الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولاجترؤوا عليه ، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه» (١).

مفارقات محيّرة :

وكيف يحكمون لزيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب ، ولولده سعيد بن زيد ، ولورقة بن نوفل ، وقس بن ساعدة ، ولأبي سفيان الذي ما فتئ كهفا للمنافقين ، والذي ذكرنا لمحة عن تصريحاته ومواقفه في أواخر غزوة أحد في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

نعم ، كيف يحكمون لهؤلاء بالإسلام؟! بل يروون عنه «صلى الله عليه وآله» : أنه قال عن أمية بن أبي الصلت : أنه كاد أن يسلم في شعره (٢).

ويقول الشافعي عن صفوان بن أمية : «وكان كأنه لا يشك في إسلامه» ، لأنه حين سمع يوم حنين قائلا يقول : غلبت هوازن ، وقتل محمد ، قال له :

«بفيك الحجر ، فو الله ، لرب قريش أحب إلي من رب هوازن».

نعم ، كيف يحكمون لكل هؤلاء بالإسلام ، أو بالاقتراب منه ، وهم لم يدركوا الإسلام ، أو أدركوه ولم يسلموا ، أو أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر؟

ثم يحكمون بالكفر على أبي طالب «عليه السلام» ، الذي ما فتئ في

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ٤١ ، وراجع السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٤٦.

(٢) صحيح مسلم ج ٧ ص ٤٨ و ٤٩ ، والأغاني (ط ساسي) ج ٣ ص ١٩٠ ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢١٣.

٦١

الفترة الأخيرة ، ربما بعد الهجرة إلى الحبشة يؤكد ويصرح عشرات المرات في أقواله وفي أفعاله ، ويعلن بالشهادة لله بالوحدانية ، ولنبيه «صلى الله عليه وآله» بالنبوة والرسالة؟!.

ذنب أبي طالب عليه السّلام الذي لا يغفر :

ولكننا رغم كل ذلك نقول :

إنه يؤخذ على أبي طالب «عليه السلام» شيء واحد ، هو من أكبر الذنوب ، وأعظم السيّئات والعيوب ، التي يستحق من يتلبس بها ـ شاء أم أبى ـ الحساب العسير ، ولا بد أن يحرم لأجلها من كل امتياز ، ويسلب منه كل وسام.

وهذا الذنب العظيم والجسيم هو أنه كان أبا لذلك الرجل الذي تكرهه قريش ، ويبغضه الحكام ، ويشنؤه أهل الباطل .. وكانوا وما زالوا يتمنون له كل سوء ، وكل ما يسوء ، وقد قطعوا رحمه ، وجهدوا للحط من شأنه ، وصغّروا عظيم منزلته ، لا لشيء سوى أنه كان قد قتل آباءهم وإخوانهم على الشرك والكفر ، وهو يدافع عن دين الله سبحانه ، ويجاهد في سبيل الله ، بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وهذا الرجل هو ـ بصراحة ـ ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وهو المسمى ب «علي» أمير البررة ، وقاتل الكفرة الفجرة ، الذي كان مدينة علم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وكان الولي والوصي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبيه ، وعلى الأئمة الأطهار من بنيه.

فكان لا بد ـ بنظرهم ـ من نسبة كل عظيمة إليه ، وإلى أبيه أبي طالب

٦٢

«عليه السلام» ، ووضع الأحاديث المكذوبة في حقهما ، وتزوير تاريخهما ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

فحفلت مجاميعهم الحديثية والتاريخية بألوان من الدجل والتزوير ، وأفانين من الكذب والبهتان ، والأفائك والأباطيل ، حتى لقد نسبوا إلى أبي طالب «عليه السلام» الكفر ـ والعياذ بالله ـ ولو كان ثمة شيء أعظم من الكفر لنسبوه إليه ، ووصموه به ، كيدا منهم لعلي ، وسعيا منهم للنيل من مقامه ، وهو الذي كان ولا يزال الشوكة الجارحة في أعين الأمويين ، والزبيريين ، وجميع الحاقدين على الحق وأهله ، فظهرت منهم أنواع من الافتراءات عليه ، وعلى أخيه جعفر ، وأبيه أبي طالب ، وعلى كل شيعتهم ومحبيهم ، والمدافعين عنهم.

وحين بدا لهم أن ذلك لا يشفي صدورهم شفعوه بنوع آخر من الكيد والتجني ، حين سعوا إلى إطراء أعدائه ، أعداء الله ورسوله ، وأعداء الحق ، فنسبوا فضائل أولياء الله إلى أعداء الله ، حتى إنك لا تكاد تجد فضيلة ثبتت لعلي «عليه السلام» بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلامية ، إلا ولها نظير في مخالفيه ، ومناوئيه ، والمعتدين عليه ، ولكنها ـ في الأكثر ولله الحمد ـ قد جاءت بأسانيد ضعيفة وموهونة ، حتى عند واضعيها ..

هذا ، ويلاحظ : أن هذه الأفائك الظالمة في حق أبي طالب «عليه السلام» قد ظهرت بعد عشرات السنين من وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الذي كان المدافع الأول عن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ، كما يظهر من كثير من المواقف له «صلى الله عليه وآله» ، حدثنا عنها التاريخ ، وحفظتها لنا كتب الحديث والرواية ، رغم ما بذله الحاقدون من جهود لطمسها ، وطمس سواها

٦٣

من الحقائق الناصعة ، والشواهد والبراهين الساطعة.

ولو أن أبا طالب «رحمه الله» كان أبا لمعاوية مثلا ، أو لمروان ، أو لأي من الذين تصدوا للحكم من المناوئين والمنحرفين عن أهل البيت «عليهم السلام» ، وعن خطهم ومنهجهم ، لرأيت ثم رأيت من آيات الثناء عليه ما يتلى آناء الليل ، وأطراف النهار ، ولوجدت الأوسمة تلاحقه ، وتنهال عليه من كل حدب وصوب ، وبلا كتاب ولا حساب ، ولألفيت الذين ينبزونه بتلكم الأكاذيب والأباطيل ، ويرمونه بالبهتان ، هم أنفسهم حملة رايات التعظيم والتبجيل ، والتكبير والتهليل له «رحمه الله».

ولوجدت من الأحاديث في فضائله ومناقبه وما له من كرامات وشفاعات إن دنيا ، وإن آخرة ، ما يفوق حد الحصر ، وما يزيد ويتضاعف باطراد في كل عصر ومصر ..

ولربما تجد من يدّعي : أن أبا طالب «عليه السلام» قد آمن بالنبي حتى قبل أن يبعث «صلى الله عليه وآله» ، كما ادّعوه لبعض من يوالونهم ويحبونهم!!

ولعل بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فيقول فيه كما قالوه في بعض أسلافهم : لو لم أبعث فيكم لبعث فلان!! أو ما شاكل ذلك.

هذا إن لم يدّعوا له مقام النبوة ، أو ما هو أعظم من ذلك كما ادّعوا ذلك ليزيد لعنه الله ، قاتل الإمام الحسين «عليه السلام» ، وهادم الكعبة.

ولكننا نقول : إن أبا طالب «عليه السلام» قد كان محظوظا جدا ، حيث لم يكن قريبا لهؤلاء ، ولا لمن يتولاه هؤلاء ، فنجا من أن تنسب إليه فضائل مكذوبة ، ومن أن يعطى أوسمة لا حقيقة لها ، إذ يكفي هذا الرجل من الفضائل

٦٤

والأوسمة ما كان قد ناله عن جدارة واستحقاق بجهاده ، وبإخلاصه ، وبعمله الصالح الذي نال به رضا الله سبحانه ، وذلك هو الفضل العظيم ، والحظ الأسعد ، والمقام الأمجد.

مفارقات .. ذات دلالة :

والغريب في الأمر : أن من هؤلاء القوم ، من يرى أن قاتل عمار بن ياسر من أهل الجنة ، وأن ابن ملجم مجتهد في قتله الإمام عليا «عليه السلام» ، ثم هم يدافعون عن يزيد بن معاوية لعنه الله ، ويعتبرونه من أهل الجنة ، بل ادّعى له بعضهم النبوة قبحهم الله وإياه.

كما أن البعض كابن عربي يرى : أن فرعون مؤمن ، وأن عبدة العجل موحدون مؤمنون ، إلى غير ذلك من ترهات وأباطيل وأضاليل.

هذا عدا عن أنهم قالوا : إن حاتم الطائي يدخل النار لكنه لا يعذب بها لجوده ، وأن كسرى لا يعذب لعدله ، وأن أبا سفيان ، أبا معاوية الذي يقول لعثمان حينما صارت إليه الخلافة :

قد صارت إليك بعد تيم وعدي ، فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أمية ، فإنما هو الملك ، ولا أدري ما جنة ولا نار (١).

إن أبا سفيان هذا ، مؤمن تقي عادل ، معصوم ، وأبو طالب «عليه السلام» ـ أو فقل : أبو الإمام علي «عليه السلام» ـ كافر مشرك ، وفي ضحضاح من نار ، يبلغ كعبه ، ويغلي منه دماغه!!

نعم .. ما عشت أراك الدهر عجبا!!.

__________________

(١) النزاع والتخاصم ص ٢٠ والصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٧ ص ٢٨٤.

٦٥

حال أبي طالب عليه السّلام حال رسول الله صلّى الله عليه وآله :

وبعد .. فإن حال أبي طالب «عليه السلام» مع الأمويين وأشياعهم ، ومن افترى عليه بغضا منه بولده علي «عليه السلام» .. يشبه إلى حد كبير حال النبي «صلى الله عليه وآله» مع المشركين ، الذين حكى القرآن حالهم بقوله :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(١).

إن مبغضي أبي طالب يقولون : لن نقر بإيمان هذا الرجل ، ولو تضافرت على ذلك كل الأدلة والشواهد ، وحتى لو نص الله ورسوله عليه.

فبئس الخلف من الأمويين وأشياعهم ، ومن الزبيريين وأتباعهم ، ومن كل شانئ لعلي ، ومصغر لشأنه ، لبئس السلف من طواغيت الجاهلية وعتاتها ، ومن قتلة الأنبياء وفراعنة الأرض ، وجبابرتها.

أبو لهب ونصرة النبي صلّى الله عليه وآله :

ثم إننا نشير أيضا هنا إلى أنهم يذكرون : أنه بعد أن توفي أبو طالب «عليه السلام» أعلن أبو لهب استعداده لنصرة النبي «صلى الله عليه وآله».

فاحتالت قريش ، فأخبرته أنه يقول : إن أباك عبد المطلب في النار ، فسأله عن ذلك ، فأخبره بما طابق ما أخبروه به ؛ فتخلى عن نصرته ، وانقلب

__________________

(١) الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء.

٦٦

ليكون عدوا له ما عاش (١).

ونقول :

إننا لا نشك في كذب هذه القضية.

أولا : كيف لم يعلم أبو لهب طيلة عشر سنين من عدائه للنبي ، ومحاربته له : أن هذا هو رأيه «صلى الله عليه وآله» ورأي الإسلام في كل من يموت مشركا بالله تعالى؟! وعلى أي شيء كان يحاربه طيلة هذه المدة إذن؟!.

بل إن أبا لهب كان من أهم الشخصيات القوية التي كانت تدير حركة الصراع ضد الإسلام العظيم ، ونبيه الكريم ، فكيف يمكن أن يجهل حملة لواء الشرك هذا الأمر ، ويعرفه غيرهم؟!

ثانيا : لماذا عاداه في حياة أبي طالب «عليه السلام» ، ثم عاد إلى حمايته ونصرته بعد وفاته؟!.

أو لماذا لم يفعل أبو لهب مثل فعل أبي طالب «عليه السلام»؟!

ثالثا : قد أسلفنا أن عبد المطلب لم يكن مشركا ، بل كان على دين الحنيفية مؤمنا صادق الإيمان.

سر افتعال الرواية :

ولعل سر افتعال هذه الرواية هنا هو إظهار : أن حماية أبي طالب «عليه السلام» للرسول قد كانت بدافع العصبية والحمية القبلية ، أو الحب الطبيعي.

__________________

(١) راجع على سبيل المثال : البداية والنهاية ج ٣ ص ١٣٤ عن ابن الجوزي وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٢.

٦٧

ولكن أين كانت حمية وعصبية أبي لهب قبل هذا الوقت ، وأين كان حبه الطبيعي لابن أخيه؟

ولا سيما حينما حصرت قريش الهاشميين في الشعب ، وكادوا يهلكون جوعا؟!.

وأين ذهبت حميته بعد ذلك؟

وهو الذي كان يتتبع النبي محمدا «صلى الله عليه وآله» من مكان إلى مكان يؤذيه ، ويصد الناس عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

٦٨

الباب الثالث

من وفاة أبي طالب عليه السّلام حتى الهجرة إلى المدينة

الفصل الأول : الهجرة إلي الطائف

الفصل الثاني : حتى بيعة العقبة

الفصل الثالث : بيعة العقبة

٦٩
٧٠

الفصل الأول :

الهجرة إلى الطائف

٧١
٧٢

لا بد من تحرك جديد :

لقد فقد النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بوفاة أبي طالب نصيرا قويا ، دافع عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، وعن دعوته الإلهية ، بيده ولسانه ، وشعره ، وولده ، وعشيرته ، وكل مواهبه وطاقاته ، وضحى من أجله بمركزه وماله وعلاقاته الاجتماعية ـ كما قدمنا ـ فاعتقدت قريش أنه «صلى الله عليه وآله» سيضعف عزمه عن مواصلة جهوده ، بعد أن مات ناصره ، فنالته بعد وفاة شيخ الأبطح بأنواع الأذى ، مما عجزت عنه في حياة عمه العظيم ، ووجدت الفرصة للتنفيس عن حقدها ، وصب جام غضبها على ذلك الذي ترى فيه سببا لكل مشاكلها ومتاعبها.

ورأى «صلى الله عليه وآله» أن الدعوة الإسلامية تتعرض لضغوط قوية تمنع من انتشارها ، ومن دخول الآخرين فيها ، ما داموا لا يرون في ذلك الدخول إلا العذاب والنكال ، وإلا الذل والمهانة.

بل يمكن أن يتعرض ما حصل عليه ، وجاهد من أجله وفي سبيله لأخطار بما لا يكون في وسعه مواجهتها وتجاوزها بنجاح تام.

ومن هنا فقد كان لا بد من تحرك جديد ، يعطي للدعوة دفعة جديدة ، ويجعلها أكثر حيوية ، وأكثر قدرة على مواجهة الأخطار المحتملة وإذا كان

٧٣

بقاؤه «صلى الله عليه وآله» في مكة ـ إن لم يكن فيه خطر على الدعوة ـ معناه جمودها ، وتحجيمها ، وشل حركتها ، فإن من الطبيعي أن يبحث عن مكان آخر تتوفر فيه له حرية الحركة ، والدعوة إلى الله ، بعيدا عن أذايا قريش ومكائدها ، ويتوفر فيه متنفس لهؤلاء المسلمين الذين تنالهم قريش بمختلف أنواع العذاب والتنكيل ، قبل أن يتطرق اليأس إلى نفوسهم ، وينهاروا أمام تلك الضغوط التي يتعرضون لها باستمرار.

فكان كل ذلك وسواه دافعا إلى الهجرة إلى الطائف.

الهجرة إلى الطائف في كلمات المؤرخين :

فبعد أن أذن الله له «صلى الله عليه وآله» بالخروج من مكة إذ قد مات ناصره ؛ خرج إلى الطائف ، ومعه علي «عليه السلام» (١) ـ أو زيد بن حارثة أو هما معا (٢) على اختلاف النقل ـ وذلك لليال بقين من شوال سنة عشر.

فأقام في الطائف عشرة أيام ، وقيل : شهرا ، لا يدع من أشرافهم أحدا إلا جاءه ، وكلمه ، فلم يجيبوه ، وخافوا على أحداثهم ؛ فطلبوا منه أن يخرج عنهم ، وأغروا به سفهاءهم ؛ فجلسوا له في الطريق صفين ، يرمونه بالحجارة ، وعلي «عليه السلام» يدافع عنه ، حتى شج في رأسه ، أو أن الذي شج في رأسه هو زيد بن حارثة.

__________________

(١) سيرة المصطفى ص ٢٢١ و ٢٢٢ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٤ ص ٩٧ عن الشيعة.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١٢٧ عن المدائني وسيرة المصطفى ص ٢٢١ و ٢٢٢.

٧٤

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» التجأ إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وجلس في أحد جوانبه ، فتحركت عاطفة ابني ربيعة ، وهما يريان ما به من الجهد ، فأرسلا إليه غلامهما عداسا ـ وهو نصراني من أهل نينوى ـ بعنب ، فوضعه بين يديه ، فمد إليه يده ، وقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فتعجب عداس من أن يكون بهذا البلد أحد يذكر الله ، وجرت بينهما مكالمة انتهت بإسلام عداس.

فقال أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك.

ثم انصرف «صلى الله عليه وآله» راجعا إلى مكة ، فاستعد أعداؤه للقائه بأنواع من الأذى لم يعرفها من قبل.

ولكنه «صلى الله عليه وآله» كان مصمما على مواجهة كل الاحتمالات ؛ حيث قال لرفيقه علي «عليه السلام» ، أو زيد : إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ، ومظهر نبيه.

فطلب من الأخنس بن شريق أن يجيره ليتمكن من دخول مكة ، فرفض على اعتبار أنه حليف ، والحليف لا يجير على الصميم (١).

ثم طلب من سهيل بن عمرو أن يجيره ، فرفض أيضا ، لأنه من بني عامر فلا يجير على بني كعب ، فدخل مكة بجوار المطعم بن عدي ، الذي تجهز ومن معه بالسلاح لحمايته ؛ فأمضت قريش جواره.

ويقول البعض : إنه رد عليه جواره من أول يوم وصوله ، وقال

__________________

(١) قد تقدمت مصادر ذلك حين الكلام على هجرة أبي بكر ، ثم دخوله مكة بجوار ابن الدغنة.

٧٥

آخرون : بل استمر في جواره مدة.

هكذا باختصار يروي المؤرخون قضية الهجرة إلى الطائف ، ثم العودة منها.

هجرات أخرى له صلّى الله عليه وآله :

ويقولون أيضا : إنه بعد وفاة عمه خرج إلى بني صعصعة ، ومعه علي ؛ فلم يجبيبوه ، وغاب عن مكة عشرة أيام ، وهاجر أيضا مع علي وأبي بكر إلى بني شيبان ، وغاب ثلاثة عشر يوما ، فلم يجد عندهم نصرة (١).

ولا بد لنا هنا من وقفات لبيان بعض الأمور التي ترتبط بما تقدم ، ونراها هامة ، إلى حد ما ، وهي التالية :

١ ـ ما ذكر عن عداس :

إننا نشك فيما ذكر من دور عداس ، وأكله «صلى الله عليه وآله» العنب المهدى إليه ، وذلك لما يلي :

أولا : ما تقدم في الفصل السابق من أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يقبل هدية مشرك ، ولا يرضى بأن يكون له أي فضل أو نعمة عليه ، يستحق بها المكافأة.

فكيف قبل هدية ابني ربيعة المشركين ، ورضي بأن يكون لهما فضل عليه؟!

إلا أن يقال : إنما قبل هدية عداس ، ولعله لم يكن يعلم أن ابني ربيعة

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١٢٦.

٧٦

هما اللذان أرسلاه.

ثانيا : إن هذه الرواية تنص على أن عداسا قد أسلم ، مع أن البعض ينص على أنه «صلى الله عليه وآله» قد عاد من الطائف محزونا ، لم يستجب له رجل ولا امرأة (١).

إلا أن يقال : إن المراد : أنه لم يستجب له أحد من الأحرار ، أو لم يستجب له أحد من أهل نفس البلد ، وعداس من أهل نينوى.

ثالثا : كان قد مضى على دعوة الرسول «صلى الله عليه وآله» الناس إلى الإسلام حوالي عشر سنوات ، وكانت شهرة دعوته قد تجاوزت مكة إلى غيرها من الأقطار والأمصار.

وأصبح ذكره وذكر ما جاء به على كل شفة ولسان.

كما أنه قد مضى على وجود النبي «صلى الله عليه وآله» في الطائف نفسها عشرة أيام ، أو شهر وهو يدعو الناس إلى الله ، لا يفتر ولا يمل فكيف إذا يتعجب عداس من ذكر الله في ذلك البلد؟!.

فهل من المعقول : أن يكون عداس لم يسمع بذكره «صلى الله عليه وآله» ولا بدعوته هذه المدة كلها ، سواء مدة وجوده في الطائف ، أو مدة دعوته إلى الله في المنطقة؟!.

وقد قدمنا بعض الكلام عن عداس في مناقشتنا لروايات بدء الوحي فلا نعيد.

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ١ القسم الأول ص ١٤٢.

٧٧

٢ ـ دخوله صلّى الله عليه وآله مكة بجوار :

وتقدم : أن الأخنس بن شريق ، وسهيل بن عمرو لم يقبلا أن يجيرا النبي «صلى الله عليه وآله» ليدخل مكة ، واحتج الأخنس بأنه حليف ، والحليف لا يجير على الصميم.

فدخل «صلى الله عليه وآله» بجوار المطعم بن عدي ، ونحن نشك في ذلك أيضا.

أولا : قد قدمنا : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يقبل أن يكون لمشرك عنده يد يستحق الشكر عليها ، وهذه يد ولا شك.

ثانيا : كيف لم يعلم النبي الذي بلغ من العمر حوالي خمسين عاما ، ويعيش بين العرب ، كيف لم يعلم طيلة هذه المدة : أنه ليس للحليف أن يجير على الصميم عندهم؟!!

وأن بني عامر لا تجير على بني كعب؟!

ثالثا : أليس هذا يعتبر ركونا للظالمين ، ولغير أهل دينه؟ والله تعالى يقول : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)(١).

ويقول : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(٢).

إلا أن يجاب عن هذا : بالنفي ، فإن هذا المقدار من الركون ليس بمقصود في الآية.

رابعا : إننا نجد عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد بن المغيرة ، رغبة منه

__________________

(١) الآية ٧٣ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١١٣ من سورة هود.

٧٨

في مواساة أصحابه ؛ فهل يعقل أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» أقل من ابن مظعون في ذلك؟! ولا يستطيع الصبر على تحمل المشاق والأذى الذي استعدت قريش لتناله به؟ إن ذلك لعجيب حقا!!.

ثم لماذا لم يخف من الأذى حين رد على المطعم جواره ، لا سيما إذا كان قد رده عليه من أول يوم؟!.

وأما أنه كان يخشى على نفسه القتل فلذلك طلب الجوار ؛ فجوابه أنه كان يعلم : أن قريشا لا تستطيع ذلك.

وأنها تعرف : أنه في غير صالحها في تلك الظروف ، وبالأخص إذا كان ذلك علنا ، ثم أين كان عنه الهاشميون في تلك الساعة؟

ولماذا لا يحمون كبيرهم وسيدهم حتى يحتاج إلى جوار الآخرين؟!

وأين كان عنه أسد الله وأسد رسوله ، الذي فعل بأبي جهل ما فعل كما تقدمت الإشارة إليه؟!.

٣ ـ إسلام نفر من الجن :

ويذكر هنا : أنه وهو «صلى الله عليه وآله» منصرف من الطائف إلى مكة ، التقى ببعض الجن ، فقرأ عليهم القرآن فآمنوا به ، ورجعوا إلى قومهم ، مبشرين ومنذرين ، فقص الله خبرهم في سورة الجن ، فقال : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)(١).

ولكن الظاهر : أن قضية الجن قد كانت في أوائل البعثة ؛ حيث إن

__________________

(١) الآيتان ١ و ٢ من سورة الجن.

٧٩

الرواية تذكر : أنه لما بعث النبي «صلى الله عليه وآله» حيل بين الجن وبين استراق السمع في السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، ففهموا : أن ذلك إنما هو لحدث جرى في الأرض فعادوا إليها ، وبحثوا عن الأمر ، فوجدوا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد بعث ، فاستمعوا القرآن وآمنوا ، فنزلت الآية (١).

وفي رواية أخرى : أن إبليس أرسل جنوده ليكشفوا له الأمر ، فعادوا إليه بنبأ بعثته «صلى الله عليه وآله» (٢).

وإلى ما ذكرناه من كون ذلك في أوائل البعثة ذهب ابن كثير أيضا (٣).

ويدل على ذلك أيضا : أن عددا من الروايات تذكر : أن ابن مسعود كان معه «صلى الله عليه وآله» ليلة الجن (٤).

وابن مسعود من المهاجرين إلى الحبشة ، فلا بد أن تكون القضية قد حدثت قبل هجرته إليها ، أي قبل الخامسة من البعثة.

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٦ ص ٢٧٠ و ٢٧٥ ، عن : البخاري ، ومسلم ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والترمذي والنسائي ، والحاكم ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي معا في الدلائل وغير ذلك. وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٣ و ٣٠٤ ويقال : إن آيات سورة الأحقاف قد نزلت حين رجوعه من الطائف بهذه المناسبة. ولكن يدفع ذلك ما في الدر المنثور ج ٦ ص ٤٥ عن مسلم ، وأحمد ، والترمذي ، وعبد بن حميد وغيرهم.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٤.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٣ عن المواهب اللدنية.

(٤) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٤.

٨٠