الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

الله تعالى (١).

لكن الجرح الذي لا يندمل ، والخزي الذي لا يمحى : تلك الفتاوى التي طلع البعض بها علينا ، والتي تقول بحرمة لعن يزيد ، وعدم جواز تكفيره (٢) مهما كانت الشواهد والدلائل متضافرة على ذلك.

ثم تحريمهم رواية مقتل الحسين «عليه السلام» (٣) وتحريمهم التحزن والتفجع في يوم عاشوراء (٤).

وسيعلم الذين ظلموا حق آل محمد ، وفرحوا في يوم حزنهم ، أي منقلب ينقلبون.

__________________

(١) راجع : عجائب المخلوقات (مطبوع بهامش حياة الحيوان ج ١ ص ١١٥ و ١٤) والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٤ ، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي ص ٢٤٦ ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ١٠٨ و ١١٦ ، ونظم درر السمطين ص ٢٣٠ واقتضاء الصراط المستقيم ص ٣٠٠ ، وتذكرة الموضوعات ص ١١٨ ، والدر المنثور ج ٤ ص ٣٠٣ ، والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٣٨ ، والصواعق المحرقة ص ١٨٢ ، والمدخل لابن الحاج ج ١ ص ٢٨٩.

(٢) راجع في ذلك : تذكرة الموضوعات للفتني ص ١١٨ ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ١٠٨ ـ ١١٦ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٤ ، واقتضاء الصراط المستقيم ص ٣٠١ ، وراجع : الصواعق المحرقة ص ١٨١ و ١٨٢ ، ونظم درر السمطين ص ٢٢٨ ـ ٢٣٠ ، وراجع : المدخل لابن الحاج ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٠.

(٣) راجع : الصواعق المحرقة ص ٢٢١ ، وإحياء علوم الدين ج ٣ ص ١٢٥ ، والعواصم من القواصم وهوامشه ، والإتحاف بحب الأشراف ص ٦٢ و ٦٨.

(٤) الصواعق المحرقة ص ٢٢١.

٢٠١

أساليب مقاومة عاشوراء :

لقد بقيت عاشوراء الشوكة الجارحة في أعين أعداء أهل البيت «عليهم السلام» ، فحاولوا مقاومتها بكل ما لديهم ، فعدا عما قدمناه ، نشير إلى ما يلي :

١ ـ قال ابن العماد : «تمادت الشيعة في هذه الأعصر في غيهم بعمل عاشوراء باللطم ، والعويل ، والزينة ، وشعار الأعياد يوم الغدير ؛ فعمدت غالية السنة وأحدثوا في مقابلة يوم الغدير» ..

إلى أن قال : «وجعلوا بإزاء يوم عاشوراء بعده بثمانية أيام يوم مصعب بن الزبير ، وزاروا قبره يومئذ بمسكن ، وبكوا عليه ، ونظروه بالحسين ؛ لكونه صبر وقاتل حتى قتل ؛ لأن أباه ابن عمة النبي الخ ..» (١).

ولكن ، هيهات أن يكون مصعب ، عبد الدنيا ، وطالب السلطان ، والمناوئ لأهل البيت «عليهم السلام» ، كأبي الشهداء ، ريحانة رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسيد شباب أهل الجنة ، وإمام الأمة ، طالب الحق ، وناصر الدين ، الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه.

ولكنها الأحقاد الدفينة والإحن القديمة ، والنصب لأهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، الذين أمر الله تعالى بمودتهم : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(٢).

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم ص ٢٩٩ و ٣٠٠ ، ونظم درر السمطين ص ٢٢٨.

(٢) شذرات الذهب ج ٣ ص ١٣٠ عن العبر ، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٩٥ عنه ، وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٤٥ ، والمنتظم لابن الجوزي ج ٧ ص ٢٠٦.

٢٠٢

٢ ـ قال ابن كثير في حوادث سنة ٣٦٣ : «فيها ، في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض ، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة ، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه ، بعيد عن السداد ، وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة ، وتسمى بعضهم بطلحة ، وبعضهم بالزبير ، وقالوا : نقاتل أصحاب علي ، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير» (١).

ولكن هذا القائل قد تجنى على الرافضة ، حين ساواهم بالنواصب ، أعداء أهل البيت ، وشيعتهم ، فإن فعل الشيعة الروافض هو عين الدين والعقل ، وفعل غيرهم هو الدال على عدم العقل والدين.

٣ ـ إستعمال القوة والعنف ، فإنك تجد في كتب التاريخ ، في تاريخ مستهل كل عام قولهم : وفي هذا اليوم (أي عاشوراء) اقتتلت الروافض والسنة : فراجع المنتظم لابن الجوزي وغيره (٢).

ولعل أعظم محنة ، وأشدها نكاية وقعة الكرخ ببغداد ، التي أحرق النواصب فيها دور شيعة أهل البيت ، وقتلوا ألوف الرجال والأطفال (٣).

وقد ذكرنا طائفة من النصوص حول هذا الموضوع في كتابنا : «صراع الحرية في عصر المفيد» ، فليراجعه من أراد.

ويذكر هنا : أنه في سنة ٤٣٧ ه‍. وقع بين الشيعة والسنة في بغداد في

__________________

(١) الآية ٢٣ من سورة الشورى.

(٢) البداية والنهاية ج ١١ ص ٢٧٥ ، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٩٤ ، وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٤٤ و ١٤٥.

(٣) بحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٤٥.

٢٠٣

يوم عاشوراء سوء ، «ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود ، وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم» (١).

وفي حوادث سنة ٤٤٢ : «اصطلح الروافض والسنة ببغداد ، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين ، وترضوا في الكرخ على الصحابة ، وترحموا عليهم» (٢).

ونكتفي هنا بهذا القدر ، فإننا لسنا بصدد استقصاء ذلك وتتبعه.

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١١ ص ٢٧٥.

(٢) البداية والنهاية ج ١٢ ص ٥٤.

٢٠٤

الفصل الثالث :

الجهاد في الإسلام

٢٠٥
٢٠٦

الإسلام والسيف!!

لقد اهتم المبشرون الحاقدون على الإسلام بإظهار الإسلام على أنه دين السيف والقهر والتسلط ، حتى لقد وضعوا في بعض كتبهم كاريكاتورا يمثل النبي «صلى الله عليه وآله» حاملا القرآن في يد ، والسيف في يد ، وأشخاصا يقفون فوق رأسه ، وكتبوا عبارة تقول : «آمنوا بالقرآن وإلا ضربت رقابكم بالسيف».

فهم يريدون أن يقولوا : إن الإسلام الذي يقول : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ليس صادقا في ذلك ، وإنما هو يقول : ادع إلى سبيل ربك بالسيف.

وقد يقال : إن مما ساعد على ذلك : أن المسلمين أنفسهم قد اعتادوا ترديد عبارة : «إن الإسلام قام بمال خديجة وبسيف علي «عليه السلام» (١) ، مع الاقتصار على حرفية هذه العبارة وعدم تعمقهم في مدلولها.

بل إن بعض القصاصين الأقدمين ، قد ساعد على ذلك كما يظهر من

__________________

(١) جاء ما تقدم في مقال للمفكر والفيلسوف الإسلامي الكبير ، المرحوم الشهيد الشيخ مرتضى المطهري ، نشرته جريدة : (جمهوري إسلامي) الفارسية بتاريخ ١٠ جمادى الثانية سنة ١٤٠٠ رقم ٢٦١.

٢٠٧

ملاحظة كتاب «فتوح الشام» ، المنسوب للواقدي ، حيث لا تكاد تخلو منه صفحة من بطولات خارقة ، وأحداث مدمرة ، من أجل جلب انتباه العوام ، وإظهار عظمة الأمويين وقدرتهم ، وتسجيل بطولات خيالية لبعض الشخصيات التي يرغب الحكام في رفعة شأنها ، تضليلا للناس عن حقيقة مواقف وبطولات علي «عليه السلام» ، إلى غير ذلك من أهداف ليس هنا محل بحثها.

فكان من نتيجة هذه الأكاذيب أن أظهروا الإسلام بصورة التيار المدمر ، وعلى أنه دين القتل والخراب ، حتى لقد أشكل الأمر حتى على كثير من المسلمين أنفسهم ، وذهبوا يمينا وشمالا في محاولات الإجابة على ذلك ، حسبما رأوه مناسبا ، وبالطريقة التي جادت بها قرائحهم.

وهذا الأمر ، وإن كان ارتباطه بالتاريخ ضعيفا نسبيا ، بحيث لا مجال للتوسع فيه بالشكل الذي يرضي وجداننا ، ولكننا مع ذلك لا بد أن نشير ولو بشكل خاطف وسريع إلى ما نراه ونعتقده في هذا المجال فنقول :

١ ـ الحرب في الإسلام وفي غيره :

ستأتي في فصل سرايا وغزوات قبل بدر لمحة سريعة جدا عن توصيات النبي «صلى الله عليه وآله» لجيوشه ، فلا بد من الإلمام بها وقراءتها بدقة ووعي ، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة البحار والكافي ، وغير ذلك من كتب الحديث والتاريخ.

كما أنه لا ينبغي الغفلة عن المراجعة الشاملة للحديث والتاريخ للتعرف على طبيعة المعاملة المثالية للأسرى من قبل المسلمين ، كما سنلمح

٢٠٨

إليه في غزوة بدر إن شاء الله تعالى ، وكما فصله العلامة الأحمدي في كتابه : «الأسير في الإسلام».

ويقابل ذلك :

أ ـ ما ورد في الانجيل : «لا تظنوا : أني جئت لألقي سلاما على الأرض ، ما جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا» (١).

ب ـ وفي التوراة : «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابت إلى الصلح ، وفتحت لك ؛ فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، ويستعبد ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا ، فحاصرها ؛ وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك ، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف.

وأما النساء والأطفال ، والبهائم ، وكل ما في المدينة ، كل غنيمتها ، فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.

هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا.

وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا ، فلا تستبقي منها نسمة ما» (٢).

ج ـ وفي التوراة أيضا : «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف ، وتحرقها بكل ما فيها ، مع بهائمها بحد السيف ، تجمع كل أمتعتها إلى

__________________

(١) إنجيل متى ، الإصحاح ٢٠ الفقرة ٣٤.

(٢) سفر التثنية الإصحاح ٢٠ فقرة ١٠ ـ ١٧.

٢٠٩

ساحتها ، وتحرق بالنار المدينة ، وكل أمتعتك كاملة للرب إلهك ، فتكون تلا إلى الا بد» (١).

وثمة نصوص كثيرة أخرى في هذا المجال لا مجال لتتبعها (٢).

إشارة :

وأما إدانة الإسلام من خلال ما كان يفعله الأمويون والعباسيون وغيرهم ، وما قتلوه في حروبهم ، وارتكبوه مع خصومهم ؛ فهو تجن ظاهر على الإسلام ، إذ لا يتحمل الإسلام المسؤولية عن أفعال المنحرفين عنه ، فإن تصرفات المنحرفين شيء ، والإسلام شيء آخر.

٢ ـ حيث لا بد من الحرب :

إننا إذا أردنا دراسة الحروب التي خاضها الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» ضد المشركين ، فإننا نستطيع أن نجمل الكلام فيها على النحو التالي :

أ ـ إن شخصية الإنسان وملكاته ، وسجاياه ، ومختلف جهات تكوينه النفسي ، والفكري ، والعاطفي وغير ذلك ـ تتكون عادة في الأكثر بعد غض النظر عن عامل الوراثة وغيره من العوامل ـ من المحيط الذي يعيش فيه ،

__________________

(١) سفر التثنية الإصحاح ١٣ فقرة ١٥.

(٢) راجع سفر التثنية ، الإصحاح ٧ فقرة ١ و ٢ وسفر صموئيل الأول ، الإصحاح ١٥ ، ورسالة بولس إلى العبرانيين ، الإصحاح ١١ فقرة ٣٢ فما بعدها ، وأنيس الأعلام ج ٥ ص ٣٠٢ ـ ٣١٦ وغير ذلك.

٢١٠

ومن الأفكار التي يتلقاها عن طريق والديه ، ومعلمه ، وصديقه الخ .. بما في ذلك المفاهيم والقيم الدينية.

فقد ينشأ خوارا جبانا إذا كان الذين أشرفوا على تربيته يستعملون معه أسلوب الإرعاب والتخويف ، وقد ينشأ شجاعا مقداما ، إذا كان التعامل معه على خلاف ذلك.

كما أن من يلقى حنانا وعناية فائقة في صغره ، يكون في تكوينه النفسي مختلفا تماما عن ذلك الذي يواجه بالجفاء والقسوة ، حتى ولو عاشا في بيت واحد ، وكانا أخوين توأمين.

بل وأكثر من ذلك ، فإن هذه الصور الذهنية التي يتلقاها الإنسان عن طريق الحواس ، تمثل مصدرا هاما من مصادر المعرفة له ، فلو فرضنا توأمين يعيشان معا ويتلقيان نفس المعاملة ، ولنفرض أن هذا التوافق مستمر في مجال التعليم ، والتربية ، والظروف المعيشية وغير ذلك ، فإننا مع ذلك لسوف نجدهما مختلفين بوضوح في أفكارهما ، ونفسيتيهما ، وعواطفهما وغير ذلك ، وذلك بسبب اختلاف الصور التي تلقاها ذهنهما ، وكونت عناصر التفكير لديهما ، وأثرت بشكل أو بآخر في انفعالاتهما المختلفة.

فحتى وهما يجلسان في غرفة واحدة ، أو يسيران معا في الشارع ، أو يكونان في المدرسة ، فإن ذهن الواحد منهما يستقبل صورة تختلف ـ ولو جزئيا ـ عن تلك التي يستقبلها ذهن الآخر ، بسبب أن كل واحد منهما ينظر إلى نقطة تختلف عن تلك التي ينظر إليها الآخر ، وكذلك الحال بالنسبة للأصوات ، والمشمومات ، وغير ذلك.

فهذه الصورة لا بد أن تشغل حيزا وتؤثر أثرا ، وتغير من اتجاه

٢١١

الحركات الفكرية لديه ، فتعينه تارة ، وتقف في وجهه أخرى.

ولسوف يكون لاختلاف تلك الصور أثر في النتائج التي سوف يتوصلان إليها.

ولسوف تترك آثارا مختلفة في نفسية وسلوك وعواطف كل منهما حسبما أشرنا إليه.

وهذا يعرفنا إلى أي حد يتأثر الناس بعضهم ببعض في السلوك ، والأفكار ، والانفعالات ، والأخلاق ، وغير ذلك ، حتى إنك لتحس بالفرق في نفسك ، وفي مشاعرك ، لو وقفت على بائع عبوس فظ غليظ ، ثم وقفت على آخر مهذب ، يواجهك بابتسامته الرقيقة ، ويخاطبك بكلمات عذبة ومهذبة ، وهذا ولا شك لسوف يترك أثرا على نفسك ، ثم على تصرفاتك مع أطفالك وأصدقائك وغيرهم.

وعليه : فإذا كان الفكر شديد الحساسية إلى حد أن يتقرر معه اتجاه الإنسان ، ويؤثر في شخصيته بشكل عام ، فإن أي انحراف يظهر في المجتمع ، مهما كان على نطاق ضيق ومحدود ، سوف لا يقتصر أثره على مرتكبه ، وإنما يتعداه ـ ولو بشكل جزئي ومحدود ـ إلى كل الآخرين ممن يعاشره ويراه ، أو يرتبط به ، من قريب أو من بعيد ، ثم هو يتعداهم إلى غيرهم ، وهكذا.

ومن هنا : فإننا نجد الإسلام يحارب المنكر حتى إعلاميا بكل قوة ، فيمنع حتى من غيبة غير المتجاهر بالمنكر كي لا يعتاد الناس على سماع خبر المنكر والانحراف ، وتأنس أذهانهم به ، وبعد ذلك يسهل عليهم ارتكابه وممارسته ، ولا يريد أن تمر حتى صورة المنكر في أذهانهم كي لا تترك أثرا

٢١٢

يرغب الإسلام في الابتعاد عنه ، فضلا عن ممارسة المنكر نفسه.

وليتأمل قليلا في إطلاق لفظ المنكر على مثل هذه الأمور الضارة ، فإن الإسلام يريد للناس أن ينكروها ، وأن لا يعرفوها ، كما أنه حين يمنع من غيبة غير المتجاهر ، فلأنه يريد أن يمنح ذلك المرتكب للمنكر فرصة للتخلي عن سيئته تلك ، ويهيء له الجو الإجتماعي المناسب لنمو شخصيته ، والاحتفاظ بعزته وكرامته ، إلى غير ذلك مما لسنا بصدد بيانه فعلا.

وبعد ما تقدم : فإنه إذا كان ضرر الانحراف لا يقتصر على نفس من يمارسه ، بل يتعداه إلى غيره ، فإنه يكون من حق ذلك الغير أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه ، وهذا ما يحكم به العقل والفطرة ، حتى ولو لم يكن ثمة شرع أصلا ، ولكن الشرع لم يكتف بالاعتراف بحق الدفاع عن النفس هذا ، بل زاد على ذلك ؛ فأوجبه عليه ، حين حكم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل أحد.

وذلك من أجل الحفاظ عليهم أولا ، وحتى لا يتسرب ذلك الانحراف منهم إلى غيرهم ثانيا (١).

__________________

(١) وإنما كان لمرتكب المنكر عقاب واحد ولم يعاقب عقابين : أحدهما على المنكر ، والآخر على تسببه بالإضرار بالغير ، من جهة أنه لم يسلب الآخرين عنصر الاختيار الذي لديهم ، كما أنه لم يقصد هو ذلك ، فيكون فعله من ممهدات وقوع الغير في المعصية ، وليس الجزء الأخير للعلة ، وبإدخال عنصر القصد في المعصية وفي استحقاق العقوبة وعدمه ، يعرف الفرق بين ما نحن بصدده ، وبين قولهم : من سن سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها.

٢١٣

وكل ما قدمناه يوضح لنا السر في أن المؤمنين ـ بنظر الإسلام ـ كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وعلى هذا : فليس من حق من تنهاه عن المنكر ، أو تأمره بالمعروف أن يقول لك : وماذا يعنيك؟. أو : أنا حر ، أو ما شاكل.

إذ إن الأمر يعنيك حقا وهو ليس حرا إلا بمقدار لا يعتدي فيه على غيره ، بأي نحو من أنحاء الاعتداء ، ولا يضر بحريته. والانحراف هو أخطر أشكال الاعتداء وأبشع أنواعه.

وواضح : أنه في مقام دفع أخطار الانحراف ، والقضاء على المنكر ، لا بد من مراعاة مقدار الضرورة ، فلو أساء ولدك نهيته أولا ، وبينت له خطأه ، ثم لمته ، ثم تهددته ، ثم ضربته ، ثم طردته الخ .. كل ذلك بحكم الشرع والعقل وقضاء الفطرة.

وإذا مرض أحد أعضاء الإنسان ، فإنه يعالجه بالدواء ، ثم بالعملية الجراحية ، ولربما تصل النوبة إلى قطعه ، إذا كان مرضه خبيثا وخطيرا ؛ حيث إنه بالإضافة إلى أنه أصبح يشكل عبئا ثقيلا على سائر الأعضاء ، حيث يفترض فيها أن تقوم بمهماتها ومهماته قد صار يشكل خطرا عليها نفسها ، هذا عدا عن أنه يؤثر فيها ألما وضعفا ووهنا ، ويمنعها من القيام بوظائفها على النحو الأكمل والأفضل.

وعلى هذا : فلو لم يقطع الطبيب هذا العضو ، فإنه يكون قد أضر بهذا الإنسان وخانه.

وحين يعتبر الإسلام ، والعقل ، والفطرة ، المسلمين كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، بل إن الإنسانية

٢١٤

جمعاء أيضا كذلك ، فإن المنحرف عقائديا ، وسلوكيا ، وأخلاقيا ، لا بد من استئصال انحرافه أولا ، بالدعوة بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، ثم بالإنذار ، ثم بالشدة والعنف ، حتى إذا أفلست كل تلكم الوسائل ، فإن آخر الدواء الكي ، وحيث يكون الداء خطيرا وخبيثا ، فإنه لا بد من الاستئصال أيضا ، ويكون عدم قطع هذا العضو الفاسد والمفسد خيانة للأمة ، وللأجيال ، وللإنسانية جمعاء.

بل إن خطر الانحراف الديني والعقائدي يفوق خطر المرض الجسدي ؛ فإن مرض الجسد ربما لا يتعداه إلا في نطاق محدود جدا ، أما المرض العقائدي والديني والفكري ، والانحراف الأخلاقي ، فقد يتسبب في تدمير الجسد ، والمال ، والجاه ، والإنسان ، والقيم الأخلاقية ، والإنسانية ، والمجتمع بأسره ، ويؤثر على الأجيال الآتية أيضا ؛ وذلك عندما لا تبقى لدى ذلك الإنسان المنحرف أية روادع تمنعه من ارتكاب أية جريمة ، والمبادرة إلى كل عظيمة ، حينما يكون المقياس عنده ، والمنطلق له هو مصالحه الشخصية ، ولذاته الفردية ، ولا شيء سواها ؛ فلا يهتم لرضا الله ، ولا لمصلحة الأمة ، ولا لأحكام الشرع والدين ، ولا حتى للعقل والمنطق.

وهكذا : فإن الجهاد من أجل منع الانحراف ومنع وقوع الكارثة ، يكون من الأحكام العقلية والفطرية ، فضلا عن الشرع والدين.

وبعد كل ما تقدم : فإننا نستطيع أن نقول بكل جرأة : إن الإسلام لو لم يستعمل السيف ، لم يكن دين الحق والعدل ، ولا دين الفطرة والعقل ، ولكان خائنا للمجتمع ، بل وللإنسانية جمعاء على مدى التاريخ.

كما أننا نعلم : أن السياسة القائمة على أساس الفكر والقوة المدافعة

٢١٥

عنه ، هي من صميم الإسلام الذي هو لإقامة العدل ، ورفع الظلم ، قال تعالى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(١).

وإلا فإن دينا يتخذ الخيانة ديدنا ، وتجاهل مصالح الأجيال طريقة ، ويكون فيه هذا الخلل الكبير في تشريعاته ، لن يكون المجتمع والإنسانية بحاجة إليه ، ولا معنى للتضحية في سبيله والحفاظ عليه ، ولا للعمل من أجل رفع شأنه ، وإعلاء كلمته.

ومن هنا : فقد كان الجهاد بابا من أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة .. إلى آخر كلام أمير المؤمنين «عليه السلام» (٢).

هذا كله من وجهة نظر فكرية.

أما حقيقة ما جرى تاريخيا في عهد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» فستأتي الإشارة إليه ، وسيتم التعرف من خلال البحث والتمحيص عليه ، إن شاء الله تعالى.

ب ـ لقد كان لا بد للمسلمين من الاستفادة من حق الدفاع عن النفس في مقابل المكيين ، الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم ، ويصدون عن سبيل الله ،

__________________

(١) الآية ٢٥ من سورة الحديد.

(٢) راجع : خطبة الجهاد في نهج البلاغة (شرح محمد عبده) ج ١ ص ٦٣.

٢١٦

ومن حق كل أحد : أن يقاتل من أجل أن يمتلك حرية الرأي ، والفكر ، والعقيدة ، وحرية الدعوة إلى الله ، ولا سيما حين يكون الطرف الآخر مصرا على استعمال العنف ، وليس المنطق والحجة ضده ، وضد ما يدعو إليه.

فالإسلام لا يريد أن يجبر أحدا على الدخول فيه ، وإنما يريد أن يحصل على الحرية في الرأي وفي الاعتقاد ، وفي الموقف ، وحتى حين ينتصر على أعدائه ، فإنه يضع أمام من ينتصر عليهم عدة خيارات ، ليس اعتناق الإسلام إلا واحدا منها ، وكان من يعتنق الإسلام يعتنقه بملء رغبته ، وحريته ، وإرادته ، ومن دون أي ضغط حتى إعلامي من قبل المسلمين ، ولقد اعتنقت كثير من البلدان الإسلام بمجرد اطلاعها عليه ، من دون انتظار الفتح الإسلامي.

ولكن ذلك لا يعني أن يقف الإسلام والمسلمون مكتوفي الأيدي أمام كل اضطهاد ، أو اعتداء ، أو ظلم يمارس ضدهم ، وأن يخضعوا للضغوط ولإرادات الآخرين ، التي لن ترضى إلا بالقضاء عليه وعليهم نهائيا.

كما أن ذلك لا يعني أن لا يعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ، ومن رباط الخيل يرهبون به عدو الله وعدوهم ، لأن الإسلام الذي يدعون إليه ، ويطالبون بحرية التفكير والنظر فيه ، ليس مجرد طقوس فردية ، وتزكية نفسية ، وإنما هو نظام عام شامل يريد أن يقود عملية تغيير شاملة على مستوى العالم بأسره ، الأمر الذي يحتم أن تتوفر الحماية الكاملة لهذا الإسلام ، الذي لا بد أن يصطدم بأصحاب الأطماع ، والأهواء ، وبالجبارين الذين يحكمون الناس بوحي من مصالحهم ورغباتهم.

نعم .. لا بد من الحماية الكافية ولا بد من استعمال أسلوب العنف إذا

٢١٧

لم يمكن تأمين حرية الفكر ، والرأي ، والعقيدة إلا بذلك ، وليوجد من ثم الجو والمناخ المناسب لتطبيق الجانب التشريعي للإسلام.

وحتى لا يتحول الإسلام إلى إسلام حكام يخضع لرغباتهم ، ويتطور حسب مصالحهم ، وأهوائهم ـ كما كان الحال بالنسبة لبعض الفرق والمذاهب التي ابتليت بهذا الداء الوبيل ـ وأيضا حتى لا يتحول جانب عظيم ورئيس في هذا التشريع ، ليكون مجرد فكر ميت ، يوضع في المتاحف ، ويكون الجانب الحي هو خصوص الجانب الفردي ، الذي لا يتصل بالحياة الاجتماعية ، ولا يتفاعل معها ، لا من قريب ولا من بعيد.

وإذا توفرت حرية الفكر والرأي والعقيدة ، فإن ذلك سوف يشجع الآخرين على الدخول في هذا الدين ، آمنين من العذاب والأذى ، ومن مختلف أنواع الضغوط ، ومن الفتنة التي هي أكبر من القتل بنظر الإسلام.

فالمسلمون إذا قاتلوا ، فإنما يقاتلون انطلاقا من حقهم الذي جعله الله لهم ، ومن أجل ذلك الحق في سبيله ، وطلبا له ، على حد تعبير الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» كما سيأتي إن شاء الله تعالى وكما قرره الله تعالى حيث يقول :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ..)(١).

فالأذان بالقتال للمسلمين إنما هو في صورة كون غيرهم قد بدأهم به ، بالإضافة إلى كونهم قد أخرجوا من ديارهم.

ج ـ وبعد كل ما تقدم ، فقد كان النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمون

__________________

(١) الآيتان ٣٩ و ٤٠ من سورة الحج.

٢١٨

ملتزمين بعرض خيارات منصفة على الطرف الآخر ، حتى ليعترف بعض المشركين بأن الإصرار على الحرب بعد هذه العروض يكون ظلما وبغيا ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ولكن الباقين لا يقبلون بالعرض لأنهم كانوا مصممين على الحرب ، منذ قتل ابن الحضرمي في سرية ابن جحش (١).

مع أنه قد كان بإمكانهم تلافي قضية ابن الحضرمي ، إما بالثأر على نطاق أضيق ، أو بقبول الدية ، وكلاهما عن خلق العرب ليس ببعيد.

د ـ مناهضة ناقضي العهود ، وإيقافهم عند حدهم ، كما كان الحال بالنسبة لليهود ، ثم بالنسبة لمشركي مكة ، الذين نقضوا عهد الحديبية.

ه ـ الدفاع عن النفس في وجه الغزاة والمهاجمين ، وملاحقة من قام بالغارة منهم على المدينة.

وأخيرا ، فإننا نلاحظ : أن المشركين قد استمروا يغزون المسلمين ، والمسلمون يدافعون عن أنفسهم إلى ما قبل صلح الحديبية ، حيث يروي البخاري وغيره أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال بعد منصرفه من بني قريظة : الآن نغزوهم ولا يغزوننا.

وسيأتي ذلك إن شاء الله.

هل الإسلام قام بالسيف؟!

يتضح لنا من جميع ما تقدم : أنه ليس معنى قيام الإسلام بسيف علي «عليه السلام» : أنه «عليه السلام» كان يجعل السيف فوق رأس الإنسان ،

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٣١ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١١٦.

٢١٩

ويقول له : إما أن تسلم وإما أن تقتل.

وإنما معنى ذلك : أن سيف علي «عليه السلام» كان أبعد أثرا في الدفاع عن الإسلام ، وصد اعتداءات المعتدين ، وتأمين حرية الفكر والعقيدة ، والرأي ، حسبما قدمناه.

ولأجل أن حروب الإسلام كانت تهدف للحافظ على الإنسان ، والدفاع عن النفس ، وتأمين الحرية الفكرية ، نلاحظ :

أنه يقتصر في حروبه على أقل قدر ممكن ترتفع به الضرورة ، كما أنه يلتزم بضبط النفس الكامل والواعي ، حتى في أحلك اللحظات ، وأخطرها.

ولذا لم يستطع الباحثون إيصال عدد القتلى في حروب النبي «صلى الله عليه وآله» طيلة عشر سنين ، والتي تعد بعشرات الحروب والسرايا إلى الألف قتيل (١).

رغم أن هذه الحروب كانت تتجه نحو تهيئة الجو لبسط النفوذ الإسلامي على مختلف أرجاء الجزيرة العربية ، ويتعداها إلى غيرها مما حولها.

هذا ما أحببنا الإشارة إليه فعلا ، والكلام حول هذا الموضوع طويل ومتشعب ، لا بد فيه من التوفر على دراسة النصوص القرآنية ، وكلمات النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» ومواقفهم وممارساتهم الجهادية بدقة ووعي.

__________________

(١) راجع مقالا حول هذا الموضوع للسيد هادي الخسرو شاهي في كتاب سيماي إسلام (فارسي).

٢٢٠