الزبدة الفقهيّة - ج ٥

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي

الزبدة الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٥
ISBN: 964-8220-36-0
ISBN الدورة:
964-6307-53-1

الصفحات: ٦٠٠

المتناول وكالته مثل ذلك (١) ، مخيرا (٢) فيهما (٣) ، (فإن تعذر) المالك ، أو وكيله (فالحاكم) الشرعي (عند الضرورة إلى ردها) ، لا بدونه (٤) ، لأن الحاكم لا ولاية له على من له وكيل ، والودعي بمنزلته (٥).

وإنما جاز الدفع إليه (٦) عند الضرورة دفعا للحرج والإضرار ، وتنزيلا له (٧) حينئذ منزلة من لا وكيل له ، وتتحقق الضرورة بالعجز عن الحفظ ، وعروض خوف يفتقر معه إلى التستر المنافي لرعايتها ، أو الخوف على أخذ المتغلب لها تبعا لماله ، أو استقلالا ، أو الخوف عليها من السرق ، أو الحرق ، أو النهب ، ونحو ذلك. فإن تعذر الحاكم حينئذ أودعها الثقة. ولو دفعها إلى الحاكم مع القدرة على المالك ضمن (٨) كما يضمن لو دفعها إلى الثقة مع القدرة على الحاكم ، أو المالك.

(ولو أنكر الوديعة حلف (٩) لأصالة البراءة ، (ولو أقام) المالك (بها بينة قبل حلفه ضمن (١٠) ، لأنه متعد بجحوده لها (إلا أن يكون جوابه : لا تستحق عندي)

______________________________________________________

يرض بغير يد الودعي ، ولا ضرورة إلى إخراجها من يده فليحفظها إلى أن يجد المالك أو يتجدد له عذر ، بلا خلاف في ذلك كله كما في المسالك.

(١) أي قبض الوديعة.

(٢) أي الودعي في مقام الرد.

(٣) في المالك ووكيله.

(٤) أي لا بدون الاضطرار.

(٥) أي بمنزلة الوكيل في الحفظ ، بل هو وكيل في الحفظ حقيقة.

(٦) إلى الحاكم.

(٧) للمالك حين تعذر حفظها عند الودعي.

(٨) لأنه متعد ، حيث تصرف من غير إذن المالك ولا ضرورة تلجئه إلى ذلك ، وكذا ما بعده.

(٩) لو ادعى رجل وديعة على آخر فأنكر الثاني فيقدم قول الثاني مع يمينه بلا خلاف فيه ولا إشكال ، لأنه منكر حيث لو ترك ترك ، ولأصالة عدم اشتغال ذمته بالرد.

(١٠) فلو ادعى رجل وديعة على آخر فأنكر الثاني ، وأقام الأول الذي هو المدعي البينة على ذلك ، قدّم الأول مع بينة ، لأن تقديم قول المنكر عند فقدان الأول للبينة ، وعليه فيلزم الثاني بالوديعة وعليه ردها ، وبعد إثبات الوديعة تحت يده ظاهرا بحسب البينة فهو ليس

٣٠١

شيئا (١) وشبهه) كقوله : ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها ولا عوضها ، فلا يضمن بالإنكار ، بل يكون كمدعي التلف يقبل قوله بيمينه أيضا ، لإمكان تلفها بغير تفريط فلا تكون مستحقة عنده ، ولا يناقض قوله البينة ، ولو أظهر لإنكاره الأول تأويلا (٢) كقوله : ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها ، أو ضمانها ، ونحو

______________________________________________________

بمؤتمن ، لارتفاع أمانته بالجحود ، بل هو خائن ، فيده على العين يد غير مؤتمنة فتندرج تحت عموم (على اليد) ، فلو تلفت قبل الرد يضمن.

(١) لو ادعى عليه الوديعة فقال : لا تستحق عندي وديعة ، فلم ينكر الإيداع بل أنكر وجود وديعة مستحقة عنده ، فهو منكر يقدم قوله مع يمينه عند فقد المدعي البينة.

وأما لو أتى المدعى بالبينة فيثبت على المنكر أنه ودعي وأن عنده وديعة ، ويلزم بالرد ، فلو ادعى التلف حينئذ أو الرد سمعت دعواه هذه ، ولم يقع تناقض بين هذه الدعوى وبين إنكاره السابق ، لأنه مع تلفها اللاحق أو الرد لا تكون عنده وديعة مستحقة ، وتكون هذه الدعوى بالتلف أو الرد تفسيرا وتأويلا لإنكاره السابق.

ومما تقدم تعرف أنه لو ادعى التلف بعد إنكاره السابق أو ادعاه ابتداء من غير سبق الإنكار المذكور فلا يكون جاحدا للأمانة وليس عليه ضمان لأنه أمين ، فإن صدقه المالك بدعواه التلف فهو وإلا كان القول قول الودعي في التلف مع يمينه ، ويشهد له مرسل الصدوق عن الصادق عليه‌السلام (عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال عليه‌السلام : نعم ولا يمين عليه) (١).

ولم يخالف إلا الشيخ في المبسوط فلم يقبل قول الودعي في التلف إلا بالبينة ، لأنه مدع ، فيندرج تحت عموم (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) ، وفي الجواهر قال عنه : (رماه بعضهم بالشذوذ).

ثم على القول بتقديم قول الودعي في التلف فهل يقدم قوله مع يمينه كما هو مقتضى القواعد ، أو أنه لا يمين عليه مطلقا تمسكا بظاهر الخبر المتقدم كما عن الصدوق والشيخ في النهاية وابن حمزة ، أو أنه لا يمين عليه إلا مع التهمة كما عن ابن الجنيد وأبي الصلاح جمعا بين الخبر والقواعد ، والأقوى الأول وهو المنسوب للأكثر إعمالا لقواعد القضاء بعد كون الخبر مرسلا.

(٢) في المسألة السابقة لم ينكر الإيداع بل أنكر الوديعة المستحقة وقد عرفت ما فيها ، وفي المسألة الأسبق قد أنكر الإيداع ومطلق الوديعة وعليه فلو أتى المدعي للوديعة بالبينة وأتى

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب الوديعة حديث ٧.

٣٠٢

ذلك فالأقوى القبول أيضا ، واختاره المصنف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته.

(والقول قول الودعي في القيمة لو فرّط (١) لأصالة عدم الزيادة عما يعترف به.

وقيل : قول المالك ، لخروجه (٢) بالتفريط عن الأمانة.

ويضعّف بأنه (٣) ليس مأخذ القبول.

(وإذا مات المودع سلمها) المستودع (إلى وارثه) (٤) إن اتحد ، (أو إلى من يقوم)

______________________________________________________

المنكر بتأويل بأن ادعى التلف أو الرد حينئذ ، وجعل أن قصده من إنكار الإيداع والوديعة ادعاء التلف أو الرد ، فهل تسمع دعواه الجديدة بالتلف أو الرد أو لا.

قيل : لا تسمع دعواه ولا تقبل بينته لو أتت بينة وشهدت له بالتلف ، لأنه بإنكاره السابق مكذب لدعواه اللاحقة ، فلا تسمع لتناقض كلاميه ، ومع عدم سماع دعواه الجديدة لا تقبل البينة عليها.

وقيل : تسمع دعواه وتقبل بينته لعموم (البينة على من ادعى) ، وهو مدع بالتلف هنا ، والتناقض الحاصل بين كلاميه مدفوع لجواز صدور الجحود الأول عن نسيان فيعذر ، وهو اختيار المحقق في الشرائع والعلامة في التذكرة.

وقيل : بالتفصيل من أنه إذا أظهر لإنكاره السابق تأويلا كقوله : ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها أو ضمانها فتقبل بينته بعد سماع دعواه ، وإذا لم يظهر لإنكاره السابق تأويلا فلا تقبل البينة ولا تسمع الدعوى وقد اختاره الشهيد واستحسنه الشارح في المسالك ، وفيه : إنه خروج عن مفروض المسألة ـ كما في الجواهر ـ لأن التأويل المذكور لا يصلح تفسيرا لإنكار الإيداع فلا يسمع منه هذا التأويل تمسكا بظاهر كلامه.

(١) لو فرّط الودعي أو تعدي فتلف المال ، واختلف في القيمة ، فقال المالك : قيمتها مائة ، فقال الودعي : خمسون ، فقيل : بتقديم قول المالك مع يمينه ، وهو للشيخ محتجا بأن الودعي بالتفريط أصبح خائنا فلا يكون قوله مسموعا.

وعن الأكثر تقديم قول الودعي مع يمينه ، لأنه منكر للزيادة ، وتقديم قوله من ناحية إنكاره هذه الزيادة لا من ناحية كونه أمينا.

(٢) أي لخروج الودعي.

(٣) أي بائتمان الودعي.

(٤) موت المودع فسخ لعقد الوديعة ، لأنها من العقود الجائزة التي تبطل بموت أحد طرفيها ، وتكون الوديعة حينئذ عند الودعي أمانة شرعية ، يجب ردها فورا إلى ورثته ، لأنهم هم المالكون لماله بعد موته شرعا ، وعليه فإن كان لكل الورثة وكيل أو ولي سلّمها إليه ، لأن

٣٠٣

مقامه) من وكيل ، وولي ، فإن تعدد سلمها إلى الجميع إن اتفقوا في الأهلية ، وإلا (١) فإلى الأهل (٢) ، وولي الناقص ، (ولو سلمها إلى البعض) من دون إذن الباقين (ضمن للباقي) بنسبة حصتهم ، لتعديه فيها بتسليمها إلى غير المالك ، وتجب المبادرة إلى ردها إليهم حينئذ (٣) كما سلف (٤) ، سواء علم الوارث بها أم لا (٥).

(ولا يبرأ) (٦) المستودع (بإعادتها إلى الحرز لو تعدى) فأخرجها منه ، (أو فرّط) (٧) بتركه غير مقفل ، ثم قفله ، ونحوه ، لأنه صار بمنزلة الغاصب

______________________________________________________

يد الوكيل أو الولي يد الموكل والمولى عليه ، ومع تسليم الوديعة إلى بعض الورثة دون البعض من غير إذن البقية فإنه يوجب ضمان حصص الباقين من الوديعة ، بلا خلاف في ذلك كله ولا إشكال ، وضمانه في الأخير لأنه متعد حيث تصرف فيها بغير إذن ملّاكها.

(١) أي وإن لم يتفقوا في الأهلية.

(٢) أي كان أهلا للتسليم وهو الكامل الجامع لشرائط البلوغ والعقل وعدم الحجر.

(٣) أي حين موت المودع.

(٤) في الأمانة الشرعية ، وهي هنا كذلك.

(٥) قال الشارح في المسالك : (وتجب المبادرة إلى التسليم المذكور ، لأنها بموت المودع صارت أمانة شرعية ، ولا فرق في وجوب المبادرة بين علم الورثة بالوديعة وعدمه عندنا ، وقال بعض الشافعية : إنه مع علمهم لا يجب الدفع إلا بعد الطلب ، ونفى عنه في التذكرة البأس) انتهى.

(٦) أي لا يبرأ من الضمان.

(٧) لو تعدى الودعي أو فرط ، فإنه يضمن على تقدير التلف أو النقصان كما تقدم ، فلو أعاد الثوب إلى الحرز بعد لبسه فهل يبرأ من الضمان السابق أو لا ، مقتضى القواعد عدم الإبراء لثبوت الضمان عند التعدي واستصحابه عند انتهاء التعدي ، وظاهرهم الاتفاق عليه ، ولا يسقط الضمان عنه إلا أن يحصل من المالك ما يقتضي زواله ، وهذا متحقق بأمور :

الأول : أن يرد الودعي الوديعة بعد التفريط ثم يجدد المالك لنفس الودعي عقدها من جديد ، وفي هذا لا إشكال في سقوط الضمان ، لأنه وديعة مستأنفة لا تفريط فيها فيترتب عليها حكمها من كون الودعي أمينا.

الثاني : لو قال المالك بعد التفريط : أذنت لك في حفظها ، أو استأمنتك عليها مع عدم

٣٠٤

فيستصحب حكم الضمان إلى أن يحصل من المالك ما يقتضي زواله (١) برده عليه (٢) ، ثم يجدد له الوديعة ، أو يجدد (٣) له الاستئمان بغير رد (٤) كأن يقول له : أودعتكما ، أو استأمنتك عليها ، ونحوه (٥) على الأقوى.

وقيل : لا يعود بذلك (٦) ، كما لا يزول الضمان عن الغاصب بإيداعه (٧) ، أو يبرئه (٨) من الضمان على قول قوي.

(ويقبل قوله بيمينه في الرد (٩)

______________________________________________________

فسخ العقد الأول ، فعن جماعة منهم المحقق والشارح أنه يرتفع الضمان ، لأن الضمان لحق المالك وقد رضي بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الأمانة ، وعن جماعة عدم ارتفاع الضمان بما ورد من المالك ، لاستصحاب الضمان بعد كون ما صدر من المالك ليس عقدا جديدا للوديعة قطعا لعدم فسخ العقد السابق.

الثالث : ما لو أبرأ المالك الودعي من الضمان ، وعن جماعة أن الضمان يسقط بالإبراء ، لأن الضمان لحق المالك وقد رضي بسقوطه بالإبراء ، وقيل : إن الإبراء لا موضوع له هنا ، لأن مورده هو المال الثابت في الذمة فيصح حينئذ إبراء الغريم منه ، وأما مقامنا فلا مال ثابت للمالك في ذمة الودعي ، غايته أن عليه الضمان بمعنى لو تلفت العين وجب عليه بدلها أو قيمتها ، والحال أنها لم تتلف إلى الآن ، فالإبراء المبحوث عنه هنا هو إسقاط لما سيثبت من المال وقد عرفت أن مورده هو المال الثابت.

(١) زوال الضمان.

(٢) هذا هو الأمر الأول ، ومعناه : برد المضمون على المالك ثم يجدد المالك للودعي عقد الوديعة من جديد.

(٣) الأمر الثاني المتقدم.

(٤) أي بغير فسخ للعقد.

(٥) كأن يقول : احفظها عندك.

(٦) أي لا يعود حكم الأمانة بالاستئمان ويبقى حكم الضمان.

(٧) أي بإيداع المغصوب عنده.

(٨) معطوف على قوله (أو يجدد له) ، وهو الأمر الثالث المتقدم.

(٩) لو ادعى الودعي الرد فأنكر المالك ، قدم قول الودعي مع يمينه لموافقة قوله لظاهر الشرع ، لأنه أمين ومحسن ، ولأنه قابض لمصلحة المالك ، ولأن الأصل براءة ذمته ، هذا على المشهور ، وعن العلامة في القواعد وغيره التنظر فيه ، لكونه مدعيا بحسب ظاهر

٣٠٥

وإن كان مدعيا بكل وجه (١) على المشهور ، لأنه محسن وقابض لمحض مصلحة المالك والأصل براءة ذمته.

هذا إذا ادعى ردها على من ائتمنه (٢) ، أما لو ادعاه على غيره (٣) كوارثه (٤) ، فكغيره من الأمناء ، لأصالة عدمه (٥) ، وهو (٦) لم يأتمنه فلا يكلف تصديقه (٧).

ودعوى ردها على الوكيل كدعواه على الموكل ، لأن يده كيده.

______________________________________________________

كلامه لأنه يدعي الرد فيقدم قول المالك حينئذ لأنه منكر والأصل عدم الرد.

ثم على القول بتقديم قول الودعي ، فهل يقدّم قوله مع اليمين أو بدونها ، فيه نفس الخلاف المتقدم في دعواه التلف وقد تقدم.

(١) أي وإن كان الودعي مدعيا بحسب كل تعاريف المدعي ، غير أن إطلاقه ليس في محله ، لأن من جملة التعاريف أن المدعى من ترك ترك ، وهو غير منطبق على الودعي عند دعوى الرد ، لأنه لو ترك لم يتركه المودع من طلب الوديعة ، نعم هو مدع لأن قوله على خلاف الأصل ، إذ الأصل عدم الرد.

(٢) أي المالك.

(٣) أي لو ادعى الرد على غير المالك ، وأنكر المالك الرد إلى غيره ، فعلى الودعي البينة ، لأن الودعي برده إلى غير المالك يكون مفرّطا ومعه لا أمانة له ، فلا يقدم قوله لظاهر الشرع بل يكون قوله على خلاف الأصل إذ الأصل عدم الرد فهو فدع ، وهو مما لا خلاف فيه.

(٤) تمثيل للغير ، والمعنى ولو كان ذلك الغير وارث المالك ، وهذا الوارث كغيره من الأمناء ، وعليه فلو ادعى ردها إلى واحد من الأمناء فيكون قد ردها إلى غير المالك ويأتي فيه الكلام المتقدم.

(٥) أي عدم الرد.

(٦) الواو حالية والضمير راجع إلى المالك ، والمعنى أن المالك لم يأتمن هذا الغير.

(٧) أي فلا يكلف المالك بتصديق الودعي لو ادعى الرد إلى الغير.

٣٠٦

كتاب العارية

٣٠٧
٣٠٨

(كتاب العارية (١)

بتشديد الياء ، وتخفف (٢) ، نسبة إلى العار (٣) ، لأن طلبها عار ، أو إلى العارة (٤) مصدر ثان لأعرته إعارة ، كالجابة للإجابة ، أو من عار (٥) إذا جاء وذهب

______________________________________________________

(١) قال في مصباح المنير : (وتعاوروا الشي‌ء واعتوروه تداولوه ، والعاريّة من ذلك ، والأصل فعليّة بفتح العين ، قال الأزهري : نسبة إلى العارة ، وهي اسم من الإعارة ، يقال : أعرته الشي‌ء إعارة وعارة مثل أطعته إطاعة وطاعة ، وأجبته إجابة وجابة.

وقال الليث : سميت عارية لأنها عار على طالبها ، وقال الجوهري مثله. وبعضهم يقول : مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها من يد صاحبها ، وهما غلط ، لأن العارية من الواو ، لأن العرب تقول : هم يتعاورون العواري ويتعورونها ، بالواو ، إذا أعار بعضهم بعضا والله أعلم ، والعار وعار الفرس من الياء ، فالصحيح ما قاله الأزهري ، وقد تخفف العاريّة في الشعر ، والجمع العواري) انتهى.

(٢) قد سمعت أن تخفيفها ضرورة في الشعر فقط كما في المصباح ، وقال الشارح في المسالك : (وقال الخطائي : إن اللغة الغالبة العاريّة وقد تخفف) انتهى وظاهره أنها تخفف في غير الشعر أيضا.

(٣) كما عن الليث والجوهري على ما في المصباح ، وهو المنقول عن النهاية الأثيرية وتقدم تغليط المصباح لهذا القول.

(٤) اسم مصدر للإعارة ، وهو المقصود من قوله : (مصدر ثان لأعرته إعارة) ، وهذا القول كما عن الأزهري ، وهو الذي صححه المصباح.

(٥) أي من عار الفرس إذا خرج من يد صاحبه ، ومن هذا الفعل قيل للبطّال عيّار ، لتردده في بطالته.

٣٠٩

لتحولها من يد إلى أخرى ، أو من التعاور (١) وهو التداول. وهي من العقود الجائزة (٢) تثمر جواز التصرف في العين بالانتفاع مع بقاء الأصل (٣) غالبا (٤) ، (ولا حصر أيضا (٥) أي عودا إلى ما ذكر في الوديعة (في ألفاظها) إيجابا وقبولا ، بل كل ما دل (٦) على الإذن من طرف المعير فهو إيجاب.

______________________________________________________

(١) كما يظهر من المصباح ، ولكن ظاهره أيضا أنه راجع إلى الإعارة.

(٢) العارية عقد شرّع لإباحة الانتفاع بعين من الأعيان على وجه التبرع ، ولا خلاف ولا إشكال في مشروعيتها لبناء العقلاء عليها مع عدم نهي الشارع عنها ، ولقاعدة السلطنة المستفادة من النبوي (الناس مسلطون على أموالهم) (١) ، ولقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ) (٢) ، ، وفي مجمع البحرين (الماعون اسم جامع لمنافع البيت كالقدر والدلو والملح والماء والسراج والخمرة ونحو ذلك مما جرت العادة بعاريته) ، ولحديث المناهي (نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمنع أحد الماعون جاره ، وقال : من منع الماعون جاره منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكّله إلى نفسه ، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله) (٣) ، وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الآية الشريفة المتقدمة : (هو القرض يقرضه والمعروف يصنعه ومتاع البيع يعيره) (٤) ونحوه خبر سماعة (٥). ومقتضى هذه الأخبار وجوب العارية عليه عند الطلب ولكنها محمولة على الاستحباب المؤكد للإجماع المدعى كما عن جماعة.

(٣) أي العين.

(٤) احترازا من المنحة كما سيأتي.

(٥) أي كما كان كل لفظ كافيا في إنشاء الإيجاب والقبول في الوديعة ، فكذلك يكفي كل لفظ في إيجاب وقبول العارية ، لأنها من العقود الجائزة ، وهذا مبنيّ على ما تقدم من التوسع في العقود الجائزة دون اللازمة ، إذ يشترط في الثانية صراحة ألفاظ إيجابها وقبولها ، وقد عرفت عدم الدليل عليه مع كفاية كل لفظ دال على إنشاء الإيجاب والقبول سواء كان ذلك في العقود اللازمة أم الجائزة.

(٦) من الألفاظ.

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.

(٢) سورة الماعون ، الآية : ٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة حديث ١٣.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة حديث ٣ و ٢.

٣١٠

ويكفي الفعل في القبول (١) ، بل لو استفيد رضاه من غير (٢) الألفاظ كالكتابة (٣) ، والإشارة ولو مع القدرة على النطق (٤) كفى.

ومثله (٥) ما لو دفع إليه ثوبا حيث وجده عاريا (٦) ، أو محتاجا إلى

______________________________________________________

(١) كما عن الكثير من الأصحاب ـ كما في المسالك ـ لما ذكروه في الوديعة والوكالة ونحوهما من أن المقصود من القبول هو الرضا ، وقد يتحقق الرضا بنفس الفعل ، لجريان العادة بمثله ، وعن بعضهم اشتراط اللفظ في القبول كاشتراطه في الإيجاب ، وعلّل كما في الرياض بأنه هو الموافق للأصل ، إذ الأصل هو اللفظ في العقود ، وفيه : قد عرفت في كتاب البيع أن المدار على صدق العقد عرفا ، ومن الواضح صدقه على كل ما يدل على إنشاء الإيجاب والقبول سواء كان باللفظ أو بالفعل أو بالكتابة ، ولذا جوّزنا المعاطاة في البيع وفي بقية العقود اللازمة إلا ما خرج بالدليل كالزواج والطلاق.

(٢) فإذا كان الفعل كافيا في القبول لكشفه عن الرضا ، فكل ما دل على الرضا من غير الألفاظ كالكتابة والإشارة يكون كافيا أيضا ، هذا بالنسبة لشرح عبارة الشارح ، وإلا فقد عرفت أن المدار على صدق العقد ، وهو صادق في الفعل وغيره مما يدل على إنشاء الإيجاب والقبول.

(٣) أما على المبنى المتقدم من عدم حصر الإنشاء باللفظ فواضح ، وأما على مبنى الشارح من الاقتصار في العقود اللازمة والجائزة على الألفاظ فهو مشكل ، لأن صدق العقد على غير اللفظ في مقامنا موجب لصحة العقد وصدقه بغير الألفاظ في بقية العقود ، وعلى تقدير المنع في البقية فيجب الالتزام بالمنع هنا فلا تغفل.

(٤) لأن الفعل كاف في الرضا مع القدرة على النطق فكذلك الكتابة والإشارة.

(٥) أي ومثل الفعل في القبول الفعل في الإيجاب ، بحيث يكون كافيا في الإنشاء.

(٦) قال العلامة في التذكرة : (لا تفتقر العارية إلى لفظ ، بل يكفي قرينة الاذن بالانتفاع من غبر لفظ دال على الإعارة أو الاستعارة ، لا من طرف المعير ولا من طرف المستعير ، كما لو رآه عاريا فدفع إليه قميصا فلبسه تمت العارية ، وكذا لو فرش لضيفه فراشا أو بساطا أو مصلى أو حصيرا ، أو ألقى إليه وسادة فجلس عليها ، أو مخدة فاتكأ عليها ، كان ذلك إعارة) انتهى. وظاهره أن الإيجاب والقبول لا يحتاجان إلى اللفظ بل يتحققان بالفعل ، وهذا ما أرسله الشارح هنا ، إلا أن الشارح اكتفى بالفعل في إنشاء الإيجاب ولم يتكلم عن قبوله وأنه باللفظ أو بالفعل ، وإن كان السياق يقتضي أن يكون القبول بالفعل ، والشارح جعل هذا المورد مساويا لما سبق ، مع أن السابق هو الاكتفاء بالفعل في القبول وما عطف عليه هنا هو الاكتفاء بالفعل في الإيجاب والقبول ، وإن كان مثله من ناحية كفاية الفعل.

٣١١

لبسه (١) ، أو فرش لضيفه فراشا (٢) ، أو ألقى إليه وسادة ، أو مخدّة (٣). واكتفى في التذكرة بحسن الظن بالصديق في جواز الانتفاع بمتاعه (٤)

______________________________________________________

ثم إن هذا لا يتم إلا إذا قلنا بجريان المعاطاة في العقود ، وهذا مما لم يلتزم به القدماء فضلا عن العلامة والشارح.

ثم إن هذا ليس من العارية في شي‌ء بل هو من جواز الانتفاع بالاذن ، وهو أعم من العارية التي هي من العقود بالاتفاق ، نعم لو قصد بدفع الثوب ونحوه ضيفا مخصوصا وأراد بالدفع إنشاء الإيجاب فأخذه الآخر وقد قصد بالأخذ إنشاء القبول لكان من العارية ، ولكن المتعارف ليس كذلك ، بل المتعارف هو الاذن بالانتفاع ليس إلا.

(١) مع ضميمة لبس الآخر له.

(٢) فجلس عليه.

(٣) فاتكأ عليها.

(٤) قال في التذكرة : (أنه لا يشترط فيها ـ أي لا يشترط اللفظ في العارية ـ ، ولا في الإيجاب ولا في القبول ، بل يكفي ما يقوم مقامه من الأمور الدالة على الظن بالرضا ، لأنه عقد ضعيف ، لأنه يثمر إباحة الانتفاع ، وهي ـ أي إباحة الانتفاع ـ قد تحصل بغير عقد ، كما لو حسن ظنه في صديقه كفى في الانتفاع) انتهى.

وظاهره أن إباحة الانتفاع لا العارية مما يكفي فيها حسن الظن بالصديق لآية الاذن وهي قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمىٰ حَرَجٌ وَلٰا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلٰا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلٰا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهٰاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰانِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمٰامِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ عَمّٰاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰالِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ خٰالٰاتِكُمْ ، أَوْ مٰا مَلَكْتُمْ مَفٰاتِحَهُ ، أَوْ صَدِيقِكُمْ ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً) (١) حيث إن ظاهر الآية دال على كفاية حسن الظن بالصديق في إباحة الانتفاع بكل ما يملكه الصديق ، وفيه : إن الآية مقتصرة على تناول الأكل وليس على مطلق الانتفاع بكل ما يملك ، نعم الاذن بتناول الأكل يدل على تناول الأضعف بمفهوم الموافقة ، والتعدي إلى الأضعف متوقف على ملاحظة خصوصيتين في المأذون فيه هنا ، وهما : كون الأكل المأذون فيه محدودا بمدة يسيرة عرفا ، وكون الأكل المأذون فيه مما يقتضي إتلاف عين مخصوصة وهي الطعام ، وما خرج عن ذلك يدخل في عموم النهي عن تناول مال الغير.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٦١.

٣١٢

وينبغي تقييده (١) بكون منفعته مما يتناوله الإذن الوارد في الآية ، بجواز الأكل (٢) من بيته (٣) بمفهوم الموافقة (٤) ، وتعديه (٥) إلى من تناولته (٦) من الأرحام ، لا مطلق حسن (٧) الظن ، لعدم الدليل ، إذ المساوي قياس ، والأضعف ممتنع بطريق أولى (٨).

(ويشترط كون المعير كاملا (٩) جائز التصرف (١٠) ، ويجوز إعارة الصبي بإذن الولي (١١) لمال نفسه ، ووليه (١٢) ،

______________________________________________________

ثم إن المرجع في الصديق إلى العرف ، ولا بدّ مع حسن الظن في الصديق ـ كما في المسالك ـ من عدم الكراهة منه ، وإلا فقد تتفق الكراهة في الكثير مما يملكه مع تحقق الصداقة.

(١) أي تقييد جواز الانتفاع بمتاعه بكون منفعته أقل ضررا من المأذون من الأكل حتى تدل عليه الآية بالأولوية.

(٢) متعلق بالاذن الوارد في الآية.

(٣) أي بيت الصديق ، والجار والمجرور متعلقان بالأكل.

(٤) متعلق لتناول الاذن لما كانت منفعته أقل ضررا.

(٥) أي تعدي الحكم بجواز الانتفاع ، والمعنى أن الاذن بالأكل للصديق كما يدل بالفحوى على الاذن بالأقل ضررا فكذلك الاذن للأرحام بالأكل يدل على الأقل بالفحوى أيضا.

(٦) أي الآية.

(٧) ولو إلى مساوي المأذون أو الأشد منه.

(٨) أي لأن المساوي ممتنع لأنه قياس فالأشدّ ممتنع بطريق أولى ، وسماه بالأضعف لضعفه بالنسبة إلى تناول الآية له.

(٩) أي بالغا عاقلا ، لأن المجنون والصبي مسلوبا العبارة شرعا.

(١٠) فلا تصح العارية من السفيه والمحجور عليه ، لأن الإعارة تصرف منه في ماله والمفروض أنه ممنوع من التصرف بالحجر.

(١١) يجوز للصبي أن يعير ماله بإذن الولي ، مع أنه قد تقدم في كتاب البيع أنه لا يجوز للصبي أن يبيع ماله وإن أذن الولي ، والفرق بينهما هو ما قاله في المسالك وغيره أن العارية لما كانت عقدا جائزا فيكتفى فيها بكل ما دل على رضا المعير وإن لم يكن لفظا ، فصدور الاذن من الولي كان بمنزلة الإيجاب ، والاذن حاصل منه للصبي فلذا صح هنا ، بخلاف العقود اللازمة كالبيع فيشترط في إيجابها اللفظ ، وإذن الولي ليس لفظا فلا ينعقد إيجاب حينئذ.

(١٢) يصح إعارة الصبي من مال وليه بإذن الأخير ، لأن المعير حقيقة هو الولي وأذنه إيجاب كما تقدم.

٣١٣

لأن المعتبر إذن الولي ، وهو كاف (١) في تحقق هذا العقد.

هذا إذا علم المستعير بإذن الولي ، وإلا (٢) لم يقبل قول الصبي في حقه ، إلا أن تنضم إليه (٣) قرائن تفيد الظن المتاخم للعلم (٤) به (٥) ، كما إذا طلبها (٦) من الولي فجاء بها الصبي وأخبر أنه أرسله بها ، ونحو ذلك ، كما يقبل قوله (٧) في الهدية (٨) ، والإذن (٩) في دخول الدار بالقرائن ، ولا بد مع إذن الولي له (١٠) في إعارة ماله من وجود المصلحة بها (١١) بأن تكون يد المستعير أحفظ من يد الولي في ذلك الوقت (١٢) ، أو لانتفاع الصبي بالمستعير بما يزيد عن منفعة ماله (١٣) ، أو تكون العين ينفعها الاستعمال ويضرها الإهمال ، ونحو ذلك.

(وكون العين مما يصح الانتفاع بها مع بقائها (١٤) فلا يصح إعارة ما لا يتم

______________________________________________________

(١) أي إذن الولي.

(٢) أي وإن لم يعلم المستعير بإذن الولي فلا يقبل قول الصبي في حق الولي بأنه قد أذن ، لسلب عبارته شرعا.

(٣) إلى أخبار الصبي.

(٤) وهو المسمى بالاطمئنان.

(٥) بإذن الولي.

(٦) أي طلب المستعير العارية.

(٧) أي قول الصبي.

(٨) لأنه محتف بقرائن تفيد الاطمئنان بصدقه ، والقرائن هي إرسال الهدية معه.

(٩) أي وكما يقبل قول الصبي في إذن الولي في الهدية عند إرسالها معه ، فكذلك يقبل قوله في إذن الولي في دخول الدار للقرائن المحتفة به.

(١٠) للصبي.

(١١) بالعارية لأن تصرفات الولي منوطة بالغبطة كما تقدم في كتاب الحجر.

(١٢) أي وقت العارية.

(١٣) أي مال الصبي ، بحيث توقف انتفاع الصبي بالمستعير على كون مال الصبي عارية عند المستعير ، وكانت منفعة الصبي أقوى حتى تكون العارية من ماله لمصلحته.

(١٤) شرط للعين المستعارة ، وهو أن كل ما يصح الانتفاع به شرعا مع بقاء عينه فهو مما تصح عاريته ، وهو من مقتضيات معنى العارية عرفا ، ولأن الاذن إذن بالانتفاع فقط فلا بد من بقاء العين ، فتصح العارية في مثل الثوب والدابة ، ولا تصح عارية الأطعمة والأشربة التي تذهب عينها بالانتفاع بها.

٣١٤

الانتفاع به إلا بذهاب عينه كالأطعمة. ويستثنى من ذلك المنحة (١) وهي الشاة المستعارة للحلب ، للنص.

وفي تعديه إلى غيرها من الحيوان المتخذ للحلب وجهان (٢) ، والاقتصار فيما خالف الأصل على موضع اليقين أجود.

(وللمالك الرجوع فيها متى شاء (٣) ،

______________________________________________________

(١) المنحة بالكسر ، وهي العطية قال في مصباح المنير : (المنحة ـ بالكسر ـ في الأصل الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع اللبن ، ثم كثر استعماله حين أطلق على كل عطاء) انتهى.

والمنحة بالمعنى المتقدم على ما في المصباح مما تجوز إعارتها بلا خلاف فيه ، بل عليه الإجماع كما عن جماعة وإن كانت على خلاف الأصل ، لأن اللبن المقصود من الإعارة هو عين لا منفعة فهو يستعير الشاة ليستفيد من عين بها ، فلذا كانت على خلاف الأصل ، والدليل هو الإجماع إلا أن في التذكرة استدل على جوازها بالنبوي المروي عن العامة (العارية مؤداة ، والمنحة مردودة ، والدين يقضى ، والغريم غارم) (١) والنبوي الدال على ردها دال على مشروعيتها.

(٢) وظاهرهم التعدية إلى غير الشاة من البقر والماعز والناقة ولذا قال في المسالك : (وعدوا الحكم إلى غير الشاة مما يتخذ للحلب من الأنعام وغيرها) انتهى ، وعدّى العلامة في التذكرة إلى جواز إعارة الغنم للانتفاع بصوفها ونحو ذلك ، وتنظر الشارح في المسالك بالتعدية ، لأن الحكم في المنحة على خلاف الأصل فيقتصر فيه على مورد الوفاق واليقين وهو إعارة الشاة للبنها فقط. هذا وقد قيل إن المنفعة أمر عرفي وقد تعد بعض الأعيان منفعة وإن كانت هي عين ، كاللبن في الشاة فإنه بنظر العرف منفعة وليس عينا ، وعليه فالمنحة عارية لا تحتاج إلى دليل سوى دليل مشروعية مطلق العارية ، لأن العين المستعارة هي الشاة وهي لا تتلف ، وما يتلف هو من قبيل المنفعة وليس هو مورد العارية ، وعليه فيجوز التعدي إلى غير الشاة ويجوز التعدي إلى غير اللبن ، لكون غير اللبن من الصوف والوبر والشعر من قبيل المنافع لا الأعيان.

(٣) عقد العارية جائز من الطرفين بلا خلاف فيه ، لأن قوامه الاذن بالإباحة ومن الواضح جواز الرجوع بالاذن ويلزمه جواز الرجوع عن الرضا به الذي هو قوام القبول ، وعليه فيجوز لكل من المتعاقدين فسخ العارية متى شاء ، ويستثنى من ذلك موارد.

__________________

(١) المغني لابن قدامة ج ٥ ص ١٨٣.

٣١٥

لاقتضاء جواز العقد ذلك (١) ، (إلا في الإعارة للدفن) أي دفن الميت المسلم ومن بحكمه (٢) فلا يجوز الرجوع فيه (٣) (بعد الطمّ) ، لتحريم نبشه ، وهتك حرمته ، إلى أن تندرس عظامه.

ولو رجع قبله (٤) جاز وإن كان الميت قد وضع على الأقوى ، للأصل (٥) ، فمئونة الحفر لازمة لولي الميت (٦) ، لقدومه (٧) على ذلك ، إلا أن يتعذر عليه غيره (٨) ،

______________________________________________________

منها : إعارة الأرض لدفن ميت مسلم ، فلا يصح الرجوع بعد الدفن لتحريم نبشه وهتك حرمته إلى أن تندرس عظامه ، وهو موضع وفاق كما في المسالك ، وبلا خلاف فيه كما في الرياض وغيره.

(١) أي جواز رجوع المالك عند مشيئته.

(٢) كالطفل والمجنون ولقيط دار الإسلام.

(٣) في إعارة الأرض للدفن.

(٤) أي قبل الطم ، والرجوع قبل الطم إما بعد الحفر وقبل وضع الميت في لحده وإما بعد الحفر وبعد الوضع ، ففي الصورة الأولى يجوز له الرجوع لعدم محذور الهتك والنبش لعدم تحقق الوضع كما يجوز له الرجوع قبل الحفر ، ولو رجع المالك حرم الدفن ، لكونه تصرفا في مال الغير بغير إذنه وهو محرم ، وهذا مما لا إشكال فيه ولا خلاف.

وفي الصورة الثانية فقد صرح أكثر من واحد من الأصحاب بجواز رجوع المالك قبل المواراة لعدم صدق النبش حينئذ ، وقيل : بعدم الجواز لما في إخراج الميت من لحده قبل الطم من هتك لحرمته ، ولذا أفتى الفقهاء في باب التكفين بقرض نجاسة كفن الميت إذا تعذر التغسيل في القبر ، وما ذلك إلا لكون الإخراج بعد الوضع وقبل الطم مستلزما للهتك.

(٥) إما استصحاب الجواز وإما أصالة البراءة.

(٦) قال الشارح في المسالك : (قال في التذكرة : ومئونة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن لازمة لولي الميت ، ويشكل فيما لو لم يمكنه الدفن إلا كذلك ـ بحيث وصّى الميت بالدفن في الأرض العارية ـ ، إذ لا تقصير فيه فينبغي كونه من مال الميت) انتهى.

(٧) أي قدوم ولي الميت على الحفر في الأرض العارية للدفن مع علمه بأنه يجوز للمالك الفسخ متى شاء ، فإذا رجع المالك وهو عالم بجواز ذلك له فيكون الولي قد قصّر ، فالمئونة عليه للتقصير.

(٨) غير المكان المستعار ، ومع التعذر فالإقدام على الحفر في المستعار لا تقصير فيه وإن علم بجواز فسخ المالك ، لكن هذا مشروط بكون مئونة الحفر في المستعار أقل أو مساوية لمئونة

٣١٦

مما لا يزيد عوضه عنه (١) فيقوى كونه (٢) من مال الميت ، لعدم التقصير ، ولا يلزم وليّه طمه ، للإذن فيه (٣).

ويستثنى آخران أيضا : أحدهما إذا حصل بالرجوع ضرر على المستعير لا يستدرك كما لو أعاره لوحا رقّع به سفينته ولجج (٤) في البحر فلا رجوع للمعير (٥) إلى أن يمكنه الخروج إلى الشاطئ ، أو إصلاحها (٦) مع نزعه من غير ضرر ، ولو رجع قبل دخول السفينة (٧) ، أو بعد خروجها فلا إشكال في الجواز (٨) ، مع احتمال الجواز مطلقا (٩) وإن وجب الصبر بقبضه إلى أن يزول الضرر ، والثاني الاستعارة للرهن بعد وقوعه (١٠) وقد تقدم.

______________________________________________________

الحفر في المكان المتعذر ، أما لو كانت مئونة الحفر أزيد فهو مقصّر بالزائد ، وعلى كل فمع عدم التقصير تكون مئونة الحفر من مال الميت خلافا للتذكرة حيث جعلها من مال الولي مطلقا.

(١) أي مما لا يزيد عوض المستعار عن عوض غيره المتعذر.

(٢) أي كون عوض المستعار.

(٣) أي في الحفر ، والاذن حاصل من المالك للولي قبل الرجوع.

(٤) أي دخل في اللجة.

(٥) لا رجوع له ما دامت السفينة في البحر لما فيه من الضرر بالغرق الموجب لذهاب مال أو تلف نفس.

(٦) أي أمكن إصلاح السفينة في داخل البحر مع نزع المعار من غير ضرر.

(٧) قبل دخولها في البحر.

(٨) أي جواز رجوع المالك إذ لا ضرر على المستعير حينئذ.

(٩) ولو كانت في البحر إلا أنه لا يجب التسليم إليه ، أما جواز الرجوع للمالك لأنه الأصل في العارية ، وأما عدم وجوب تعجيل التسليم لما فيه من الضرر على المستعير في التسليم الفوري.

وفائدة هذا الاحتمال أنه يجب على المستعير ردها فورا بعد زوال الضرر ، لأنه بعد فسخ المالك تكون العارية أمانة شرعية لا مالكية ، والأمانة الشرعية يجب ردها فورا في أول أوقات الرد ، ويجب الرد بعد زوال الضرر مباشرة من غير مطالبة من المالك.

(١٠) أي بعد وقوع الرهن فلا يجوز للمالك الرجوع في العارية بعد رهنها وقد تقدم بحثه في كتاب الرهن.

٣١٧

(وهي أمانة) في يد المستعير (لا يضمن (١) إلا بالتعدي ، أو التفريط) إلا ما استثني (٢) (وإذا استعار أرضا (٣) صالحة للزرع ، والغرس ، والبناء عادة (غرس ،)

______________________________________________________

(١) لا خلاف ولا إشكال في كون العارية أمانة عند المستعير فلا يضمن للأخبار :

منها : صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها إلا أن يكون قد اشترط عليه) (١) ، وصحيحه الآخر عنه عليه‌السلام (صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وليس على المستعير عارية ضمان) (٢).

واستثنى منه مواضع.

منها : ما لو تعدى أو فرّط فلا خلاف في ضمانه إذ النصوص قد حكمت بأمانته ومع التعدي أو التفريط لا أمانة فتنقلب يده من يد ائتمان إلى يد عدوان فيضمن ، هذا فضلا عن أن المالك لم يأذن له بالتعدي أو التفريط يضمن.

ومنها : ما لو اشترط ضمانها عليه فيضمن لو تلفت بلا خلاف فيه ويدل عليه صحيح الحلبي الأول المتقدم ، ومثله غيره.

ومنها : عارية الذهب والفضة وإن لم يشترط ضمانها وسيأتي الكلام فيها مفصلا عند تعرض الماتن لها.

(٢) من اشتراط ضمانها وعارية الذهب والفضة.

(٣) أطلق الأصحاب جواز الانتفاع بالعارية للمستعير ، والمرجع في تقدير نوع الانتفاع منها وصفته وقدره إلى العرف بحسب العادة السارية فيه ، فلو اعاره بساطا اقتضت العادة بالانتفاع به بالفرش ونحوه من الوجوه المتعارفة ، ولو أعاره لحافا اقتضت العادة بالانتفاع به غطاء ولا يجوز افتراشه لعدم جريان العادة بذلك ، ولو أعاره حيوانا للحمل اقتضت العادة بتحميله قدرا معينا فلا تجوز الزيادة وهكذا.

ثم لو تعددت منافع العين المعارة ، فإن عيّن المعير نوعا منها تعين لدوران جواز الانتفاع مدار الاذن ، والاذن مقيّد بحسب الفرض ، وإن عمّم جاز الانتفاع بجميع وجوه منافع العين كأن يعيره الأرض وهي صالحة للغرس والزرع والبناء ، والتعميم هو التنصيص على جواز الانتفاع بجميع المنافع فيجوز للمستعير ـ والحال هذه ـ عموم الانتفاع لعموم الاذن.

وإن أطلق المعير إذنه فلم يقيده بنوع ولم ينص على التعميم فيجوز مطلق الانتفاع تمسكا بإطلاق الاذن ، وهو بمنزلة التعميم.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب العارية حديث ١ و ٦.

٣١٨

(أو زرع ، أو بنى) مخيّرا (١) فيها مع الإطلاق ، أو التصريح بالتعميم ، وله الجمع بينها (٢) بحسب الإمكان ، لأن ذلك كله انتفاع بتلك العين يدخل (٣) في الإطلاق ، أو التعميم ، ومثله (٤) ما لو استعار دابة صالحة للركوب والحمل.

(ولو عين له جهة لم يتجاوزها (٥) ولو إلى المساوي والأدون عملا بمقتضى التعيين ، واقتصارا على المأذون.

وقيل : يجوز التخطي إلى المساوي والأقل ضررا وهو ضعيف. ودخول الأدون بطريق أولى ممنوع ، لاختلاف الغرض في ذلك (٦) ، نعم لو علم انتفاء الغرض بالمعين اتجه جواز التخطي إلى الأقل ، أما المساوي فلا (٧) مطلقا (٨) ، كما

______________________________________________________

(١) أي المستعير.

(٢) بين هذه المنافع.

(٣) أي هذا الانتفاع.

(٤) أي مثل إعارة الأرض.

(٥) كان الكلام في المتقدم من ناحية لزوم العمل بإذن المعير ، وكلامنا هنا في أنه لو أذن المعير للمستعير في الانتفاع من جهة من جهات منافع العين ، فهل يجوز للمستعير أن يتعدى إلى الأضعف بالأولوية أو لا؟ كمن أعاره أرضا للغرس فهل يجوز أن يزرع ، والزرع أقل ضررا من غرس الأشجار ، ذهب جماعة منهم الشهيدان والمحقق والعلامة في التبصرة إلى عدم التعدي إلى المساوي فضلا عن الأضعف اقتصارا على القدر المأذون ، لأصالة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يصدر من المعير إذن بالمساوي ولا بالأضعف.

وذهب بعضهم كالشيخ في المبسوط والحلي في السرائر وابن زهرة في الغنية إلى جواز التعدي إلى الأضعف للأولوية ، وفيه : إنه من الجائز تعلق غرض المالك بالنوع الخاص من التصرف ومع هذا التعلق لا يتعدى في الاذن لعدم ملاحظة غير المأذون من قبل المالك.

وعن العلامة في التحرير والتذكرة جواز التخطي إلى المساوي أيضا ، وفيه : إنه قياس باطل إلا إذا علم أن التخصيص في الاذن من باب المثال ، وبه يخرج عن موضع النزاع ، إذ النزاع في التخصيص لا في التمثيل.

(٦) أي في الاذن بالانتفاع.

(٧) أي فلا يجوز.

(٨) سواء علم بانتفاء غرض المعير بالمعنى أم لا ، وفيه : أنه مع العلم بانتفاء الغرض فيكون ذكر المعين من باب المثال ، والتمثيل لا يصلح لتقييد الاذن بخلاف التخصيص.

٣١٩

أنه مع النهي عن التخطي يحرم مطلقا (١).

وحيث يتعين المعين فتعدى إلى غيره (٢) ضمن الأرض (٣) ولزمه الأجرة لمجموع ما فعل من غير أن يسقط منها (٤) ما قابل المأذون على الأقوى (٥) ، لكونه تصرفا بغير إذن المالك فيوجب الأجرة ، والقدر المأذون فيه لم يفعله فلا معنى لإسقاط قدره.

نعم لو كان المأذون فيه داخلا في ضمن المنهي عنه ، كما لو أذن له في تحميل الدابة قدرا معينا فتجاوزه ، أو في ركوبها بنفسه فأردف غيره تعين إسقاط قدر المأذون ، لأنه (٦) بعض ما استوفى من المنفعة وإن ضمن الدابة أجمع (٧).

______________________________________________________

(١) أي يحرم التعدي إلى الأدون والمساوي وهو معنى الإطلاق ، ودليله أنه مع النهي فالتصريح بعدم التعدي وأن الاذن مقتصر على المعين ثابت.

(٢) أي تعدى المستعير إلى غير المعيّن.

(٣) كما لو أعاره الأرض للغرس فزرع أو بنى ، والأول تعديه إلى الأدون ، والثاني تعديه إلى الأشد ، أو أعاره الأرض لغرس معين من الشجر فزرع صنفا آخر مماثل له وهو تعدية إلى المساوي.

وعلى كل فمع التعدي هل يلزم المستعير الأجرة لمجموع ما فعل ، أو يسقط منها مقدار أجرة المأذون فيه ويثبت الزائد خاصة ، وقد يستدل للأول بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو مستلزم لثبوت الأجرة كملا ، ويستدل للثاني من أن المعير قد أباحه المنفعة المخصوصة فلا يجب لها عوض ، نعم مع تخطيه إلى غيرها كان مقدار منفعة المأذون مباحا له فيضمن الزائد ليس إلا ، وقد قوّى الشارح الأول في الروضة هنا وفي المسالك.

وفصّل العلامة بين النهي عن التخطي وبين الإطلاق ، فأوجب الأجرة كملا مع النهي ، وأسقط التفاوت مع الإطلاق ، وأشكل عليه بعدم وضوح الفرق بينهما ، لأن التخطي في الحالين غير مأذون فيه ، غايته أن في النهي قد نص على المنع ، وفي الإطلاق جاء المنع من إطلاق عدم الاذن ، وهذا لا يوجب اختلافا في الحكم المذكور ، هذا كله مع كون العين المعارة تحت يده مضمونة بحيث لو تلفت فيطالب ببدلها أو قيمتها ، لأن يده يد عدوان حينئذ.

(٤) من أجرة المجموع.

(٥) في قبال تفصيل العلامة وقد تقدم.

(٦) أي المأذون فهو بعض المنفعة التي استوفاها فلا أجرة له بخلاف النوع المخالف بحيث أذن في الزرع مع نهيه عن الغرس فغرس فيضمن الأجرة كملا.

(٧) لأن يده يد عدوان.

٣٢٠