الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٧

ثالثا : إن كون عثمان بن مظعون مات بعد نزول الآية الرافعة للحكم السابق غير معلوم ، وإنما ذلك محض اجتهاد من المؤرخين والمؤلفين.

عدد الذين كانت المؤاخاة بينهم :

ويقولون : كان المسلمون حين المؤاخاة تسعين رجلا ، منهم خمسة وأربعون رجلا من الأنصار ، ومثلهم من المهاجرين ، ويدعي ابن الجوزي : أنه أحصاهم فكانوا جميعا ستة وثمانين رجلا.

وقيل : مئة رجل (١).

ولربما يكون هذا هو العدد الذي وقعت المؤاخاة بين أفراده حسبما توفر من عدد المهاجرين ، لا أن عدد المسلمين كان هو ذلك ؛ وإلا فإنها تكون صدفة نادرة أن يكون عدد من أسلم من المهاجرين مساويا لعدد من أسلم من الأنصار بلا زيادة ولا نقيصة!!

ومهما يكن من أمر : فإن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» استمر يجدد المؤاخاة ، بحسب من يدخل في الإسلام ، أو يحضر إلى المدينة من المسلمين (٢) ويدل على ذلك ، أنهم يذكرون : أنه «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين أبي ذر والمنذر بن عمرو أو سلمان الفارسي ، وأبو ذر إنما قدم المدينة بعد أحد ، كما أنه قد آخى بين الزبير وابن مسعود ، وقد وصل ابن مسعود إلى المدينة

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ١ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٧١ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢١٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩٠ ، والبحار ج ١٩ ص ١٣٠ عن المنتقى ، والمقريزي.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ٢١١.

١٠١

والنبي «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر (١).

ولكن ، ربما يشكل على العدد المذكور في قضية المؤاخاة : بأن المسلمين كانوا أكثر من ذلك بكثير ، فقد بايعه من أهل المدينة في العقبة الثانية أكثر من ثمانين ، كما أنه جهز جيشا بعد عشرة أو ثلاثة عشر شهرا إلى بدر قوامه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.

ويمكن الجواب :

أولا : بما ذكره البعض من أن المؤاخاة كانت بين مئة وخمسين من الأنصار ، ومئة وخمسين من المهاجرين (٢).

ثانيا : لو قلنا بعدم صحة ذلك ؛ لأن الذين خرجوا من المهاجرين إلى بدر كانوا ما بين الستين والثمانين ـ على اختلاف النقل ـ فإننا نقول : إن المذكور في النص هو العدد المهاجري الذي وقعت المؤاخاة بينه وبين نظيره من الأنصار ، وقد كان الأنصار أكثر بكثير من المهاجرين ، والمهاجرون هم الذين كانوا خمسة وأربعين ، على ما يظهر ، فكانت المؤاخاة بين هؤلاء وبين مثلهم من الأنصار ، ثم استمرت المؤاخاة كلما ازداد عدد المهاجرين ، حتى بلغوا مئة وخمسين رجلا ، كما في النص الآنف الذكر.

وذلك لا يعني أن يبقى الآخرون من مسلمي الأنصار من دون مؤاخاة فيما بينهم.

__________________

(١) فتح الباري ج ٧ ص ١٤٥.

(٢) راجع : البحار ج ١٩ ص ١٣٠.

١٠٢

المؤاخاة بين كل ونظيره :

ولقد كان «صلى الله عليه وآله» يؤاخي بين الرجل ونظيره ، كما يظهر من ملاحظة المؤاخاة قبل الهجرة ، وبعدها ، فقد آخى قبل الهجرة ـ على الظاهر ـ بين أبي بكر وعمر ، وبين طلحة والزبير ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين نفسه وعلي (١).

ولكن ابن حبان يذكر : أن ذلك كان في المؤاخاة الثانية في المدينة ، وزاد فيهم : سعد بن أبي وقاص ، وعمار بن ياسر (٢) وهؤلاء كلهم من المهاجرين.

وفي المدينة آخى بين أبي بكر وخارجة بن زهير ، وبين عمر وعتبان بن مالك ، وهكذا .. ثم أخذ بيد علي فقال : هذا أخي ..؟ وآخى أيضا بين حمزة وزيد بن حارثة ، وبين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل.

قد أورد على هذا الأخير بأن جعفر كان حينئذ في الحبشة (٣).

والجواب عنه : هو ما تقدم ، من أنه «صلى الله عليه وآله» قد استمر يؤاخي بين المسلمين كلما قدم المدينة منهم أحد.

وقد أجاب البعض : بأنه أرصده لأخوته حين يقدم (٤).

فيرد سؤال : ما هو السبب في تخصيص جعفر بهذا الأمر؟!

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٥ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢١١ ، والإستيعاب.

(٢) الثقات ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٢.

(٣) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٥١ ، والسيرة الحلبية ، وغير ذلك.

(٤) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٢٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩١.

١٠٣

إلا أن يقال : إن المقصود هو إظهار الاهتمام بشأن جعفر ، والتنبيه على فضله.

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السّلام :

وروى أحمد بن حنبل وغيره : أنه «صلى الله عليه وآله» آخى بين الناس ، وترك عليا حتى الأخير ، حتى لا يرى له أخا ؛ فقال : يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك وتركتني؟

فقال : إنما تركتك لنفسي ، أنت أخي ، وأنا أخوك ، فإن ذكرك أحد ، فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، لا يدعيها بعدك إلا كذاب ، والذي بعثني بالحق ، ما أخرتك إلا لنفسي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي (١).

ومن طريف الأمر : أنه «عليه السلام» قد قال هذه الكلمة بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» : أنا عبد الله وأخو رسوله ، وذلك في خضم الأحداث التي انتهت بغصب الخلافة من وارث النبي «صلى الله عليه وآله» ، فكذبوه؟!

وقالوا له : أما عبدالله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا (٢) ، فاعجب بعد هذا

__________________

(١) راجع : نهج الحق في ضمن دلائل الصدق ص ٢٦٧ ، وينابيع المودة ص ٥٦ ، وتذكرة الخواص ص ٢٣ عن أحمد في الفضائل ، وصححه ، وابن الجوزي ، ونقل عن كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٠ ، والرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٩ ، وتاريخ ابن عساكر ج ٦ ص ٢١ ، وكفاية الشنقيطي ص ٣٥ و ٤٤ والثقات ج ١ ص ١٤١ و ١٤٢.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٣ ، وأعلام النساء ج ٤ ص ١١٥ ، وتفسير البرهان ج ٢ ص ٩٣.

١٠٤

ما بدا لك!!

وقوله «صلى الله عليه وآله» : وأنت أخي ووارثي يطرح علينا سؤالا ، وهو أنه إذا كان المراد : أنه وارث لعلم النبي «صلى الله عليه وآله» دون غيره ، فمن أولى بمقام النبي «صلى الله عليه وآله» منه؟!

وإن كان المراد : أنه وارثه بقول مطلق ، حتى المال ، فيرد عليه : أن المال كان حقا لفاطمة «عليها السلام» (١) ، وقد استولى الذين جاؤوا بعد النبي «صلى الله عليه وآله» على أموالها ، ومنها فدك وغيرها كما سنذكره حين الكلام حول غزوة بني النضير في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ومهما يكن من أمر ، فإن التأمل في عملية المؤاخاة يعطينا : أنه قد لوحظ فيها المسانخة بين الأشخاص ، وتشابه وتلاؤم نفسياتهم ، وإلى ذلك أشار الأزري رحمه الله حينما قال مخاطبا عليا «عليه السلام» :

لك ذات كذاته حيث لو لا

أنها مثلها لما آخاها

تواتر حديث المؤاخاة :

وعلى كل حال ، فإن حديث المؤاخاة متواتر لا يمكن إنكاره ، ولا التشكيك فيه ، ولا سيما مؤاخاة النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» ، سواء في المؤاخاة الأولى في مكة ، أم في الثانية في المدينة ، وهو

__________________

(١) راجع : الكافي ج ١ ص ٤٥٨ بتحقيق الغفاري ، والبحار (ط حجرية) ج ٨ ص ٢٣١ و (ط جديدة) ج ١٠٠ ص ١٩٧ ، وكشف الغمة ج ٢ ص ١٣٢ ، والأمالي للطوسي ج ١ ص ١٠٨ ، والعوالم ج ١١ ص ٥١٨ ، والأمالي للمفيد (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص ٢٨٣ ، وراجع : مرآة العقول ج ٥ ص ٣٣١ ، وغير ذلك.

١٠٥

مروي عن عشرات من الصحابة والتابعين كما يتضح للمراجع (١).

وقد روي : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام» : إذا

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٣ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ ، وينابيع المودة ص ٥٦ و ٥٧ عن مسند أحمد ، وتذكرة الخواص ص ٢٢ ـ ٢٤ ، وحكي عن الترمذي أنه صححه ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ و ٩٠ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤ ، والثقات لابن حبان ج ١ ص ١٣٨ ، وفرائد السمطين ج ١ الباب العشرون ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢٢ و ٢٩ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٢٦ وج ٧ ص ٣٥ ، وتاريخ الخلفاء ص ١٧٠ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٢٦٨ ـ ٢٧٠ عن كنز العمال ، وعن البيهقي في سننه ، والضياء في المختارة ، وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند ثمانية أحاديث ، وأبيه في المسند وفي الفضائل ، وأبي يعلى والطبراني ، وابن عدي ، والجمع بين الصحاح الستة ، وأخرج الخوارزمي اثني عشر حديثا ، وابن المغازلي ثمانية أحاديث ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٥٠ ، والغدير ج ٣ ص ١١٢ حتى ص ١٢٥ عن بعض من تقدم وعن المصادر التالية : جامع الترمذي ج ٢ ص ١٣ ، ومصابيح البغوي ج ٢ ص ١٩٩ ، والإستيعاب ج ٢ ص ٤٦٠ ، ترجمة أمير المؤمنين ، وعد حديث المؤاخاة من الآثار الثابتة ، وتيسير الوصول ج ٣ ص ٢٧١ ، ومشكاة المصابيح هامش المرقاة ج ٥ ص ٥٦٩ ، والمرقاة ص ٧٣ ـ ٧٥ ، والإصابة ج ٢ ص ٥٠٧ ، والمواقف ج ٣ ص ٢٧٦ ، وشرح المواهب ج ١ ص ٣٧٣ ، وطبقات الشعراني ج ٢ ص ٥٥ ، وتاريخ القرماني هامش الكامل ج ١ ص ٢١٦ ، وسيرة دحلان هامش الحلبية ج ١ ص ٣٢٥ ، وكفاية الشنقيطي ص ٣٤ ، والإمام علي تأليف محمد رضا ص ٢١ ، والإمام علي لعبد الفتاح عبد المقصود ص ٧٣ ، والفتاوى الحديثية ص ٤٢ ، وشرح النهج ج ٢ ص ٦٢ ، وصححه وعده مما استفاض من الروايات ، وكنز العمال ج ٦ ص ٢٩٤ و ٢٩٩ و ٣٩٠ و ٣٩٩ و ٤٠٠ و ٥٤.

١٠٦

كان يوم القيامة نوديت من بطنان العرش ، نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك علي بن أبي طالب (١).

وعليه فلا يصغى لدعوى أن النبي قد آخى بين علي وعثمان (٢) ، أو بين نفسه «صلى الله عليه وآله» وعثمان ؛ فإن ذلك لا ريب في بطلانه (٣) ؛ فإن المقصود من ذلك هو الرفع من شأن عثمان ، وتكذيب فضيلة لعلي «عليه السلام» ، بل وجعل عثمان وعلي «عليه السلام» في مستوى واحد ، وكيف؟! وأنى؟!

تكنية علي عليه السّلام بأبي تراب :

ويذكر البعض هنا : أن عليا «عليه السلام» لما رأى أنه «صلى الله عليه وآله» لم يؤاخ بينه وبين أحد ، خرج كئيبا إلى المسجد ، فنام على التراب ؛ فجاءه «صلى الله عليه وآله» ، فجعل ينفض التراب عن ظهره ، ويقول : قم يا أبا تراب ، ثم آخى بينه وبين نفسه (٤).

__________________

(١) ربيع الأبرار ج ١ ص ٨٠٧ و ٨٠٨.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٩٧ ، والغدير ج ٩ ص ٩٤ و ٩٥ و ٣١٨ عن الرياض النضرة ج ١ ص ١٧ وعن الطبري ج ٦ ص ١٥٤ ، وعن كامل ابن الأثير ج ٣ ص ٧٠ ، وعن المعتزلي ج ١ ص ١٦٥ ، ولكنه في ج ٢ ص ٥٠٦ ذكر نفس الحديث عن الطبري من دون ذكر الموأخاة!!!.

(٣) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٣ ص ٤٧ ، والغدير ج ٩ ص ١٦ عنه.

(٤) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢٢ ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١١١ عن الطبراني في الكبير والأوسط ، ومناقب الخوارزمي ص ٧ ، وكفاية الطالب ص ١٩٣ عن ابن عساكر.

١٠٧

ولكن الظاهر هو أن هذه التسمية قد كانت في مناسبة أخرى غير هذه ، ولسوف نتعرض لها حين الحديث عن السرايا في الآتي القريب إن شاء الله تعالى.

مع المنكرين لمؤاخاة النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السّلام

وبعد كل تلك المصادر المتقدمة ، والتي هي غيض من فيض ، نجد ابن حزم وابن كثير ينكران صحة سند حديث المؤاخاة (١) ، وأنكره أيضا ابن تيمية ، واعتبره باطلا ، موضوعا ، بحجة أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما كانت لإرفاق بعضهم ببعض ، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض ، فلا معنى لمؤاخاة النبي «صلى الله عليه وآله» لأحد منهم ، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري (٢).

ونقول :

إن إنكار سند حديث مؤاخاة النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» لا معنى له ، بعد أن صححه كثير من الأعلام ، وبعد أن تواتر في كتب سائر المسلمين عن عشرات الصحابة والتابعين وغيرهم ، ولا سيما إذا كان هذا الإنكار من الأبناء الثلاثة : كثير ، وحزم ، وتيمية ، المعروفين بالنصب ، والتعصب ضد فضائل علي ، وأهل بيته الطاهرين «عليهم السلام».

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٧ ص ٢٢٣ و ٣٣٦.

(٢) راجع : منهاج السنة ج ٢ ص ١١٩ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٢٧ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢١١ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ٢٧٢.

١٠٨

وأما ما ذكره ابن تيمية تعليلا لإنكاره ، فنحن نذكر :

أولا : ما أجاب به غير واحد : «من أن هذا رد للنص بالقياس ، وغفلة عن حقيقة الحكمة في ذلك.

وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة ، والارتفاق ممكن ، فآخى بينهم ليعين بعضهم بعضا ، ثم طبقوا هذا الاحتمال على علي «عليه السلام» والنبي ، لأنه «صلى الله عليه وآله» كان يقوم بأمر علي «عليه السلام» قبل البعثة» (١).

فمرادهم أن التآلف والمحبة مطلوبان أيضا بين المهاجرين ؛ لأنهم كانوا من فئات مختلفة ، ومستويات متفاوتة : عقائديا وفكريا ، واجتماعيا إلخ ..

بل لقد صرح نص المؤاخاة بأنها كانت على الحق والمواساة ، ويحتاج المهاجرون إلى أن يواسي بعضهم بعضا.

كما أنه قد هاجر من قبيلة رجل واحد ، ومن أخرى عشرة مثلا ، فالواحد يحتاج إلى العشرة في معونتهم ورعايتهم ، ثم إنهم يدعون : أن بعض المهاجرين قد حمل ماله معه ؛ فيمكن أن يعين بعضهم بعضا حتى بالمال إن صحت دعواهم تلك.

ولكننا لا نوافق على قولهم الأخير بالنسبة لعلي «عليه السلام» والنبي «صلى الله عليه وآله» ، لأن عليا «عليه السلام» قد بلغ منزلة يستطيع معها

__________________

(١) راجع : وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٨ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢١١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٥ ، والغدير ج ٣ ص ١٧٤ ـ ١٧٥ عن الفتح وعن الزرقاني في المواهب ج ١ ص ٣٧٣.

١٠٩

أن يعول نفسه بالعمل ، والحصول على ما يحتاج إليه ، أو بالزراعة ، أو التجارة بل والغنائم أيضا.

وإنما الغرض من مؤاخاة الرسول «صلى الله عليه وآله» له ، هو تعريف الناس بمنزلته ، وإظهار فضله على غيره ، لأنه كان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، كما يظهر من دراسة عملية المؤاخاة نفسها ، لأن ذلك أقرب إلى التعاضد والتعاون ، وأوجب للتآلف والمحبة (١).

ثانيا : قد أخرج الحاكم ، وابن عبد البر ، بسند حسن : أن النبي «صلى الله عليه وآله» آخى بين الزبير وابن مسعود ، وهما من المهاجرين ، وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني.

ويصرح ابن تيمية : بأن «أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك» (٢).

ولكن لا بد أن يكون ذلك بعد قدوم ابن مسعود إلى المدينة ، لأنه كان من مهاجري الحبشة ، وإنما قدم المدينة بعد قضية المؤاخاة العامة ، وذلك حين كان «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر (٣).

وآخى أيضا ـ على ما ذكره البعض ـ بعد الهجرة بين أبي بكر وعمر ، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة والزبير ، وسعد بن أبي وقاص

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٧٢ و ٢٧٣.

(٢) فتح الباري ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٨ ، والغدير ج ٣ ص ١٧٤ و ١٧٥ عن الفتح ، وعن شرح المواهب للزرقاني ج ١ ص ٣٧٣.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ١٤٥.

١١٠

وعمار بن ياسر ، وبينه «صلى الله عليه وآله» وبين علي «عليه السلام» (١).

كما وثبتت أيضا مؤاخاة زيد بن حارثة لحمزة ، وهما مهاجريان ، ولذا ـ يقولون ـ إنه قد تنازع زيد وعلي وجعفر في ابنة حمزة ، وكانت حجة زيد : أنها ابنة أخيه (٢).

ونحن نشك في هذه القضية ، لأن جعفر لم يكن حين قتل حمزة حاضرا ، فما معنى أن تبقى ابنة حمزة عدة سنوات بلا كفيل ، وإن كانت عند علي فلما ذا لم ينازعه زيد؟ وإن كان العكس فلما ذا لم ينازعه علي «عليه السلام»؟

ومهما يكن من أمر فإن قضية الخلاف حول من يكفل ابنة حمزة تحتاج إلى تحقيق وتمحيص ، نسال الله أن يوفقنا لذلك في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مع قضية المؤاخاة :

ألف : البديل الأنسب :

إن من الواضح : أن هؤلاء الذين أسلموا قد انفصلوا عن قومهم ، وعن إخوانهم ، وعن عشائرهم بصورة حقيقية وعميقة ، وقد واجههم حتى

__________________

(١) الثقات لابن حبان ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٢ وراجع : الغدير ج ١٠ ص ١٠٣ ـ ١٠٧ فإنه ذكره عن غير واحد ، وراجع : مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٥ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢١١ ، والإستيعاب وذكر عثمان ، وقد كان في الحبشة ، وكذا عبد الرحمن بن عوف ، يؤيد : أن ذلك كان في المؤاخاة الثانية بعد الهجرة إلى المدينة.

(٢) صحيح البخاري ج ٣ ص ٣٧ ط الميمنية ، ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ١٢٠ ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة ، وغير ذلك من المصادر.

١١١

أحب الناس إليهم بأنواع التحدي والأذى ؛ فأصبحوا وقد انقطعت علائقهم بذوي رحمهم وصاروا كأنهم لا عصبة لهم ، وقد يشعر بعضهم أنه قد أصبح وحيدا فريدا ، وبلا نصير ولا عشيرة ، فجاءت الأخوة الإسلامية لتسد هذا الفراغ بالنسبة إليهم ، ولتبعد عنهم الشعور بالوحدة ، وتبعث في نفوسهم الأمل والثقة بالمستقبل ، وقد بلغ عمق تأثير هذه المؤاخاة فيهم أن توهموا : عموم المنزلة حتى في الارث كما ألمحنا إليه.

ب : السمو بالعلاقات الإنسانية :

لقد أريد للمسلمين المؤمنين أن يكونوا إخوة ، وذلك بهدف السمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي وجعلها علاقة إلهية خالصة تصل إلى درجة الأخوة ، وليكون أثرها في التعامل بين المسلمين أكثر طبيعية وانسجاما ، وبعيدا عن النوازع النفسية ، التي ربما توحي للأخوين المتعاونين بأمور من شأنها أن تعقد العلاقات بينهما ولو نفسيا على أقل تقدير.

ورغم أن الإسلام قد قرر ذلك ، وأكد على أن المؤمن أخو المؤمن أحب أم كره ، وحمله مسؤولية العمل بمقتضيات هذه الأخوة ، إلا أنه قد كان ثمة حاجة إلى إظهار ذلك عمليا ، بهدف توثيق عرى المحبة وترسيخ أواصر الصداقة والمودة كما هو معلوم ، وليكون الهدف السامي قد انطلق من العمل السامي أيضا.

ج : دور المؤاخاة في بناء المجتمع الجديد :

لقد كان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بصدد بناء مجتمع جديد ، يكون المثل الأعلى للصلاح والفلاح ، قادرا على القيام بأعباء الدعوة

١١٢

إلى الله ، ونصرة دينه ، في أي من الظروف والأحوال.

وقد تقدمت ـ عند البحث عن عملية بناء المسجد ـ الإشارة إلى واقع وجود الفوارق الكبيرة بين المهاجرين أنفسهم ، والأنصار أنفسهم ، والمهاجرين والأنصار معا ـ الفوارق ـ الاجتماعية ، والقبلية ، والثقافية ، والنفسية ، والعاطفية ، وحتى العمق العقيدي ومستوى الالتزام ، فضلا عما سوى ذلك ، هذا بالإضافة إلى الظروف النفسية والمعيشية التي كان يعاني منها المهاجرون بالخصوص.

ومع ملاحظة حجم التحدي ، الذي كان يواجه هذا المجتمع الناشئ الجديد ، سواء في الداخل : من الخلافات بين الأوس والخزرج ، الذين كان الكثيرون منهم لا يزالون على شركهم ، ثم من المنافقين ، ومن يهود المدينة.

ومن الخارج : من اليهود ، والمشركين في جزيرة العرب ، بل والعالم بأسره.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار عظم المسؤولية التي يتحملها هذا المجتمع في صراعه من أجل إقامة هذا الدين الجديد والدفاع عنه.

مع ملاحظة كل ذلك ، وحيث أصبح من المفترض بهذا المجتمع أن يكون بمثابة كتلة واحدة متعاضدة ، ومترابطة ، بعد أن كانوا أحزابا وجماعات وأفرادا فكان لا بد من إيجاد روابط وثيقة تشد هذا المجتمع بعضه إلى بعض ، وبناء عواطف راسخة ، قائمة على أساس عقيدي ، تمنع من الإهمال ومن الحيف على أي فرد من أفراد هذا المجتمع الجديد بحيث يكون الكل مشمولين بالرعاية التامة ، التي تجعلهم يعيشون الحب والحنان بأسمى وأجل معانيه ، كما أنها تمنع من ظهور تلك الرواسب النفسية ، والعقد التاريخية ـ بل وتقضي عليها تدريجا ـ بين أفراد هذا المجتمع ، الذي أصبح

١١٣

أفراده مأخوذين بالتعامل مع بعضهم البعض ، الأمر الذي يجعل خطر ظهورها ـ لأتفه الأسباب ـ أشد ، وتدميرها أعظم وأوسع.

وكانت تلك الرابطة الوثيقة هي : «المؤاخاة» التي روعيت فيها الدقة ، إلى الحد الذي يضمن معه أن يحفظ في هذا المجتمع الجديد معها التماسك والتعاضد إلى أبعد مدى ممكن وأقصى غاية تستطاع ؛ لا سيما وأنه كان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، كما أشرنا إليه.

وسر ذلك يرجع إلى أن هذه المؤاخاة قد أقيمت على أساسين اثنين :

الأول : الحق :

فالحق هو القاسم المشترك بين الجميع ، عليه يبنون علاقاتهم ، وهو الذي يحكم تعاملهم مع بعضهم البعض في مختلف مجالات الحياة.

نعم ، الحق هو الأساس ، وليس الشعور الشخصي النفسي ، ولا المصلحة الشخصية أو القبلية ، أو الحزبية!!

وبديهي : أن الحق إذا جاء عن طريق الأخوة والحنان والعطف ، فإن ذلك يكون ضمانة لبقائه واستمراره ، والتعلق به ، والدفاع عنه.

أما إذا فرض هذا الحق فرضا عن طريق القوة والسلطة ، فبمجرد أن تغيب السلطة ، والقوة ، فلنا أن نتوقع غياب الحق ، لأن ضمانة بقائه ذهبت ، فأي مبرر يبقى لوجوده ، وبقائه؟!.

بل ربما يكون وجوده وبقاؤه مثارا للأحقاد والإحن التي ربما يتولد عنها الظلم والطغيان في أبشع صوره وأخزاها ، وأسوأ حالاته وأقصاها.

١١٤

الثاني : المؤاساة :

فهذه الأخوة إذا ، ليست مجرد توهج عاطفة ، أو شعور نفسي ، وإنما هي أخوة مسؤولة ومنتجة ، تترتب عليها آثار عملية بالفعل ، يحس الإنسان فعلا بجدواها وبفعاليتها ، تماما كالأخوة التي في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(١).

حيث جعل مسؤولية الصلح بين المؤمنين متفرعة وناشئة عن الأخوة الإيمانية.

وإذا كانت أخوة خيرة ومنتجة ، فمن الطبيعي أن تبقى ، وأن تستمر ، ومن الطبيعي أيضا أن يستمر الاحتفاظ بها ، والحافظ عليها إلى أبعد مدى ممكن. وقد كانت لهذه المؤاخاة نتائج هامة في تاريخ النضال والجهاد.

وقد امتن الله على نبيه في بدر بقوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

خلة أبي بكر :

ويروون : أنه «صلى الله عليه وآله» قال : لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا (٣).

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الحجرات.

(٢) الآيتان ٦٢ و ٦٣ من سورة الأنفال.

(٣) مصنف عبد الرزاق ج ١٠ عن ابن الزبير ، وفي هامشه عن سعيد بن منصور ، والغدير ج ٩ ص ٣٤٧ عن صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٤٣ باب المناقب ، وباب الهجرة ج ٦ ص ٤٤ ، والطب النبوي لابن القيم ص ٢٠٧.

١١٥

ولكن كيف يصح هذا وهم يروون :

١ ـ إن خليلي من أمتي أبوبكر (١).

٢ ـ ويروون : لكل نبي خليل ، وخليلي سعد بن معاذ (٢) أو عثمان بن عفان (٣).

والحقيقة هي : أن حديث خلة عثمان قد وضعه إسحاق بن نجيح الملطي (٤) ، وحديث خلة أبي بكر موضوع في مقابل حديث إخاء النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» ، كما نص عليه المعتزلي (٥).

مؤاخاة سلمان مع من؟! :

وبعد فإنهم يقولون : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء (٦).

__________________

(١) إرشاد الساري ج ٦ ص ٨٣ و ٨٤ ، والغدير عنه وعن كنز العمال ج ٦ ص ١٣٨ و ١٤٠ ، والرياض النضرة ج ١ ص ٨٣.

(٢) الغدير ج ٩ ص ٣٤٧ عن كنز العمال ج ٦ ص ٨٣ ، ومنتخب كنز العمال هامش المسند ج ٥ ص ٢٣١.

(٣) تاريخ بغداد للخطيب ج ٦ ص ٣٢١ ، والغدير ج ٩ ص ٣٤٦ و ٣٤٧.

(٤) راجع : الغدير ج ٩ ص ٣٤٧.

(٥) شرح النهج للمعتزلي ج ١١ ص ٤٩.

(٦) الإصابة ج ٢ ص ٦٢ ، والإستيعاب بهامشه ج ٢ ص ٦٠ وج ٤ ص ٥٩ ، والغدير ج ١٠ ص ١٠٣ و ١٠٤ وج ٣ ص ١٧٤ وقد ناقش في هذه الرواية ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٥٢ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٣٠ و ٣٣١ ، وطبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٤ قسم ١ ص ٦٠ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٣ ، وشرح النهج

١١٦

وفي نص آخر : إنه آخى بينه وبين حذيفة (١).

وفي رواية ثالثه : إنه «صلى الله عليه وآله» آخى بينه وبين المقداد (٢).

إنكار حديث المؤاخاة ، والإجابة عن ذلك :

أما ابن سعد ، فقد قال : «أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبيه قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الله ، عن الزهري :

أنهما كانا ينكران كل مؤاخاة كانت بعد بدر ، ويقولان : قطعت بدر المواريث.

وسلمان يومئذ في رق وإنما عتق بعد ذلك ، وأول غزوة غزاها : الخندق ، سنة خمس من الهجرة» (٣).

ولأجل ذلك : فقد عبر البلاذري هنا بقوله : «.. وقوم يقولون : آخى بين أبي الدرداء ، وسلمان.

وإنما أسلم سلمان فيما بين أحد والخندق.

قال الواقدي : والعلماء ينكرون المؤاخاة بعد بدر ، ويقولون : قطعت

__________________

للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٧ ، وتهذيب الأسماء ج ١ ص ٢٢٧ ، وقاموس الرجال ج ٧ ص ٢٥٦ ، ونفس الرحمن ص ٩١ و ٨٥ عن أبي عمر ، وعن المناقب للخوارزمي ، الفصل ١٤ وتهذيب التهذيب ج ٤ ص ١٣٨.

(١) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٤ قسم ١ ص ٦٠.

(٢) نفس الرحمن ص ٨٥ عن الحسين بن حمدان.

(٣) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٤ قسم ١ ص ٦٥.

١١٧

بدر المواريث» (١).

وقال ابن أبي الحديد : «قال أبو عمر : آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينه وبين أبي الدرداء ، لما آخى بين المسلمين ، ولا يخفى ضعفه وغرابته» (٢).

ونقول :

إن لنا على ما تقدم ملاحظات نجملها فيما يلي :

أولا : قولهم : إن المؤاخاة قد انقطعت بعد بدر ، لا يصح ، كما تقدم ، فلا داعي لاستغراب هؤلاء ولا لإنكار ذلك.

ثانيا : قولهم : إن انقطاع المؤاخاة بعد بدر يلزمه عدم صحة مؤاخاة سلمان مع أحد من الناس ، لا يصح كذلك ؛ إذ لماذا لا يؤاخي قبل بدر بين سلمان وإن كان عبدا ، وبين رجل آخر حر؟!. هذا بالإضافة إلى ما سيأتي من أن سلمان قد أسلم وتحرر في أول سني الهجرة.

ثالثا : دعوى البلاذري : أن سلمان قد أسلم بين أحد والخندق ، لا تصح أيضا ، لأنه إنما أسلم في أول الهجرة كما قلنا.

نعم .. هم يقولون : إن تحرره قد كان قبل الخندق.

فإذا كان مسلما حين المؤاخاة ، فيمكن أن يؤاخي بينه وبين أحد المسلمين ، ولو كان الطرف الآخر حرا ؛ لعدم الفرق بين الحر والعبد ، في الإيمان والإنسانية ، وغير ذلك ، بنظر الإسلام ..

__________________

(١) أنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ج ١ ص ٢٧١.

(٢) نفس الرحمن ص ٨٥ عنه.

١١٨

هذا .. لو سلم أنه كان لا يزال عبدا ..

رابعا : إن الذي انقطع بعد بدر إنما هو التوارث بين الإخوة ، وليس نفس المؤاخاة ..

مع أننا نقول أيضا : إن التوارث لم يكن موجودا حتى قبل ذلك ، ولعل بعض المسلمين قد توهم التوارث بين المتآخيين ، فجاء الردع عنه ، وتصحيح اشتباهه في ذلك ، فصادف ذلك زمان حرب بدر ..

فنشأ عن ذلك توهمان آخران : هما : أن التوارث كان ثابتا .. وأن المؤاخاة تنقطع بانقطاع التوارث ، وكلاهما باطل ، ولا يصح ..

خامسا : قولهم : إن المؤاخاة قد كانت بين سلمان وبين أبي الدرداء يقابله :

١ ـ ما روي عن إمامنا السجاد «عليه السلام» ، أنه قال : «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينهما ، فما ظنكم بسائر الخلق» (١).

٢ ـ عن أبي عبد الله «عليه السلام» ، أنه قال : «آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بين سلمان وأبي ذر ، واشترط على أبي ذر : أن لا يعصي سلمان» (٢).

٣ ـ إننا نعتقد : أن مؤاخاة سلمان مع أبي ذر هي الأصح ، والأوفق بما

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٥ ، والكافي ج ١ ص ٣٣١ ، والغدير ج ٧ ص ٣٥ عنهما ، واختيار معرفة الرجال ص ١٧ ، والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٣ ، ومصابيح الأنوار ج ١ ص ٣٤٨ ، وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٨ و ٤١٩ والظاهر : أن الرواية معتبرة.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٦٢ ، والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٥ عنه ، ونفس الرحمن ص ٩١.

١١٩

يذكرونه من أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يؤاخي بين كل رجل ونظيره كما تقدم.

وكان أبو ذر أكثر مشاكلة لسلمان من أبي الدرداء له ؛ فإن سلمان يؤكد على أنه لا بد من الوقوف إلى جانب القرآن ، إذا اقتتل القرآن والسلطان ، كما أن أبا ذر قد كان له موقف عنيف من السلطة ، حينما وجد أنها تسير في خط انحرافي خطير ، فكان أن اتخذ جانب الحق ، وأعلن إدانته للانحراف بصورة قاطعة ، كما أنه هو وسلمان قد كان لهما موقف منسجم من أحداث السقيفة ونتائجها .. (١).

أما أبو الدرداء. فقد أصبح من وعاظ السلاطين ، وأعوان الحكام المتسلطين ، حتى لنجد معاوية ـ كرد للجميل ـ يهتم بمدحه وتقريظه والثناء عليه (٢).

كما أن أبا الدرداء ـ حسبما تقدم ـ يكتب لسلمان يدعوه إلى الأرض المقدسة ، وهي الشام بزعمه ، وليس مكة ، والمدينة! فاقرأ واعجب ؛ فإنك ما عشت أراك الدهر عجبا.

ويكفي أن نذكر : أن يزيد بن معاوية قد مدح أبا الدرداء ، وأثنى عليه (٣) ، كما أن معاوية قد ولاه دمشق (٤).

__________________

(١) راجع كتابنا : سلمان الفارسي في مواجهة التحدي.

(٢) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٢ قسم ٢ ص ١١٥.

(٣) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٥.

(٤) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ١٧ وج ٤ ص ٦٠ ، والإصابة ج ٣ ص ٤٦ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٤٢٦ و ٤٢٧.

١٢٠