الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

وكذلك لم يشهد بدرا من بني عدي أحد.

وأراد بنو هاشم الرجوع ، فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع (١).

موقف الرسول صلّى الله عليه وآله من المكرهين والراجعين :

فلأجل ما تقدم ، ولأجل موقف الهاشميين من النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين ، وحمايتهم لهم في مكة ، نهى الرسول «صلى الله عليه وآله» عن قتل من خرج من بني هاشم ، ونهى أيضا عن قتل أبي البخترى ، الوليد بن هشام ، لأنه كان يكف الناس عنه «صلى الله عليه وآله» بمكة ، وكان لا يؤذيه ، وهو ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة. ولكنه حين أبى أن يستأسر في بدر إلا مع زميل له ، قتل هو وإياه.

وكذلك فقد نهى «صلى الله عليه وآله» عن قتل الحارث بن نوفل ؛ لكراهة الخروج أيضا فقتله من لم يعرفه. وكذلك جرى لزمعة بن الأسود.

نظرة في موقف النبي صلّى الله عليه وآله من هؤلاء :

وفي مجال الاستفادة مما تقدم نسجل النقاط التالية :

١ ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن ـ كما قدمنا ، وكما يشعر به موقفه المسجل من هؤلاء ـ يهدف من الحرب إلى التغلب ، والحصول على الملك والسلطان ، ولا هو يرغب في سفك الدماء ، ولا كان يعجبه أن يرى

__________________

(١) راجع في ما تقدم السيرة لابن هشام ج ٢ ص ٢٧١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٤.

وج ١ ص ٢٩١ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٣١ و ٣٣.

٢٨١

جثث القتلى ويسمع أنين الثكالى ؛ بل كان له هدف أسمى وغاية فضلى ، ترجع بالنفع العميم على الأمة ، وعلى الأجيال ، ويريد الوصول إليها بأقل عدد ممكن من الضحايا.

٢ ـ كما أنه كان يقدر مواقف الناس ، التي تعبر عن حسن خلق ، وسجية وشهامة ، وأريحية فيهم ، مهما كانت هويتهم وانتماؤهم ، وأيا كان موقفهم ، لأنه هو الإنسان الكامل ورسول الإنسانية ، فهو الذي يستطيع أن يدرك تلك الصفات والسجايا ، ويقدرها أكثر من أي إنسان آخر.

ومن هنا ، فقد كان موقفه واحدا من جميع أولئك الذين أحسنوا السيرة والتصرف ـ ولو مرة ـ وكذا كان موقفه من الذين أكرهوا على الخروج.

ولم يكن ليختص بموقفه هذا أقاربه وأهل عشيرته ، فإنه لم يكن يتأثر في مواقفه بعواطف نسبية ، بل ليس من مصلحته ذلك في مثل هذا الموقف من وجهة نظر المنطق ، والتصرف العقلاني السليم.

٣ ـ وهو بالتالي يقدر ، ويفهم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها البعض ، بحيث تفرض عليهم قريش موقفا لا ينسجم مع رغائبهم وقناعاتهم ، أو على الأقل مع ميل وهوى نفوسهم ، وإن كانوا مدينين من جهة أخرى ، حيث كان بإمكانهم أن ينصروا الحق ، وأن يقفوا موقفا عقلانيا سليما ، كما فعل غيرهم ممن أسلموا ، وعرضوا أنفسهم للرزايا والنكبات عن رضى واختيار منهم حتى نصرهم الله تعالى وجعل كلمة الحق هي العليا.

النبي صلّى الله عليه وآله يستشير في أمر الحرب :

لما كان المسلمون قرب بدر ، وعرفوا بجمع قريش ، ومجيئها ، خافوا

٢٨٢

وجزعوا من ذلك ؛ فاستشار النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه في الحرب ، أو طلب العير.

فقام أبو بكر ، فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت. ولم تخرج على هيئة الحرب.

فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إجلس ؛ فجلس ؛ فقال «صلى الله عليه وآله» : أشيروا علي.

فقام عمر ، فقال مثل مقالة أبي بكر.

فأمره النبي «صلى الله عليه وآله» بالجلوس ، فجلس.

ونسب الواقدي والحلبي الكلام المتقدم لعمر ، وقالا عن أبي بكر : إنه قال فأحسن (١).

ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا : أن ما جئت به حق من عند الله ، والله لو أمرتنا : أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر صلب) ، وشوك الهراس لخضناه معك ، ولا نقول لك ما قالت بن إسرائيل لموسى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(٢).

ولكنا نقول : إذهب أنت وربك ؛ فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون. والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ، ومن بين يديك ، ولو خضت بحرا لخضناه

__________________

(١) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٤٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٠ ، والدر المنثور ج ٣ ص ١٦٦ عن دلائل النبوة للبيهقي ، والبحار ج ١٩ ص ٢٤٧ ، وتفسير القمي ج ١ ص ٢٥٨.

(٢) الآية ٢٤ من سورة المائدة.

٢٨٣

معك ، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك (١).

فأشرق وجه النبي «صلى الله عليه وآله» ، ودعا له ، وسر لذلك ، وضحك كما يذكره المؤرخون (٢).

فيلاحظ : أن الكلام كله قد كان من المهاجرين ، وقد ظهر منهم : أنهم لا يريدون حرب قريش ، وهم يتفادون ذلك بأي ثمن كان ، غير أن المقداد قد رد عليهم مقالتهم ، وخالفهم في موقفهم. ثم توجه النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الأنصار ، حيث يقول النص التاريخي :

ثم قال : أشيروا علي ـ وإنما يريد الأنصار ، لأن أكثر الناس منهم ؛ ولأنه كان يخشى أن يكونوا يرون : أن عليهم نصرته في المدينة ، إن دهمه عدو ، لا في خارجها ، فقام سعد بن معاذ ـ وقيل ابن عبادة وهو وهم ؛ لأنه لم يشهد بدرا ؛ لأنه كان قد لدغ ، فلم يمكنه الخروج (٣) ـ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، كأنك أردتنا؟

فقال : نعم.

فقال : فلعلك قد خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟

قال : نعم.

__________________

(١) برك الغماد : يعني مدينة الحبشة كما في تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٣ وموضع من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن. راجع مغازي الواقدي ج ١ ص ٤٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٠ عن الكشاف ومغازي الواقدي ج ١ ص ٤٨.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٠.

٢٨٤

قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؛ إنا قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت.

إلى أن قال : والله ، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ، ولعل الله يريك ما تقر به عينك ؛ فسر بنا على بركة الله.

فسر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأمرهم بالمسير ، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين ، ولن يخلف الله وعده ، ثم قال : والله ، لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة الخ ..

وسار حتى نزل بدرا.

ويظهر من بعض النصوص : أن الصحابة كانوا ـ في أكثرهم ـ يميلون إلى طلب العير ، وترك النفير (١).

وقد ذكر الله تعالى ذلك في قرآنه المجيد ، فهو يقول : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ)(٢).

وقبل أن نمضي في الحديث نشير إلى الأمور التالية :

١ ـ إستشارة النبي صلّى الله عليه وآله أصحابه :

لقد تحدثنا فيما سبق حينما تكلمنا عن سر إرسال المهاجرين في

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ١٦٣ و ١٦٩ عن ابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والكشاف ، والبيهقي ، وعبد بن حميد والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣.

(٢) الآية ٧ من سورة الأنفال.

٢٨٥

الغزوات ، ولسوف نتحدث فيما يأتي في غزوة أحد في فصل : قبل نشوب الحرب إن شاء الله تعالى ، عن موضوع استشارة النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه بما فيه الكفاية.

ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنه قد كان من الضروري أن يستشير «صلى الله عليه وآله» أصحابه في حرب بدر التي كانت حربا مصيرية ، سوف يتقرر على أساس نتائجها مصير الإيمان والشرك في المنطقة في المستقبل المنظور على الأقل ، بل ومطلقا كما أشار إليه «صلى الله عليه وآله» في دعائه : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد».

وواضح : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى رأيهم ، وإنما هو يستشيرهم لأنهم هم الذين سوف يتحملون أعباء الحرب ، ويعانون من نتائجها ، على مختلف الأصعدة.

ثم إنه يستخرج بذلك دخائل نفوسهم ، ويتميز المنافق من المؤمن ، والجبان من الشجاع ، والذي يفكر في مصلحة نفسه من الذي يفكر من منطلق التكليف الشرعي ، ويعرف أيضا الذكي من الغبي ، والعدو من الولي ، والضعيف من القوي إلى غير ذلك مما هو ظاهر لا يخفى.

ويدل على ما نقول : أن سعد بن معاذ يسأل النبي «صلى الله عليه وآله» : لعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟

فقال «صلى الله عليه وآله» : نعم.

فهذا يدل على أن أمر الحرب مقضي ومأمور به من قبل الله تعالى ؛ فليست استشارته «صلى الله عليه وآله» لهم إلا لما قلناه هنا ، وقدمناه ، وسيأتي في غزوة أحد.

٢٨٦

٢ ـ حرب قريش هي الرأي :

ومن الواضح : أن الرأي الحق هو حرب قريش ، كما أراد الله ورسوله ؛ وذلك لأن الأمر يدور بين :

أن يرجع المسلمون دون أن يتعرضوا للعير ، ولا لقريش ، وفي ذلك هزيمة روحية ونفسية واضحة للمسلمين ، وإطماع لغيرهم بهم ؛ من المشركين ، واليهود والمنافقين.

أو أن يطلبوا العير فيدركوها ، فيأخذوها ، بعد قتل أو أسر رجالها. ولن تسكت قريش على هذا الأمر ، بل هي سوف تتعرض لحربهم على أوسع نطاق. وقد تتمكن من مهاجمة المدينة قبل رجوع المسلمين إليها ، وتقوم بإنزال الضربة القاصمة بالمسلمين ، فإن قريشا وهي بهذه العدة والعدد لن تسكت عن أمر كهذا ، بل سوف تحاول رد هيبتها ، والثأر لكرامتها.

فلم يبق إلا خيار واحد ، وهو أن يقفوا في وجه قريش بعد أن يعرضوا عليها عروضا مقبولة ، وعادلة ، ومعقولة.

إذن ، فحرب وقتال قريش هي الخيار الأفضل والأمثل في ظروف كهذه ، ولا سيما إذا طلبوا العير ، وربما يوجب ذلك أن يزيد الأمر تعقيدا وإشكالا بالنسبة إلى المسلمين بما لا قبل لهم به.

وتكون النتيجة هي أنه إذا أراد المسلمون العيش في عزة ومنعة ، وأن لا يطمع بهم من حولهم ، والمشركون ، واليهود ، والمنافقون ، فلا بد من المبادرة للقتال ، وليس ثمة خيار آخر أمامهم.

٢٨٧

٣ ـ التربية النفسية :

وفي مجال آخر نشير إلى :

ألف ـ لقد كان هدف المسلمين أولا هو الحصول على المال ؛ فأراد الله ورسوله أن يرتفع بهم عن هذا الهدف الدنيوي إلى ما هو أغلى ، وأعلى ، وأسمى. وإلا فإن قريشا أيضا قد كانت تهدف من وراء جمعها الجموع ، وإثارة الحرب إلى أهداف دنيوية ، إقتصادية ، وإجتماعية ، وسياسية أيضا.

ب ـ لقد كان لحرب بدر أثرها في بث روح الاعتماد على النفس ، ومواجهة المسؤوليات بصلابة وشجاعة ، حيث لا بد من قتل فراعنة قريش ، وإفناء صناديدها وأسرهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)(١) ، ثم التهيؤ لحرب العرب والعجم بعد ذلك.

٤ ـ نظرة في الآراء حول الحرب :

ويلاحظ : أن أكثر المؤرخين قد حذفوا كلام عمر وأبي بكر هنا ، واكتفوا بقولهم : قام أبوبكر فأحسن ، ثم قام عمر فأحسن ، ثم قال المقداد كذا وكذا (٢).

وربما ينسبون إلى بعضهم كلاما آخر لا ربط له بسؤال النبي «صلى الله عليه وآله» أصلا.

وأما الفقرات التي نقلناها عنهما فلم تعجب الكثيرين من المؤرخين ،

__________________

(١) الآية ٤٢ من سورة الأنفال.

(٢) راجع على سبيل المثال : البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٢ ، والثقات ج ١ ص ١٥٧.

٢٨٨

فأضربوا عنها صفحا بالطريقة المشار إليها آنفا.

ولكن من الواضح : أن سرور النبي «صلى الله عليه وآله» بكلام المقداد ، ودعاءه له يدل على أن كليهما (أعني أبابكر وعمر) لم يكن منسجما مع ما كان يهدف إليه النبي «صلى الله عليه وآله» من مشاورته لهم ، بل كان مضادا لما كان يرمي إليه «صلى الله عليه وآله» ، ولو كان كلامهما لائقا لذكره محبوهم من المؤرخين والرواة وما أكثرهم.

وأما مشورة المقداد ، فكانت هي السليمة والمنسجمة مع المنطق ، ومع الأهداف السامية التي كان يرمي إليها الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله». وذلك هو ما كان يتوقعه «صلى الله عليه وآله» ويرمي إلى الوصول إليه ، والحصول عليه. ولذلك فقد استحق المقداد مدح النبي «صلى الله عليه وآله» ودعاءه له.

بل لقد ورد : أنه حين بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» إقبال أبي سفيان شاور أصحابه ، فتكلم أبوبكر ، فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه (١).

فإعراضه «صلى الله عليه وآله» عنهما ليس إلا لتخذيلهما عن النفير إلى حرب قريش ، ومدحهم لها بأنها : ما ذلت منذ عزت ، وما آمنت منذ كفرت الخ .. لا لأنه كان يريد من الأنصار أن يجيبوا وحسب. وإلا فلماذا سر من كلام المقداد ، ودعا له ، وهو من المهاجرين؟!

__________________

(١) صحيح مسلم باب غزوة بدر ج ٥ ص ١٧٠ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٢١٩ بطريقين ، وعن الجمع بين الصحيحين ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٩٤.

٢٨٩

حتى لقد قال ابن مسعود عن موقف المقداد هذا : لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به (١).

وعن أبي أيوب ، قال ـ في ضمن حديث له ـ : «فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من مال عظيم» فأنزل الله عز وجل على رسوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٢).

أضف إلى ذلك كله : أن كلام رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان عاما للجميع : للأنصار والمهاجرين على حد سواء ، كما أن المهاجرين كانوا كالأنصار من حيث إنهم لم يبايعوه على الحرب.

٥ ـ سر سروره صلّى الله عليه وآله بكلام سعد والمقداد :

وإن التأمل في كلام سعد بن معاذ والمقداد يفيد : أنهما لم يشيرا عليه لا بالحرب ، ولا بالسلام ؛ بل ما زادا على أن أظهرا التسليم والانقياد لأوامر النبي «صلى الله عليه وآله» ونواهيه ، وما يقضيه في الأمور. إنهما لم يبديا رأيا ، ولا قدما بين يديه أمرا. وهذا هو منتهى الإيمان ، وغاية الإخلاص والتسليم ، وقمة الوعي لموقعهما ، ووظائفهما ، وما ينبغي لهما.

فهما ما كانا يريان لنفسيهما قيمة في مقابل قضاء الله ورسوله على حد قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ

__________________

(١) صحيح البخاري باب تستغيثون ربكم ج ٣ ص ٣ ط الميمنية ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٢ و ٢٦٣ وسنن النسائي.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣ و ٢٦٤ عن أبي حاتم وابن مردويه.

٢٩٠

لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(١).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢). ولهذا الإيمان العميق ، والتسليم المطلق ، كان سرور رسول الله واستبشاره «سلام الله عليه وعلى آله الطاهرين».

٦ ـ أين رأي علي عليه السّلام؟!

ويلاحظ هنا : أننا لا نجد عليا في هذا المقام يبدي رأيا ، ولا يبادر إلى موقف ، أو مشورة ، مع أنه رجل الحكمة ، ومعدن العلم ؛ فما هو السر في ذلك يا ترى؟!

ونقول في الجواب : إن موقف علي «عليه السلام» هو موقف نفس النبي «صلى الله عليه وآله». وقد وصفه الله سبحانه وتعالى في آية المباهلة بأنه نفس النبي ، فقال : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ)(٣).

أضف إلى ذلك : أن عليا «عليه السلام» لم يكن ليتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء وقد كان يرى أن من واجبه السكوت ، والتسليم ، والرضا بما قضاه الله ورسوله ، ولا يجد في نفسه أي حرج من ذلك.

الحباب ذو الرأي :

ويروون : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نزل أدنى ماء ببدر ؛ فأشار

__________________

(١) الآية ٣٦ من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ١ من سورة الحجرات.

(٣) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

٢٩١

عليه الحباب بن المنذر بأن ينزل أدنى ماء من القوم ، ثم يصنع حوضا للماء ، ويغور سائر القلب ؛ فيشرب المسلمون ، ولا يشرب المشركون. ففعل الرسول «صلى الله عليه وآله» ذلك ، ثم صوب رأي الحباب.

فسمي الحباب حينئذ : «الحباب ذو الرأي» (١).

ولكن هذه الرواية لا تصح ، وذلك :

أولا : إنه قد دل الدليل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» مصيب في كل ما يفعل ويرتتئي ، ولا يصغى لما يقال من جواز الخطأ عليه في الأمور الدنيوية ، فإنه مما يدفعه العقل والنقل. (وسيأتي البحث عن أن العصمة عن الخطأ والنسيان اختيارية عن قريب إن شاء الله تعالى).

وثانيا : إن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار (٢) تسوخ فيها الأرجل (٣).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٧٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٦ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٥ ؛ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٢٢ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٠٣ و ٤٠٢ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٧ ، وغير ذلك.

(٢) الخبار : ما لان من الأرض واسترخى.

(٣) راجع : فتح القدير ج ٢ ص ٢٩١ عن الزجاجو ٣١١ ، والكشاف ج ٢ ص ٢٢٣ و ٢٠٣ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٥ ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٢ عن ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، والدر المنثور ج ٣ ص ١٧١ عن ابن المنذر ، وأبي الشيخ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٤ ، وسيرة ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٠ وعن الكشاف ، وأنوار التنزيل ، والمدارك ، وغير ذلك.

٢٩٢

وثالثا : إن المشركين هم الذين سبقوا بالنزول في بدر كما سيأتي ؛ ولا يعقل أن ينزلوا في مكان لا ماء فيه ، ويتركوا الماء لغيرهم.

ورابعا : إن ابن إسحاق ينص على أن المشركين وردوا الحوض ، فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» أن لا يتعرضوهم (١). وقد فعل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» في صفين مثل ذلك ؛ حيث أباح الماء لأعدائه القاسطين ، مع أنهم كانوا قد منعوه إياه أولا (٢).

ومن الواضح : أن منعهم من الماء لا ينسجم مع أخلاقيات ومبادئ الإسلام ونبيه الأعظم «صلى الله عليه وآله».

فالصحيح هو الرواية التي تقول : إن المسلمين لم يكونوا على الماء ، فأرسل الله السماء عليهم ليلا حتى سال الوادي ، فاتخذوا الحياض ، وشربوا وسقوا الركائب ، واغتسلوا وملأوا الأسقية (٣) كما أشار إليه تعالى ، حين قال : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(٤).

وذلك هو سر بناء الحوض ، وليس ما ذكروه.

__________________

(١) وراجع : الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٢٣.

(٢) راجع كتابنا : الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل.

(٣) راجع : الكشاف ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤ ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٢ غير أنه لم يذكر اتخاذ الحياض.

(٤) الآية ١١ من سورة الأنفال.

٢٩٣

عدة وعدد المسلمين والمشركين :

وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد خرج في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، عدد أصحاب طالوت (وقيل : أكثر ، وأقل) والأول هو قول عامة السلف (١).

وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا يتعاقبون عليها ، الاثنان والثلاثة ؛ فكان النبي «صلى الله عليه وآله» ، وعلي «عليه السلام» ، ومرثد بن أبي مرثد ، وقيل : زيد بن حارثة ، يعتقبون بعيرا.

وكان معه من الخيل : فرس للمقداد قطعا بإجماع المؤرخين.

قيل : فقط (٢).

وروي ذلك عن أمير المؤمنين «عليه السلام» (٣).

وقيل : وفرس للزبير ، أو لمرثد ، أو هما معا.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٩.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧١ عن الكشاف ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨٧ ، والبحار ج ١٩ ص ٣٢٣ ، وهو عن تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٥ و ٥٤ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٤٩٣ عن الترغيب ج ١ ص ١٣١٦ عن ابن خزيمة. وراجع : المغازي للذهبي (تاريخ الإسلام) ص ٥٦ و ٥٩ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ط المكتبة العلمية ج ٣ ص ٣٨ و ٣٩ و ٤٩ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٧ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٥.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٣٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٩ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٨٨.

٢٩٤

ومعهم من السلاح ستة أدرع ، وثمانية سيوف (١).

ومعه من المهاجرين ، قيل : أربعة وستون ، وقيل : سبعون ، وقيل : ستة وسبعون أو سبعة وسبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل : مئتان وسبعون من الأنصار ، وبقيتهم من سائر الناس ، وقيل غير ذلك (٢).

والذين من الخزرج كانوا مئة وسبعين. وفي عدد الخزرج اختلاف أيضا.

أما المشركون ، فخرجوا وهم يشربون الخمور ، ومعهم القيان ، يضربن بالدفوف ، وقد أرجعوهن من الطريق.

وكان معهم سبعمائة بعير (٣).

ومن الخيل ، قيل : أربعمائة (٤) ، وقيل : مئتان ، وقيل : مئة فرس (٥) ، وقيل

__________________

(١) راجع : مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨٧ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٠٦ ، ومجمع البيان ج ٢ ص ٢١٤ ، وحسب طبعة دار إحياء التراث المجلد الأول ص ٤١٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧١.

(٢) راجع : البحار ج ١٩ ص ٣٢٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٩ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٦ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٦٠٣ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧١ ، وأنساب الأشراف ج ١ ص ٢٩٠ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٩٣ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١١٨ ، وغير ذلك.

(٣) راجع ما تقدم في المصادر المتقدمة في الهوامش المختلفة.

(٤) تفسير القمي ج ١ ص ٢٦٢.

(٥) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٨٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٦ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٤٤ و ٢٠٦ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١١٨ ، ومجمع البيان ، وغير ذلك ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٨٧.

٢٩٥

غير ذلك. وكلهم دارع. ومجموع الدار عين فيهم ستمائة (١).

وكان يتبرع بالإطعام رجل منهم كل يوم ، فينحرون لهم تسعا ، أو عشرا من الإبل ، فكان المطعمون اثني عشر رجلا ، منهم : عتبة ، وشيبة ، والعباس ، وأبوجهل ، وحكيم بن حزام ؛ الذي أصبح فيما بعد من المؤلفة قلوبهم ، كما هو معروف.

المشركون يدركون بغيهم وعدوانهم :

والتقى بعض المسلمين ببعض عبيد قريش على ماء بدر ، فأخذوهم ، وسألوهم عن العير ، فأنكروا معرفتها ، فضربوهم ورسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلي ، فانفتل من صلاته ، وقال : إن صدقوكم ضربتموهم ، وإن كذبوكم تركتموهم؟

ثم سألهم عن عدة قريش ، فقالوا : لا علم لهم بعددهم.

فقال «صلى الله عليه وآله» : كم ينحرون كل يوم من جزور؟

قالوا : تسعة إلى عشرة.

فقال «صلى الله عليه وآله» : القوم تسعمائة إلى ألف رجل (٢) (وقيل :

__________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢٠٤ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٨٧.

(٢) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٩٨ و ٢٦٩ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٥٣ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣ و ٢٦٤ ، وراجع : دلائل النبوة ج ٢ ص ٣٢٧ و ٣٢٨ ، والسنن الكبرى ج ٩ ص ١٤٧ و ١٤٨ ، وزاد المعاد ج ٣ ص ١٧٥ ، وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٠ ، وكشف الأستار ج ٢ ص ٣١١ ، والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٣٢ ـ ١٣٤ و ١٤٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٢.

٢٩٦

أكثر ، حتى لقد قال البعض : إنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل ، وهو بعيد).

فأمر بهم «صلى الله عليه وآله» ، فحسبوا ، فعلم مشركو قريش ، ففزعوا ، وندموا على مسيرهم ، حيث إنهم بعد أن علموا بنجاة العير أصروا على المجيء إلى بدر لتهابهم العرب ، كما تقدم.

وقد اعترف عتبة بن ربيعة ، الذي كان ولده أبو حذيفة مع النبي «صلى الله عليه وآله» : بأن مسيرهم بعد نجاة عيرهم كان بغيا منهم وعدوانا. وبذلت محاولة للاتفاق على الرجوع ، لكن أبا جهل أبى ذلك ، وقال :

«لا ، واللات والعزى ، حتى نقحم عليهم بيثرب ، ونأخذهم أسارى ، فندخلهم مكة ، وتتسامع العرب بذلك ، ولا يقوم بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه» (١).

ورجع بنو زهرة حينئذ بإشارة الأخنس بن شريق ، كما تقدم.

مواقع الجيشين :

وسبق المشركون إلى بدر ، فنزلوا في العدوة القصوى ، في جانب الوادي مما يلي مكة ، حيث الماء ، وكانت العير خلف المشركين (٢).

قال تعالى : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)(٣). ومحل نزولهم كان صلبا. ونزل المسلمون في العدوة الدنيا ، أي جانب الوادي مما يلي المدينة ، حيث لا ماء ،

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٥٠ عن تفسير القمي ، وراجع مغازي الواقدي ج ١ ص ٧١.

(٢) لسوف يأتي : أن العير قد سلمت ، لأن أبا سفيان قد سلك بها طريق البحر وابتعد عن المدينة وعن مسير المسلمين.

(٣) الآية ٤٢ من سورة الأنفال.

٢٩٧

وحيث الأرض رخوة ، لا تستقر عليها قدم ؛ مما يعني أن منزل المسلمين كان من وجهة نظر عسكرية غير مناسب.

ولكن الله أيد عباده ونصرهم على عدوهم ، وجاء المطر ليلا على المشركين ، فأوحلت أرضهم ، وعلى المسلمين ؛ فلبدها ، وجعلها صلبة ، وجعلوا الماء في الحياض (١).

معنويات المسلمين والعنايات الربانية :

ولما بلغ المسلمين كثرة المشركين ، خافوا ، وتضرعوا إلى الله.

وعن أبي جعفر الباقر «عليه السلام» : لما نظر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى كثرة المشركين ، وقلة المسلمين ، استقبل القبلة ، وقال :

«اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ؛ فنزلت الآية : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ)(٢).

فالإمداد بالملائكة إذا ، ليس إلا للتطمين ، وإعطاء توهج روحي للمسلمين ، الذين يحسون بالضعف ، ويستغيثون ربهم ، حسب مدلول الآية الشريفة.

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٧١ و ٢٧٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٥ ، وتاريخ الأمم والملوك ط الإستقامة ج ٢ ص ١٤٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٤ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٢٢ ، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٣ ص ٣٥ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٦.

(٢) الآيتان ٩ و ١٠ من سورة الأنفال.

٢٩٨

ثم ألقى الله النعاس على المسلمين ؛ فناموا ، وقد ذكر الله سبحانه ذلك ، وإرسال المطر عليهم ؛ فقال : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(١).

نعم ، لقد كان ذلك النعاس ضروريا لفئة تواجه هذا الخطر الهائل ، وهي تدرك أنها لا تملك من الإمكانات المادية شيئا يذكر لدفعه.

نعم ، لا بد من هذا النعاس ؛ لئلا تستبد بهم الوساوس في هذا الليل البهيم ، الذي تكبر فيه الأشياء وتتضخم ، فكيف إذا كانت الاشياء كبيرة بطبيعتها؟

وقد كان هذا النعاس ضروريا أيضا ليحصل لهم الأمن والسكون : «أمنة» ولتقوى قلوبهم بالإيمان والسكينة ، حتى لا يضعفوا عن مواجهة الخطر ، وحتى يمكن لعقولهم وفكرهم أن يسيطر على طبيعة تصرفاتهم ومواقفهم ، بدلا من الضعف والانفعال ، والتوتر. وبواسطة هذا النعاس وذلك المطر يربط الله على قلوبهم ، حيث يطمئنون إلى أن الله ناظر إليهم ، وإلى أن ألطافه وعناياته متوجهة نحوهم ، فلا يهتمون بعد ذلك بالحوادث الكاسرة ، ولا تهمهم الجيوش بكثرتها الكاثرة.

وفي مقابل ذلك ، فقد ألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب ، والخوف ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وقد يقال : إن الله سبحانه قد أخبر في السور المكية ، كسورة محمد «صلى الله عليه وآله» بعد ذكره الذين تحزبوا ضد أنبيائهم ، وثمود ، وفرعون ، عن

__________________

(١) الآية ١١ من سورة الأنفال.

٢٩٩

أن هناك حادثة شبيهة لما جرى لتلك الفئات ، ستقع للمسلمين ، فقال : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)(١) ، فكان ذلك وقعة بدر ، كما قاله البعض.

أهداف الحرب :

والملاحظة الهامة هنا هي : أن النبي «صلى الله عليه وآله» يصرح بأن حرب بدر حرب مصيرية ، وأن هدفه من هذه الحرب هو التمكين لعبادة الله تعالى ، وليس عبادة الذات ، أو المال ، أو الجنس ، أو الجاه ، أو السلطان ، ولا غير ذلك ، ولا سيما إذا شعرت قريش بالضيق والذل والضعف ، عن طريق جعلها في معاناة إقتصادية ونفسية ، حينما تدرك : أن طريق قوافلها إلى الشام ولبلدان أخرى أصبح مهددا ، وهذا ما سوف يضعف من عزائم القرشيين ، ويزلزل وجودهم ، ويجعلهم في الموقف الأضعف.

أما هدف المشركين ، فهم أنفسهم قد أفصحوا عنه ، وهو أن تهابهم العرب ، وأن لا يكون بينهم وبين متجرهم أحد يكرهونه.

وشتان ما بين الهدفين ، وكذلك ما بين نتائج الحرب ـ كما سنرى ـ بالنسبة إلى الفريقين.

في المواجهة :

ولما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» عبأ أصحابه. وكانت رايته

__________________

(١) الآية ١١ من سورة ص.

٣٠٠