الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

وعنها أيضا قالت : نعم النساء نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (١).

ط ـ لا غنى في الحرب عن الأنصار :

ولكن كل ما قدمناه لا يعني : أن لا يشترك الأنصار في حرب أبدا ؛ فإن قضية الإسلام ، التي هي قضية الأمم والإنسانية جمعاء على مدى التاريخ ، تفوق في أهميتها وخطرها أهمية وخطر ما سيواجهه الأنصار من قريش فيما بعد ، وعلى الأخص إذا كان الإسلام قد وضع الضمانات اللازمة لتفادي أي رد فعل من هذا النوع.

وإنما حدث ما حدث بسبب عدم رعاية الأمة لقوانين الإسلام ، وعدم أخذها تلك الضمانات بنظر الاعتبار.

نعم .. لم يكن ثمة محيص عن اشتراك الأنصار في الحرب ، كما أنه لم يكن مفر من العمل على تخفيف حدة حقد قريش ، والموتورين من قبل الإسلام ؛ لتكون المشاكل المستقبلية ، التي سوف يواجهها الأنصار أقل ، ووقعها أخف نسبيا ، وهكذا كان.

وسيأتي إن شاء الله بعض الكلام أيضا عن قريش والأنصار في غزوة بدر العظمى ، فلا بد من ملاحظة ذلك.

__________________

(١) راجع صحيح البخاري ج ١ ص ٢٤ والمصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٣١٤ وفي الهامش عن البخاري ومسلم ، وابن أبي شيبة ، وعن كنز العمال ج ٥ رقم ٣١٤٥ ، وعن اهتمام نساء الأنصار بالفقه راجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٢١.

٢٦١
٢٦٢

القسم الخامس

حتى أحد

الباب الأول : معركة بدر

الباب الثاني : بحوث ليست غريبة عن السيرة

الباب الثالث : ما بين أحد وبدر

٢٦٣
٢٦٤

الباب الأول

معركة بدر

الفصل الأول : في أجواء القتال

الفصل الثاني : نتائج الحرب

الفصل الثالث : الغنائم والأسرى

الفصل الرابع : نهاية المطاف

٢٦٥
٢٦٦

الفصل الأول :

في أجواء القتال

٢٦٧
٢٦٨

محاولة قرشية فاشلة :

وبعد مضي مدة على وجود النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» والمسلمين في المدينة ، كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي بن سلول ، ومن كان يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» يومئذ بالمدينة ـ قبل وقعة بدر ـ يقولون :

«إنكم آويتم صاحبنا ، وإنكم أكثر أهل المدينة عددا ، وإنا نقسم بالله ، لتقتلنه ، أو لتخرجنه ، أو لنستعن (١) عليكم العرب ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مقاتلتكم ، ونستبيح نساءكم».

فلما بلغ ذلك ابن أبي ومن معه من عبدة الأوثان تراسلوا ؛ فاجتمعوا ، وأجمعوا لقتال النبي «صلى الله عليه وآله».

فلما بلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله» وأصحابه لقيهم في جماعة ، فقال :

«لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت لتكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم. فأنتم هؤلاء تريدون أن تقتلوا أبناءكم وإخوانكم».

__________________

(١) الظاهر : أن الصحيح هو : لنستعينن.

٢٦٩

فلما سمعوا ذلك من النبي «صلى الله عليه وآله» تفرقوا ؛ فبلغ ذلك كفار قريش ، وكانت وقعة بدر (١).

الإنتداب إلى بدر :

وفي السنة الثانية ، في السابع عشر من شهر رمضان المبارك كانت حرب بدر العظمى بين المسلمين ومشركي مكة.

وذلك أن العير التي طلبها المسلمون في غزوة العشيرة وأفلتت منهم إلى الشام ، ظل النبي «صلى الله عليه وآله» يترقبها ، حتى علم بعودتها ، وكانت بقيادة أبي سفيان ، مع ثلاثين ، أو أقل ، أو أربعين ، أو سبعين راكبا. وفيها أموال قريش ؛ حتى قيل : إن فيها ما قيمته خمسون ألف دينار ، في ذلك الوقت الذى كان فيه للمال قيمة كبيرة.

فندب رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسلمين للخروج إليها ؛ فانتدب الناس ؛ فخف بعضهم ، وثقل آخرون ، ولعلهم تخوفوا من كرة قريش عليهم ، حينما لا بد لها من محاولة الانتقام لهذا الإجراء الذي يستهدف مصالحها الحيوية.

يقول عدد من المؤرخين : «وأبطأ عن النبي «صلى الله عليه وآله» كثير من أصحابه ، وكرهوا خروجه ، وكان في ذلك كلام كثير واختلاف. وتخلف بعضهم من أهل النيات والبصائر ، لم يظنوا أن يكون قتال ، إنما هو الخروج للغنيمة ، ولو ظنوا أن يكون قتال ما تخلفوا» (٢).

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٥٨ و ٣٥٩.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٨٥ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٠ و ٢١ والبحار ج ١٩ ص ٣٢٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٣.

٢٧٠

وقال الواقدي : كره خروج رسول الله «صلى الله عليه وآله» أقوام من أصحابه إلى بدر ، قالوا : نحن قليل ، وما الخروج برأي ، حتى كان في ذلك اختلاف كثير (١).

وقد حكى الله تعالى ذلك ، فقال :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٢).

نعم لقد كرهوا ذلك لعلمهم بأن قريشا لن تسكت على أمر خطير كهذا.

ومن هنا نعرف : أن قول بعضهم : إن من تخلف لم يكن يظن أن النبي «صلى الله عليه وآله» يلقى حربا (٣) في غير محله ، بل هو محاولة إيجاد عذر للمتخلفين مهما كان فاشلا وغير معقول.

وإلا فالآية الكريمة خير دليل على عدم صحة هذا القول. وخرج المسلمون يريدون العير ، وعلم أبو سفيان بالأمر ، فأرسل إلى قريش يستنفرهم لنجاة العير.

الذين يخشون الناس :

ويذكر هنا : أن عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، والمقداد ، وقدامة بن مظعون ، كانوا يؤذون في مكة ؛ فكانوا يستأذنون النبي «صلى الله عليه وآله» بقتال المشركين ، فلا يأذن لهم ، فلما أمروا بالقتال ، والسير إلى

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ١٣١.

(٢) الآيتان ٥ و ٦ من سورة الأنفال.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١١٦.

٢٧١

بدر ، شق على بعضهم ؛ فنزل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى)(١).

ونحن نقول : إن نفسية المقداد ومواقفه تأبى أن يكون ممن شق عليهم ذلك ؛ بدليل موقفه العظيم الآتي بعد صفحات يسيرة إن شاء الله ، حينما استشار النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه في حرب قريش.

أضف إلى ذلك : أن الآية تدل على أن هؤلاء قد خافوا وجبنوا عن القتال ، وكانت خشيتهم وخوفهم من الناس أشد منها بالنسبة إلى الله سبحانه ، وأن ذلك كان لأجل حب البقاء ، وللتمتع بالدنيا.

ونحن نعلم : أن المقداد لم يكن جبانا قط ، ولا كان من محبي البقاء في الدنيا على حساب الدين والإسلام ، وتلك هي حياته وسيرته خير شاهد على ما نقول.

كما أن الرواية والآية تدلان على أن فريقا من أولئك المذكورين أولا قد شق ذلك عليهم ، وليس الكل.

وأما من عدا المقداد ممن ذكرت الرواية أسماءهم ، فإن تعلقهم بالدنيا كما يظهر من سيرة حياتهم ومواقفهم المختلفة ، يؤيد أن يكونوا ممن شق

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٠٩ ومجمع البيان ج ٣ ص ٧٧ والدر المنثور ج ٢ ص ١٨٤ عن : النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

٢٧٢

عليهم ذلك فعلا.

فأما عبد الرحمن بن عوف ؛ فلا يشك في كونه من الذين قالوا ذلك كما يفهم من بعض النصوص (١) ولقد ترك هذا الرجل من المال ما هو معروف ومشهور ، وقد جرى بين أبي ذر وعثمان وكعب الأحبار ما جرى بسبب ذلك (٢) ، وقد صرح بأنه أكثر قريش مالا (٣).

وموقفه في يوم الشورى معروف أيضا ، فإنه قد ضرب بكل الأوامر الإلهية والوصايا النبوية في حق علي «عليه السلام» عرض الحائط ، فلم يكن ليهتم كثيرا بأوامر الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» وذلك رغبة منه في الدنيا وإيثارا لها.

وأما قدامة فقد حده عمر في الخمر ، وتخلف عن بيعة علي «عليه السلام» (٤). كل ذلك طلبا للدنيا ، وانسياقا وراء الهوى.

وأما سعد ، فقد أبى أن يبايع عليا «عليه السلام» ، وقعد عنه في حروبه ،

__________________

(١) يفهم ذلك من إطلاقات روايات الدر المنثور فراجع.

(٢) راجع : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٠ ومسند أحمد ج ١ ص ٦٣ وراجع : حلية الأولياء ج ١ ص ١٦٠ والغدير ج ٨ ص ٣٥١ وراجع : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٥٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٥٤ وج ٨ ص ٢٥٦ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢٥١ ـ ٢٥٨ وتاريخ الأمم والملوك وغير ذلك.

(٣) راجع : كشف الأستار عن مسند البزار ج ٣ ص ١٧٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٧٢.

(٤) راجع قاموس الرجال ج ٧ ص ٣٨٥ وعن كونه قد حد في الخمر راجع : الإصابة ج ٣ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٣٦١ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٩٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢٠ ص ٢٣.

٢٧٣

وقطع «عليه السلام» عنه العطاء ، وصارمه عمار ، وأخذ بعض أموال بيت مال الكوفة (١). إلى غير ذلك مما يدل على تعلقه بالدنيا ، وعدم اهتمامه بأوامر الله ورسوله.

فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا محط نظر الآية والرواية ، وإنما أخفى الرواة أسماءهم ، وخلطوهم بغيرهم ، لأن السياسة كانت ترغب في ذلك ، كما هو معلوم.

رؤيا عاتكة :

ويقول المؤرخون : إن عاتكة بنت عبد المطلب كانت قد رأت في الرؤيا : أن رجلا أقبل على بعير له ينادي : يا آل غالب.

وفي رواية : يا آل غدر ، أغدوا إلى مصارعكم ، ثم دهده حجرا من أبي قبيس ؛ فما ترك دارا بمكة إلا أصابتها منه فلذة.

فأخبرت عاتكة العباس برؤياها ، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة ، فقال : هذه مصيبة تحدث في قريش.

أما أبو جهل ، فقال : هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب ، واللات والعزى ، لننظرن ثلاثة أيام ، فإن كان ما رأت حقا ، وإلا لنكتبن كتابا بيننا : إنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ، ونساء من بني هاشم.

فلما كان اليوم الثالث جاءهم النذير يناديهم : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة ، اللطيمة (٢).

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ٤ ص ٣١٢ ـ ٣١٥.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٣ و ١٤٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٣٦

٢٧٤

قريش تتجهز :

وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وقالوا : من لم يخرج نهدم داره ، فلم يتخلف رجل إلا أخرج مكانه رجلا (١).

وبعث أبو لهب العاصي بن هشام مكانه على أربعة آلاف درهم ، كانت له عليه من مال المقامرة ـ على ما قيل ـ (٢).

موقف أمية بن خلف :

وكان أمية بن خلف معرضا عن الخروج ؛ لأن سعد بن معاذ كان قد قدم مكة معتمرا ، فنزل على أمية ، لصداقة بينهما ، وخرج سعد ليطوف ، ومعه أمية ، فلقيهما أبوجهل ، فقال لسعد : ألا أراك تطوف بمكة آمنا ، وقد آويتم الصباة ، وزعمتم أنكم تنصرونهم ، وتعينونهم؟! أما والله لو لا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما.

__________________

و ١٣٧ والروض الأنف ج ٣ ص ٤٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٦٩ عن ابن إسحاق والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٥٩ ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٣ ص ٢٩ و ٣٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١١٦ و ١١٧ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٥٣ والبحار ج ١٩ ص ٢٤٥ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٥٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٨٢.

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٦١.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٥ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٢٩٢ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٦١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٠ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٣٧ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٥٨.

٢٧٥

فقال له سعد ـ وقد رفع صوته ـ : أما والله ، لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه ، طريقك على المدينة.

فاعترض أمية عليه لرفعه صوته على سيد أهل الوادي بزعمه.

فقال سعد : دعنا عنك ، فو الله لقد سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول : إنهم قاتلوك.

فقال أمية : بمكة؟

قال سعد : لا أدري.

قال أمية : والله ما كذب محمد.

وفزع فزعا شديدا (وقيل : أحدث في ثيابه فزعا) ، وعزم على ألا يخرج.

فلما كان يوم بدر أصر عليه أبو جهل ليخرج ، حتى ليقال : إنه أرسل إليه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها بخور ، حتى وضعها بين يديه ، وقال : استجمر ، فإنك من النساء. فتحمس حينئذ ، وتهيأ للخروج ، فنهته زوجته وقالت : «والله ، إن محمدا لا يكذب». فأبى إلا المسير ، فقتل في بدر (١).

مع قضية ابن خلف :

ولا بد لنا هنا من تسجيل النقاط التالية :

١ ـ إن مما يلفت النظر هنا تهديد سعد لأبي جهل بقطع طريقه على المدينة ، واعتباره هذا الإجراء أشد على أبي جهل من منع المدنيين من

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٥ ، وراجع : صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة بدر ، وباب علامات النبوة والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٨٤ و ٣٨٥ ورواه أحمد.

٢٧٦

الوصول إلى مكة.

وذلك أمر واضح ؛ فإن الحياة الإقتصادية للمكيين قائمة على التجارة ، وأهم المراكز التجارية لهم هو الشام. وإذا تعرضت مكة لضغط إقتصادي قوي ، وأصبحت بحاجة إلى الآخرين ؛ فإن ذلك سوف يؤثر على وضعها السياسي والإجتماعي أيضا ، حيث تفقد هيبتها ، وأهميتها ، ونفوذها في القبائل العربية.

ولماذا وعلى أي شيء كانت تحارب محمدا «صلى الله عليه وآله» والمسلمين؟! أليس لأجل النفوذ والزعامة ، التي تعتبرها فوق كل شيء ، وأعز وأجل شيء؟!.

وقد تقدم بعض الكلام في هذا الموضوع حين الكلام عن الهجرة.

٢ ـ إننا نلاحظ : أن أمية بن خلف لم تكن مواقفه وتصرفاته محكومة لعقله ، ولا نابعة من أعماق ضميره ووجدانه. فهو يقتنع بصدق محمد «صلى الله عليه وآله» ، ولكنه لا يقعد عن حربه ـ حين يقعد ـ من أجل ذلك ، وإنما خوفا على نفسه ، وحفاظا عليها ، كما أنه لا يحاربه حين يحاربه من أجل تبدل الرؤية لديه ، وإنما بوحي من تحمسه الكاذب ، ونخوته الجاهلية ؛ فأورده ذلك المهالك في الدنيا وفي الآخرة.

وقد حكى الله تعالى حالة أمثاله ، بأجلى بيان ، وأوجز عبارة ، فقال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١).

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

٢٧٧

٣ ـ في هذه القضية أيضا دلالة واضحة على المكانة السامية التي كانت للنبي «صلى الله عليه وآله» في نفوس الناس جميعا ، وعلى أنهم يرونه صادقا فيما يخبر به حين يرجعون إلى ضميرهم ووجدانهم ، وإلى ما في قرارة نفوسهم من قناعة واقعية إلى حد أنهم يقسمون على صدقه فيما يخبر به ، وأنه لا يكذب. ولكنهم في نفس الوقت يشعرون أنهم بحاجة إلى إظهار العناد والتكذيب لمصالح دنيوية ، واعتبارات قبلية ، أو غير ذلك.

رجوع طالب بن أبي طالب عن الحرب :

وخرج مع المشركين من بني هاشم : العباس ، وعقيل ، ونوفل بن الحارث ، وطالب بن أبي طالب. فأما طالب فخرج مكرها ، فجعل يرتجز ويقول :

يا رب إما يغزون طالب

في مقنب من هذه المقانب

فليكن المسلوب غير السالب

وليكن المغلوب غير الغالب

فجرت بينه وبين القرشيين ملاحاة وقالوا : والله ، لقد عرفنا أن هواكم مع محمد ؛ فرجع طالب فيمن رجع إلى مكة ، ولم يوجد في القتلى ، ولا في الأسرى ، ولا فيمن رجع إلى مكة (١).

وادّعى البعض : أنه مات كافرا في غزوة بدر حين وجهه المشركون إلى

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٩ ص ٢٩٤ و ٢٩٥ ، وروضة الكافي ص ٣٧٥ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٤٤ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٢١ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٧١ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٥ وراجع البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٦ وأنساب الأشراف ج ٢ ص ٤٢ وفيه أنه حضر بدرا مع المشركين.

٢٧٨

حرب المسلمين (١).

هكذا قالوا .. ونحن نقول :

ألف ـ كيف لم يوجد فيمن رجع إلى مكة ، وابن هشام يذكر له قصيدة يمدح فيها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ويبكي أهل القليب ـ على حد تعبير ابن هشام ـ ويطلب في شعره من بني عبد شمس ونوفل أن لا يثيروا مع الهاشميين حربا تجر المصائب والبلايا ، والاهوال ، وفيها يقول :

فما إن جنينا في قريش عظيمة

سوى أن حمينا خير من وطأ التربا

أخا ثقة في النائبات مرزّأ

كريما ثناه ، لا بخيلا ولا ذربا

يطيف به العافون يغشون بابه

يؤمّون نهرا لا نزورا ولا ضربا

فو الله لا تنفك عيني حزينة

تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا (٢)

وهذا يدل على أنه قد عاش إلى ما بعد وقعة بدر. وأما بكاؤه أهل القليب ، فالظاهر أنه كان مجاراة لقريش ، كما يدل عليه مدحه للنبي «صلى الله عليه وآله» ، وطلبه من بني عبد شمس ونوفل أن لا يحاربوا الهاشميين وإلا ، فكيف نفسر شعره المتقدم :

وليكن المسلوب غير السالب

وليكن المغلوب غير الغالب

ب ـ لقد ورد في رواية مرسلة عن أبي عبد الله «عليه السلام» : أن

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ١٦٣.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٢٧ و ٢٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٤٠.

٢٧٩

طالبا قد أسلم (١).

وروي أنه هو القائل :

وخير بني هاشم أحمد

رسول الإله على فترة (٢)

وليس من البعيد : أن تكون قريش قد دبرت أمر التخلص من طالب انتقاما لنفسها ، لما جرى عليها من علي في بدر وغيرها.

المكرهون والراجعون :

وحينما خالف أبو سفيان في الطريق ، ونجا بالعير ، أرسل يطلب من قريش الرجوع ، فأبى أبو جهل ، إلا أن يرد بدرا ، ويقيم ثلاثة أيام ، ويأكل ، ويشرب الخمور ، حتى تسمع العرب بمسيرهم وجمعهم ؛ فيهابونهم أبدا.

ولكن الأخنس بن شريق رجع ببني زهرة ، ولم يشهدوا الحرب. وقيل : شهدها رجلان منهم قتلا في بدر.

بل قال التلمساني في حاشية الشفاء : إن الأخنس نفسه قد قتل في بدر ، وقيل مات في خلافة عمر.

ويذكرون : أن سبب رجوع الأخنس ببني زهرة هو أنه سأل أبا سفيان سرا : إن كان محمد يكذب ، فقال له : ما كذب قط ، كنا نسميه الأمين ، ولكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة لها والمشورة ، ثم تكون فيهم النبوة ، فأي شيء يكون لنا ، فانخنس الأخنس ، ورجع ببني زهرة (٣).

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٢٩٤.

(٢) شرح النهج ج ١٤ ص ٧٨.

(٣) راجع السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥٣.

٢٨٠