الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

للاستمرار على ترك هذه الفقرة في هذا الزمان الذي لم يعد فيه ذلك المبرر قائما.

ولماذا لا نعود جميعا إلى سنة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وأهل بيته الطاهرين؟!.

وحتى لو كان عمر قد أراد ـ كما فعله في موارد مشابهة ـ أن يستبعد ذلك من الأذان مطلقا وأن يسقطه من التشريع الإسلامي ، فإن المعيار هو قول الله ورسوله لا قول عمر ، وذلك أمر واضح ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

١٨١
١٨٢

الفصل الثاني :

تشريع بعض العبادات

١٨٣
١٨٤

الزيادة في الصلاة :

وقد ورد في بعض الروايات المعتبرة (١) : أن الصلاة كانت في أول الأمر ركعتين ركعتين ، فرضها الله تعالى على العباد مباشرة ، وفوض لرسوله زيادة معينة يزيدها عليها في الوقت المناسب ، من دون حاجة إلى وحي جديد ، فزاد «صلى الله عليه وآله» في المغرب ركعة واحدة ، وفي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين.

وقيل : إن هذه الزيادة كانت في السنة الأولى من الهجرة ، وقيل : بعد ولادة الحسنين «عليهما السلام».

وقد يقال : أن الأول هو الأصح ، لورود ذلك في حديث تحويل القبلة ـ الذي سيأتي الكلام فيه هو وفرض الزكاة بعد بدر ـ وذلك كان قبل ولادتهما «عليهما السلام».

إلا أن يقال : إن هذه الرواية موضع شك ، فقد تعودنا من هؤلاء الناس التلاعب في النصوص والآثار إذا كانت تثبت فضلا وكرامة لعلي وأهل بيته «عليهم السلام».

__________________

(١) الوسائل ج ٣ في أبواب إعداد الفرائض ونوافلها ، باب عدد الفرائض اليومية ، وجملة من أحكامها.

١٨٥

وعلى كل حال ، فإن هذه الزيادة غير مستهجنة ، فإن تشريع الأحكام كان تدريجيا ؛ وعلى الأخص تلك الأحكام التي ربما يصعب الالتزام بها على العربي ؛ لمخالفتها لما اعتاد عليه ، وركن وسكن إليه.

قول آخر في فرض الصلاة :

وبعد ما تقدم : فهناك روايات يظهر منها : أن الصلاة قد فرضت تامة من أول الأمر ، أو على الأقل كانت تامة في مكة فقد قالوا :

١ ـ كان أول صلاة صلاها رسول الله «صلى الله عليه وآله» الظهر ، فأتاه جبرائيل فقال : (إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)(١).

قال : فقام جبرائيل بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، والنبي «صلى الله عليه وآله» خلفه ، ثم الناس خلف رسول الله ، والنساء خلف الرجال ، قال : فصلى بهم الظهر أربعا ، حتى إذا كان العصر ، قام جبرائيل ففعل مثلها ، ثم تذكر الرواية صلاة المغرب ثلاثا والعشاء أربعا (٢).

وواضح : أن سورة الصافات مكية ، فالرواية تدل على أن الصلاة فرضت تماما في مكة.

٢ ـ وعن نافع بن جبير ، وغيره : لما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة أسري به فيها ، لم يرعه إلا جبرائيل يتدلى حين زاغت الشمس ، ثم

__________________

(١) الآية ١٦٥ من سورة الصافات.

(٢) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج ١ ص ٤٥٣ ، وسنن البيهقي ج ١ ص ٢٦٢ ، وعن أبي داود في مراسيله ، والدر المنثور ج ٥ ص ٢٩٣.

١٨٦

تذكر الرواية أنه صلى بهم الظهر أربعا ، والعصر كذلك الخ .. (١).

٣ ـ وعن الحسن البصري : إن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعا (٢).

ولكننا لا نستطيع قبول ذلك ، لوجود الروايات الثابتة والصحيحة عند الشيعة ، وعند غيرهم ، الدالة على أن صلاة الحضر قد فرضت أولا ركعتين ، ثم زيد فيها.

إلا أن يكون المراد : أن الصلاة أبلغت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» أولا كاملة ، ولكن المصلحة كانت تلزم أولا بركعتين ، ثم صارت تلزم بالكل ، وفوض إلى النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» أمر تبليغ ذلك في الوقت المناسب.

ولذلك فقد اعتبرت الركعتان الأوليان فريضة ، أي ما فرض من الله مباشرة على العبد ، والباقي سنة ، وهو ما أبلغ حكمه للنبي «صلى الله عليه وآله» ليبلغه في صورة تحقق موضوعه ، وهو المصلحة المقتضية له.

فرض الزكاة :

ويقولون : إن فرض زكاة الأموال كان بعد بدر في السنة الثانية ، وذلك بعد فرض زكاة الفطر.

وقيل : بل فرضت الزكاة في السنة الثالثة.

__________________

(١) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١ ص ٤٥٥ ، وفي هامشه عن أبي داود.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ٣٣١ ، وتفسير الطبري في سورة النساء الآية ١٠١.

١٨٧

وقيل : في الرابعة (١).

ولكن الصحيح : هو ما ذهب إليه البعض (٢) من أن فرض الزكاة كان في مكة.

وذلك بدليل :

١ ـ إن عدة آيات قرآنية نزلت في مكة تأمر بإيتاء الزكاة ، ونذكر من ذلك : قوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ..) وهي في سورة مكية (٣).

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وهي مكية (٤).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وهي مكية (٥).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهي مكية أيضا (٦). ولتراجع سورة الروم المكية الآية ٣٩.

ثم إن الله تعالى قال : عن إسحاق ، ويعقوب ، ولوط ، وإبراهيم «عليهم السلام» : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ)(٧).

وقد حكى الله سبحانه على لسان عيسى قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٠٧ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٣٩ ، وغير ذلك.

(٢) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٧٧.

(٣) الآية ١٥٦ من سورة الأعراف.

(٤) الآية ٤ من سورة المؤمنون.

(٥) الآية ٣ من سورة النحل والآية ٤ من سورة لقمان.

(٦) الآية ٧ من سورة فصلت.

(٧) الآية ٧٣ من سورة الأنبياء.

١٨٨

وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(١).

وقال تعالى عن إسماعيل : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ)(٢).

وكل ما تقدم إنما ورد في سور مكية.

وفي الآيات الأخيرة دلالة على تشريع الزكاة في الأمم السالفة أيضا ، وقد علمنا : أنها لم تنسخ.

٢ ـ وروي عن أبي طالب : أنه حدث عن النبي «صلى الله عليه وآله» : إن ربه أرسله بصلة الأرحام ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة (٣).

٣ ـ عن جرير بن عبد الله البجلي ، قال : لما بعث النبي «صلى الله عليه وآله» أتيته لأبايعه فقال : لأي شيء جئت يا جرير؟

قلت : جئت لأسلم على يديك ، فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة (٤).

٤ ـ وقد روى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم ، وأبي بصير ، وبريد ، وفضيل ، كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله «عليهما السلام» ، قال : فرض الله الزكاة مع الصلاة (٥).

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة مريم.

(٢) هذه الآية والتي سبقتها هي الآية ٣١ و ٥٥ من سورة مريم.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ١١٩ ، والبحار ج ٣٥ ص ١٥١ ، والطرائف ص ٣٠٤ ، والغدير ج ٧ ص ٣٦٨ عن نهاية الطلب للشيخ إبراهيم الحنبلي.

(٤) تدريب الراوي ج ٢ ص ٢١٢ عن الطبراني في الأوسط ، وذكر الشطر الأول من الحديث في الإصابة ج ١ ص ٢٣٢.

(٥) الوسائل ج ٤ ص ٥ ، وفروع الكافي ج ٣ ص ٤٩٨.

١٨٩

وسند هذه الرواية جيد ، كما ترى.

٥ ـ ويؤيد ذلك أيضا : أن جعفر بن أبي طالب قد ذكر الزكاة لملك الحبشة ، على أنها مما أمرهم الله به (١).

رواية تعارض ما سبق :

ولكن ربما ينافي ما قدمناه ، ما جاء في رواية صحيحة السند : أنه لما أنزلت آية الزكاة ، التي في سورة التوبة ، وهي مدنية ، ومن أواخر ما نزل ، أمر «صلى الله عليه وآله» مناديه في الناس : إن الله فرض عليكم الزكاة ، وبعد أن حال الحول أمر مناديه فنادى في المسلمين : أيها المسلمون ، زكوا أموالكم تقبل صلاتكم ، قال : ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق (٢).

ولكن هناك عشرات الآيات التي نزلت قبل سورة التوبة ، والتي ربما تصل إلى ثلاثين آية ، كلها تدل على فرض الزكاة ، وحملها كلها على الاستحباب ، أو على خصوص زكاة الفطرة بعيد جدا.

فلا بد من حمل هذه الرواية على أن الزكاة ، وإن كانت قد شرعت قبل هذا الوقت ، إلا أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يضع الجباة لها إلا بعد

__________________

(١) الثقات لابن حبان ج ١ ص ٦٥ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ١١٤ و ١١٦ عن ابن إسحاق ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٧٠ و ٧٤ و ٦٩ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٠ ، وسنن البيهقي ج ٩ ص ١٤٤ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٦٠ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٧ و ٢٤ عن الطبراني وأحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٥٤ و ٣٥٧ ، عن بعض من تقدم ، وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٠ وحسن إسناده.

(٢) راجع : الكافي ج ٣ ص ٤٩٧ ، وتفسير البرهان ج ٢ ص ١٥٦.

١٩٠

نزول هذه الآية ، ويمكن أن يكون إيجابها قد حصل في مكة ، ولكن فرض أخذها ، والإلزام بدفعها قد كان في المدينة.

فرض زكاة الفطرة :

وإذا كانت زكاة الفطرة فرضت قبل زكاة الأموال ، فتكون هي أيضا قد فرضت في مكة ، ويدل على ذلك بالإضافة إلى ما تقدم :

ما ورد في سفر السعادة من أنه «صلى الله عليه وآله» كان يرسل مناديا ينادي في الأسواق ، والمحلات ، والأزقة في مكة : ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة (١).

وإن كنا نستبعد ذلك ، بسبب حساسية الوضع فيما بين المسلمين والمشركين آنئذ.

فرض الصيام :

ويقولون : إن صيام شهر رمضان المبارك قد فرض في المدينة في السنة الثانية (٢) ، حين نزول قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ..) إلى قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..)(٣).

وكان الناس قبل فرض صوم شهر رمضان يصومون أياما ، كما ذكره

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٦.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٥٤.

(٣) الآيات ١٨٣ إلى ١٨٥ من سورة البقرة.

١٩١

القمي (١).

وذكر الحلبي : أنه «صلى الله عليه وآله» كان قبل فرض شهر رمضان يصوم هو وأصحابه ثلاثة أيام ، وهي الأيام البيض من كل شهر (٢).

ومما يدل على فرض الصيام في مكة ، كلام جعفر بن أبي طالب رحمه الله المتقدم مع ملك الحبشة ، وفيه : أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمرهم بالصلاة والزكاة ، والصيام.

مناقشة وردها :

لكن البعض قد سجل تحفظا هنا ، فقال : إنه يغلب على ظنه أن تكون قصة جعفر وملك الحبشة موضوعة ؛ بدليل ذكر الصيام فيها ، وهو لم يشرع إلا بعد الهجرة إلى الحبشة (٣).

ولكن هذا التحفظ لا اعتبار به ؛ إذ لما ذا لا يكون نفس كلام جعفر هذا دليلا على تشريع الصيام في مكة؟!.

يضاف إليه قولا القمي والحلبي المتقدمان : إلا أن يكون مراده بتحفظه المسجل خصوص صيام شهر رمضان ، فلا مجال حينئذ للاعتراض عليه بكلام الحلبي والقمي رحمه الله.

لكن مما يدل على أن شهر رمضان قد فرض في مكة : أنه لما أسلم عمرو

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ٦٥.

(٢) فجر الإسلام ص ٧٦.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٢ و ١٣٦ ، تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢١٣ وراجع ص ٢١٤.

١٩٢

بن مرة الجهني ، وأرسله «صلى الله عليه وآله» إلى قومه ، قال لهم :

«إني رسول من رسول الله إليكم : أدعوكم إلى الجنة ، وأحذركم من النار ، وآمركم بحقن الدماء ، وصلة الأرحام ، وعبادة الله ، ورفض الأصنام ، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان ، شهر من اثني عشر شهرا ، فمن أجاب فله الجنة» وكان ذلك في أول بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» (١).

هذا ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الصوم كان مشرعا في الأمم السالفة ، فقد قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(٢).

والمراد بالأيام المعدودات هو شهر رمضان المبارك ، كما فسرتها الآية نفسها.

صيام يوم عاشوراء :

ويذكرون هنا أيضا : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» حينما قدم المدينة ، وجد يهود المدينة يصومون يوم عاشوراء ، وهو العاشر من المحرم (٣) ؛ فسألهم عن ذلك ، فقالوا ـ على ما في الصحيحين ـ وغيرهما : «هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرق فرعون وقومه.

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٥٢ عن أبي نعيم ، ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٤٤ عن الطبراني ، وحياة الصحابة ج ١ ص ١٩١ عنهما ، وعن كنز العمال ج ٧ ص ٦٤ عن الروياني ، وابن عساكر.

(٢) الآية ١٨٣ من سورة البقرة.

(٣) أسد الغابة ج ٥ ص ٥٠٧.

١٩٣

فقال «صلى الله عليه وآله» : فأنا أولى بموسى ، وأحق بصيامه منكم ، فصامه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأمر بصيامه» (١).

وكان ذلك قبل أن يفرض صوم شهر رمضان.

وفي الصحيحين وغيرهما أيضا : عن عائشة ، وغيرها : كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية ، وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصومه ، فلما هاجر إلى المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فرض شهر رمضان قال : «من شاء صامه ، ومن شاء تركه» (٢).

ويذكر مسلم وغيره : أن صيامه «صلى الله عليه وآله» ليوم عاشوراء كان قبل وفاته «صلى الله عليه وآله» بسنة (٣).

كذب تلك الروايات :

ونحن نعتقد ونجزم : بأن ذلك كله من نسج الخيال.

فبعد غض النظر عن :

__________________

(١) المصنف ج ٤ ص ٢٨٩ و ٢٩٠ ، والبخاري ط الميمنية ج ١ ص ٢٤٤ ، وصحيح مسلم ط صبيح بمصر ج ٣ ص ١٥٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٢ و ١٣٣ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٦٠ ، والبداية والنهاية ج ١ ص ٢٧٤ وج ٣ ص ٣٥٥ ، وراجع : تفسير ابن كثير ج ١ في آيات صيام شهر رمضان في سورة البقرة ، ومشكل الآثار ج ٣ ص ٨٥ ـ ٩٠ ، وزاد المعاد ج ١ ص ١٦٤ و ١٦٥.

(٢) المصادر المتقدمة ، والموطأ ج ١ ص ٢٧٩ ، والبخاري ط مشكول ج ٥ ص ٥١ ، ومشكل الآثار ج ٣ ص ٨٦ و ٨٧ ، وزاد المعاد ج ١ ص ١٦٤ و ١٦٥.

(٣) صحيح مسلم ج ٣ ص ١٥١.

١٩٤

١ ـ المناقشة في أسانيد تلك الروايات ، وكون أكثر رواتها محل تهمة وريب ، كما أن فيهم من لم يأت إلى المدينة إلا بعد عدة سنين من الهجرة كأبي موسى الأشعري ، وفيهم من كان حين الهجرة طفلا صغيرا كابن الزبير ، فضلا عن شهوده لما قبلها ، وفيهم من لم يسلم إلا بعد سنوات من الهجرة كمعاوية.

٢ ـ وعن تناقضها فيما بينها ، يكفي أن نذكر : أن رواية تقول : إنه صام يوم عاشوراء في المدينة ، متابعة لليهود ، ولم يكن يعلم به.

وأخرى تقول : إنه كان يصومه هو والمشركون في الجاهلية.

وثالثة : إنه ترك يوم عاشوراء بعد فرض شهر رمضان.

وأخرى : إنه لما صامه قالوا له : إنه يوم تعظمه اليهود ، فوعد أن يصوم اليوم التاسع في العام المقبل ؛ فلم يأت العام المقبل حتى توفي «صلى الله عليه وآله» (١).

ورواية أخرى عن معاوية ، الذي لم يسلم إلا عام الفتح ، تقول : إنه «صلى الله عليه وآله» لم يأمر أصحابه بصيام عاشوراء ، بل قال لهم : لم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر.

إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تظهر بالتتبع والمقارنة.

وقد ذكر شطرا منها ابن القيم. فراجع (٢).

فنحن بعد غض النظر عن ذلك ، نشير إلى ما يلي :

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٣ ص ١٥١ ، وراجع المصادر المتقدمة.

(٢) راجع : زاد المعاد ج ١ ص ١٦٤ و ١٦٥.

١٩٥

أولا : إن الرواية الأولى تفيد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يجهل بسنة أخيه موسى ، وأنه تعلمها واستفادها من اليهود ، وقلدهم فيها ، ولا ضير عند هؤلاء في ذلك ، فإنهم يروون ـ ونحن نستغفر الله من ذلك ـ : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم يؤمر به (١).

ثم يروون عنه «صلى الله عليه وآله» ما يناقض ذلك ـ وكذلك هو يناقض نفسه دائما عندهم ، حتى في هذا المورد ـ فهو الذي يكره في الأذان بوق اليهود وناقوس النصارى ، ويخالفهم في معاملة الحائض ، ويأمر بصبغ الشعر ، مخالفة لليهود والنصارى ، وينهى عن تقليدهم في الإسلام (٢).

وكان «صلى الله عليه وآله» يصوم يوم السبت والأحد كثيرا ، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى (٣).

بل لقد بلغ في مخالفته لهم حدا جعل اليهود يقولون : «ما يريد هذا

__________________

(١) صحيح البخاري ط الميمنية ج ٤ ص ٦٧ باب فرق الشعر في اللباس ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٢ ، وزاد المعاد ج ١ ص ١٦٥.

(٢) راجع في ذلك كله مفتاح كنوز السنة فقد نقل ذلك عن البخاري كتاب ٦٠ و ٧٧ باب ٥٠ و ٦٧ ، وصحيح مسلم كتاب ٣ حديث ١٦ ، وكتاب ٣٧ باب ٨ ، والترمذي كتاب ٤٤ حديث ٢٤ ، وكتاب ٢٢ باب ١٠ ، وكتاب ٤٠ باب ٧ ، والنسائي كتاب ٣ و ٤٨ و ٨٣ على الترتيب ، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة المختلفة فراجع : مفتاح كنوز السنة وغيره. وراجع : مسند أبي يعلى ج ١٠ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ و ٣٦٦ وفي هامشه عن مصادر كثيرة.

(٣) زاد المعاد ج ١ ص ١٦٨ عن مسند أحمد ، والنسائي.

١٩٦

الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه» (١).

وقال ابن الحاج : «وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم ، حتى قالت اليهود : إن محمدا يريد أن لا يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه».

وقد ورد في الحديث : «من تشبه بقوم فهو منهم» (٢).

ثانيا : إن إطلاق كلمة عاشوراء على العاشر من محرم إنما حصل بعد استشهاد الإمام الحسين «عليه السلام» ، وأهل بيته وصحبه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ثم إقامة المآتم لهذه المناسبة من قبل أئمة أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم رضوان الله تعالى عليهم ، ولم يكن معروفا قبل ذلك على الإطلاق ، وقد نص أهل اللغة على ذلك ، فقد قال ابن الأثير ،» هو اسم إسلامي» (٣).

وقال ابن دريد : إنه اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية (٤).

ثالثا : إننا لم نجد في شريعة اليهود صوم يوم عاشوراء ، ولا هم يصومونه الآن ، ولا رأيناهم يعتبرونه عيدا أو مناسبة لهم (٥).

رابعا : قد تقدم : أن صوم شهر رمضان قد فرض في مكة قبل الهجرة ، فراجع.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١١٥ ، وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢٥٠ ، ومسند أبي عوانة ج ١ ص ٣١٢.

(٢) المدخل لابن الحاج ج ٢ ص ٤٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نهاية ابن الأثير ج ٣ ص ٢٤٠.

(٥) الجمهرة في لغة العرب ج ٤ ص ٢١٢.

١٩٧

وبعد كل ما تقدم ، وثبوت كذب هذه الأحاديث ؛ فلا يبقى مجال لجعل عدول النبي «صلى الله عليه وآله» عن صوم يوم عاشوراء من أسباب حقد اليهود على المسلمين ، كما زعمه البعض (١).

في فضائل يوم عاشوراء أيضا :

وعلى كل حال ، فإننا نجدهم يذكرون في فضل عاشوراء في أول شهر محرم ؛ روايات أخرى أغرب وأعجب ، حتى إن من يقرؤها يخرج بانطباع : أنه لا أفضل من ذلك اليوم على الإطلاق ـ حتى ولا ليلة القدر ـ ففيه كانت أهم الأحداث التي لا يمكن أن ينساها التاريخ البشري أو يتجاهلها ، حتى ولادة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهجرته ، اللتين هما في ربيع الأول بالاتفاق!! (٢).

وفيه أغرق الله فرعون ، ونجا موسى وقومه ، واستوت سفينة نوح على الجودي ، وتاب الله على آدم الخ .. (٣).

أيوم عزاء أم يوم عيد؟! :

ويقول أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية ، بعد ذكر ما جرى على الحسين «عليه السلام» في يوم عاشوراء :

__________________

(١) راجع : مقال حسن السقاف في مجلة الهادي سنة ٧ عدد ٢ ص ٣٦.

(٢) اليهود في القرآن ص ٢٠ و ٢٦.

(٣) راجع في بعض هذه الفضائل : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٦٠ و ٣٦١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٣ و ١٣٤ ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ١٠٨ ـ ١١٦ وغير ذلك.

١٩٨

«فأما بنو أمية ، فقد لبسوا فيه ما تجدد ، وتزينوا ، واكتحلوا ، وعيدوا ، وأقاموا الولائم ، والضيافات ، وأطعموا الحلاوات والطيبات ، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم ، وبقي فيهم بعد زواله عنهم ، وأما الشيعة ، فإنهم ينوحون ، ويبكون ، أسفا لقتل سيد الشهداء فيه الخ ..» (١).

ويقول المقريزي ـ بعد أن ذكر : أن العلويين المصريين كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن ، تتعطل فيه الأسواق ـ :

«فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور ، يوسعون فيه على عيالهم ، وينبسطون في المطاعم ، ويتخذون الأواني الجديدة ، ويكتحلون ، ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام ، التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ؛ ليرغموا به آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ؛ الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي «عليه السلام» ؛ لأنه قتل فيه».

قال : «وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ عاشوراء يوم سرور وتبسط» (٢).

وفي زيارة عاشوراء المروية عن الإمام الباقر «عليه السلام» ، قال :

__________________

(١) تقدمت بعض المصادر لذلك قبل حوالي ثلاث صفحات ، وراجع : عجائب المخلوقات ، مطبوع بهامش حياة الحيوان ج ١ ص ١١٤.

(٢) الكنى والألقاب ج ١ ص ٤٣١ ، وراجع : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٣٧ عن الآثار الباقية ط أورپا ص ٣٢٩ ، وراجع : عجائب المخلوقات ، مطبوع بهامش حياة الحيوان ج ١ ص ١١٥ ، ونظم درر السمطين ص ٢٣٠.

١٩٩

«اللهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية ، وابن آكلة الأكباد» (١).

ثم وضعوا على لسان ابن عباس في قوله تعالى : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)(٢) قال : يوم عاشوراء (٣).

وضع الأحاديث :

وقد وجد أعداء أمير المؤمنين وولده «عليهم السلام» ، وشيعته «رض» ـ وجدوا ـ من بين أولئك الذين باعوا آخرتهم بدنياهم من يضع لهم الأحاديث على لسان النبي «صلى الله عليه وآله» في فضل هذا اليوم ، واستحباب إظهار الزينة ، والخضاب ، والسرور ، والتوسعة على العيال ، ولبس الجديد فيه ، وصومه ، وطبخ الحبوب ، والأطعمة ، والاغتسال ، والتطيب ، والاكتحال ؛ إلى غير ذلك من مظهرات النصب والعداء لأهل البيت «عليهم السلام» (٤).

ولكن الذي يهون الخطب : أن العلماء والنقاد ، حتى المنحرفين عن أهل البيت «عليهم السلام» ـ كابن تيمية وأضرابه ـ قد حكموا على هذه الأحاديث ، إلا ما شذ منها بالوضع والاختلاق من قبل الكذابين أخزاهم

__________________

(١) الخطط والآثار للمقريزي ج ١ ص ٤٩٠ ، وراجع : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٣٨ عنه.

(٢) الآية ٥٩ من سورة طه.

(٣) مصابيح الجنان ص ٢٩١.

(٤) تاريخ واسط ص ٧٨.

٢٠٠