الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

٤ ـ الطائف وعلاقاتها بمن حولها :

إن أهل الطائف كانوا مرتبطين اقتصاديا بأهل مكة ومن حولهم ، لأنهم كانوا يصدرون الفاكهة التي هي عمدة محاصيلهم إلى مكة وغيرها من الأطراف المحيطة بهم.

فهم يرون مصيرهم مرتبطا اقتصاديا واجتماعيا بغيرهم ، وهم بحاجة إلى التقرب والتزلف إلى هؤلاء ، واستجلاب محبتهم ورضاهم ، حتى لا يتعرضوا للضغط الاجتماعي ، أو إلى حصار اقتصادي ـ كما جرى لبني هاشم ـ من قبل من يحيط بهم ، لا سيما من المكيين ، حيث السوق الرئيس لمنتجاتهم.

ثم إنه قد كان لهم صنم يقال له اللات ـ وكان له سدنة ، ويزوره العرب (١) إذ كانت لهم مكانة دينية أيضا بين العرب ـ يهتمون جدا بالمحافظة عليه.

ومن هذا وذاك ، نعرف السر في أنهم كانوا أشداء في مواجهة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وحريصين على إخراجه من بينهم بسرعة.

ويشار هنا : إلى أن أهل الطائف الذين قتلوا عروة بن مسعود الداعي إلى الإسلام قد تأخر إسلامهم إلى أواخر حياة النبي «صلى الله عليه وآله» فوفدوا عليه «صلى الله عليه وآله» في سنة تسع ، سنة الوفود ولم يؤمنوا إلا بعد أن أدركوا : أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، فلا يخرج لهم

__________________

(١) الأصنام للكلبي ص ١٦ ، والسيرة النبوية لدحلان مطبوع بهامش الحلبية ج ٣ ص ١١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٣٥.

٨١

مال إلا نهب ، ولا إنسان إلا أخذ ؛ فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا الخ .. (١).

٥ ـ الإسلام دين الفطرة :

إننا نلاحظ ، أن أهل الطائف قد خافوا على أحداثهم من دعوة النبي «صلى الله عليه وآله» ، رغم أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يقم بينهم سوى فترة قصيرة جدا.

الأمر الذي يؤكد على أن الإسلام كان يجد سبيله بيسر وسهولة إلى العقول الصافية والنفوس البريئة وينسجم مع الفطرة السليمة ، التي لم تتلوث بعد بالمفاهيم المنحرفة ، ولم تطغ عليها عوامل المصالح الشخصية ، والعواطف القبلية ، وغير ذلك.

وكيف لا يجد سبيله إليها بيسر ، وهو الدين القائم على الدليل والبرهان العقلي ، والمنسجم مع الفطرة ، وهو دين الضمير والوجدان الحي.

ومن هنا ، فإننا نلاحظ : أنهم لم يمكنهم الرد عليه ومناقشته ، بل طلبوا منه أن يخرج من بينهم ، وحاولوا أن يشوهوا صورته في أذهان أولئك الذين استمعوا إليه ـ وفي أذهان الصغار الذين أغروهم به «صلى الله عليه وآله» والذين يمكن أن تؤثر فيهم دعوته ـ بما استعملوه ضده من أساليب غير منطقية ، وإنما تتميز بالإهانة والأذى ، ثم السخرية والاستهزاء الجارح والمهين.

__________________

(١) راجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٨٣ وراجع أيضا : السيرة النبوية لدحلان ج ٣ ص ٩ مطبوع بهامش الحلبية والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٨٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٣٥.

٨٢

٦ ـ هل كانت هذه سفرة فاشلة؟!.

ولربما يتساءل البعض : عن الفائدة لهذه الرحلة الفاشلة؟ وفي جوابه نقول : إن هذه الرحلة لم تكن فاشلة ، كما ربما يتصور البعض ، فإن من الطبيعي أن تترك هذه الحادثة آثارا إيجابية من نوع ما في أذهان من التقى بهم ، وكلمهم ، وأن تثمر فيما بعد ثمارها المطلوبة والمرجوة منها ، حيث قد أثرت بشكل واضح في تهيئة الجو لإيمان ثقيف فيما بعد ذلك عندما قويت شوكة الإسلام ، ولم تعد تخشى الضغوط الاقتصادية والاجتماعية عليها ممن حولها ، ولا سيما من قريش بل أصبح الضغط من جانب المسلمين ؛ لأن القبائل كانت تفد إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فتعلن عن إسلامها ، ويكتب لها كتابا ، ويشترط قطع العلاقات مع المشركين فأخافهم ذلك وأرعبهم.

وقد كانت قريش تشيع عن النبي «صلى الله عليه وآله» : أنه مجنون أو ساحر ، أو كاهن إلخ ، فها هو «صلى الله عليه وآله» يتصل بالناس مباشرة ، ويلمسون بأنفسهم حقيقة الأمر ، ويتعرفون عن قرب على شخصيته وخصائصه ، بحيث تسقط كل الإشاعات الكاذبة والمغرضة ؛ وليصير الإيمان به وبرسالته وبنبوته أسهل وأيسر ، وليصبح أكثر قوة وعمقا ورسوخا.

٨٣
٨٤

الفصل الثاني :

حتى بيعة العقبة

٨٥
٨٦

المجاعة :

ثم هاجت الأزمة ، وهي الجوع في قريش وأهل مكة ـ وكان ذلك بدعاء النبي «صلى الله عليه وآله» الذي دعا عليهم ـ حتى أكلوا العلهز (١) ، والقد ، وحتى أحرقوا العظام فأكلوها وأكلوا الكلاب الميتة ، والجيف ، ونبشوا القبور ، وأكلت المرأة طفلها .. وحتى كان الرجل يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ؛ فشغل ذلك الناس بأنفسهم وبمشاكلهم ، فأتيحت الفرصة للنبي «صلى الله عليه وآله» ـ ولو لفترة قصيرة ـ ليتحرك في سبيل دينه ورسالته داعيا إلى الله ، ومجاهدا في سبيله.

فلما دخلت سنة إحدى عشرة من البعثة ، جاء أبو سفيان إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فقال : يا محمد ، جئت بصلة الرحم ، وقومك قد هلكوا جوعا ، فادع الله لهم ، فدعا رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهم ؛ فكشف عنهم ، يقول الله عز وجل : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ)(٢).

فإن الظاهر هو أن هذه الآية قد جاءت جوابا لقولهم : ربنا اكشف عنا

__________________

(١) العلهز : دم يابس يدق به أو بار الإبل في المجاعات ويؤكل.

(٢) الآية ١٥ من سورة الدخان ، راجع : البدء والتاريخ ج ٤ ص ١٥٧ ، وتفسير البرهان ج ٤ ص ١٦٠ عن المناقب لابن شهر آشوب.

٨٧

العذاب إنا مؤمنون. ثم تحدث عنهم تعالى بأسلوب الغائب مشيرا إلى ما صدر منهم سابقا مما يدل على عدم وثوقه في وعدهم ، ثم عاد إلى خطابهم بالآية الآنفة الذكر ، متوعدا إياهم بالعذاب الأليم في الآخرة في صورة عودتهم إلى العناد.

ونشير هنا : إلى أن رجوع أبي سفيان إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليؤكد على أن المشركين كانوا يعرفون أن ما جاء به «صلى الله عليه وآله» هو الحق ، ولكنهم جحدوا ذلك استكبارا وعتوا ، وعلوا ، وحفاظا على الامتيازات الظالمة التي جعلوها لأنفسهم.

ومن الجهة الثانية ، فإننا نجده «صلى الله عليه وآله» يستجيب لطلب أبي سفيان ، ولكن ليس فقط لأجل ما ذكره من لزوم صلة الرحم ؛ لأن الإسلام هو الصلة الحقيقية بين أبناء البشر جميعا ، وعلى أساسه تكون الأخوة بينهم.

وإنما يستجيب له ليعطيه دليلا جديدا على أحقية ما جاء به ، وليقيم الحجة عليه ، وعلى كل من يرى رأيه ؛ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، وليمنح الفرصة للذين يعيشون بعيدا عن الأضواء ، وليس لهم مصالح دنيوية كبيرة ، ليفكروا بموضوعية وتجرد ؛ بعيدا عن الأجواء المصطنعة.

عرض الإسلام على القبائل :

لقد كان النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» يغتنم الفرصة في مواسم الحج ؛ فيعرض على القبائل ، قبيلة قبيلة ، أن تعتنق الإسلام ، وتعمل على نشره وتأييده ، وحمايته ونصرته ، بل كان لا يسمع بقادم إلى مكة ، له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام.

٨٨

ولكن عمه أبا لهب كان يتبعه أنى توجه ، ويعقب على كلامه ، ويطلب منهم أن لا يقبلوا منه ولا يطيعوه في شيء.

هذا بالإضافة إلى اتهامه بالجنون ، والسحر والكهانة ، والشعر ، وغير ذلك.

وكان الناس في الغالب يسمعون من قريش ، إما خشية من سلطانها ونفوذها ، وإما حفاظا على مصالحهم الاقتصادية في مكة ، لا سيما في مواسم الحج ، وعكاظ.

كما أن تصدي أبي لهب عم النبي «صلى الله عليه وآله» بالذات لإفساد الأمر عليه «صلى الله عليه وآله» كان أبعد تأثيرا في ذلك ، على اعتبار : أنه عمه ، وأعرف الناس به.

ولقد أفادت تحركات النبي «صلى الله عليه وآله» هذه ، حيث إنهم بعد أن ذهبت شوكة قريش ، وخمد عنفوانها ، وأصيب نفوذها بنكسة قوية بسبب ظهور دعوته وانتشار دينه «صلى الله عليه وآله» ، وتوالي انتصاراته عليها ، ولا سيما بعد فتح مكة.

بدأت وفادات العرب تترى إلى المدينة ، بعد أن أمنوا غائلة عداء قريش ، ليعلنوا عن ولائهم ومساندتهم ، لأن دعايات قريش وإشاعاتها الكاذبة قد ذهب أثرها ، وبطل مفعولها ، لأنهم قد رأوا هذا النبي عن قرب ، وعرفوا فيه رجاحة العقل ، واستقامة الطريقة ، منذ اجتمعوا به في تلك المواسم ، وعرض دعوته عليهم.

وقد صرح المؤرخون بأن العرب كانوا ينتظرون بإسلامهم قريشا وكانوا إمام الناس ، وأهل الحرم ، وصريح ولد إسماعيل لا تنكر العرب ذلك.

٨٩

فلما فتحت مكة واستسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله ولا عداوته ، فدخلوا في الدين أفواجا (١).

بل إنه «صلى الله عليه وآله» حينما كان يعرض دعوته على القبائل كانوا يردون عليه أقبح الرد ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك (٢).

وهذا يدل على أن الخوف من قريش لم يكن هو الدافع الوحيد للامتناع عن الدخول في الإسلام ، لا سيما وأن الكثيرين من العرب كانوا بعيدين عن مكة ، ولا يخشون سطوتها.

ونقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها ، وهي أن تحرك النبي «صلى الله عليه وآله» وعرض دين الله على القبائل ، وهجراته المتعددة في سبيله ليعتبر إدانة للمنطق القائل : إن على صاحب الدعوة : أن يجلس في بيته ، ولا يتحرك ، وعلى الناس أن يقصدوه ويسألوه عما يهمهم ، ويحتاجون إليه.

بنو عامر بن صعصعة ، ونصرة النبي صلّى الله عليه وآله :

ونشير هنا إلى واقعة هامة ، حدثت في خلال عرض النبي «صلى الله عليه وآله» دعوته على القبائل ، وهي :

أن رسول «صلى الله عليه وآله» قد أتى بني عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم دعوته فقال لهم رجل منهم ، اسمه : «بيحرة بن فراس» : والله ، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

__________________

(١) راجع الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٨٦ و ٢٨٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣.

٩٠

ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال : الأمر لله ، يضعه حيث يشاء.

فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك.

فأبوا عليه ، فلما صدر الناس ، رجع بنو عامر إلى شيخ لهم ؛ فسألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي ، يدعونا إلى أن نمنعه ، ونقوم معه ، ونخرج به إلى بلادنا.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر ، هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ، ما تقولها إسماعيلي قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم! (١).

ومثل ذلك جرى له «صلى الله عليه وآله» مع قبيلة كندة ، كما ذكره أبو نعيم في دلائل النبوة (٢).

ونحن نسجل هنا ما يلي :

__________________

(١) راجع : سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٦٦ ، والثقات لابن حبان ج ١ ص ٨٩ ـ ٩١ ، وبهجة المحافل ج ١ ص ١٢٨ ، وحياة محمد لهيكل ص ١٥٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٤٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣ ، والروض الأنف ج ١ ص ١٨٠ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٣٩ و ١٤٠ ، وعن دلائل النبوة لأبي نعيم ص ١٠٠ وحياة الصحابة ج ١ ص ٧٨ و ٧٩.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ١٤٠.

٩١

١ ـ الأمر لله :

لقد نصت الرواية على أن الأمر لله يضعه حيث يشاء ، ونستفيد من ذلك :

أ ـ إن الرسول لم يعط هؤلاء وعدا بما طلبوه منه ، من جعل الأمر لهم بعده ، بل أجابهم بأن الأمر لله ، يضعه حيث يشاء أي أنه لا يمكن أن يعد بما لا يعلم قدرته على الوفاء به ، تماما على العكس من السياسيين الذين عرفناهم في عصرنا الحاضر ، وعلى مر العصور الذين لا يتورعون عن إغداق الوعود المعسولة على الناس ، حتى إذا وصلوا إلى غايتهم ، وجلسوا على كرسي الزعامة فإنهم ينسون كل ما قالوه ، وما وعدوا به.

ولكن نبي الإسلام الأكرم «صلى الله عليه وآله» رغم أنه كان بأمس الحاجة إلى من يمد له يد العون لا سيما من قبيلة كبيرة تملك من العدد والعدة ما يمكنها من حمايته ، والرد عنه ، إلا أنه يرفض أن يعد بما لا يملك الوفاء به ، حتى ولو كان هذا الوعد يجر عليه الربح الكثير فعلا.

ب ـ إن جواب النبي «صلى الله عليه وآله» لهم بقوله : «الأمر لله يضعه حيث يشاء» يؤيد ما يذهب إليه أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم الأبرار رضوان الله تعالى عليهم ، من أن خلافة النبوة ليست من المناصب التي يرجع البت فيها إلى الناس ، بل هي منصب إلهي ، والأمر لله فيها ، يضعه حيث يشاء.

٢ ـ سمو الهدف ، والنظرة الضيقة :

وإن عرض هذه القبيلة مساعدتها على النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بهذا النحو ، إنما يدل على أنها لا تريد في مساعدتها له وجه الله

٩٢

سبحانه ، ولا تنطلق في موقفها ذاك من قاعدة إيمانية قوية ، وقناعة عقائدية راسخة ، ولا طمعا بثواب الله ، ولا خوفا من عقابه.

وإنما تنطلق في ذلك من نظرة ضيقة ، مصلحية تجارية بالدرجة الأولى ، وتريد من نصرها له أن تأكل به العرب ، وتحصل على المجد والسلطان.

ومن الواضح ـ بناء على هذا ـ أن نصرها له لسوف ينتهي عندما تجد : أن مصلحتها قد انتهت ، وحصلت على كل ما تريد ، أو حينما ترى : أن تجارتها الدنيوية قد خسرت ، بل لربما تنقلب عليه إذا رأت فيه عائقا يمنعها من تحقيق أهدافها ، أو الاحتفاظ بالامتيازات الظالمة التي تفرضها لنفسها.

وهكذا يتضح : أن الاعتماد على من يفكر بعقلية كهذه ، ويتعامل من منطلق كهذا ليس إلا اعتمادا على سراب ، إن لم يجر على من يعتمد عليه البلاء والعذاب.

٣ ـ الدين والسياسة :

وقد لاحظ بعض المحققين هنا : أن هذا العربي ، وهو من بني عامر بن صعصعة ، لما أخبروه بما يدعو إليه النبي «صلى الله عليه وآله» ، ونقلوا إليه ما جرى لهم معه قد أدرك : أن هذا الدين ليس مجرد ترهب في الصوامع ، وصلاة ، ودعاء ، وأوراد ، وأذكار ، بل هو دين يشتمل على التدبير والسياسة ، والحكم ، ولأجل هذا قال : «لو أني أخذت هذا الفتى (يعني محمدا بما له من الدعوة الشاملة) لأكلت به العرب».

ولقد سبقه إلى إدراك هذه الحقيقة شيخ الأنصار أسعد بن زرارة ، لما قدم إلى مكة ، وعرض عليه النبي «صلى الله عليه وآله» ما يدعو إليه ، فرأى : أن فيه وفي دعوته ما يصلح مجتمعه ، ويعالج مشاكلهم المستعصية بينهم

٩٣

وبين إخوانهم من الأوس ، وعلى هذا كانت الهجرة (١).

وقد أدرك ذلك أيضا نفس أولئك الذين اشترطوا على النبي «صلى الله عليه وآله» أن يكون لهم الأمر من بعده ، فرفض «صلى الله عليه وآله» طلبهم.

وسيأتي ذلك عن عامر بن الطفيل ، في غزوة بئر معونة ، فما أبعد ما بين فهم هؤلاء للإسلام ، ولدعوة القرآن ، حتى إن هذا الفهم هو الذي مهد لإسلام الأنصار ، ثم الهجرة ، وكذلك لبيعتهم (بيعة العقبة الأولى والثانية) ، واختيار النقباء والكفلاء على المبايعين وبين ذلك الذي يعتبر الدين منفصلا عن السياسة ، وأن السياسة أمر غريب عن الدين ، فإن ذلك ولا شك من إلقاءات الاستعمار ، ومن الفكر المسيحي الغريب المستورد ، كما هو ظاهر.

٤ ـ نتائج عرضه صلّى الله عليه وآله دعوته على القبائل :

ويمكننا أن نستفيد مما تقدم :

١ ـ ما تقدمت الإشارة إليه ، من أن مقابلة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» للناس ، والتحدث معهم مباشرة كان من شأنه : أن يعطي الناس الانطباع الحقيقي عن شخصية الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، وحقيقة ما جاء به ، ويدفع كل الدعايات والإشاعات الكاذبة ، والمغرضة ، التي كانت تبثها قريش وأعوانها ، ككونه ساحرا ، أو كاهنا ، أو شاعرا ، أو مجنونا ، أو غير ذلك من ترهات.

٢ ـ إن ما جرى في قضية بني عامر ليدل دلالة واضحة : على أن عرضه

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٩ ص ٩ وإعلام الورى ص ٥٧ عن القمي.

٩٤

«صلى الله عليه وآله» دعوته على القبائل ، قد أسهم في الدعاية لهذا الدين ، ونشر صيته في مختلف الأنحاء ، والأرجاء ، فقد كان من الطبيعي أن يتحدث الناس ، إذا رجعوا إلى بلادهم بما رأوه وسمعوه في سفرهم ذاك ولم يكن ثمة خبر أكثر إثارة لهم من خبر ظهور هذا الدين الجديد ، وفي مكة بالذات.

زواج النبي صلّى الله عليه وآله بسودة وعائشة :

ويقولون : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تزوج بسودة بنت زمعة ، وعقد على عائشة بنت أبي بكر وكان ذلك بعد عشر سنوات من البعثة.

ولا نجد لسودة دورا هاما في التاريخ ، ولا في حياة النبي «صلى الله عليه وآله» أو بعده وكل الاهتمامات مركزة على عائشة ، حتى لقد حكموا باستحباب العقد في شوال ، لأنه «صلى الله عليه وآله» قد تزوج عائشة في شوال!! (١) مع أنه «صلى الله عليه وآله» نفسه تزوج غيرها في أشهر أخرى!!.

وعلى كل حال ، فإننا لن نستطيع أن نلمّ في هذه العجالة بجميع ما قيل ، أو يقال حولها ؛ فإن ذلك متعسر ، بل متعذر ولذلك فنحن نكتفي بذكر أمرين لهما صلة بموضوع زواجه «صلى الله عليه وآله» بها ، ولربما تأتي إن شاء الله بحوث أخرى لجوانب أخرى مما يرتبط بها.

وهذان الأمران هما : سن عائشة وجمالها وحظوتها عند النبي «صلى الله عليه وآله» فنقول :

__________________

(١) نزهة المجالس ج ٢ ص ١٣٧.

٩٥

١ ـ سن عائشة :

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد عقد على عائشة ، وهي بنت ست سنين ، أو سبع ، ثم انتقلت إلى بيته بعد هجرته إلى المدينة ، وهي بنت تسع. وهذا هو المروي عنها (١).

ونحن نقول : إن ذلك غير صحيح ، وأن عمرها كان أزيد من ذلك بكثير ، ونستند في ذلك إلى ما يلي :

أولا : إن ابن إسحاق قد عد عائشة في جملة من أسلم أول البعثة ، قال : وهي يومئذ صغيرة ، وأنها أسلمت بعد ثمانية عشر إنسانا فقط (٢).

فلو جعلنا عمرها حين البعثة سبع سنين مثلا فإن عمرها حين العقد عليها كان ١٧ سنة ، وحين الهجرة ٢٠ سنة.

ويؤيد ذلك : أن الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا أكثر من ثمانين ، وقد بقي جماعة لم يهاجروا ، والهجرة إلى الحبشة كانت بعد خمس سنوات من البعثة .. فيكون إسلام عائشة التي أسلمت بعد ثمانية عشر إنسانا بعد البعثة

__________________

(١) راجع فيما ذكرناه : طبقات ابن سعد ج ٨ ص ٣٩ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٥٩ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٤١٣ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ، وأسد الغابة ج ٥ وغير ذلك وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ١٩٠ لكنه ناقض نفسه ص ١٩١ فقال : إنها توفيت سنة ٥٧ ه‍. وعمرها ٦٤ سنة ، وهذا يعني أنها كان عمرها حين الهجرة سبع سنوات فقط.

(٢) راجع : سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٧١ ، وتهذيب الأسماء واللغات ج ٢ ص ٣٥١ و ٣٢٩ عن ابن أبي خيثمة في تاريخه عن ابن إسحاق ، والبدء والتاريخ ج ٤ ص ١٤٦.

٩٦

بوقت يسير.

ومما يزيد الأمر وضوحا أنهم يقولون :

أن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما أسلم أبي جاء إلى منزله ، فما قام حتى أسلمنا ، وأسلمت عائشة وهي صغيرة (١).

وقالوا أيضا : إن أسماء أسلمت بعد سبعة عشر إنسانا (٢).

وقد ماتت سنة ٧٣ (٣).

__________________

(١) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٢٤.

(٢) عمدة القاري ج ٢ ص ٩٣ والإكمال للخطيب التبريزي ص ١٤٨ وأسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٢ وعن الإصابة ج ٨ ص ١٢ ـ ١٣ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٧٨٣ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٣٤٨ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ١٢٤ وإمتاع الأسماع ج ٦ ص ٢٠٣ وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي الأنصاري اليمني ص ٤٨٨ ومرقاة المفاتيح ج ١ ص ٣٣١ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٧.

(٣) إسعاف المبطأ برجال الموطأ للسيوطي ص ٢٧ وعمدة القاري ج ٢ ص ٩٣ وج ٥ ص ٢٩٨ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٧٧ وفيض القدير للمناوي ج ١ ص ١٠٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٩ ص ٨ و ٩ و ١٠ و ٢٩ و ٣٠ وسبل السلام للكحلاني ج ١ ص ٣٩ والإكمال للخطيب التبريزي ص ١٤٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٩٥ وج ٣ ص ٣٧٩ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ١٥ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٢٤٩ و ٢٥٥ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٢٦٩ والمسانيد لمحمد حياة الأنصاري ج ٢ ص ١٥٦ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٤ ص ٢٢٨ و (ط دار الجيل) ص ١٧٨٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٥ ص ٣٥٥ وتقريب التهذيب ج ٢ ص ٦٢٨ ومستدركات علم رجال الحديث للنمازي ج ٨ ص ٥٤٦ وأسد الغابة

٩٧

وقد بلغت أو جازوت المائة (١).

وإن حاول بعضهم أن يجتهدوا ويقول غير ذلك (٢).

كما أنهم قد صرحوا : بأن أسماء ولدت قبل البعثة بسبع وعشرين

__________________

ج ٥ ص ٣٩٣ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ١٢٥ وشرح الزرقاني ج ١ ص ١٧٤ وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ، والوافي بالوفيات ج ٩ ص ٣٦ ومرقاة المفاتيح ج ١ ص ٣٣١ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٧ وراجع : البداية والنهاية ج ٨ ص ٣٨١ والكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة للذهبي ج ٢ ص ٥٠٢.

(١) إسعاف المبطأ برجال الموطأ ص ١٢٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٦٠ وج ٧ ص ٢٥٤ وعمدة القاري ج ٢ ص ٩٣ وج ٥ ص ٢٩٨ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ٦٩ ص ٩ و ١٠ و ٢٧ و ٢٨ وسبل السلام للكحلاني ج ١ ص ٣٩ والإكمال للخطيب التبريزي ص ١٤٨ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٧٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٥ ص ٣٥٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٨١ وذيل المذيل لتاريخ الطبري ص ١٠٨ والمسانيد لمحمد حياة الأنصاري ج ٢ ص ١٥٦ والإصابة ج ٤ ص ٢٢٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٥٥١ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٧٨٣ وتقريب التهذيب ج ٢ ص ٦٢٨ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٤٨ والتنبيه والإشراف ص ٢٧١ ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٦٩ و ٧٥ وأسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٣ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ١٢٥ وشجرة طوبى ج ١ ص ١٢٤ والإمامة والسياسة ج ٢ ص ٢٤ و ٣٩ وشرح الزرقاني ج ١ ص ١٧٤ والوافي بالوفيات ج ٩ ص ٣٦ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٧ والكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة للذهبي ج ٢ ص ٥٠٢ وشجرة طوبى ج ١ ص ١٢٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٨٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٥ ص ٣٥٤.

٩٨

سنة (١).

أو قبل مبعثه بسبع عشرة سنة (٢).

وكانت أكبر من أختها عائشة بعشر سنوات (٣).

وحين ولدت كان عمر أبيها إحدى وعشرين سنة (٤).

فتكون النتيجة هي : أن عمر عائشة حين البعثة حوالي أربع سنوات ، إذ المفروض ـ حسب قولهم ـ : أنها ولدت قبل الهجرة بسبع عشرة سنة.

غير أننا نقول :

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٦٠ وعمدة القاري ج ٢ ص ٩٣ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ٦٩ ص ٩ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٣ و ٥٩٧ و ٥٩٨ وأسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٢ والمسانيد لمحمد حياة الأنصاري ج ٢ ص ١٥٦ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٨ ص ١٤.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ج ٢٤ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٩ ص ٩.

(٣) الإستيعاب ج ٢ ص ٦١٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٩ ص ٨ و ٩ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٢٠٤ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٩٥ وج ٣ ص ٣٨٠ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ ص ٨٢ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٩٨ وسبل السلام للكحلاني ج ١ ص ٣٩ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص ١٤٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٥ ص ٣٥٤ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣٨١ و ٣٤٦ ومرقاة المفاتيح ج ١ ص ٧٣١ وراجع : أسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٢.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٦٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٩ ص ٩ و ١٠ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٢٨٩ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٥٩٧ و ٥٩٨ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٤ ص ٧٧ وأسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٢.

٩٩

بل كانت أكبر من ذلك أيضا ، إذ قد دلت الروايات على أن إسلام أسماء كان يوم إسلام أبيها ، بعد سبعة عشر إنسانا ، ثم أسلمت عائشة بعدها مباشرة ، لأن إسلامها كان بعد ثمانية عشر إنسانا ـ كما قلنا أيضا.

فإذا كانوا يدّعون أن أبا بكر كان أول من أسلم ، فتكون النتيجة هي أن عائشة قد أسلمت في أول أو ثاني يوم من البعثة.

ومعنى ذلك : أن ولادتها قد كانت قبل البعثة بسنوات كبرت فيها عائشة ، وأصبحت مميزة وعاقلة ، ويقبل منها الإسلام .. وتدخل في لائحة المسلمين الأوائل لتأخذ موقعها التاريخي الذي يريدونه لها.

ثانيا : وفي مقام رفع التنافي بين قوله «صلى الله عليه وآله» لفاطمة : إنها سيدة نساء العالمين ، وبين ما نسب إليه «صلى الله عليه وآله» من أنه لم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (١).

يقول الطحاوي : «قد يحتمل أن يكون ما في هذا الحديث قبل بلوغ فاطمة ، واستحقاقها الرتبة التي ذكرها رسول الله «صلى الله عليه وآله» لها ، إلى أن قال :

وإن كل فضل ذكر لغير فاطمة ، مما قد يحتمل أن تكون فضلت به فاطمة ، محتملا لأن يكون وهي حينئذ صغيرة ، ثم بلغت بعد ذلك إلخ» (٢).

لقد قال الطحاوي هذا ، بعد أن جزم قبل ذلك بقليل ، بأن فاطمة

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) مشكل الآثار ج ١ ص ٥٢.

١٠٠