الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

حين يرى الناس أن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» نفسه يستمع الغناء ، ويجعل مزامير الشيطان في بيته ، ويؤثر سماع الباطل!! فلا غضاضة بعد على غيره إن هو فعل شيئا من ذلك.

٢ ـ إن أكثر تلك المنقولات التي تريد إثبات حلّية الغناء تحاول التأكيد على دور عائشة ، حتى إنها وهي تنظر إلى الحبشة كان «صلى الله عليه وآله» يقول لها : أما شبعت؟

فتقول : لا ؛ لتنظر منزلتها عنده ، وذلك يوحي لنا بأن ثمة يدا تحاول إثبات فضيلة لأم المؤمنين ، والإشارة إلى أنه «صلى الله عليه وآله» كان يراعيها ويحبها.

ثم إن في الروايات إشارات واضحة إلى الاهتمام بإثبات فضائل لعمر ، وأبي بكر ، وعثمان ، وإثبات مدى تمسكهم بالدين ، ومحاماتهم عنه ، حتى وإن كان ذلك عن طريق النيل من كرامة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، والطعن في نزاهته وعصمته!!.

٣ ـ إننا لا نريد أن نبرئ أيضا يد الأمويين والعباسيين من عملية الدس ، والوضع والاختلاق على النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، فقد كان ثمة من يهتم بإضفاء صفة الشرعية والقداسة على كل فعل من أفعالهم.

ويوضح ذلك : قصة المهدي مع غياث بن إبراهيم ، حينما دخل عليه فوجده يلعب بالحمام ، فروى له حديث :

لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر ، وزاد فيه كلمة : «أو جناح» ، إرضاء لرغبة المهدي ، فأمر له المهدي ببدرة ، فلما خرج قال المهدي : أشهد

٣٢١

أن قفاك قفا كذاب (١).

ولا زلنا نقرأ في كتب التاريخ والأدب العجائب والغرائب حول اهتمام خلفاء بني أمية وبني العباس في أمر الغناء واللهو.

وكانوا يعطون المغنين أعظم الجوائز ، بالعشرات وبمئات الألوف (٢) حتى لقد قال إسحاق الموصلي شيخ المغنين : «لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة» (٣).

نزول رسول الله صلّى الله عليه وآله في قباء :

ويقول أهل الحديث والتاريخ : إنه بعد أن استقبل النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك الاستقبال الحافل عدل إلى قباء ، ونزل في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم.

وفي ذلك اليوم أصر عليه أبو بكر ليدخل المدينة ، فرفض وأخبره : أنه لا يريم حتى يقدم عليه ابن عمه ، وأخوه في الله ، وأحب أهل بيته إليه ، الذي وقاه بنفسه ، على حد تعبيره «صلى الله عليه وآله».

__________________

(١) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للقاري ص ٤٦٩ ، واللآلي المصنوعة ج ٢ ص ٤٧٠ ، وراجع : الموضوعات لابن الجوزي ج ١ ص ٤٢ ، ولسان الميزان ج ٤ ص ٤٢٢ ، وميزان الإعتدال ج ٣ ص ٣٣٨ والمجروحون ج ١ ص ٦٦ وتاريخ الخلفاء ص ٢٧٥ والمنار المنيف ص ١٠٧.

(٢) راجع : ربيع الأبرار ج ١ ص ٦٧٥ ففيه أن الرشيد اعطى ابراهيم الموصلي مئة ألف لإحسانه في الغناء ، وحسبك بعض ما أورده أبو الفرج في كتابه : الأغاني فراجعه.

(٣) راجع كتاب : حياة الإمام الرضا السياسية «عليه السلام» (للمؤلف) ص ١١٨ عن الأغاني (ط دار الكتب بالقاهرة) ج ٥ ص ١٦٣.

٣٢٢

فغضب أبو بكر ، واشمأز ، وفارق النبي «صلى الله عليه وآله» ، ودخل المدينة في تلك الليلة ، وبقي «صلى الله عليه وآله» ينتظر أمير المؤمنين «عليه السلام» حتى وافاه بالفواطم ، وأم أيمن (١) في النصف من ربيع الأول (٢). ونزل مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» على كلثوم بن الهدم (٣).

ويرى البعض : أن الذي قدم بالعيال هو زيد بن حارثة وأبو رافع ، ورفع الحلبي التنافي باحتمال أن يكون الكتاب الذي أرسله إلى علي «عليه السلام» حين كان «صلى الله عليه وآله» في قباء كان معهما ، ثم رافقا عليا في الطريق ، وعادا معه (٤).

فنسب البعض المجيء بالعيال إليهما ، وتجاهل دور أمير المؤمنين «عليه السلام» الرائد ، وموقفه في الدفاع عنهما لحاجة في نفسه قضاها.

تأسيس مسجد قباء :

وخلال إقامته «صلى الله عليه وآله» في قباء أسس مسجد قباء المعروف ، ويبدو أن صاحب الفكرة ، والمباشر أولا في وضع المسجد هو عمار بن ياسر (٥).

__________________

(١) راجع فيما ذكرناه كتاب : البحار ج ١٩ ص ١٠٦ و ١١٥ و ١١٦ و ٧٥ و ٧٦ و ٦٤ عن روضة الكافي ص ٣٤٠ ، وإعلام الورى ص ٦٦ والخرائج والجرائح ، وراجع : الفصول المهمة لابن الصباغ ص ٣٥ وأمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨٣.

(٢) راجع إمتاع الأسماع ص ٤٨.

(٣) راجع البحار ج ١٩ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٩٧.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٣.

(٥) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٥٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٥. عن ابن هشام وغير ذلك.

٣٢٣

ومسجد قباء هو المسجد الذي نزل فيه قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ..)(١).

ولسوف نتحدث عن ذلك في غزوة تبوك ، إن شاء الله تعالى.

أحجار الخلافة :

وتذكر هنا : رواية «أحجار الخلافة» المكذوبة ، ويذكرونها أيضا حين تأسيس مسجد المدينة ، ولذا فنحن نرجئ الحديث عنها إلى هناك.

أول مسجد في الإسلام :

ومسجد قباء هو أول مسجد بني في الإسلام ، كما صرح به ابن الجوزي وغيره (٢).

وقد تقدم حين الكلام على هجرة أبي بكر إلى الحبشة ، وإرجاع ابن الدغنة له ، عدم صحة قولهم : إن أبا بكر هو أول من بنى مسجدا في الإسلام ، فراجع.

ويبدو أن بعض النساء قد شاركن في بناء مسجد قباء ؛ فعن ابن أبي أوفى لما توفيت امرأته جعل يقول : احملوها وارغبوا في حملها ، فإنها كانت تحمل ـ ومواليها ـ بالليل حجارة المسجد الذي أسس على التقوى ، وكنا نحمل بالنهار حجرين حجرين (٣).

__________________

(١) الآية ١٠٨ من سورة التوبة.

(٢) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٥٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٥ وراجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٧٦.

(٣) مجمع الزوائد ج ٢ ص ١٠ عن البزار ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ١١٢ عنه.

٣٢٤

وبعد .. فإن الظاهر : هو أن تأسيس مسجد قباء كان بعد قدوم أمير المؤمنين «عليه السلام» ؛ إذ قد ورد : أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر أبا بكر بأن يركب الناقة ، ويسير بها ليخط المسجد على ما تدور عليه ؛ فلم تنبعث به ، فأمر عمر فكذلك ، فأمر عليا «عليه السلام» ، فانبعثت به ؛ ودارت به ، فأسس المسجد على حسب ما دارت عليه ، وقال «صلى الله عليه وآله» : إنها مأمورة (١).

صلاة الجمعة في قباء :

ويذكرون هنا أيضا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد صلى الجمعة في قباء ، أو في طريقه منها إلى المدينة (٢).

بل لقد قال بعضهم : «إن الجمعة قد فرضت في مكة ، لكنهم لم يقيموها لعدم تمكنهم من ذلك» (٣).

ولعل إلى هذا ينظر ابن غرس ، حيث يقول : «إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط» (٤).

بل ربما يشك في ذلك في المدينة أيضا ، في هذا الوقت المبكر على اعتبار : أن سورة الجمعة قد نزلت بعد الهجرة بسنوات ، بل هي من أواخر ما نزل

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٥١ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٨ وراجع تاريخ جرجان ١٤٤ لكن في العبارة سقط.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٩ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ٦٨.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٩ و ١٢ و ٥٩.

(٤) الإتقان ج ١ ص ٣٧ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٩.

٣٢٥

من القرآن (١).

لكن من المعلوم : أن سورة الجمعة إنما تتحدث عن لزوم السعي إلى الجمعة التي تقام ، وليست ناظرة إلى أصل تشريع صلاة الجمعة ، فلعلها كانت مشروعة قبل ذلك ، وكانت تقام ، لكن بعض المسلمين كان يتهاون بالسعي إليها فنزلت آيات سورة الجمعة لأجل ذلك.

ولعل هؤلاء المتهاونين هم الذين هددهم النبي «صلى الله عليه وآله» بإحراق بيوتهم إن استمروا على مقاطعة صلاة الجمعة (٢) فراجع كتب الحديث والتاريخ.

وأما الإشكال على ذلك بأن إقامتها في قباء معناه أنه «صلى الله عليه وآله» قد صلاها في السفر.

فهو في غير محله ، إذ من الممكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد نوى الإقامة في قباء إلى حين قدوم الإمام علي «عليه السلام» بالفواطم مع علمه بأن ذلك سيمتد إلى أكثر من عشرة أيام وقد ذكروا أنه «صلى الله عليه وآله» قد أقام في قباء خمسة عشر يوما (٣).

كما أن من الممكن أن تكون قباء في ذلك الزمان في محيط المدينة بحيث تعد من محلاتها ، ومن وصل إليها فكأنه وصل إلى المدينة ، ولا يعد مسافرا بعد. وقد تقدم بعض الكلام عن صلاة الجمعة في فصل بيعة العقبة ، فراجع.

__________________

(١) الإتقان ج ١ ص ١٣ و ١١.

(٢) سيأتي ذلك مع مصادره في غزوة بني النضير ، في فصل : القرار والحصار.

(٣) البحار ج ١٩ ص ١٠٦ عن إعلام الورى والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٥ عن البخاري وراجع ص ٥٩ وعن مسلم : أنه أقام أربعة عشر يوما وقيل غير ذلك.

٣٢٦

القسم الرابع

من الهجرة إلى بدر

الباب الأول : في المدينة وقضايا أخرى

الباب الثاني : أعمال تأسيسية في مطلع الهجرة

الباب الثالث : تشريعات وأحكام

٣٢٧
٣٢٨

الباب الأول

في المدينة وقضايا أخرى

الفصل الأول : النبي صلّى الله عليه وآله في المدينة

الفصل الثاني : قضايا وأحداث غير عسكرية

٣٢٩
٣٣٠

الفصل الأول :

النبي صلّى الله عليه وآله في المدينة

٣٣١
٣٣٢

ورود النبي صلّى الله عليه وآله المدينة :

بعد خمسة عشر يوما (١) من إقامته «صلى الله عليه وآله» في قباء ، تحرك إلى داخل المدينة.

وقد اختلف المؤرخون في التاريخ الدقيق لخروجه «صلى الله عليه وآله» من مكة ودخوله قباء ثم المدينة اختلافا كثيرا ، مع اتفاقهم على أنه قد دخلها في أوائل ربيع الأول (٢).

وقد حقق العلامة المجلسي : أن هجرته «صلى الله عليه وآله» كانت في يوم الإثنين ، أول ربيع الأول ، ووروده المدينة في يوم الجمعة الثاني عشر منه ، كما ذهب إليه المفيد ، وادّعى البعض الإجماع عليه (٣).

وتقول رواية : إنه «صلى الله عليه وآله» وصل قبل بزوغ الشمس ، وكان هو وأبو بكر يلبسان ثيابا بيضا متشابهة ، فكان يشتبه الأمر على

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٠٦ عن إعلام الورى ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٥ عن البخاري ، وعن مسلم : أنه أقام ١٤ يوما ، وقيل غير ذلك.

(٢) راجع : البحار ج ٥٨ ص ٣٦٦ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٦٧ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٧.

(٣) راجع أدلته في البحار ج ٨ ص ٣٦٦ و ٣٦٧.

٣٣٣

الناس ، فيسلمون على أبي بكر ، يظنونه النبي «صلى الله عليه وآله» ، حتى بزغت الشمس ، وأصابت النبي «صلى الله عليه وآله» ، فظلل عليه أبو بكر ، فعرفه الناس حينئذ (١).

ولكن هذه الرواية غير صحيحة قطعا ، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» قد وصل إلى المدينة في حر الظهيرة ، كما نص عليه المؤرخون (٢).

ولو قلت : لعل المراد أنه وصلها في طريقه من مكة ، حيث عدل إلى قباء ، حين الظهيرة ، فإن الجواب هو :

١ ـ إنه قد تقدم : أن أهل المدينة كانوا يأتون كل يوم أفواجا إلى قباء ، فيسلمون عليه «صلى الله عليه وآله» ، وذلك يدل على أنه «صلى الله عليه وآله» قد كان معروفا عند أهل المدينة قبل قدومه إليها ، فكيف يدعى : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يشتبه على الناس بأبي بكر حتى ظلل أبو بكر عليه؟!

ومع غض النظر عن ذلك ، فإن شخصية النبي «صلى الله عليه وآله» كانت تدل عليه ، وكانت تختلف كثيرا عن شخصية أبي بكر ، وقد وصفته أم

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٧. وثمة ما يشير إلى ذلك في المصادر التالية : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٢ ، دلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٤٩٨ و ٤٩٩ ، البداية والنهاية ج ٣ ص ١٨٦ وراجع السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٦ و ٣٣٧ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٣٧ ، وصحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ه‍. ج ٢ ص ٢١٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٢.

٣٣٤

معبد لزوجها حتى عرفه (١). وتقدمت صفة أبي بكر على لسان ابنته عائشة.

٢ ـ ثم إنه قد تقدم القول بأنه «صلى الله عليه وآله» قد صلى الجمعة ، وهو في طريقه إلى المدينة (٢).

وهذا معناه : أنه «صلى الله عليه وآله» قدمها بعد الظهر بقليل ، فإن المسافة بين قباء والمدينة ليست كبيرة ، كما هو معلوم.

٣ ـ أضف إلى كل ما تقدم : أنه إذا كان «صلى الله عليه وآله» أكبر من أبي بكر بسنتين ، فما معنى قولهم لأبي بكر : من هذا الغلام بين يديك؟! (٣) وهل يقال لمن بلغ ثلاثا وخمسين سنة : إنه غلام؟!

إلا أن يجاب عن هذا : بأن الغلام قد يطلق على الكبير كما على الصغير على حد سواء.

ولكن يبقى سؤال : أنهم كانوا على علم بهجرته «صلى الله عليه وآله» فما معنى سؤال أبي بكر عنه ، وقد تقدم أن المئات منهم قد خرجوا يستقبلونه؟

منزل النبي صلّى الله عليه وآله في المدينة :

وفي يوم الجمعة ركب «صلى الله عليه وآله» راحلته ، وتوجه إلى المدينة ،

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٤ و ٣٣٥ ، السيرة الحلبية ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٥ ، دلائل النبوة ج ١ ص ٢٧٩.

(٢) المواهب اللدنية ج ١ ص ٦٧ ، سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٣٩ ، تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٩ والبحار ج ٨ ص ٣٦٧ ، ودلائل النبوة ج ٢ ص ٥٠٠.

(٣) الغدير ج ٧ ص ٢٥٨ ، عن مصادر كثيرة ، السيرة الحلبية ج ٢ ص ٤١ ، مسند أحمد ج ٣ ص ٢٨٧.

٣٣٥

وعلي «عليه السلام» معه لا يفارقه ، يمشي بمشيه ، ولا يمر ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم ، فيقول : خلوا سبيل الناقة ، فإنها مأمورة.

فانطلقت به ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» واضع لها زمامها ، حتى انتهت إلى موضع مسجد النبي «صلى الله عليه وآله» ، فوقفت هناك ، وبركت ، ووضعت جرانها على الأرض ، وذلك بالقرب من باب أبي أيوب الأنصاري ، أفقر رجل بالمدينة (١).

فأدخل أبو أيوب ـ أو أمه ـ الرحل إلى منزلهم ، ونزل «صلى الله عليه وآله» عنده ، وعلي «عليه السلام» معه ، حتى بنى مسجده ومنازله (٢).

فقيل : مكث عند أبي أيوب سنة تقريبا.

وقيل : سبعة أشهر ، وقيل : شهرا واحدا (٣).

ونحن نستقرب هذا الأخير ، إذ يبعد أن يستمر العمل في المسجد طيلة هذه المدة والأنصار والمهاجرون يعملون في البناء بجد واجتهاد ، وهو «صلى الله عليه وآله» يعمل معهم.

أما سائر المهاجرين ، فقد تنافس فيهم الأنصار ، حتى افترقوا عليهم بالسهمان (٤).

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٢١ ، وراجع : مناقب ابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨٥.

(٢) روضة الكافي ص ٣٣٩ و ٣٤٠ ، والبحار ج ١٩ ص ١١٦ عنه.

(٣) البدء والتاريخ ج ٤ ص ١٧٨ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤.

٣٣٦

ابن سلام والإسلام :

ويقول المؤرخون وأهل الحديث من غير مدرسة أهل البيت «عليهم السلام» : إن عبد الله بن سلام اليهودي لما سمع الضجة ، حين قدوم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة ، أسرع إليه ، فلما رآه وسمع كلامه ، عرف أن وجهه ليس بوجه كذاب (١).

ويقولون أيضا : إنه سأله حينئذ ثلاث مسائل لا يعلمها إلا نبي ، فأجابه «صلى الله عليه وآله» عنها ، فأسلم ، ثم طلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يسأل اليهود عنه قبل أن يعلموا بإسلامه ، فسألهم عنه ، فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وأفضلنا ، وابن أفضلنا ، فلما علموا بإسلامه ، قالوا : شرنا وابن شرنا (٢).

ويقولون أيضا : إن عبد الله بن سلام هذا هو الذي أنزل الله تعالى فيه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ..)(٣).

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٣٢٠ عن أحمد وأصحاب السنن والإستيعاب بهامشها ج ٢ ص ٣٨٢ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٣ وتلخيصه للذهبي نفس الصفحة.

(٢) البخاري هامش الفتح ج ٧ ص ٢١٢ و ٢١٣ برواية ابن سلام نفسه ، والإصابة ج ٢ ص ٣٢١ ، والإستيعاب بهامشها ج ٢ ص ٣٨٢.

(٣) الآية ١٠ من سورة الإحقاف ، أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٣ ص ١٧٦ صحيح البخاري هامش الفتح ج ٧ ص ٩٧ والإستيعاب هامش الإصابة ج ٢ ص ٣٨٣ عن بعض المفسرين ، والدر المنثور ج ٤ ص ٦٩ عن : أبي يعلى ، وابن جرير ، والحاكم ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن عساكر.

٣٣٧

ونزل فيه أيضا : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(١).

إلى غير ذلك مما يقولونه في هذا الرجل مما لا مجال لذكره هنا.

ونحن نسجل هنا النقاط التالية :

أولا : إنه عدا عن التناقض الظاهر في الروايات التي تتحدث عن كيفية إسلام ابن سلام ، كما لا يخفى على من راجعها ، فإننا نجد البعض يقول : إنه قد «تأخر إسلامه إلى سنة ثمان ، قال قيس بن الربيع ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : أسلم عبد الله بن سلام قبل وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» بعامين» (٢).

وقد ضعف العسقلاني هذه الرواية سندا بقيس بن الربيع ، وغلطها (٣).

ولكننا نقدر : أن مستنده في ذلك هو الروايات المتقدمة الدالة على أنه أسلم أول الهجرة.

ونحن لا نستطيع قبول ذلك منه ، فإن الشعبي أقرب عهدا من العسقلاني ، وقد عين لنا سنة إسلامه بشكل يدل على أنه لا يرسل الكلام على عواهنه.

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة الرعد ، الإصابة ج ٢ ص ٣٢١ ، والإستيعاب بهامشه ج ٢ ص ٣٨٣ ، والدر المنثور ج ٤ ص ٦٩ عن : ابن مردويه ، وابن جرير ، وابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وابن المنذر.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٣٢٠.

(٣) الإصابة ج ٢ ص ٣٢٠ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٧.

٣٣٨

ثم إنه لو كانت لابن سلام كل تلك العظمة التي أشارت إليها روايات إسلامه وغيرها ، فلماذا لم نسمع عنه في تلك السنين الطويلة منذ الهجرة ، وإلى سنة ثمان أي قول أو رأي ، أو موقف!! مع أن التاريخ قد ذكر لنا كثيرا من مواقف صغار الصحابة ممن أسلم عام الفتح ، بل وحتى الذين لم يروا النبي «صلى الله عليه وآله» إلا في طفولتهم ، فكيف سكت عن هذا الرجل الخطير!! برأيهم؟!.

أما تضعيف العسقلاني لقيس بن الربيع ، فهو في غير محله ، فإنه هو نفسه قد نقل توثيقه من قبل : عفان بن قيس ، والثوري ، وشعبة ، وأبي الوليد ، وابن عدي ، وأثنى عليه يعقوب وعثمان ابنا أبي شيبة ، وأبو حاتم ، وشريك ، وابن حبان ، والعجلي ، وأبو حصين ، ويحيى بن سعيد ، ومعاذ بن معاذ ، وابن عيينة ، وأبو نعيم وغيرهم (١).

ولكن سر الطعن عليه من العسقلاني ، أو من غيره ، هو ما أشار إليه أحمد ، حيث قال : «كان يتشيع ، ويخطئ في الحديث» (٢).

رغم أنهم يذكرون : أن عامة رواياته مستقيمة (٣) والذي يذكر هذا الطعن عليه بالتشيع هو أحمد بن حنبل ، وليس ذلك غريبا عنه ، فإنه عاش في زمن المتوكل الناصبي ، الذي فعل بابن السكيت ما فعل ، حيث أمر بأن يسل لسانه من قفاه ، ففعل به ذلك فمات ، لأنه لم يرض بتفضيل ولديه على

__________________

(١) تهذيب التهذيب ج ٨ ص ٣٩٢ ـ ٣٩٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٩٤.

(٣) تهذيب التهذيب ترجمة قيس ج ٨.

٣٣٩

الحسنين «عليهما السلام» (١).

كما أنه قد أمر المغنين بأن يغنوا نكاية بولده المنتصر ، الذي لم يرض بتنقصه لأمير المؤمنين علي «عليه السلام» :

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حرّ أمه (٢)

وقد ضرب رجلا ألف سوط ، لأنه روى رواية واحدة في فضل علي «عليه السلام».

وهو الذي حرث قبر الحسين «عليه السلام» ومنع الناس من الوفود إلى زيارته (٣).

نعم ، هذه هي بعض أفاعيل المتوكل ، وقد كان لأحمد بن حنبل عند المتوكل هذا منزلة عظيمة ، حتى إنه يدفع إليه ولده المعتز وسائر أولاده وولاة عهده ليقوم على تعليمهم (٤).

قال ابن كثير : «وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد» (٥).

فبماذا استحق أحمد عند هذا الرجل الطاغية هذه المنزلة العظمى يا

__________________

(١) الكنى والألقاب ج ١ ص ٣١٤ و ٣١٥ وراجع : وفيات الأعيان ج ٦ ص ٣٩٥ و ٣٩٦ و ٤٠٠ و ٤٠١ وتاريخ الخلفاء ص ٣٤٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٧ ص ٥٥.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٧ ص ٥٥.

(٤) مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص ٣٨٥ و ٣٦٤ ، وأحمد بن حنبل والمحنة ص ١٩٠ ، وحلية الأولياء ج ٩ ص ٢٠٩.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣١٦.

٣٤٠