٩ و ٥٥ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٢٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١١٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٥ و ١٥٦ و ١٦١ وغير ذلك من المصادر الكثيرة.

٣٠٦

كانوا بالسيوف والسهام والقسي. هذا قول شاذ ، والصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح. اللهم إلا أن يكون معهم سعفات يسيرة ، وظلل عليها بثوب أو ستر ، وإلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها» (١).

ونقول :

أولا : إن ما ذكره من وجود السلاح مع المهاجرين لا يمكن قبوله.

فقد تقدمت النصوص التي تتحدث عن مستوى تسلحهم ، وليس فيها ما ذكره المعتزلي. والظاهر هو أن عددا منهم كان مسلحا بالقسي ، كما يدل عليه أمر النبي «صلى الله عليه وآله» لهم برمي المشركين بالنبل إذا أكثبوهم. ولعل بعضهم كان معه رماح ، والبعض الآخر عصي ، وفريق كان لديه سيف ، أو حربة ، وفريق آخر كان معه سعف النخل ، يدفع بها عن نفسه ، ويهاجم العدو بها إن وجد فرصة لذلك.

وثانيا : إن استدراكه الأخير في غير محله ؛ فإن السعفات المظلل عليها بالثوب يقال لها : خيمة ، وليس عريشا ، بل لا يقال لها خيمة أيضا ، كما يرى البعض. كما أن ما ذكره من عدتهم وسيوفهم محط نظر يعرف مما تقدم.

ونضيف نحن هنا :

أولا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يمكن أن يفر من الزحف.

وثانيا : قوله «صلى الله عليه وآله» : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» ـ وهو ما نقله مختلف المؤرخين ـ يكذب أن يكون «صلى الله عليه وآله» أراد الفرار على نجائبه ، لو ربح المشركون هذه الحرب. إذ إن الله تعالى

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١١٨.

٣٠٧

لا يمكن أن يعبد في الأرض حتى ولو رجع النبي «صلى الله عليه وآله» إلى أهل المدينة ؛ فكيف يقول ذلك ثم يقدم على تصرف كهذا؟!

وثالثا : لو أن النبي «صلى الله عليه وآله» خسر حرب بدر ، فلن يتركه المشركون ينجو بنفسه منهم ؛ ولن يعطوه الفرصة ليجمع لهم الجموع من جديد؟!. ولسوف لن يتركوا مهاجمة المدينة ، والقضاء على مصدر متاعبهم فيها. وهم الآن بالقرب منها ، ويعيشون نشوة النصر والظفر ، ومعهم جيش على أحسن ما يرام في عدده وفي عدته.

ورابعا : كيف يكون «صلى الله عليه وآله» قد اتخذ العريش مكانا له ، وحرسه الحراس فيه ، وهم يقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» رؤي يوم بدر في أثر المشركين مصلتا السيف ، يتلو قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(١).

ويقولون أيضا : إنه قد اشترك في حرب بدر بنفسه ، وقاتل بنفسه قتالا شديدا (٢).

ومما يدل على اشتراكه في الحرب أيضا ، قولهم : كان ثمة يوم بدر رجال يقاتلون ، واحد عن يمينه ، وآخر عن شماله ، وثالث أمامه ، ورابع خلفه (٣).

ويروون عن علي «عليه السلام» أيضا قوله : لما كان يوم بدر اتقينا

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٧٢.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢٣ و ١٦٧ ، لكنه حاول توجيه ذلك بما هو خلاف صريح الكلام ، فقال : إن المراد بالجهاد : الدعاء!!. كل ذلك من أجل أن يصح حديث العريش!!.

(٣) مغازي الواقدي ج ١ ص ٧٨.

٣٠٨

المشركين برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فكان أشد الناس بأسا ، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه (١).

إذن ، فلا بد أن نسأل : أين كان أبو بكر آنئذ؟ أمع النبي «صلى الله عليه وآله» في ساحة القتال؟ أم في العريش وحده ، ليكون في موقع القائد والرئيس كما يريد الجاحظ أن يدّعي حسبما سيأتي؟ وسوف تأتي بقية الحديث حول موضوع شجاعة أبي بكر ، وحضوره في العريش في الفصل الذي يأتي بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى.

وخامسا : إنه إذا لم يكن معهم سوى فرس المقداد ، فمن أين جاءت النجائب المعدة لفرار رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! ولماذا لم تشارك في الحرب ، للدفاع عن الدين وعن المسلمين؟!.

إشارة :

ولو فرض صحة الحديث المتقدم المروي عن علي «عليه السلام» ، فلا بد أنه كان يتحدث عن غيره لا عن نفسه ، لأن عليا لم يكن يخشى المشركين ، ولم يكن ليحتاج إلى ملجأ يحميه منهم. كيف وهو الذي قتل أكثر من نصف قتلى المشركين في بدر؟ وشارك في النصف الآخر كما سنرى؟

ويكون قوله «عليه السلام» ذلك نظير أن يقول شخص مثلا : إننا في بلادنا نأكل كذا ، أو نلبس أو نصنع الشيء الفلاني. مع أن هذا القائل لم يأكل ، أو لم يلبس ، أو لم يصنع ذلك الشيء شخصيا أبدا.

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٣٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢٣ ، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٧ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٦٧٧ عن أحمد ، والبيهقي.

٣٠٩

المبارزة :

وكان أول من برز للقتال عتبة ، وشيبة ، والوليد ؛ فبرز إليهم ثلاثة من الأنصار ، فقالوا لهم : ارجعوا ؛ فإنا لسنا إياكم نريد ، إنما نريد الأكفاء من قريش ، فأرجعهم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وبدأ بأهل بيته ؛ لأنه كره أن تكون البدأة بالأنصار (١) ، وندب عبيدة بن الحارث ، وحمزة ، وعليا ، قائلا : «قم يا عبيدة ، قم يا عم ، قم يا علي ، فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم إلخ ..».

فسأل عتبة عنهم ، فأخبروه عن أنفسهم ، وسأل شيبة عن حمزة ، فقال له : أنا حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله وأسد رسوله.

فقال شيبة : قد لقيت أسد الحلفاء ، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد الله.

فقتل علي «عليه السلام» الوليد ، وجاء فوجد حمزة معتنقا شيبة ، بعد أن تثلمت في أيديهما السيوف ، فقال : يا عم طأطئ رأسك ، وكان حمزة طويلا ، فأدخل رأسه في صدر شيبة ؛ فاعترضه علي بالسيف فطير نصفه (أي نصف رأسه). وكان عتبة قد قطع رجل عبيدة ، وفلق عبيدة هامته ، فجاء علي فأجهز على عتبة أيضا.

فيكون أمير المؤمنين «عليه السلام» قد شرك في قتل الثلاثة (٢).

ومما يدل على أنه شرك في قتلهم جميعا ، ما ورد في كتاب «المقنع» من أن هندا قالت :

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ٢٦٤ ، والبحار ج ١٩ ص ٣١٣ و ٢٥٣ ، وسعد السعود ص ١٠٢.

(٢) راجع : المناقب ج ٣ ص ١١٩ عن صاحب الأغاني وغيره ..

٣١٠

ما كان لي عن عتبة من صبر

أبي ، وعمي ، وشقيق صدري

أخي الذي كان كضوء البدر

بهم كسرت يا علي ظهري (١)

وقال السيد الحميري رحمه الله في مدح أمير المؤمنين «عليه السلام» :

وله ببدر وقعة مشهورة

كانت على أهل الشقاء دمارا

فأذاق شيبة والوليد منية

إذ صبحاه جحفلا جرارا

وأذاق عتبة مثلها أهوى لها

عضبا صقيلا مرهفا بتارا (٢)

ويدل على ذلك أيضا : ما أجاب به بعض بني عامر حسان بن ثابت على أبيات له ، يقول ذلك البعض :

ببدر خرجتم للبراز فردكم

شيوخ قريش جهرة وتأخروا

فلما أتاهم حمزة ، وعبيدة

وجاء علي بالمهند يخطر

فقالوا : نعم ، أكفاء صدق ، فأقبلوا

إليها سراعا إذ بغوا وتجبروا

فجال علي جولة هاشمية

فدمرهم لما بغوا وتكبروا (٣)

وقد كتب «عليه السلام» في رسالة له لمعاوية : «فأنا أبو الحسن حقا ، قاتل جدك عتبة ، وعمك شيبة ، وخالك الوليد ، وأخيك حنظلة ، الذين سفك الله دماءهم على يدي في يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٨٣ ، والعثمانية ، قسم نقوض الإسكافي ص ٤٣٢ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٩٢ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١٢١.

(٢) ديوان السيد الحميري ص ٢١٥ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١٢٢.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١١٩ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٩١.

٣١١

القلب ألقى عدوي» (١).

بعد قتل الفرسان الثلاثة :

وحمل حمزة وعلي «عليه السلام» عبيدة بن الحارث ، وأتيا به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فاستعبر ؛ وقال : يا رسول الله ، ألست شهيدا؟!

قال : بلى ، أنت أول شهيد من أهل بيتي (مما يشير إلى أنه لسوف تأتي قافلة من الشهداء من أهل بيته «صلى الله عليه وآله» ، وهكذا كان).

فقال عبيدة : أما لو كان عمك حيا لعلم أني أولى بما قال منه ، قال : وأي أعمامي تعني؟

قال : أبو طالب ، حيث يقول :

كذبتم وبيت الله يبزى محمد

ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال «صلى الله عليه وآله» : أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة؟!.

قال : يا رسول الله ، أسخطت علي في هذه الحالة؟

قال : ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمي ، فانقبضت لذلك (٢).

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٤٣٥ ، ونهج البلاغة بشرح عبده ج ٣ ص ١٣ ، والغدير ج ١٠ ص ١٥١.

(٢) تفسير القمي ج ١ ص ٢٦٥ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٥٥ ، وفي شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٨٠ : أن رسول الله استغفر له ولأبي طالب يومئذ. والغدير ج ٧ ص ٣١٦.

وفي نسب قريش لمصعب ص ٩٤ : أن عبيدة قال : «يا رسول الله ليت أبا طالب حيا

٣١٢

وقد روى كثير من المؤرخين هذه القضية من دون ذكر القسم الأخير منها.

قالوا : ونزل في هؤلاء الستة قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ)(١).

وفي البخاري : أن أبا ذر كان يقسم : أنها نزلت فيهم (٢).

ونزل في علي ، وحمزة ، وعبيدة أيضا قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(٣).

وقيل : نزلت في علي وحده (٤).

وثمة عدة آيات أخرى نزلت في بدر في الثناء على أمير المؤمنين «عليه

__________________

حتى يرى مصداق قوله الخ ..».

وربما يقال : إن هذا هو الأنسب بأدب عبيدة وإخلاصه ، ولكن لا ؛ فإن قوله الآنف لا يضر في أدبه ولا في إخلاصه ، حيث يرى نفسه قد ضحى بنفسه في سبيل الدين ، فلا مانع من أن يقول ذلك.

(١) الآية ١٩ من سورة الحج.

(٢) البخاري ط الميمنية ج ٣ ص ٤ ، ومناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ١١٨ عن مسلم ، من دون قسم أبي ذر ، ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٨٦ ، وصححه هو والذهبي في تلخيصه ، والغدير ج ٧ ص ٢٠٢ عن : تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢١٢ ، وتفسير ابن جزي ج ٣ ص ٣٨ ، وتفسير الخازن ج ٣ ص ٦٩٨ ، وتفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٥ ـ ٢٦ ، وصحيح مسلم ج ٢ ص ٥٥٠ ، وطبقات ابن سعد ص ٥١٨ ، وبهذا قال ابن عباس ، وابن خثيم ، وقيس بن عباد ، والثوري ، والأعمش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء.

(٣) الصواعق المحرقة ص ٨٠.

(٤) مناقب الخوارزمي ص ١٨٨ ، والكفاية للخطيب ص ١٢٢.

٣١٣

السلام» (١) فراجع.

وبعد ما تقدم ، فإننا نشير إلى الأمور التالية :

ألف : غضب النبي صلّى الله عليه وآله لأبي طالب :

إنه إذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله» يغضب لذكر عمه ، ولو بهذا النحو المهذب ، والمحدود ، فكيف إذا يكون موقفه ممن يرمي أبا طالب بالشرك والكفر ، ويعتبره مستحقا للعذاب الأليم في نار الله المؤصدة؟!

فهل تراه سوف يكون مسرورا ومرتاحا لهذا الكلام ، الذي لا سبب له إلا السياسة ، وما أدراك ما السياسة؟!

ب : بدء النبي صلّى الله عليه وآله بأهل بيته عليهم السّلام :

وقد رأينا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي أرجع الثلاثة الذين هم من الأنصار ، وأمر حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بالخروج إلى ساحة القتال أولا (٢) وهم من أهل بيته ، وقد قال علي «عليه السلام» عن النبي

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١١٨ وغيره.

(٢) وفي أمالي المرتضى ج ١ ص ٢٧٥ ، وإعلام الورى ص ٣٠٨ ، والبحار ج ٤٨ ص ١٤٤ ، ومناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣١٦ أن الإمام الكاظم «عليه السلام» قال لنفيع الأنصاري :

«.. وإن كنت تريد المفاخرة ، فو الله ما رضوا مشركو قومي مسلمي قومك أكفاءهم حتى قالوا : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش».

وأقول : لا منافاة بين الأمرين ، فلعل المشركين لم يرضوا به ، كما أنه «صلى الله عليه وآله» لم يرغب في البدأة بهم.

٣١٤

«صلى الله عليه وآله» :

«كان إذا حضر البأس ، ودعيت نزال ، قدم أهل بيته ، فوقى بهم أصحابه ، فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر يوم مؤتة الخ ..» (١).

ونقول :

إنه حين يبدأ الرسول «صلى الله عليه وآله» الحرب بأهل بيته فإنه يكون قد أثبت بالفعل لا بالقول فقط ، للأنصار وللمهاجرين : أنه ليس فقط لا يريد أن يجعلهم وسيلة للوصول إلى أهدافه ، ويدفع بهم الخطر عن نفسه وأهل بيته ، وإنما ثمة هدف أسمى ، لا بد أن يساهم الجميع في العمل من أجله وفي سبيله. وهو «صلى الله عليه وآله» شريك لهم في كل شيء ، في السراء والضراء ، والشدة والرخاء. وهو يضحي ويقدم قبل أن يطلب ذلك من غيره ، بل هو يحاول أن يدفع عن غيره ، ولو بأهل بيته ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وذلك هو ما يجب أن يكون المثل الأعلى لكل صاحب هدف ، ولكل سياسي وقائد. فإن عليه أن يقدم هو أولا التضحيات فإذا احتاج إلى معونة غيره ، فإن طلبه منهم تكون له مبرراته ، ويراه كل أحد : أنه صادق ومحق في طلبه ذاك. وليس له أبدا أن يجلس في برجه العاجي ، ثم يصدر أوامره للآخرين ، دون أن يرى نفسه مسؤولا عن التحرك في اتجاه الهدف إلا في

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٢ ص ٨١ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٧٧ ، وكتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٩٠ ، ونهج البلاغة باب الكتب الكتاب التاسع ، والعقد الفريد ج ٤ ص ٣٣٦ ، ومناقب الخوارزمي ص ١٧٦ ، ونهج البلاغة ج ٣ ص ١٠ و ١١.

٣١٥

حدود الكلام وإصدار الأوامر ، فإن الكلام لن يكون كافيا في تحقيق الأثر المطلوب في مجال التحرك نحو الهدف ، مهما كان ذلك الهدف مقدسا ، وساميا.

ج : سخرية شيبة :

لقد رأينا كيف أن شيبة يسخر من كون حمزة أسد الله وأسد رسوله ، ويعتز بكونه أسد الحلفاء ؛ مع أن مقتضى الإنصاف والواقع هو عكس ذلك تماما ، فقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأهداف الوضيعة ، القائمة على أساس المنطق القبلي ، والمنافع الخاصة ، التي توخاها الحلفاء من حلفهم ثم هم يتوخونها من حرب بدر وغيرها ..

وكلنا يعلم ، وهم يعلمون : أن هدف الله ورسوله ، وأسد الله من التضحيات على وجه الأرض ليس إلا إسعاد البشرية ، ونجاة الإنسانية إن دنيا وإن آخرة.

د : الحق الذي جعله الله للمسلمين :

ثم ما هو هذا الحق الذي أشار إليه النبي «صلى الله عليه وآله» في قوله لعلي «عليه السلام» ، وحمزة وعبيدة : «فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم»؟. أليس هو حق حرية الرأي والعقيدة ، وحق الدفاع عن دين الله ، وعن النفس ، ورد البغي والعدوان؟ في مقابل القرشيين الذين عذبوهم ، وأخرجوهم من ديارهم ، وسلبوا أموالهم ، بل وقتلوا منهم من قتلوا ، وبغوا عليهم أقبح البغي؟!.

وخلاصة الأمر : أنهم يريدون أن يعيشوا أحرارا ، وأن يدافعوا عن دين

٣١٦

الله في مقابل من يريد الاستمرار في الانحراف والتعدي. وللمظلوم حق في أن يطالب بإنصافه من ظالمه ، والباغي عليه ، ولا سيما بعد أن عرض النبي «صلى الله عليه وآله» على قريش تلك الخيارات المتقدم ذكرها ، فلم ترعو عن غيها. بل أرادت إطفاء نور الله ، وأصرت على حرب المسلمين وإذلالهم ، قال تعالى :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(١).

المعركة في ضرامها :

ولما رأى أبو جهل مقتل عتبة وشيبة والوليد ، حاول إنقاذ الموقف ؛ فقال : لا تعجلوا ، ولا تبطروا ، كما بطر ابنا ربيعة. عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش ، فخذوهم أخذا ، حتى ندخلهم مكة ؛ فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها.

ويذكر ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(٢) : أن النبي «صلى الله عليه وآله» ـ بأمر من جبرائيل ـ قال لعلي «عليه السلام» : ناولني كفا من حصباء ، فناوله كفا من حصباء (وفي رواية : عليه تراب) فرمى به في وجوه القوم ؛ فما بقي أحد إلا امتلأت عينه من الحصى.

وفي رواية : وأفواههم ، ومناخرهم ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ،

__________________

(١) الآيتان ٣٩ و ٤٠ من سورة الحج.

(٢) الآية ١٧ من سورة الأنفال.

٣١٧

ويأسرونهم (١). فابن عباس إنما يطبق الآية على هذا العمل الإعجازي.

الملائكة في بدر :

وقد أمد الله المسلمين بالملائكة لتثبيت قلوبهم ، وفي كونهم حاربوا خلاف. وظاهر القرآن ربما لا يساعد عليه حيث يقول تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ)(٢).

ولكن ثمة آية أخرى تشير إلى اشتراكهم بالقتال ، وهي قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(٣).

هذا إذا كان قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا ..) خطابا للملائكة ، كما لعله الظاهر ، وإن كان خطابا للمقاتلين من الناس ، فلا دلالة في الآية على ذلك أيضا.

ومهما يكن من أمر ، فإن الملائكة كانوا يتشبهون بأمير المؤمنين علي «عليه السلام» (٤).

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٢٩ عن تفسير الثعلبي ، والمناقب لابن شهر اشوب ج ١ ص ١٨٩ ، وليراجع الحلبية ج ٢ ص ١٦٧.

(٢) الآية ١٥ من سورة الأنفال.

(٣) الآية ١٢ من سورة الأنفال.

(٤) البحار ج ١٩ ص ٢٨٥ عن المناقب.

ويروي الآخرون : أنهم كانوا على هيئة الزبير الذي كان عليه عمامة صفراء فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر كما في المستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٦١ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٨٦ عنه ، وعن كنز العمال ص ٢٦٨ عن الطبراني وابن

٣١٨

ولربما كانوا هم الوسيلة لتكثير المسلمين في أعين المشركين أثناء القتال ، كما قال تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).

عائشة في حرب الجمل :

وبالمناسبة ، فإن عائشة قالت في حرب الجمل : ناولوني كفا من تراب ، فناولوها ؛ فحثت في وجوه أصحاب أمير المؤمنين ، وقالت : شاهت الوجوه ـ كما فعل رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأهل بدر ـ فقال أمير المؤمنين : «وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى ، وليعودن وبالك عليك إن شاء الله» (١).

كما أن عائشة قد نظرت إلى علي «عليه السلام» وهو يجول بين الصفوف في حرب الجمل ، فقالت : انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم بدر ، أما والله ما ينتظر بكم إلا زوال الشمس (٢).

وهكذا كان .. صدق أمير المؤمنين «صلوات الله وسلامه عليه».

الخزي والهزيمة :

وهزم الله المشركين شر هزيمة ؛ وقتل أبو جهل. وكان رسول الله «صلى

__________________

عساكر ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٨٤ ، ولكن يعكر على هذا ما في دلائل النبوة لأبي نعيم ص ١٧٠ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٨٦ عنه من أن الملائكة كان عليهم يوم بدر عمائم بيض.

(١) كتاب الجمل للشيخ المفيد ص ١٨٦ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٥٧ ، وراجع الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٣٢٥.

(٢) الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢١٤.

٣١٩

الله عليه وآله» قد أوعده أن يقتله الله بأضعف أصحابه ، بل أخبر «صلى الله عليه وآله» بكل ما جرى في بدر قبل وقوعه (١). فقتله رجل أنصاري ، واحتز رأسه ابن مسعود.

وقيل : إنه وجده بآخر رمق ، فأجهز عليه ، ولكن الأقرب هو الأول ، لأن سلبه أخذه غير ابن مسعود.

وكان أول من انهزم في بدر إبليس لعنه الله ، فإنه كان قد تبدى للمشركين ـ كما جاء في الرواية ـ بصورة سراقة بن مالك المدلجي ، من أشراف كنانة ، حيث إن قريشا كانت قد خافت من بني بكر بن عبد مناف ، لدم بينهم ؛ فتبدى لهم إبليس بصورة سراقة ، وأعطاهم جواره ؛ فلما رأى ما جرى للمشركين ، ورأى الملائكة مع المسلمين نكص على عقبيه ، فانهزم المشركون.

وقال المكيون : هزم سراقة ؛ فقال سراقة : ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ؛ فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.

وروي : أن أبا سفيان لما أبلغ العير إلى مكة رجع ، ولحق بجيش قريش ، فمضى معهم إلى بدر ، فجرح يومئذ جراحات ، وأفلت هاربا ، ولحق بمكة راجلا (٢).

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٦٧ عن الاحتجاج ، والتفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه السلام» ص ١١٨ و ١١٩.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٥.

٣٢٠