الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

١
٢

٣
٤

الفصل الثانى :

قضايا واحداث غير عسكرية

٥
٦

عودة بعض المهاجرين من الحبشة :

وبلغ المسلمين في الحبشة نبأ هجرة الرسول «صلى الله عليه وآله» والمسلمين إلى المدينة ، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ، وثماني نسوة ، فمات منهم رجلان في مكة ، وحبس سبعة ، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المدينة ، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون (١).

واستمروا يخرجون إليه «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة (٢) إلى أن قدم جعفر «عليه السلام» مع الجماعة الباقية في سنة سبع ، حين فتح خيبر ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهؤلاء الثلاثون المشار إليهم هنا ، هم غير الذين عادوا إلى مكة في السنة الخامسة من البعثة ، قبل الهجرة إلى المدينة بثماني سنوات.

وأما السبب في مرور هم على مكة ، مع أنها البلد الذي فروا منه ، فهو أن طريقهم إلى المدينة كان يمر بقرب مكة ، على ما يظهر.

ويدل على ذلك ما ورد عن الصنعاني حيث قال : «فلما قاتل رسول الله

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ١٣٩.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ١٣٩ ، وزاد المعاد ج ١ ص ٢٥ ، وج ٢ ص ٢٤ و ٤٥ ، والبدء والتاريخ ج ٤ ص ١٥٢ ، وفتح الباري ج ٧ ص ١٤٥.

٧

«صلى الله عليه وآله» كفار قريش ، حالت بين مهاجرة أرض الحبشة ، وبين القدوم على رسول الله ، حتى لقوه بالمدينة زمن الخندق» (١) انتهى.

لكن قوله : «زمن الخندق» لا يمكن تأكيده ولعله تصحيف خيبر ، وبالنسبة لهؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم ، فإن المعروف هو ما ذكرناه ، ولعل عددا منهم قد دخل مكة ، سرا أو جهرا ، بهدف الحصول على أموالهم التي كانت في مكة ، وتجديد العهد بأهلهم وذويهم ، وبالبيت العتيق ، ثم يسافرون إلى المدينة.

ولكن قريشا واجهتهم بالعنف والقسوة ، ولم ترع لهم حرمة ، ولا غربة ، ولا قرابة.

وواضح : أن وصول هذه الثلة من مهاجري الحبشة إلى المدينة ، كان بعد عدة أشهر من وصول النبي «صلى الله عليه وآله» إليها ، إذ أن وصول نبأ هجرة النبي «صلى الله عليه وآله» إليهم ، ثم هجرتهم إلى مكة ، وتصفية بعضهم علاقاتهم بها ، ثم ما جرى لهم مع قريش ، ثم سيرهم إلى المدينة ، يحتاج إلى وقت طويل.

حتى إن البعض يذكر : أن ابن مسعود قد كان من جملة الثلاثين العائدين إلى مكة ، فالمدينة ، فوصل إلى المدينة حين كان النبي «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر (٢).

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٧.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ١٤٥.

٨

عائشة في بيت النبي صلّى الله عليه وآله :

وفي السنة الأولى من الهجرة ، وقيل في التي بعدها ، انتقلت عائشة إلى بيت النبي «صلى الله عليه وآله» ، وذلك في شهر شوال.

وقالوا : إنه «صلى الله عليه وآله» لم يتزوج بكرا غيرها ، ولكننا لا نطمئن إلى صحة ذلك ، لأمور :

أولا : لما تقدم حين الكلام على زواجه «صلى الله عليه وآله» بخديجة حيث قلنا : إن زواج خديجة برجل آخر سوى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمر مشكوك فيه إلى حد كبير ، ولربما نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيا : سيأتي في هذا الكتاب ما يدل على أن عائشة كانت متزوجة برجل آخر غير رسول الله «صلى الله عليه وآله» وكان لها منه ولد.

مراسم الزفاف :

ولا نعرف لما ذا كان زفاف عائشة غير ذي أهمية لدى النبي «صلى الله عليه وآله»؟!

فقد روي : أنه «صلى الله عليه وآله» ما أولم على عائشة بشيء ـ رغم توقع الناس منه ذلك وقدرته عليه في تلك الفترة ـ غير أن قدحا من لبن أهدي إليه من بيت سعد بن عبادة ، فشرب النبي «صلى الله عليه وآله» بعضه ، وشربت عائشة منه!! (١). ولا يصح أن يعد ذلك وليمة عرس لها ؛ إذ من الطبيعي أن لا يغفل النبي عن عرض الطعام على جليسه ، فضلا عن زوجته.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢١.

٩

استدلال طريف :

وقد كانت عائشة تستدل على حظوتها عند النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه قد تزوجها في شوال ، فتقول :

تزوجني رسول الله «صلى الله عليه وآله» في شوال ، فأي نساء رسول الله «صلى الله عليه وآله» كانت أحظى عنده مني؟ (١) وهو استدلال طريف حقا ، فمتى كان لشوال هذه الفضيلة العظيمة التي تدل على الحظوة؟!

أضف إلى ذلك : أن خديجة ، وأم سلمة ، وسائر نسائه «صلى الله عليه وآله» قد كن أحظى عنده منها ، ولذا فقد كانت تحسدهن ، وتؤذيهن ، وتسيء إليهن كثيرا ، حتى أمام رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه ، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك حين الكلام عن العقد على عائشة قبل الهجرة.

وأطرف من ذلك : أننا نجد البعض يحكم باستحباب العقد في شوال (٢).

ويبدو أن حبهم لعائشة ، وتقديرهم لرغباتها ، وهي التي كانت الساعد الأيمن للهيئة الحاكمة بعد النبي ، والتي حاربت عليا الشوكة الجارحة في أعينهم ، الذي لم تكن تقدر أن تذكره بخير أبدا (٣) ـ إن ذلك هو الذي دفعهم إلى وضع هذا التشريع ـ مع أنهم يروون : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تزوج بجويرية ، وبحفصة في شعبان ، وبزينب بنت خزيمة في شهر رمضان ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ط الإستقامة ج ٢ ص ١١٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢٠ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٨.

(٢) راجع : نزهة المجالس للصفوري الشافعي ج ٢ ص ١٣٧.

(٣) فتح الباري ج ٢ ص ١٣١ ، ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٢٨ ، والندير ج ٩ ص ٣٢٤.

١٠

وبزينب بنت جحش في ذي القعدة كما يقال ، فالنبي إذا ، قد ترك هذا المستحب ، ولم يفعله إلا بالنسبة لعائشة وحدها ، ووحدها فقط!! إن ذلك عجيب حقا وأي عجيب!!.

فاتحة عهد جديد :

وعلى كل حال ، فإن بدخول عائشة إلى بيت النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد بدأت في هذا البيت ، الذي كان مثالا للهدوء والسكينة ، والجلال ـ حتى عهد قريب ـ تحولات وتغيرات ذات طابع معين ، حينما صار مجالا لكثير من التناقضات ، التي كانت مصدرا لهمّ النبي «صلى الله عليه وآله» وغمه أحيانا كثيرة ، وكانت عائشة هي السبب المباشر والمحرك في القسم الأعظم منها.

ولا نقول ذلك من عند أنفسنا ، وإنما نستند في ذلك إلى ما أثبته التاريخ والحديث المتواتر عنها ، بل إنها هي نفسها تصرح : بأنها كانت السبب في كل ما كان يجري في بيته «صلى الله عليه وآله» من مشاحنات وتناقضات كما جاء في بعض المصادر ، على ما ذكره لي بعض المحققين.

آية الصلح بين المؤمنين :

ويذكر البعض : من الحوادث التي كانت قبل غزوة بدر (١) : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ذهب ليعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فمر «صلى الله عليه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤.

١١

وآله» ـ وهو على حماره ـ بمجلس ابن أبي ، وفي المجلس أخلاط من المسلمين ، والمشركين ، واليهود ، وفيهم عبد الله بن رواحة ؛ فثار غبار من مشي الحمار ، فخمر ابن أبي أنفه بردائه ، وقال : لا تغبروا علينا.

فنزل إليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ودعاهم إلى الله ؛ فقال له ابن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا ؛ فلا تؤذينا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ؛ فمن جاءك فاقصص عليه.

فقال ابن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشانا ، فإنا نحب ذلك.

فاستب المسلمون والمشركون ، حتى كادوا يتبادرون ، فلم يزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخفضهم حتى سكنوا.

ثم دخل على سعد بن عبادة ، فحدثه بما جرى ، فطلب منه سعد أن يصفح عن ابن أبي ؛ لأنهم كانوا على وشك أن يتوجوه قبل قدومه «صلى الله عليه وآله» ، فلما قدم انصرفوا عن ذلك.

وفي رواية أخرى : إنه «صلى الله عليه وآله» ذهب ومعه المسلمون إلى ابن أبي تألفا لقومه ، فلما أتاه قال له : إليك عني ، والله لقد آذاني ريح حمارك.

فقال أحد الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ، فتعصب لابن أبي رجل من قومه فشتمه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والنعال ؛ فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ..)(١).

__________________

(١) الآية ٩ من سورة الحجرات ، السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٣ و ٦٤ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٩٠ ، عن مسلم ، والبخاري ، وأحمد ، والبيهقي في سننه ، وابن مردويه ، وابن

١٢

وفي مجمع البيان : أن الذي قال لابن أبي ذلك ، هو عبد الله بن رواحة ، وأن التضارب كان بين رهط ابن رواحة من الأوس ، ورهط ابن أبي من الخزرج ، ولكن لا تخلو كلتا الروايتين من الإشكال.

فأولا : إن آية الصلح بين المؤمنين لا يمكن أن تنطبق على الرواية الأولى ؛ فإن النزاع فيها كان بين المشركين والمسلمين ، وليس بين طائفتين من المؤمنين.

بل لم يظهر من الرواية الثانية كون النزاع كان بين طائفتين من المؤمنين ، فإذا جعلنا الروايتين رواية واحدة ؛ لتقارب سياقهما ومضمونهما ، لم يمكن الاطمئنان إلى صحة كون الآية قد نزلت بهذه المناسبة.

وثانيا : إن الآية موجودة في سورة الحجرات ، وهي قد نزلت بعد سنوات من الهجرة ، لأنها نزلت بعد المجادلة والأحزاب ، التي نزلت في مناسبة الخندق وغيرهما.

وتقدم قولهم : إن هذه القضية قد حصلت قبل بدر.

هذا كله عدا عن التنافي بين مضمون كل من الروايتين كما هو ظاهر.

ولكن ذلك لا يعني أن الرواية مختلقة من الأساس ؛ فلربما تكون قد حصلت بعد سنوات من الهجرة ، بعد نزول سورة الحجرات ، وبعد إظهار ابن أبي للإسلام ؛ ويكون النزاع قد حصل بين طائفتين من المؤمنين ، وبذلك تكون الرواية الثانية هي الأرجح.

__________________

جرير ، وابن المنذر ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥٧٨ و ٥٧٩ و ٥٦٠ ، عن البخاري ج ١ ص ٣٧٠ وج ٣ ص ٨٤٥.

١٣

إسلام سلمان المحمدي :

وفي السنة الأولى من الهجرة ، ويقال : في جمادى الأولى منها (١) كان إسلام سلمان المحمدي ، المعروف بسلمان الفارسي ، حشرنا الله معه وفي زمرته ، والذي قال النبي «صلى الله عليه وآله» وغير واحد من الأئمة عنه : سلمان منا أهل البيت (٢).

وكان سلمان قد هاجر من بلاده في طلب الدين الحق ، وتعرض في هجرته تلك إلى المصائب والمصاعب ، حتى ابتلي بالرق ، وأعتق على يد النبي «صلى الله عليه وآله».

وملخص ذلك ـ على ما ذكره الصنعاني : أنه كان في بلده راهب ، فأخذ عنه بعض التعاليم ، وعلم أهله بالأمر فأخرجوا الراهب من البلد ، فخرج معه بالسر عن أهله ، فجاء الموصل ، فوجد أربعين راهبا ، وبعد أشهر ذهب مع أحدهم إلى بيت المقدس ، ورأى عبادة الراهب واجتهاده ، ثم ضاع عنه ، فسأل عنه ركبا من الأنصار ، فقالوا :

هذا عبد آبق ، فأخذوه إلى المدينة ، وجعلوه في حائط لهم ، وكان الراهب قد أخبره أن نبيا من العرب سيخرج ، لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، وأمره باتباعه (٣).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥١.

(٢) راجع : قاموس الرجال ج ٤ ترجمة سلمان الفارسي.

(٣) المصنف للصنعاني ج ٨ ص ٤١٨. وتفصيل ما لاقاه سلمان من المتاعب والمصاعب في أسفاره تلك يطلب من كتب الحديث ، والتاريخ ، والتراجم.

١٤

وفي المدينة ـ وبالذات في قباء كما يقولون ـ التقى بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، فقدم إليه رطبا على أنها صدقة ، فأبى النبي «صلى الله عليه وآله» أن يأكل منها ، وأمر أصحابه فأكلوا ، وعدها سلمان واحدة.

ثم التقى به في المدينة ، فقدم إليه رطبا على أنها هدية ، فقبلها وأكل منها ، فعدها سلمان ثانية.

ثم التقى به في بقيع الغرقد وهو في تشييع جنازة بعض أصحابه ، فسلم عليه ، ثم استدار خلفه ، فكشف النبي «صلى الله عليه وآله» عن ظهره ، فرأى خاتم النبوة ، فانكب عليه يقبله ويبكي ، ثم أسلم وأخبره بقصته ، وبعد ذلك كاتب سيده ، واستمر يعمل من أجل أداء مال الكتابة ، وأعانه النبي «صلى الله عليه وآله» على ذلك.

وكان أول مشاهده الخندق ، ثم شهد ما بعدها من المشاهد.

وقال ابن عبد البر : إن أول ما شهده بدر ؛ وهو المناسب لمعونة النبي «صلى الله عليه وآله» له ، فراجع في سيرة سلمان وفضائله كتب الحديث والتراجم (١) بالإضافة إلى ما كتبناه عنه في كتابنا : «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي».

ملاحظة :

ويلاحظ هنا : أن سلمان لم يسلم بدافع عاطفي ، أو مصلحي ؛ ولم يسلم أيضا استجابة لضغوط أو لجو معين ، وإنما دخل في الإسلام عن قناعة فكرية خالصة ، وبعد أن سعى من أجل الوصول إلى الدين الحق ، ولاقى

__________________

(١) مثل : قاموس الرجال ج ٤ ، والإصابة ج ٢ ص ٦٢ والإستيعاب ، وغير ذلك.

١٥

المصاعب والمتاعب الطويلة في سبيل ذلك ، وذلك يؤيد فطرية هذا الدين ، وكونه ينسجم مع أحكام العقل ، ومقتضيات الفطرة السليمة ، وقد أشرنا إلى ذلك أيضا حين الكلام عن إسلام أبي ذر ، فليراجع.

بئر رومة في صدقات عثمان :

وقد ذكروا في جملة فضائل عثمان : أنه لما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة ، وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، قال : من يشتري بئر رومة من خالص ماله ؛ فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ، بخير له منها في الجنة؟.

فاشتراها عثمان من صلب ماله ، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين ، ثم لما حصر عثمان منعوه من الشرب منها حتى شرب ماء البحر.

وللروايات نصوص مختلفة جدا كما سنرى ، وسنشير إلى بعض مصادرها فيما يأتي.

ونحن نشك في صحتها ، وذلك استنادا إلى ما يلي :

أولا : تناقض نصوصها الشديد جدا ، حتى إنك لا تجد نصا إلا ويوجد ما ينافيه ويناقضه ، ونذكر على سبيل المثال :

أنهم يروون : أن عثمان قد ناشد الصحابة بقضية بئر رومة ، وذلك حين الثورة عليه.

فرواية تقول : إنه اطلع عليهم من داره وهو محصور فناشدهم.

وأخرى تقول : إنه ناشدهم في المسجد.

ورواية تقول : إنه اشترى نصفها بمائة بكرة ، والنصف الآخر بشيء يسير.

١٦

وأخرى تقول : إنه اشتراها بأربعين ألفا.

وثالثة : بخمس وثلاثين.

ورابعة : إنه اشترى نصفها باثني عشر ألف درهم ، والنصف الآخر بثمانية آلاف.

ورواية تقول : إن هذه البئر كانت ليهودي لا يسقي أحدا منها قطرة إلا بثمن.

وأخرى : إنها كانت لرجل من مزينة.

وثالثة : لرجل من بني غفار.

ورواية تقول : إنه اشترى البئر.

وأخرى تقول : إنه حفرها.

والجمع بأنه اشتراها ، ثم احتاجت إلى الحفر (١) لا يصح ، لأنهم يقولون : إن عثمان قال ذلك حين المناشدة ، والمناشدة كانت واحدة ولم تتكرر.

ورواية تقول : إنها كانت عينا (أي فيها نبع وسيلان على وجه الأرض).

وأخرى تقول : كانت بئرا.

ورواية تقول : إنه اشتراها عند مقدم النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين المدينة.

وأخرى تقول : إنه اشتراها وهو خليفة.

ورواية تقول : إن النبي طلب منه ذلك.

__________________

(١) هذا الجمع ذكره السمهودي في وفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٧٠.

١٧

وأخرى تقول : إنه «صلى الله عليه وآله» ناشد المسلمين من يشتريها منهم.

وثالثة تقول : إن غفاريا أبى بيعها للنبي بعينين في الجنة!! فبلغ ذلك عثمان فاشتراها منه بخمسة وثلاثين ألفا (١).

وثمة تناقضات كثيرة أخرى لا مجال لذكرها ؛ فمن أراد المزيد فليراجع وليقارن.

ثانيا : إن ما ورد في الرواية ـ كما عند النسائي وأحمد والترمذي ـ من أنه «صلى الله عليه وآله» قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب ، لا يصح بوجه ، فقد كان في المدينة آبار كثيرة عذبة ، وقد استمر النبي «صلى الله عليه وآله» على الاستقاء والشرب منها إلى آخر حياته ، ومنها بئر السقيا ، وبئر بضاعة ، وبئر جاسوم ، وبئر دار أنس التي تفل فيها النبي «صلى الله عليه وآله» فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها (٢) ، وغير ذلك من آبار كثيرة لا مجال

__________________

(١) راجع في الروايات وقارن بينها : وفاء الوفاء للسمهودي ج ٣ ص ٦٩٧ ـ ٩٧١ ، وسنن النسائي ج ٦ ص ٢٣٥ و ٢٣٦ و ٢٣٤ ، ومنتخب كنز العمال ج ٥ ص ١١ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٨٩ عن الطبراني وابن عساكر ، ومسند أحمد ج ١ ص ٧٥ و ٧٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٧٥ ، وروي ذلك أيضا عن البغوي ، وابن زبالة وابن شبة ، والترمذي ص ٦٢٧ ، وابن عبد البر ، والحازمي ، وابن حبان ، وابن خزيمة.

وراجع : حلية الأولياء ج ١ ص ٥٨ ، والبخاري هامش الفتح ج ٥ ص ٣٠٥ ، وفتح الباري ج ٥ ص ٣٠٥ و ٣٠٦ ، وسنن البيهقي ج ٦ ص ١٦٧ و ١٦٨ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٩٥.

(٢) راجع وفاء الوفاء للسمهودي ج ٣ ص ٩٧٢ و ٩٥٦ و ٩٥٨ و ٩٥٩ و ٩٥١.

١٨

لذكرها (١).

ثالثا : لو صح حديث بئر رومة ؛ فلا بد إذا من الإجابة على التساؤلات في المجالات التالية :

أ ـ إنه إذا كان عثمان قد قدم من الحبشة جديدا ، ولم يكن له مال ؛ فمن أين جاء عثمان بالأربعين ، أو الخمسة والثلاثين ، أو العشرين ألفا من الدراهم ، أو المئة بكرة؟! ومتى وكيف اكتسب هذا المال؟!.

ب ـ لماذا لا يعين المسلمين في حرب بدر بشيء من تلك المبالغ الهائلة من الدراهم؟ أو بشيء من تلك البكرات التي أخرج منها مئة من صلب ماله ، حسبما تنص عليه الرواية؟!. مع أن المسلمين كانوا في بدر بأمس الحاجة إلى أقل القليل من ذلك ، وكان الاثنان والثلاثة منهم يعتقبون البعير الواحد ، ومع أنه لم يكن معهم إلا فرس واحد ، ولم يكن معهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف ، والباقون يقاتلون بالعصي وجريد النخل ، كما سيأتي بيانه مع مصادره.

أم يعقل أن يكون قد بذل كل ما لديه في بئر رومة حتى أصبح صفر اليدين؟!.

أو لماذا لا يطعم المسلمين ، ويسد حاجاتهم ، ويكفيهم معونة الأنصار؟! ولما ذا لا يعين النبي نفسه بشيء من ماله ، وقد كان يعاني أشد الصعوبات ، ولم يتسع الحال عليه وعليهم إلا بعد سنوات من الهجرة؟!

ج ـ وتقول روايات المناشدة : إنهم قد منعوه من الشرب منها حتى

__________________

(١) راجع : المصدر السابق ، فصل آبار المدينة.

١٩

اضطر إلى الشرب من ماء البحر ، وهذا عجيب حقا!! فإنه إذا كان يستطيع الحصول على الماء فلما ذا لا يشرب من غيرها من العيون العذبة التي كانت في المدينة والتي تعد بالعشرات؟!.

كما أن من كان يمنعه من شرب الماء ، فإنه لم يكن ليسمح بدخول أي ماء كان إليه ، ومن أي مصدر كان.

ويقولون : إن عمارا أراد أن يدخل إليه روايا ماء ؛ فمنعه طلحة (١) ولم يستطع الحصول على الماء إلا من قبل علي الذي أرسل إليه الماء مع أولاده ، وعرضهم للأخطار الجسيمة ، كما هو معلوم.

وهل يمكن أن نصدق أنه شرب من ماء البحر حقا ؛ مع أن البحر يبعد مسافة كبيرة جدا عن المدينة ، أم أن ذلك كناية عن شربه للمياه غير العذبة والمالحة؟!

د ـ وإذا كان عثمان قد بذل هذا المال حقا ، فلما ذا لم تنزل فيه ولو آية واحدة تمدح فعله ، وتثني عليه؟! وكيف استحق علي أن تنزل فيه آيات حينما تصدق بثلاثة أقراص من شعير ، وحينما تصدق بخاتمه ، وحينما تصدق بأربعة دراهم ، وحين قضية النجوى؟! وهذا عثمان يبذل عشرات الآلاف ، ومئة بكرة من الإبل ، ولا يذكره الله بشيء ، ولا يشير له بكلمة ولا بحرف؟! بل إن الرواية التي تنقل هذه الفضيلة الكبرى عنه نراها متناقضة متهافتة ، لا تقوى ولا تثبت أمام النقد العلمي الحر والصريح.

وبعد .. لما ذا امتنع ـ كغيره ـ عن التصدق بدرهم في آية النجوى ، حتى

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٤٥.

٢٠