الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

بالإضافة إلى أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ حسبما يروى ـ قد ذم أبا الدرداء ، وقال له : إن فيك جاهلية.

قال : جاهلية كفر ، أم جاهلية إسلام؟

قال : جاهلية كفر (١).

٤ ـ وإذا كان سلمان قد أسلم في أول سني الهجرة ، كما سيأتي الحديث عنه في فصل مستقل ، وإذا كان أبو الدرداء قد تأخر إسلامه إلى ما بعد أحد (٢) .. فلما ذا ترك النبي «صلى الله عليه وآله» سلمان من دون أن يؤاخي بينه وبين أحد من الناس ، في هذه المدة الطويلة كلها؟!.

٥ ـ وإذا أخذنا بقول الواقدي : «إن العلماء ينكرون المؤاخاة بعد بدر ، ويقولون : قطعت بدر المواريث» (٣).

فإن النتيجة تكون : أن العلماء ينكرون المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء ، لأن أبا الدرداء قد تأخر إسلامه عن بدر كثيرا ..

٦ ـ وأخيرا .. فقد جاء في بعض النصوص : أنه «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك الأشجعي (٤) ، ولعل هذا هو الأصح والأولى بالقبول ..

وقد روى الكليني عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال : آخى رسول

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ٥٣٧ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٦٩ عنه.

(٢) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ١٦ ، وراجع ج ٤ ص ٦٠.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٥٦ ، وج ١٠ ص ٦٩ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ج ١ ص ٢٧١ ، وراجع : طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٦٠.

(٤) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٢٢.

١٢١

الله «صلى الله عليه وآله» بين سلمان وأبي ذر ، واشترط على أبي ذر : أن لا يعصي سلمان (١).

وواضح أن ذلك يعني : أن طاعة أبي ذر لسلمان لم تكن : إلا لأنها توصل إلى الحق ، وتؤدي إلى الاحتفاظ به ، والحفاظ عليه ، ولأنه يمثل الوعي الرسالي الرائد في أعلى مستوياته ، ويدعم هذا الوعي ويحميه ، ويرفده إيمان ثر ، وعقيدة راسخة ، توجه الفكر والرأي والوعي ، وكل الحركات نحو الهدف الأسمى ، والمبدأ الأعلى ، لتعيش في ظلاله ، وتفنى كلها فيه بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

فإن الإيمان عشر درجات ، وسلمان كان في العاشرة ، وأبو ذر في التاسعة ، والمقداد في الثامنة (٢).

وإن إطاعة أبي ذر لسلمان لتعطينا : أن الميزان والمقياس في الطاعة ليس إلا ذلك الذي أشرنا إليه ، واعتبره القرآن وسيلة لنيل التقوى واليقين : حين قال تعالى :

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

و (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٤).

و (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٥).

__________________

(١) روضة الكافي ص ١٦٢.

(٢) قاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٣ عن الخصال للصدوق.

(٣) الآية ٩ من سورة الزمر.

(٤) الآية ٢٨ من سورة فاطر.

(٥) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

١٢٢

إذن ، فليس للعرق ، ولا للون ، ولا للجاه ، ولا للمال ، ولا غير ذلك ـ أي دور في التفاضل وإعطاء الامتيازات ـ من أي نوع كانت ولأي كان ، وإنما الميزان والمقياس في كل ذلك هو التقوى والتقوى فقط ، التي يدعمها الإيمان الراسخ ، والفكر النير ، والوعي الرسالي الرائد ، ولأجل ذلك كان على أبي ذر : أن لا يعصي سلمان ، الذي بلغ من العلم والمعرفة بحيث لو اطلع أبو ذر على ما في قلب سلمان لقتله (١).

وعن الفضل : ما نشأ في الإسلام رجل من الناس كافة كان أفقه من سلمان الفارسي (٢).

ولأجل ذلك بالذات : كان لا بد من إطاعة أئمة الهدى ، الذين هم القمة في العلم والمعرفة ، ومن ثم في التقوى ، دون غيرهم من المتغلبين الجهلة والطواغيت والجبارين.

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٨ وغيرها.

(٢) المصدر السابق.

١٢٣
١٢٤

الفصل الرابع :

أسس العلاقات في المجتمع الجديد

١٢٥
١٢٦

أسس العلاقات :

ويذكر المؤرخون : أنه بعد مدة وجيزة من قدومه «صلى الله عليه وآله» المدينة ، وعلى رأي البعض : بعد خمسة أشهر (١) كتب «صلى الله عليه وآله» كتابا أو وثيقة بينه وبين اليهود ، أقرهم فيها على دينهم وأموالهم ، واشترط عليهم : أن لا يعينوا عليه أحدا ، وإن دهم أمر فعليهم النصر ، كما أن على المسلمين ذلك في المقابل.

ولكن سرعان ما نقض اليهود العهد ، وعادوا إلى المكر والغدر ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

ويلاحظ : أن الوثيقة المشار إليها لم تقتصر على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم ، وإنما تعرض جانب كبير ـ بل هو الجانب الأكبر ـ منها إلى تقرير قواعد كلية ، وأسس عملية للعلاقات بين المسلمين أنفسهم ، كان لا بد منها لتلافي الأخطاء المحتملة قبل أن تقع.

فهذه الوثيقة بمثابة دستور عمل ، يتضمن أسس العلاقات في الدولة الناشئة ، سواء في الداخل أم في الخارج.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٣.

١٢٧

وهذه الوثيقة هي بحق من أهم الوثائق القانونية ، التي لا بد أن يدرسها علماء القانون والتشريع بدقة متناهية ، لاستخلاص الدلائل والأحكام منها ، وأيضا لمعرفة الغايات التي يرمي إليها الإسلام ، والضوابط التي يرتضيها ، ومقارنتها بغيرها مما يتهالك المستضعفون ـ فكريا ـ من هذه الأمة عليه ، من القوانين القاصرة عن تلبية الحاجات الفطرية وغيرها للإنسان. وإليك نص الوثيقة كما هو :

نص الوثيقة :

قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم.

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي «صلى الله عليه وآله» بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ؛ فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم (١) يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

__________________

(١) الربعة : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها. والعاني : الأسير. والمعاقل : الديات.

١٢٨

وبنو الحارث على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النجار على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النبيت على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (١) بينهم ، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (٢) ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين.

وإن أيديهم عليه جميعا ، ولو كان ولد أحدهم.

ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن.

__________________

(١) المفرح : المثقل بالدين والكثير العيال.

(٢) الدسيعة : العظيمة.

١٢٩

وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم.

وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإن من تبعنا من يهود ؛ فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا ، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن.

وإنه من اعتبط (١) مؤمنا قتلا عن بينة ، فإنه قود به ، إلا أن يرضى ولي المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر : أن ينصر محدثا ، ولا يؤويه ، وإن من نصره أو آواه ؛ فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنكم مهما اختلفتم في شيء ؛ فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد «صلى الله عليه وآله».

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ،

__________________

(١) اعتبطه : قتله بلا جناية منه توجب قتله.

١٣٠

مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم ؛ فإنه لا يوتغ (١) إلا نفسه ، وأهل بيته.

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف.

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه ، وأهل بيته.

وإن جفنة ـ بطن من ثعلبة ـ كأنفسهم.

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، وإن البر دون الإثم.

وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وإن بطانة (٢) يهود كأنفسهم.

وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد «صلى الله عليه وآله».

وإنه لا ينحجز على ثار جرح ، وإنه من فتك فبنفسه فتك ، وأهل بيته ، إلا من ظلم ، وإن الله على أبر هذا (٣).

وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم.

وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

__________________

(١) يوتغ : يهلك.

(٢) بطانة الرجل : خاصته وأهل بيته.

(٣) أي على الرضا به.

١٣١

وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وإن الجار كالنفس ، غير مضار ولا آثم ، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد «صلى الله عليه وآله».

وإن الله على أتقى ما في هذا الصحيفة وأبره.

وإنه لا تجار قريش ، ولا من نصرها ، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ، وإذا دعوا (١) إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين ، إلا من حارب في الدين ، على كل أناس حصتهم (٢) ، من جانبهم الذي قبلهم.

وإن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة ، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

وإن البر دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.

وإنه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم وأثم.

__________________

(١) في رواية أبي عبيد في الأموال : وإذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم ، فإنهم يصالحونه وإن دعونا إلى مثل ذلك ، فإن لهم ما على المؤمنين إلا من حارب الدين.

(٢) في الأموال : وعلى كل أناس حصتهم من النفقة.

١٣٢

وإن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» (تمت الوثيقة)» (١).

كانت تلك هي الوثيقة الهامة التي لم يهتم بشأنها المؤرخون ، وأهمل دراستها وتمحيصها الكتاب والباحثون ، نوجه إليها أنظار الطامحين إلى البحث والتدقيق والتمحيص ، ونأمل أن تحظى منهم بما يليق بها من اهتمام والله هو الموفق والمسدد.

ونحن بدورنا نسجل هنا بعض النقاط ، على أمل التوفيق لدراسة هذه الوثيقة بصورة أعمق وأدق وأشمل ، فنقول :

وثيقة أم وثائق؟! :

قد أورد المؤرخون هذه الوثيقة بعنوان أنها عقد ينظم العلاقة فيما بين المهاجرين والأنصار من جهة ، وبينهم وبين اليهود من جهة أخرى.

وقد حاول البعض أن يدّعي : أنها ليست وثيقة واحدة ، وإنما هي عبارة عن سلسلة وثائق ومعاهدات منفصلة ، وقد ضم بعضها إلى بعض ، وإن ذلك جرى على مرحلتين :

إحداهما : تم بموجبها توحيد وتجميع العناصر المختلفة من القبائل العربية تحت قيادة الرسول «صلى الله عليه وآله» في المدينة.

الثانية : قد استغلت قوة هذا التجمع القبلي وتكاتفه للضغط على يهود

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٤٧ ـ ١٥٠ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ، والأموال ص ٢٠٢ ـ ٢٠٧ ، ومجموعة الوثائق السياسية وأشار إليه في مسند أحمد ج ١ ص ٢٧١ ، وأشار إليه أيضا في مسند أبي يعلى ج ٤ ص ٣٦٦ و ٣٦٧.

١٣٣

المدينة لكسب تعاونهم في مواجهة أي ضغط خارجي.

وليس من الضروري أن يكون قد تم تنظيم الاتفاقيات في لحظة واحدة ، فقد كانت هناك أطوار مختلفة في المرحلتين ، اقتضت إضافة مواد وفقرات باستمرار ، حسب الظروف الطارئة ، والأحداث المستجدة ، التي تستلزم تجديد الالتزامات ؛ وفرض الشروط لمجابهتها ، فتكتب المواد ، وتضاف الفقرات ، التي تحمل آثار ذلك التطور في العلاقات فيما بين عناصر الأمة في المدينة.

أما دليلهم على هذا الذي ذكروه ، فهو تكرر بعض الفقرات في الوثيقة ، حيث لوحظ :

أن هذه الفقرات تنص على التزامات وشروط واحدة ، كالعبارتين اللتين تنصان على أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وكالعبارتين اللتين تنصان على رد أي خلاف ينجم بين المتعاهدين إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وكذلك التكرار الحاصل لعبارة : إن البر دون الإثم.

وعبارة : كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، حيث تكررت بالنسبة لعدد من قبائل الأوس والخزرج (١).

ونقول :

إن من الواضح : أن هذا الدليل لا يكفي لإثبات ما زعموه ، فإن هذا التكرار قد جاء ليؤكد ويثبت هذا الأمر بالنسبة إلى كل قبيلة على حدة ،

__________________

(١) راجع في الذي ذكرناه كتاب نشأة الدولة الإسلامية ص ٢٥ ـ ٢٧.

١٣٤

حيث يطلب في المواثيق والمعاهدات التنصيص ، والدقة والصراحة ، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة ، ويكون التصريح بذلك بالنسبة لكل طائفة وفئة ، وقبيلة ، قد أريد به أن تعرف تلك الفئة أو القبيلة بصراحة ودقة كل ما تطلبه هي ، وكل ما يطلب منها.

فهذه المعاهدة هي مجموعة التزامات تصدر من كل قبيلة تجاه غيرها من الفئات أو القبائل ، أو تجاه عناصر القبيلة أنفسهم ، فلا بد من التنصيص على هذه الالتزامات.

وعلى هذا يصبح للمعاهدة الواحدة خصوصية المعاهدات المتعددة أيضا.

وأما بالنسبة لليهود المقصودين في هذه الوثيقة ، فإن من الجلي : أن المقصود بهم ليس اليهود الذين هم من أصل إسرائيل ، وهم : قينقاع ، والنضير ، وقريظة.

بل المقصود اليهود الذين هم من قبائل الأنصار ، فقد كان ثمة جماعة من قبائل الأنصار قد تهودوا ، وقد جاء ذكرهم في الوثيقة منسوبين إلى قبائلهم.

وقد قال ابن واضح : «وتهود قوم من الأوس والخزرج ، بعد خروجهم من اليمن ، لمجاورتهم يهود خيبر ، وقريظة ، والنضير ، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب ، وقوم من غسان ، وقوم من جذام» (١).

كما أن بعض الروايات تذكر : جماعة من أولاد الأنصار قد تهودوا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٥٧.

١٣٥

بسبب : أن المرأة من الأنصار كانت إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها : إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك : لا ندع أبناءنا ، وأنزل الله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، قالوا : هي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام (١).

ملاحظات سريعة على الوثيقة :

ومهما يكن من أمر : فإن هذه الوثيقة ، أو الوثائق ، قد تضمنت أمورا كثيرة هامة ، وأساسية في مجال بناء العلاقات في هذا المجتمع الجديد.

وكمثال على ذلك نشير هنا إلى ما يلي :

١ ـ إنها قد قررت : أن المسلمين أمة واحدة ، رغم اختلاف قبائلهم وانتماءاتهم ، وتفاوت مستوياتهم ، وحجم ونوع طموحاتهم ، ورغم اختلاف حالاتهم المعيشية ، والاجتماعية ، وغير ذلك.

ولهذا القرار أبعاده السياسية ، وله آثاره الحقوقية ، وغيرها.

ثم له آثار وانعكاسات على التكوين السياسي ، والاجتماعي ، وعلى الحالة النفسية ، والعاطفية ، والفكرية ، والمعيشية ، والحياتية بصورة عامة.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧ ، والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٨٠ عن أبي داود ، ولباب التأويل ج ١ ص ١٨٥ ، وفتح القدير ج ٥ ص ٢٧٥ عن أبي داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة ؛ والدر المنثور ج ١ ص ٣٢٨ عنهم وعن ابن مندة في غرائب شعبة ، وعن النحاس في ناسخه ، وعبد بن حميد ، وسعيد بن منصور.

١٣٦

ولسنا هنا بصدد الخوض في تفاصيلها وجزئياتها.

٢ ـ قد تضمنت إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في الديات والدماء.

ويقولون : إن ذلك قد نسخ فيما بعد ، وإن كنا نرى : أن النسخ لم يطل هذه الموارد ، وهي مما كان قد قرره عبد المطلب ، أو مما كان وصل إليهم أو بلغهم من دين الحنيفية.

ولهذا انحصر الاستثناء فيها ، ولم يشمل الحالات التجارية ، أو الأحوال الشخصية مثلا.

وحتى لو كان ثمة بعض الموارد التي لم تكن كذلك ، فإن بالإمكان أن يستفاد منها موضوع التدرج في مجال تشريع الأحكام ، وفق الحالات والمعطيات القائمة في الواقع المعاش.

٣ ـ إن مسؤولية المهاجرين عن فداء أسراهم ، ثم مسؤولية جميع القبائل عن فداء أسراها أيضا بالقسط والمعروف ، إنما تعني أن تعيش كل قبيلة حالة التكافل ، والإحساس الجماعي ، بالإضافة إلى أن ذلك يضمن نوعا من الترابط بين هؤلاء الناس ، والذب عن بعضهم ، والمعونة في مواقع الخطر وفي ساحات النزال.

أضف إلى ذلك : أن شعور المحارب بأن هناك من يهتم بأمره ، ومن هو ملزم ببذل المال لإطلاق سراحه في صورة وقوعه في الأسر ، لسوف يزيده نشاطا ، وثقة بنفسه ، وإقداما في منازلة العدو.

هذا كله : عدا أن العبء الاقتصادي إذا تحملته الجماعة الكثيرة ، فإنه يصبح أخف وأيسر ، وأبعد عن الإضرار بحال الناس الذين هم في متن المشكلة.

١٣٧

ويلاحظ هنا : التعبير بكلمة القسط والمعروف ، فإن كلمة القسط تدل على رفض أي حيف أو تجن في مجال تعديل وتوزيع الحصص على أفراد القبيلة.

أما كلمة المعروف ، فإنها تدل على ما هو أبعد من ذلك ، حيث لا حظت أنه لا بد من التزام سبيل المعروف في مجال تطبيق القرار ، أو الحكم الشرعي الذي يمس الآخرين ، ويعنيهم في شؤونهم المالية ، أو غيرها ؛ فلا يجوز الشذوذ عن هذا السبيل بحجة التمسك بحرفية الأوامر الصادرة ، أو القانون الساري.

٤ ـ لقد قررت الوثيقة أيضا : أن من كان عليه دين ، ولم يكن له عشيرة تعينه في فداء أسيره ، فعلى المسلمين إعانته في فداء ذلك الأسير.

وهذا قرار يهدف إلى سد الثغرة الحاصلة من تشريع الفداء على القبائل حسبما تقدم ، ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن الفقرتين المتقدمتين قد عالجتا المشكلة في وقت لم يكن ثمة بيت مال للمسلمين يمكن الاعتماد عليه في حالات كهذه ، حيث كان ذلك في وقت لم يكن المسلمون قادرين فيه حتى على سد احتياجاتهم الشخصية فضلا عن غيرها ، مع عدم وجود موارد أخرى يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.

٥ ـ وجاء في الوثيقة أيضا : أن مسؤولية دفع الظلم تقع على عاتق الجميع ، ولا تختص بمن وقع عليه الظلم.

ولعل هذا من أهم القرارات التي تضمنتها الوثيقة ، سواء من حيث آثار قرار كهذا على البنية الاجتماعية ، ثم علاقة ذلك بالقرار والموقف السياسي ، وتعاطي الحكام مع مسألة الظلم ، وتفاعلهم معها ، ثم مع المردود

١٣٨

الإيجابي أو السلبي لقرار يجعل مقاومة الظلم مسؤولية اجتماعية ، لا تنحصر بالحاكم ، وإن كانت قد تمس حاكميته وموقعه بصورة أو بأخرى في أحيان كثيرة.

أما التأثير الروحي أو النفسي أو غير ذلك لقرار كهذا على الأمة ، فهو أيضا كبير وخطير ولا مجال للدخول في التفاصيل ، فإن ذلك يحتاج إلى دراسة مستوعبة لطبيعة التشريع الإسلامي ، وأسسه ومنطلقاته بصورة أدق وأعمق.

٦ ـ وهناك القرار الذي ينص على عدم قود المسلم بالكافر ، وفي هذا تأكيد على أن شرف الإنسان إنما هو بالإسلام.

وذلك إنما ينطلق من مقولة : أن القيم والمثل التي يؤمن بها الفرد أو المجتمع ، هي التي تمنحه القيمة ، أو تسلبها عنه ، فإذا كان الإنسان المسلم هو الذي يحمل في داخله من تلك القيم ، ما تسمو به نفسه ، ويؤكد ويعمق فيه إنسانيته ، بما لها من معان سامية ونبيلة ، ثم هو يمارس إنسانيته هذه على صعيد الواقع والحركة ، فإنه لا يمكن أن يقاس به من لا يمارس إنسانيته ، أو لا يحمل في داخله منها إلا القليل أو لا يحمل شيئا من معانيها النبيلة على الإطلاق.

هذا فضلا عما إذا كان لا يعترف بها ولا يوليها أية قيمة ، فضلا عن أن يدافع عنها ، ويضحي في سبيلها بالغالي وبالنفيس إن اقتضى الأمر ذلك.

٧ ـ قد ذكرت الوثيقة : أنه يجير على المسلمين أدناهم ، ولا يجير كافر على مسلم.

وهذا يؤكد ما ذكرناه آنفا ، فالإسلام لا يرى الشرف بالمال ، ولا

١٣٩

بالقبيلة ، ولا بغير ذلك من أمور ، وإنما إنسانيته هي التي تعطيه القيمة.

ونزيد هنا : أن قرارا كهذا يرسخ الشعور بالمساواة فيما بين المسلمين ؛ فلا يمتاز غني على فقير ، ولا قوي على ضعيف ما دام الجميع قد حملوا في داخلهم معين القيم ، والمثل ، وما عليهم بعد ذلك إلا الاستفادة من هذا المعين الثر لينشر الخير والصلاح والفضل والتقى في جميع ربوع حياتهم ، وفي مختلف شؤونها.

٨ ـ وقد تقرر أيضا : أن لا ينصر المسلمون من أحدث وابتدع ، بل يجب عليهم مقاومته والتصدي له ولبدعته بكل صلابة وحزم.

وفي هذا تتجلى الأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للسلامة الفكرية ، ويؤكد أهمية الصيانة في المجال الثقافي والعقيدي والفكري.

ثم هو يعطي للجماعة أو فقل للأمة دورا في تحقيق هذه الصيانة ، ويؤكد على دور الناس جماعات وأفرادا في التصدي للانحراف ومقاومته ، قبل أن تعصف بهم رياحه أو يجرفهم تياره ، حيث إنه يستهدفهم أفرادا أولا ، ليعبث بقدراتهم جماعات ، ثم يسخرهم ويستغل كل طاقاتهم في ترسيخ دعائمه ، وتثبيت عزائمه ، وليكونوا من ثم اليد التي يبطش بها ، والمعول الذي يهدم به كل فضيلة ويشيع كل رذيلة.

٩ ـ في هذه الوثيقة أيضا تكريس للسلطة الإسلامية واعتراف مسجل بها من قبل ألد أعدائها وهم اليهود ـ أعني الذين تهودوا من الأنصار وقد كان اليهود يعتبرون أنفسهم وحدهم دون كل من عداهم ، أصحاب كل الامتيازات ، وإن كل قرار يجب أن يكون صادرا عنهم ، ومنهم ، وإليهم ، فهم الحكام على الناس ، والناس كلهم يجب أن يكونوا تحت سلطتهم ، وقد

١٤٠