الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

خلقوا ليكونوا لهم خدما كما يزعمون.

فقد قررت الوثيقة : أن لا يخرج أحد من اليهود إلا بإذن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأن الحاكمية إنما هي لدين الله ولرسول الله «صلى الله عليه وآله» لا لأحد سواه.

ولعل هذا القرار قد اتخذ أيضا من أجل أن لا يفسح المجال أمام اليهود لممارسة دور الإفساد والجاسوسية من الداخل لصالح الأعداء المتربصين بالإسلام وبالمسلمين شرا من الخارج ، ومن أجل أن يؤكد لكل الناس الذين يعيشون معهم وحولهم : أن ثمة قوة لا بد من الاعتراف بها ، والتعامل معها بواقعية وموضوعية وصدق.

١٠ ـ وقد أكد ما ذكرناه آنفا وعمّقه ذلك القرار الذي اعترف به اليهود وسجلوه على أنفسهم ، والذي ينص على أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو المرجع الذي يتولى حل المشكلات ، التي تنشأ فيما بينهم وبين المسلمين.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بما لهذه المادة من مدلول سياسي ، ومن أثر نفسي واجتماعي عليهم وعلى غيرهم ممن يعيشون في المدينة ، وكذا ما لهذا القرار من أثر كذلك على المنطقة بأسرها.

هذا ، وقد حفظ بذلك المضمون العقائدي ، وروعيت فيه الجهات الفقهية ، كما يظهر بأدنى تأمل في ذلك ، ويمكن بحث هذه النقطة بصورة مستقلة في مجال آخر.

١١ ـ هذا كله ، عدا عن أن هذه الوثيقة قد ضمنت لمن تهود من الأنصار حقوقهم العامة ، وذلك من قبيل حق «الأمن» و «الحرية» بشرط ألا يفسدوا.

١٤١

وهذان الحقان ولا سيما حق الحرية ، يؤكدان على أن الإسلام لا يخشى شيئا إذا كان منطلقا من الواقع وقائما على أساس الحق والصدق ، ولكنه يخشى من الإفساد ، ومن الإفساد فقط.

وهذا يصب في اتجاه الإسلام إلى التأكيد على المعرفة ، والدعوة إلى العلم ، لأنه يرى أنه أول من يستفيد من العلم ومن المعرفة ، ومن إطلاق الحريات ، في خط البناء ، لا في خط الهدم والافساد.

١٢ ـ ثم تضمنت الوثيقة : اعترافا من المنافقين والمشركين ، ومن اليهود أيضا بأن المؤمنين على أحسن هدى وأقومه ، مع أن ما كان يشيعه هؤلاء الأعداء إنما هو : أن هذا النبي قد جاء ليفرق جماعاتهم ، ويسفه أحلامهم ، و.. و.. الخ .. كما ذكره عمرو بن العاص للنجاشي ملك الحبشة.

١٣ ـ وجاء فيها أيضا قرار بإلغاء القبيلة التي توجب على القبيلة الانتصار لأبنائها ، حتى ولو كانوا المعتدين على غيرهم ، والظالمين لهم.

حيث تقرر أن على جميع المؤمنين أن يلاحقوا القاتل ، من كان ، ومهما كان.

كما أن ذلك إنما يعني إلغاء سائر الاعتبارات التي تؤثر في هذا المجال ، من قبيل الرئاسات ، والزعامات ، أو نوع القبيلة ، التي يكون المجرم منها ، كما كان الحال فيما بين بني قريظة وبني النضير ، حيث كان الامتياز في ذلك لبني النضير على بني قريظة.

١٤ ـ ثم إن هذه الوثيقة قد أعطت للمسلمين الحق في التصدي لأخذ أموال قريش (وليس المشركين) ؛ لأن قريشا هي التي سلبتهم أموالهم ، وأخرجتهم من ديارهم ، ليكون ذلك عوضا عما أخذ منهم.

وقد اعترف لهم بهذا الحق حتى المشركون ، الذين هم طرف في هذه

١٤٢

المعاهدة ، الأمر الذي جعل المشركين يشعرون : أنهم غير معنيين بما تتعرض له قريش في هذا السياق ، وجعل القضية تصب في الاتجاه الآخر بالنسبة إليهم ، ثم هو قد أعطى الجانب الإنساني قيمة وفاعلية في ضمير ووجدان الناس ، الذين فقدوا إحساسهم بهذه القيمة أو كادوا.

١٥ ـ ونلاحظ : أن هذه الوثيقة قد اعتمدت التعبير ب «المؤمنين» بدل «المسلمين».

ولهذا دلالاته على صعيد التعامل ، كما أن له إيحاءاته بالنسبة للمخلصين ، ليزدادوا خلوصا وإخلاصا أو بالنسبة للمنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم ، كما أن له تأثيراته السياسية في مجال التمايز بين الفرق ، كي لا يكون ذلك من منطلق التعصب للدين والمذهب.

١٦ ـ وفي الوثيقة أيضا : إظهار شرف الإيمان الذي أعطيت الامتيازات على أساسه ، واعتبار الكفر في درجة منحطة حينما قال : «أن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن».

١٧ ـ هذا إلى جانب التمايز الواضح فيما بين معسكري الكفر والإيمان ، وتكريس حالته.

١٨ ـ ويلاحظ : أن الوثيقة قد نصت على أن كل من يعترف بما في هذه الصحيفة لا يحق له نصر محدث ، ولا إيواؤه ، وهذا من شأنه أن يشيع الأمن العام ، ويجعل الناس يطمئنون نوعا ما ، ويخفف من الخوف الذي كان سائدا بين الأوس والخزرج ، كما أن فيه إنذارا مبطنا للآخرين من اليهود والمشركين الذين يعيشون مع المسلمين في بلد واحد.

١٤٣

١٩ ـ كما أن إظهار المسلمين أمام أعدائهم على أنهم قوة واحدة ومتماسكة ومتناصرة ، له أثر كبير في تكريس الهيبة لهم في النفوس ، وإبعاد الأطماع في أن ينفذ نافذ إلى المسلمين من خلال التلاعب بالعواطف القبيلة أو سواها.

٢٠ ـ ويلاحظ أخيرا : أن الوثيقة لم تعط للمشركين حقوقا ، ولكنها فرضت عليهم قيودا ، فليس للمشرك أن يجير مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن.

هذا ما أحببنا الإلماح إليه في هذه العجالة ، وثمة أمور كثيرة أخرى نأمل أن نوفق لدراستها في فرصة أخرى.

موادعة اليهود :

وجاءت يهود قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، وطلبوا الهدنة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فكتب لهم بذلك ، على أن لا يعينوا عليه أحدا ، ولا يتعرضوا لأحد من أصحابه بلسان ، ولا يد ، ولا بسلاح ، ولا بكراع ، في السر ، ولا في العلانية ، لا بليل ولا بنهار ، فإن فعلوا فرسول الله «صلى الله عليه وآله» في حل من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكل قبيلة كتابا على حدة (١).

ولكن اليهود عادوا بعد ذلك إلى الغدر والمكر ، كما سيأتي إن شاء الله ، مع علمهم بأنه النبي الحق ، كما تدل عليه تصريحاتهم المختلفة.

__________________

(١) إعلام الورى ص ٦٩ ، والبحار ج ١٩ ص ١١٠ و ١١١ عنه ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٧٥.

١٤٤

الباب الثالث

تشريعات وأحكام

الفصل الأول : الأذان

الفصل الثاني : تشريع بعض العبادات

الفصل الثالث : الجهاد في الإسلام

الفصل الرابع : سرايا وغزوات قبل بدر

١٤٥
١٤٦

الفصل الأول :

الأذان

١٤٧
١٤٨

تشريع الأذان :

ويذكرون هنا : أن الأذان قد شرع في السنة الأولى من الهجرة ، وقيل : في الثانية ، ولا يهمنا تحقيق ذلك كثيرا.

أما كيفية تشريعه فتحكى على النحو التالي : إن النبي «صلى الله عليه وآله» اهتم للصلاة ، كيف يجمع الناس لها.

فقيل له : انصب راية ؛ فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يعجبه ذلك ، فذكروا له القبع ـ يعني الشبور ، شبور اليهود ـ فلم يعجبه ذلك.

وقال : هو من أمر اليهود ، فذكروا له الناقوس.

فقال : هو من أمر النصارى. وكأنه كرهه أولا ، ثم أمر به ، فعمل من خشب.

فانصرف عبدالله بن زيد ، وهو مهتم لهمّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فأري الأذان في منامه.

قال : فغدا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأخبره فقال له : يا رسول الله ، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت ، فأراني الأذان.

قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك ؛ فكتمه عشرين يوما ، ثم أخبر به النبي «صلى الله عليه وآله» فقال : ما منعك أن تخبرني؟

١٤٩

قال : سبقني عبدالله بن زيد ، فاستحييت ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : يا بلال ، قم فانظر ما يأمرك به عبدالله بن زيد ، فافعله.

قال : فأذن بلال (الحديث).

كان هذا أحد نصوص رواية كيفية تشريع الأذان ، وللرواية نصوص كثيرة ومختلفة جدا ، فراجع (١).

مناقشة روايات الأذان :

ونحن نعتقد عدم صحة ذلك ؛ وذلك استنادا إلى ما يلي :

أولا : تناقض الروايات الشديد ، كما يظهر بالمراجعة والمقارنة وذلك

__________________

(١) راجع في نصوص الحديث المختلفة المصادر التالية : سنن أبي داود ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٤٥٥ ـ ٤٦٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٣ ـ ٩٧ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٩ ، والموطأ ج ١ وشرحه للزرقاني ج ١ ص ١٢٠ ـ ١٢٥ ، والجامع الصحيح للترمذي ج ١ ص ٣٥٨ ـ ٣٦١ ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٤٢ ، وسنن ابن ماجة ج ١ ص ١٢٤ ، وسنن البيهقي ج ١ ص ٣٩٠ و ٣٩١ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٥٤ و ١٥٥ و ١٢٥ ، ونصب الراية ج ١ ص ٢٥٩ ـ ٢٦١ ، وفتح الباري ج ٢ ص ٦٣ ـ ٦٦ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ٨ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٣٢ و ٢٣٣ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٧١ ، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٣ ص ٢٧٣ و ٢٧٥ ، وتبيين الحقائق للزيلعي ج ١ ص ٩٠ ، والروض الأنف ج ٢ ص ٢٨٥ و ٢٨٦ ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ١٣١ عن كنز العمال ج ٤ ص ٢٦٣ و ٢٤٦ ، ونقل أيضا عن أبي الشيخ ، وابن حبان ، وابن خزيمة ، وسنن الدارقطني ج ١ ص ٢٤١ و ٢٤٢ و ٢٤٥. وغير ذلك من المصادر الكثيرة التي لا مجال لتتبعها واستقصائها.

١٥٠

يوهن الرواية ، ويثير حولها أكثر من سؤال فمثلا :

الرواية المتقدمة تذكر أن ابن زيد رأى الأذان بين المنام واليقظة.

وأخرى تقول : رآه في المنام.

وثالثة تقول : إن ابن زيد قال : «لو لا أن يقول الناس لقلت : إني كنت يقظان غير نائم».

ورواية تقول : إن ابن زيد رآه ، فأخبر به النبي «صلى الله عليه وآله».

وأخرى تقول : إن جبرائيل أذن في سماء الدنيا ؛ فسمعه عمر وبلال ، فسبق عمر بلالا ، فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» ، ثم جاء بلال ، فقال له : سبقك بها عمر.

ورواية تقول : إن ابن زيد رآه.

وأخرى تقول : إن سبعة من الأنصار رأوه ، وقيل : أربعة عشر ، ورواية تزيد عبد الله بن أبي بكر.

ورواية تقول : إن بلالا كان يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، حي على الصلاة ، فقال له عمر : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال النبي «صلى الله عليه وآله» لبلال : قل كما قال عمر.

ورواية تفرد فصول الإقامه ، ورواية تثنيها.

إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي لا مجال لذكرها ، فراجع المصادر وقارن بين الروايات إن شئت.

ثانيا : إن دعوى سماع عمر وبلال لجبرائيل ، أو رؤية ابن زيد للأذان في اليقظة ، لا يمكن قبولها ؛ لأن معنى ذلك هو أن يكون هؤلاء من الأنبياء ، لأنهم قد أخذوا من جبرائيل وسمعوا منه أمرا تشريعيا توقيفيا ، وهو من

١٥١

مختصات الأنبياء «عليهم السلام».

ولا يرد على ذلك : أن فاطمة «عليها السلام» كانت تسمع ما سجلته في مصحفها من جبرائيل مباشرة ، لأننا نجيب بأن مصحف فاطمة لم يتضمن تشريعات اختصها جبرائيل بها ، وتلقتها الأمة منها .. بل كان يخبرها بما يجري على ذريتها من بعدها وبغير ذلك من حقائق يعرفها مما لا يرتبط بالتشريع ..

أما بالنسبة لرواية الرؤية في المنام ، فقد قال العسقلاني :

«وقد استشكل في إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد ، لأن رؤيا غير الأنبياء لا يبنى عليها حكم شرعي ، أجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك»!؟ (١).

ولكنه جواب بارد : فإن مجرد الاحتمال لا يجدي ، مع كون الرواية المعتمدة عندهم لم تذكر ذلك ، ولم تشر إليه ، بل اكتفت بمجرد أمره «صلى الله عليه وآله» بلالا بالتعلم من ابن زيد.

ثم لماذا لم ينزل الوحي عليه «صلى الله عليه وآله» من أول الأمر ، وحينما كان متحيرا في أمره ، مهموما مغموما لا يدري ما يفعل؟!.

ويبقى سؤال : لم اختص الأذان بأن شرع بهذه الكيفية ، دون سائر الأحكام؟!

وأجاب السهيلي : بأن في الأذان تنويها بشأنه ، ورفعا لذكره ، فلأن يكون

__________________

(١) فتح الباري ج ٢ ص ٦٢.

١٥٢

على لسان غيره أنوه وأفخم لشأنه (١).

ولكنه جواب بارد أيضا ـ وإن استحسنه العسقلاني وغيره ـ لأنه لو صح ؛ لوجب أن يكون تشريع الصلاة والزيارات والأدعية ، بل وكذا إيجاب الشهادتين ، وغير ذلك أيضا على لسان غيره ، لأنها كلها فيها تنويه بذكره ، وتفخيم لأمره ، وكذا بالنسبة للآيات القرآنية التي تمتدحه «صلى الله عليه وآله» وتثني عليه كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وغير ذلك.

وبعد كل ما تقدم فإننا نقول : إن حكم النبي «صلى الله عليه وآله» بالعمل برؤيا ابن زيد ، يكون من النطق عن الهوى ، وعدم الاستناد إلى الوحي ، وهو ينافي قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

ومشورة النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه في أمر ديني مستحيلة ؛ لأنه مستغن عنهم بالوحي ، نعم هو كان يستشيرهم في أمور دنيوية ، يطلب منهم هم القيام بها ، لأسباب ستأتي إن شاء الله في غزوتي بدر وأحد.

ثالثا : كيف كره «صلى الله عليه وآله» موافقة اليهود والنصارى ، ثم عاد فرضي بها ، فهل كان ذلك قبيحا ثم صار حسنا؟!.

أم أنه كان مضطرا إلى موافقتهم ؛ حيث سدت السبل في وجهه؟!

ولم لا يجعل مناديا ينادي الناس للصلاة ، كما كانوا يفعلون حينما كانوا ينادون : بالصلاة جامعة ، في كل مناسبة اقتضت ذلك؟

ولماذا يهتم رسول الله وعبد الله بن زيد وقد انحل المشكل برضاه «صلى

__________________

(١) الروض الأنف ج ٢ ص ٢٨٥.

١٥٣

الله عليه وآله» بصنع الناقوس ؛ ولم يبق ما يستدعي ذلك؟.

والأهم من ذلك : أنهم يروون ـ وإن كنا نحن لا نصدق بل ونجزم بكذب ذلك ـ : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم ينزل فيه وحي (١).

فلما ذا كره ذلك هنا ، واهتم واغتم لأجله؟!. فما هذا التناقض القبيح فيما ينسبونه إلى النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»؟!.

رابعا :

١ ـ عن الصباح المزني ، وسدير الصيرفي ، ومحمد بن النعمان الأحول ، وعمر بن أذينة ، أنهم حضروا عند أبي عبد الله «عليه السلام» فقال : يا عمر بن أذينة ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وصلاتهم؟

فقال : جعلت فداك ، إنهم يقولون : إن أبي بن كعب الأنصاري رآه في النوم.

فقال «عليه السلام» : كذبوا والله ، إن دين الله تعالى أعز من أن يرى في النوم.

وعلى حسب نص آخر إنه «عليه السلام» قال : ينزل الوحي به على نبيكم فتزعمون : أنه أخذه عن عبدالله بن زيد؟! (٢).

٢ ـ عن أبي العلاء ، قال : قلت لمحمد بن الحنفية :

__________________

(١) لسوف تأتي الإشارة إلى ذلك حين الكلام على صوم يوم عاشوراء إن شاء الله تعالى.

(٢) البحار ج ١٨ ص ٣٥٤ عن علل الشرائع ص ١١٢ و ١١٣ ، والنص والاجتهاد ص ٢٠٥ عن الشهيد في الذكرى ، ووسائل الشيعة ج ٤ ص ٦١٢ و ٦١٣.

١٥٤

إنا لنتحدث : أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه.

قال : ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعا شديدا وقال :

عمدتم إلى ما هو الأصل في شرايع الإسلام ، ومعالم دينكم ؛ فزعمتم :

أنه من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، تحتمل الصدق والكذب ، وقد تكون أضغاث أحلام؟!.

قال : فقلت : هذا الحديث قد استفاض في الناس؟!.

قال : هذا والله هو الباطل ، ثم قال : وإنما أخبرني أبي : أن جبرائيل «عليه السلام» أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء وأقام ، ثم أعاد جبرائيل الأذان لما عرج بالنبي «صلى الله عليه وآله» إلى السماء (١).

٣ ـ والإمام الحسن «عليه السلام» قد أنكر ذلك أيضا ، حيث تذاكروا عنده الأذان ، وذكروا رؤيا ابن زيد ، فقال : إن شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذن جبرائيل في السماء مثنى مثنى ، وعلمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأقام مرة مرة ، فعلمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٢).

٤ ـ عن الحسين بن علي «عليهما السلام» أنه سئل عن الأذان وما يقول الناس ، فقال : «الوحي ينزل على نبيكم وتزعمون : أنه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي علي بن أبي طالب «عليه السلام» يقول :

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٦ ، والنص والاجتهاد ص ٢٠٥ وكتاب العلوم (أمالي أحمد بن عيسى بن زيد) ج ١ ص ٩٠.

(٢) النص والاجتهاد ص ٢٥٥ عن مشكل الآثار ، وابن مردويه ، وعن كنز العمال ج ٦ ص ٢٧٧ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٧١.

١٥٥

أهبط الله ملكا حين عرج برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فأذن مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، ثم قال له جبرائيل : يا محمد ، هكذا أذان الصلاة» (١).

ولكن كون الإقامة مرة مرة ، مخالف لما هو ثابت قطعا عن أهل البيت «عليهم السلام» ، فإنه لا يرتاب أحد أنهم يروون ويرون أنها مثنى مثنى ، وذلك هو مذهب كثير من الصحابة ، والتابعين ، وفقهاء الإسلام.

وجعلها مرة مرة إنما كان على يد الأمراء ، فإن ذلك أمر استخفته الأمراء على حد تعبيرهم (٢) ، وإلا فإن الإقامة مرتين مرتين.

خامسا : عن عبد الله بن زيد نفسه قال : سمعت أذان رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكان أذانه وإقامته مثنى مثنى (٣).

فلو كان هو الذي أري الأذان ، فلا بد أن يكون أعرف الناس به من كل أحد ، فلماذا يرويه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

سادسا : حكى الداودي ، عن ابن إسحاق : أن جبرائيل أتى النبي «صلى الله عليه وآله» بالأذان قبل أن يراه عبدالله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

ويؤيد ذلك ما رووه أيضا : من أن عمر قد ذهب ليشتري ناقوسا ، فأخبر : أن ابن زيد قد أري الأذان في المنام ؛ فرجع ليخبر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال له : «سبقك بذلك الوحي» (٤).

__________________

(١) راجع ما تقدم وما سيأتي.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٤٦٣ ، وسنن البيهقي ج ١ ص ٤٢٥.

(٣) مسند أبي عوانة ج ١ ص ٣٣١ ، وراجع سنن الدارقطني ج ١ ص ٢٤١.

(٤) المصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٤٥٦ ، تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٦٠ ، وليراجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٣٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٦ و ٩٧.

١٥٦

سابعا : إننا نرجح أن تشريع الأذان كان في مكة قبل الهجرة ، وذلك لما تقدم عن ابن الحنفية ، ولما يلي :

١ ـ عن زيد بن علي ، عن آبائه «عليهم السلام» : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» علم الأذان ليلة أسري به ، وفرضت عليه الصلاة.

وكذا روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» ، وعن ابن عمر ، والإمام الباقر «عليه السلام» ، وعائشة (١).

وقد جاء بسند صحيح عن الإمام الباقر «عليه السلام» ما هو قريب من ذلك (٢).

٢ ـ عن أنس : إن جبرائيل أمر النبي «صلى الله عليه وآله» بالأذان حين فرضت الصلاة (٣) ، والصلاة إنما فرضت في مكة ، كما هو معلوم.

__________________

(١) منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٣ ص ٢٧٣ عن الطبراني في الأوسط ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٧٣ وج ٢ ص ٩٣ و ٩٥ ، ومجمع الزوائد ج ١ ص ٣٢٩ و ٣٢٨ ونصب الراية ج ١ ص ٢٦٢ و ٢٦٠ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٧١ و ٧٢ ، وفتح الباري ج ٢ ص ٦٣ ، والدر المنثور ج ٤ ص ١٥٤ عن البزار ، وابن مردويه ، والطبراني ، وأبي نعيم في دلائل النبوة ، والروض الأنف ج ٢ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٣٣ ، وحاشية تبيين الحقائق ، والبزار ، ونقله في النص والاجتهاد ص ٢٠٥ عن مشكل الآثار ، وعن الشهيد في الذكرى ، وكنز العمال ج ١٤ ص ٤ عن ابن مردويه ، وقصار الجمل ج ١ ص ١٣ ، والوسائل ج ٤ ص ٦٦٠ والكافي ج ٣ ص ٣٠٢.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣٠٢.

(٣) المواهب اللدنية ج ١ ص ٧٢ ، وفتح الباري ج ٢ ص ٦٣.

١٥٧

وصحح السهيلي مفاد الرواية المروية عن الإمام الباقر «عليه السلام» ، الدالة على تشريع الأذان حين الإسراء ، والتي أشرنا إليها فيما سبق.

ولكنهم أوردوا عليه بأن في سندها زياد بن المنذر ، وفيه شيعية (١) ، وبأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يأمر بالأذان حين الهجرة (٢).

ولكن إيرادهم الأول كما ترى ، وإيرادهم الثاني أيضا لا واقع له ، فإن هذا هو محل النزاع.

وبالمناسبة نذكر : أنه قد ورد : أن جبرائيل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة (٣).

وبعد ما تقدم : فإننا نعرف عدم صحة ما رووا عن ابن عباس ، من أن فرض الأذان كان مع نزول آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ..)(٤). ليكون الأذان قد شرع حين نزول سورة الجمعة ، بعد السنة السابعة للهجرة وبعد وفاة عبد الله بن زيد ، الذي قتل في أحد ، أو بعدها بقليل.

ولذلك قال الحاكم : «وإنما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد في الأذان والرؤيا ، التي قصها على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بهذا

__________________

(١) نصب الراية ج ١ ص ٢٦١.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٣٣ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٧١ ، ونصب الراية ج ١ ص ٢٦١ ، وسكت عنه الحاكم ، لكن الذهبي طعن في نوح بن دراج ، ولعله لأجل أنه كان يتشيع ، كما هو دأبهم.

(٣) فتح الباري ج ٢ ص ٦٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٣.

(٤) فتح الباري ج ٢ ص ٦٢ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٢١٨ عن أبي الشيخ.

١٥٨

الإسناد ، لتقدم موت عبد الله بن زيد ، فقد قيل : إنه استشهد بأحد ، وقيل : بعد ذلك بيسير» (١).

ولكن عبارة الدر المنثور هكذا : «الأذان نزل على رسول الله «صلى الله عليه وآله» مع فرض الصلاة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ..) ، فيحتمل أن يكون مقصوده هو أن الأذان قد شرع في مكة مع فرض الصلاة ، ثم استشهد بالآية للإشارة إلى أن الله قد أومأ إلى الأذان في القرآن أيضا ؛ فإذا صح هذا فإن هذه الرواية لا تعارض ما تقدم.

ثامنا : عن عائشة ، وعكرمة ، وقيس بن أبي حازم ، وغيرهم ، في قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً) : ركعتان فيما بين الأذان والإقامة (٢).

وواضح : أن هذه الآية قد وردت في سورة فصلت ، وهي مكية ، فيدل على أن الأذان والإقامة قد شرعا في مكة ، وجاءت الآية لتبين حكما متعلقا بهما.

ودعوى : أن الآية مما تأخر حكمه عن نزوله ، لا شاهد لها إلا رواية ابن زيد المتقدمة ، وقد تقدم أنها لا تصلح للإعتماد عليها ، بل الدليل قائم على كذبها.

تاسعا : لقد ذكر المفسرون في قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أنه في

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٣٤٨.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٣ ، والدر المنثور ج ٥ ص ٣٦٤ عن عبد بن حميد ، والخطيب في تاريخه ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر.

١٥٩

الأذان (١).

وروى عدد منهم ذلك عن ابن عباس ومجاهد (٢).

وهذه الآية في سورة الانشراح ، وهي مكية أيضا.

الكلمة الأخيرة :

وأخيرا .. فقد ورد بالسند الصحيح عن أبي عبد الله الصادق «عليه السلام» ، وقال : لما هبط جبرائيل على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالأذان ، أذن جبرائيل وأقام.

وعندها أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» عليا «عليه السلام» أن يدعو له بلالا فدعاه ، فعلمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» الأذان ، وأمره به (٣).

وهذه الرواية لا تعارض ما سبق ؛ إذ من الممكن أن يكون جبرائيل قد نزل بالأذان في مكة ، كما أن الأذان الذي شرع حين الإسراء لعله الأذان الذي يمارسه كل فرد فرد ، وأما أذان الإعلام فهو الذي نزل به جبرائيل

__________________

(١) الكشاف (ط دار الفكر) ج ٤ ص ٢٦٦ ، وجوامع الجامع ص ٥٤٥ ، والبحر المحيط ج ٨ ص ٤٨٨ ، ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٠٨ ، والتفسير الكبير ج ٣٢ ص ٥ ، ومدارك التنزيل (مطبوع بهامش الخازن) ج ٤ ص ٣٨٩.

(٢) راجع : تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٥٢٥ ، وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٢٠ ص ١٠٦ ، ولباب التأويل ج ٤ ص ٣٨٩.

(٣) الوسائل ج ١ ص ٣٢٦ ، والكافي ج ٣ ص ٣٠٢ ، والنص والاجتهاد ص ٢٠٥ ، ونقله الصدوق والشيخ رحمهما الله تعالى.

١٦٠